أوسلو في 14 ابريل 2006
بعض الزعماء عندما تنتابهم الحيرة في التعرّف على نهج للتطور والتقدم في بلاد يحكمونها، يبدأون في الاندفاع ناحية تصغير الوطن لعل انسجاما من نوع جديد بين سيّد القصر وأبناء شعبه يجعل الذات أكثر قبولا للقضاء والقدر في وطن يصغر من زاوية القصر والزعامة.
عندما تمرّد المسؤول السوري الثاني وهو يتنشق عبير الحرية في عاصمة النور، تلقى أعضاء مجلس الشعب توجيهات ملزمة بكتابة بيانات الغضب المزورة لمعاقبة الخارج على تعاليم السيد الشاب، فكان أن تحوّل الحرم الديمقراطي ( ظاهريا ) إلى سيرك مضحك يستدر غضب الجماهير على عبد الحليم خدّام، فأساء إلى قلب العروبة النابض كما لم يحدث في تاريخها الحديث.
كلمات متخلفة بلغة عربية سقيمة في عاصمة الأمويين، وشتائم لا تليق بممثل الشعب، وسباب ينحدر بهيبته ( رغم أنها مفتَقدة في الأساس)، وقواعد ضادية ضربت لغة أهل الجنة في مقتل.
الرئيس السوري الشاب وطبيب العيون والمتحدث اللبق والمنفتح على ثقافة الغرب يدير دفة السفينة ناحية مثلث برمودا الشامي، ويصرّ أنه الرُبّان والبوصلة والبحارة وأنه قادر على التحكم في العواصف والأنواء وتجري الريح بما يشتهيه!
ينهزم السوريون لبنانياً فيحتفل الرئيس بالنصر، وينفرط عقد الكرامة السوري (ميليسياً) فيُقْسم سيد القصر أن روح الشهيد رفيق الحريري تشهد ببراءة أجهزة الأمن السورية الأكثر رقة من غزال شارد أو حَمَلٍ وديع أو قطة سيامية تلتصق بساق صاحبها في سكون واستسلام.
الرئيس الشاب يلعب مع الكبار، وينصت لأجهزة الاستخبارات التي تسمع دبيب النمل إلا في المرتفعات السورية، ويبدأ بالاصلاح الاقتصادي حيث أن السياسة حِكْرٌ على الأسياد وقوانين الطواريء وحُرّاس السجون والمعتقلات.
بشار الأسد رئيس لا يعرف قيمة بلده، وسيد لا يصدق أن الله خلق الناس سواسية كأسنان المشط، وابن زعيم تم تغيير الدستور ليصبح هو الزعيم، ولو توفي الرئيس حافظ الأسد وابنه في سن العاشرة لطلب رئيس مجلس الشعب تغييرا في الدستور، ووصيّا على العرش حتى يبلغ الطفلُ نصف أشُدّه أو يناهز العشرين عاما بقليل.
ومع ذلك فالشعبُ السوري العظيم صاحب آخر معاقل الوطنية منح الرئيسَ الشاب فرصةَ العفو الكاملة عن ماض لم يكن هو مسؤولا عن أي تجاوزات فيه، وعن غضب أرواح ثلاثين ألف من سكان حماة، وعن انتهاكات لحقوق الانسان لو تم عرضها على أحط الحيوانات شأنا لصبت لعناتها على الانسان ولم تصدق أنّ الّلهَ كَرّمه.
كنت مفعما بأمل يعادل تفاؤل كل السوريين بعهد جديد، لكن الرئيس، السجين والسجّان، لا يسمع إلا صوت نفسه، ولا يكترث لصرخات الآلاف الذين نسِيَهم العالمُ في أقبية تحت الأرض يقوم عليها شياطين من أجهزة الاستخبارات والتصفية والتعذيب ومع ذلك فهو يُحَدّثنا عن الجمال والوطنية والمستقبل المُشرق والاصلاح الاقتصادي والنضال الوطني، بل وحقوق الانسان والدستور وقوانين العدالة.
محافظ دير الزور يتلقى رسالة من أجهزة الأمن تُفيد أنَّ خطيب مسجد قرية الطابية لا يشمل بدعائه في نهاية خطبة الجمعة السيد الرئيس بشار الأسد، لذا ينبغي عمل اللازم لمنعه من القاء الخطبة!
الحمد لله أن جهاز الأمن لم يستفت علماء الأمة في قبول العلي القدير لصلاة لا يدعو فيها الخطيب للرئيس بطول العمر!
صدق المواطن السوري محمد الغنّام وعود أجهزة الاستخبارات في العهد الشبابي بعدم التعرض له خاصة وانه أقام في الخارج ربع قرن كاملة، واٌقسم له القنصل السوري في تركيا أنه آمن في وطنه، فلما عاد لم تنتظر أجهزة الأمن ارواء شوقه لأهله، فألقت به في غيابات السجن.
مئات الالاف من السوريين في المنفى والمهجر والغربة يتشوقون للمساهمة في بناء وطنهم، واخراجه من عنق الزجاجة، وحمايته بصدورهم وأموالهم وخبراتهم التي اكتسبوها، لكن كيف لليد المرتعشة أن تمسك مِعْوّل البناء؟
لو كان هناك جهاز لقياس نبضات القلب، وتم تثبيته في مطار دمشق الدولي وعلى الحدود فسينفجر مع أول دفعة عائدة من سوريي المهجر والمنفى لأنه لن يتحمل درجة الخوف والرهبة التي تسري في صدورهم وقلوبهم.
من الذين يظن الرئيس بشار الأسد أنهم سيدعمونه لمنع تجول المارينز في شوارع دمشق، وتدميرهم الجامع الأموي، وتحويل معتقل تدمر من جلادين يرتدون مسوح الوطن إلى يانكي ينافسون به سجن أبو غريب؟
من ميشيل نمري إلى غازي كنعان إلى رفيق الحريري وقائمة طويلة بطول الوطن الحزين لا يعرف إلا الله متى ستنتهي.
عندما تسقط، لا قدر الله، عاصمة الجمال والحب والوطنية، ويتوقف قلب العروبة النابض فلن يكون السبب اقتصاديا أو اجتماعيا أو أمريكيا أو لبنانيا أو حتى صهيونيا، لكنه صمت الموافقة للرئيس الشاب على صناعة جمهورية الرعب التي سقط شِقّها الثاني في جحر للجرذان بعدما كان طاغية بغداد يحصل على نسبة 100% من اصوات الناخبين، وهي نسبة لا يحصل عليها كل أنبياء الله مجتمعين أو ومنفصلين ولو كان معهم الوحي.
أعرف أن بشار الأسد وضع أصابعه في أذنيه، وأنه غير مقتنع بأن كرامة المواطن السوري هي الحل السحري للخروج من المأزق.
وأعرف أن أمامه قائمة بآلاف المعتقلين والمضطهدين والمعذبين، لكنه يظن أن أجهزة القمع والقهر تحميه، ولا يصدق أنها تمهد لأحذية ثقيلة قادمة من واشنطون وتل أبيب لتدنيس آخر معاقل العروبة.عندما ننعي دمشق .. ننعي الوطن العربي كله، ولكن الرئيس لا يسمع!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج