خاتمة كتاب ( تشريعات المرأة بين الاسلام والدين السنى الذكورى )

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١١ - أغسطس - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً

خاتمة كتاب ( تشريعات المرأة بين الاسلام والدين السنى الذكورى )

أولا :

 1ــ هذا الحديث ورد بصيغ مختلفة في البخاري مختلفة ومسلم ، ونأخذ إحداها من مسلم : يقول : ( حدثنا يحيي بن يحيي التميمي ، اخبرنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن ابيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة قال ك جاءت أم سليم على النبي (ص) فقالت : يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق ، فهل على المرأة من غُسل إذا احتلمت ..؟ فقال رسول الله (ص) : نعم ، إذا رأت الماء ، فقالت أم سلمة يا رسول الله ، وتحتلم المرأة .؟ فقال : تربت يداك ،  فبم يشبهها ولدها ..؟).

هذا الحديث رُوي برواة مختلفين ، بعضهم يرجع به إلى انس بن مالك خادم النبي وفي الرواية عائشة هي التي تسأل النبي متعجبة ، ورواية أخرى ترجع بالحديث إلى أم سلمة زوجة النبي ، وهي التي تتعجب وتسأل النبي ، وفى رواية أخرى تكون فيها السيدة عائشة هي الراوية ..

والمستفاد من الروايات كلها ان امرأة سألت النبي هل تغتسل المرأة من الجنابة إذا احتلمت ، فأفتى لها النبي فيما يقولون بأن تغتسل إذا رأت نزول سائل منها يدل على الشهوة ، أي إذا أنزلت ، وبعض الروايات تؤكد على هذا الشبه بين إنزال الرجل عند الشهوة وإنزال المرأة ، وتؤكد الروايات في النهاية على أن الجنين يتكون مما تنزله المرأة عند الشهوة ومما ينزله الرجل .

2 ـ والقاريء لهذا الحديث بين أمرين ، إمّا أن يصدق انه فعلاً من قول النبي ويؤمن بذلك ، وإما ألا يصدق .

2 / 1 : إذا صدّق بذلك الحديث ــ  وهو حال الأغلبية منذ قرون ــ فقد آمن وصدّق بما فيه من معلومات ، ومنها ــ مثلا ــ  أن الجنين يتكون من ماء المرأة الذي تُنزله عند الشهوة ، بالإضافة إلى ماء الرجل .  وكثير من الأحاديث في كتب " الصحاح " اشتملت على معلومات مغلوطة تاريخياً وعلمياً ، ولكن هذه المعلومات تحصنت بالإيمان باعتباره أنها من أقوال النبي ، ولذلك كان الرفض لكل مكتشف علمي يخالفها ( مثل كروية الأرض ودورانها ). بالتالي كان الجمود والتخلف قرين المحمديين ، ولا يزال .

2 / 2 : والقاريء إذا لم يصدق ان النبي قال هذا الحديث فإنه سيتعامل معه تعاملا عقلياً مختلفا ، سيعتبره منتجا ثقافيا للعصر الذي كُتب فيه ، أي منتصف القرن الثالث ، حيث عاش البخاري ومسلم ، وحيث كتبا مؤلفاتهما .

2 / 2 / 1 : ومن دراسة العصر ودراسة نصّ الحديث سيعرف أن ثقافة العصر كانت تعتقد أن تكوين الجنين يأتي من (منيّ) الرجل وما تنزله المرأة عند شهوتها، حيث لم يُعرف بعد أن مبيض الرحم عند المرأة يفرز كل منهما بويضة بالتناوب ، فإذا لم تلقح البويضة جاء الحيض كل ثلاثة أسابيع . أي ان الحديث عقد صلحا مع الثقافة السائدة وأضفى عليها قداسة دينية تؤكدها وتصادر الحق في المعرفة والاكتشاف العلمي .

2 / 2 / 2 : كما أن الحديث يوميء إلى حقيقة اجتماعية أخرى في مجال التعامل الجنسي مع المرأة ، إذ يعتبر بلوغها درجة الانتشاء الجنسي يعني انزال افرازات منها ، كالرجل تماما حين يصل إلى قمة الشهوة بالإنزال . وهذه المعلومة ــ مع الجهل بطبيعة المرأة ــ تعكس حقيقة أخرى مفزعة وهي ان الرجال ــ أو اغلبهم ــ لم يهتموا بحق المرأة في المتعة الجنسية ، إعتبروا إفرازات العضو التناسلى للمرأة عند الايلاج يعنى وصولها لقمة الارتواء الجنسى ، وهذا خطأ فادح . ولكنه ما كان سائداً في ذلك الوقت . ولم أجد في كتب الفقه النظري والفقه الوعظي وكتب الأدب ما يشير إلى وصف المرأة إذا وصلت إلى مرحلة الرعشة او قمة الإشباع الجنسي ، على كثرة ما هو مكتوب في ثقافة النصف الأسفل في التراث .

2 / 2 / 3 : والقاريء إذا أدرك ذلك لم يُسلّم بالحكم الفقهي الذي يوجب الغسل على المرأة إذا احتلمت ، وليس فقط ، لأن النبي لم يقل ذلك الحديث ولكن أيضا لأنه حوى معلومات خاطئة علميا وفقهياً .

2 / 2 / 4 : وهذا هو المنهج الذي سرنا عليه في تناول الأحاديث المتعلقة بتشريعات المرأة في الدين السُنّى ؛إعتبرناها نتاجاً ثقافيا للعصر الذي دُوّنت فيه ، وتحوى على أفكار واجتهادات ورؤى فقهية ، قد تكون صحيحة علميا  وقد لا تكون ، ولكنها في نهاية الأمر صادقة كل الصدق في التعبير عن ثقافة عصرها .

ثانيا :

1 ـ ويستطيع القاريء المتمكن الواعي ان يتأكد من هذه الحقيقة ، فالموطأ أول كتاب في الحديث ، جمع فيه الإمام مالك (ت 93 ــ 179) هــ ما تردد في المدينة من أحاديث عن النبي ، وصنع لها أسانيد من خياله . ومع ذلك فإن "الموطأ" أقدم الكتب في الحديث والفقه هو أصغرها حجما وأقلها تناقضاً وأكثرها بساطة ، وكل ما أورده في الموطأ هو (1008) حديث ، اغلبها لم ينسبه مالك للنبي ، فنسب فتاوى للصحابة والتابعين كزيد بن ثابت وسعيد ابن المسيب ...

2 ـ وبيئة المدينة بطبيعتها محافظة تسير الحياة فيها على نمط ثابت ، بعكس العراق المتنوع جنسيا وثقافيا ولغويا ودينياً وسياسياً ، لذلك تنوعت فيه المذاهب الفقيهة بين أبي حنيفة الذي لم يعتمد على الأحاديث ، ولم يؤلف كتابا ،  وابن حنبل صاحب المسند الضخم في الأحاديث ، وبين فقه الحيل والتحايل لدى المذهب الحنفي وفقه الظاهرية لدى أبى داوود الذي يتمسك بظاهر اللفظ ، وفي كل هذا وذاك مناطق وسطى وفقهاء التوفيق بين المذاهب والآراء ، فعل ذلك محمد الشيباني تلميذ أبي حنيفة وراوي الموطأ عن مالك ، وإن كان أقرب ــ في الحقيقة ــ إلى مالك وليس إلى استاذه أبي حنيفة ..

3 ـ وقد جمع الشافعي بين ثقافة المدينة وبعض ثقافة العراق ، وتجلى ذلك في كتابه الضخم "الأم" إذ ردد فيه أحاديث مالك في الموطأ ، وزاد عليها الأحاديث التي انتشرت في العراق ، فتضخم عدد الاحاديث بما أورده الشافعي ، وما أورده غيره . حتى إذا جاء عصر البخاري ومسلم كان عدد الأحاديث المتداولة (600,000) حديث ، انتقى منها البخاري حوالي ثلاثة آلاف حديث ، ورفض الباقي ، أي أنه كذَّب حوالي (597000) حديث ، وهو بهذا يعبر عن جهده الثقافي ورؤيته الذاتية ، فيما يقبل وفيما يرفض . ولم يقنع تلميذه مسلم بأن شيخه البخاري أتى بفصل الخطاب في الموضوع فكتب هو الآخر ما عرف بصحيح مسلم . ولم يقنع الحاكم فكتب يستدرك عليهما في "المستدرك" . وهكذا تضخم الحديث عدداً وكُتباً ونقداً للروايات والرواة ن الأمر الذي يؤكد أن الحديث قضية علمية ، وليس قضية دينية إيمانية ، فكلهم اختلفوا ، بل أن التناقض تجده في الكتاب الواحد وفي الصفحة الواحدة ، بل وفي الرواية الواحدة .

4 ـ  وبدأ التساؤل عن ( إسناد ) الحديث أو سلسلة الرواة . أي إن الأصل في الحديث ليس الإيمان والتسليم ولكنه الشك والبحث عن إسناد يقوى احتمالات الصحة فيه ، ثم احتمالات الصحة قد تكون غالبة فيكون الحديث المروى صحيحا حسنا ، وقد تناقصت الثقة فيه ، فيكون الحديث عندهم ضعيفاً ، وكلها رؤى شخصية ومختلفة . مما يقطع بأن الدين القائم عليها هو صناعة بشرية .

5 ـ أما حديث الله تعالى في القرآن الكريم فالأساس فيه هو الإيمان والتسليم ، لأنك لو جئتني بآية قرآنية فلن اطالبك عليها بدليل او إثبات ، طالما انا مسلم مؤمن بالله تعالى ورسوله وكتابه ، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول مؤكداً على هذه الحقيقة (َبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) وقد تكررت مرتين (الأعراف :185 ، المرسلات :50 ) أي ان الإيمان لا يكون إلا بحديث الله تعالى في القرآن وحده . ويقول سبحانه  تعالى يربط بين الإيمان بالله تعالى وحده والإيمان بحديث القرآن الكريم وحده : (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) الجاثية:6 ، فالقرآن حقيقة إلاهية مطلقة ، لأنه ليس له مؤلف بشري ، اما مؤلفات البشر فهي حقائق نسبية ووجهات نظر ، حتى لو نسبوها للنبي . يكفى أن كتب الأحاديث مكتوب على كل منها إسم مؤلفها ، اى صناعة بشرية .

ثالثا :

1 ـ نعود الى الحديث السابق الذي افتتحنا به الكلام ورواه ( مسلم ) . يقول فيه " حدثنا يحيي بن يحيي التميمي ، أخبرنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن ام سلمة ، قالت ...." وهذه هي سلسلة الرواة أو العنعنات ، وبعدها يأتي متن الحديث القائل " جاءت أم سليم إلى النبي (ص) فقالت ..... الخ " وقد ناقشنا موضوع الحديث أو متن الحديث ... وبقى أن نتوقف مع السند أو سلسلة الرواة والعنعنات ..

2 ـ وفي الحقيقة فإنه قد نشأ ما يعرف بعلم المصطلح الذي استهلك من المسلمين اعماراً وأجيالاً لمدة قرون ، اختلفوا فيها ؛ في ان هذا الراوي ثقة او غير ثقة ، وكتبوا في ذلك مئات المؤلفات في تقصى أحوال الرواة ، وأحكامهم كلها ظنية لا تخلو من الهوى ، خصوصاً وأن الباحثين يبحثون في تاريخ رواة ، بعضهم لا وجود له فى التاريخ ، أى شخصيات تم صنعها خصيصا ليضعوا عليها أقاويل منسوبة للنبى ، أو أشخاص حقيقيين ولكن ماتوا دون أن يعرفوا ما قيل عنهم من إشاعات شفهية ، ان احدهم كان كذا . وإذا عرفنا ان المسلمين انقسموا مبكراً إلى طوائف وأحزاب وفرق ومذاهب فإن هذه الخلافات لابد أن تنعكس على تقييمهم للراوي وعلى مدى صدقيته .  وفي النهاية فإن ما يكتب عن الراوي يدخل ضمن الأخبار التاريخية التي يجوز عليها الصدق والكذب .  وهذا كلام عام عن (علم مصطلح الحديث) والجرح والتعديل للرواة . ولكن مع أهميته فهناك الأهم ، أو المسكوت عنه في هذا العلم  .

3 ـ هل تريد ان تعرف ماهية ذلك المسكوت عنه ..؟ .. حسنا .. لنرجع إلى الحديث الذي نتوقف معه ونأخذه مثالاً ..

3 / 1 : مرة أخرى ، يقول مسلم " حدثنا يحيي بن يحيي التميمي " يعني أن المدعو يحيي بن يحيي التميمي هو الذي روى ذلك الحديث لمسلم وقال له المدعو يحيي بن يحيي التميمي " أخبرنا أبو معاوية" وذلك المدعو أبو معاوية كان يعيش في عصر سابق ، ولكنه ــ فيما يدعى يحيي بن يحيي ــ أخبر يحيي بهذا الحديث " عن هشام بن عروة" يعني أن أبا معاوية أخبر يحيي أنه تلقى هذا الحديث من "هشام بن عروة" وهشام بن عروة أخبر أبا معاوية أنه تلقى هذا الحديث عن أبيه "عروة بن الزبير بن العوام " وعروة بن الزبير أخبر أبا معاوية أنه تلقى ذلك الحديث عن زينب بنت أبي سلمة ، وزينب بنت أبي سلمة ..الخ . الى فلانة التى تزعم  أنها تلقت الحديث عن أمها ام سلمة زوجة النبي . إلى هنا والكلام مسبوك ومحبوك ، ولكن الواقع يرفضه .

3 / 2 : فالمدة الزمنية بين عصر مسلم في منتصف القرن الثالث الهجري وعصر النبي في المدينة حوالي (250) عاما أي ستة أجيال ، إذا كان الجيل أربعين عاماً ، فكيف يتم لنا التأكيد من أن الرواة خلال قرنين ونصف وستة أجيال حافظ كل منهم على هذا السر الخطير وأودعه الراوى التالي في العصر التالي وهكذا إلى أن تم التدوين أخيراً في عصر مسلم ..؟ وهل يجوز هذا وقد شهد المسلمون خلال هذه الأجيال الستة صراعا وتفرقاً وحروبا أهلية وحروبا سرية وسقوط الخلافة الأولى ثم الخلافة الأموية ، ثم قيام الخلافة العباسية مع غليان على السطح وفي العمق ..؟ وقد يساعد الصفاء والهدوء والجمود على سريان الرواية وتمتعها بشيء من الصدقية ، شريطة ان تظل ثابتة في نفس المكان والزمان ، فكيف إذا تلاعب بها الزمان والمكان والإنسان .؟

4 ـ إن تاريخ علم المصطلح يقول انه نشأ بسبب كثرة الكذب على النبي ، فاتفقوا فى بداية  العصر العباسى على أن يروى الحديث مشفوعا بتسمية الرواة الذين رووه . وبدأ التدوين بموطأ مالك وفيه الحديث ورواته . ثم انتشر الأمر ، وأصبح كل شيخ يجلس ويحدّث التلاميذ بما سمعه ، وينقل الناس عنه ويكتبون ، وهو يقول " حدثنا فلان عن فلان " ويصل بالسلسلة إلى النبي ويتمتع بالصدق إذا كان شديد التأثير في المستمعين . وعلى هذا المنوال استطاع الحنابلة في القرن الثالث وحتى الآن التأثير في الحياة العقلية والدينية للمسلمين ، لأنهم هم الذين تحكموا في الشارع دينياً ، سيطروا على المساجد ، وقام اغلبهم بوظيفة القصص ، أي الوعظ وقصّ الأقصاص ، وتحولت أقاويلهم إلى احاديث ، لأنهم اغرموا بنسبة كل ما يحبون للنبي ، وهكذا تضخم علم الحديث رواية ودراية أي رواية ونقداً . وكان من السهل على طلبة العلم أمثال البخاري ومسلم ان يجلسوا إلى مشاهير العلماء الذين "يتحدثون عن رسول الله " بأسانيدهم ، وينقلون عنهم ، ولذلك يقول البخاري : حدثنا فلان .. أي روى لنا رواية شفوية فصدقناه ونقلنا عنه ، ويقول مسلم : " حدثنا يحيي بن يحيي .." وقد كان يحيي بن يحيي مشهوراً في عصره متمتعا بثقة مسلم ، لذلك نقل عنه مصدقا لما يقوله ، ولكن توارت شهرة يحيي بن يحيي وغيره ، وتضخمت شهرة البخاري ومسلم ، وعن طريق هذه الشهرة تمتعا   بالتقديس .

5 ـ المهم أن تاريخ علم المصطلح يؤكد أنهم اخترعوا سلسلة الرواة ورفعوها للصحابة بعد موتهم بقرن وأكثر ، وهم الذين عاشوا فى حروب خارجية ( فتوحات ) وحروب داخلية أهلية ( الفتنة الكبرى )، وما تلاها . أى لم يكن لديهم الوقت للتفرغ لرواية الأحاديث أو لأى نوع من المجالس العلمية . ثم إن الصحابة والتابعين وتابعيهم ماتوا وهم لا يعرفون ان الأجيال اللاحقة ستضعهم في القوائم الأولى للروايات .   

رابعا :

 هذا عن الحديث. فماذا عن السُّــنَّة ؟

1 ـ  إن السنة تطرح قضية المصطلحات. فللسنة مصطلحات شتى :

  السنة في مصطلح القرآن تعنى :

    1 :بالنسبة للدين الإلهي : الشرع ، وهو نفس معناها في اللغة ، فأنت تقول "سنّ قانونا" أي شرع قانونا ، والله تعالى يقول لخاتم النبيين (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) الأحزاب : 38 ، أي ليس على النبي حرج فيما فرض الله له لأنها سنة الله ، ولأنه أمر الله .  أي ان مصطلح السنة جاء مرادفا للفرض والأمر ، وكلها جاءت منسوبة لله سبحانه وتعالى ، أي سنة الله وفرض الله وأمر الله . وكلها تعنى شرع الله الذي أمر النبي باتباعه . إذن فالسنة تنسب لله ومعناها الشرع .:  هذا فيما يخص الدين ، وموقع النبي هنا هو ان يكون قدوة في تطبيق سنة الله جل وعلا ، والله تعالى جل وعلا يقول (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ... )الأحزاب :21 ، لم يقل لكم في رسول الله سنة حسنة ن وإنما قال (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) .

  2 : أما فيما يخص تعامل الله سبحانه وتعالى مع البشر فالسنة تأتي بمعنى المنهاج ، كقوله سبحانه وتعالى (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) الفتح :23 ، (اقرأ أيضا : فاطر 43 ، الإسراء :77 ) .

  3 : هذا هو معنى السنة في القرآن تأتي بمعنى شرع الله أو طريقته تعالى في التعامل مع البشر المعاندين .

4 ـ وبعض فقهاء السُّنّة يقسّمون السنة إلى : سنة عملية وهي تشريع الصلاة والصوم والعبادات . وهم بذلك يقتربون من معنى السنة في مصطلحات القرآن أي السنة بمعنى الشرع ... ونحن لا نختلف معهم في هذا المدلول ، ولكننا نختلف معهم في القسم الثاني الذي قالوا أنه السنة القولية ، وهي عندهم الأحاديث التي ينسبونها للنبي ، ونحن نرى أن السنة القولية للنبي هي القرآن الذي تكرر فيه للنبي كلمة " قُـــلْ " ، وكان يأتمر بهذا ويقول للناس في دين الله كل ما امره الله سبحانه وتعالى أن يقوله .

5 ـ وبالطبع كانت للنبي اقوال في حياته وفي تعاملاته وفي تربيته لأصحابه ، ولكن هذه الأقوال جزء من التاريخ ، يقال عنه سيرة النبي ، و ليست جزءاً من الدين الاسلامى ، فهى سيرة كتبها بشر ، وتحمل أسماءهم . ولأن الدين قد تم بنزول القرآن (المائدة :3) ، كما ان تطبيق النبي لأوامر الله تعالى في القرآن مرتبطة بظروفه الزمانية والمكانية والبشرية . ومن المستحيل ان نستعير هذه الظروف لعصرنا ، وعلى سبيل المثال فإن الله تعالى يقول (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... ) الأنفال : 60 ، والاستعداد العسكري في عهد النبي وفي عصره ليس بشيء في عصرنا ، لأن استطاعة القوة مختلفة بين العصريْن .

6 ـ وقد جاءت العبادات بالتواتر العملي ، وانتشرت بالفتوحات العربية قبل تدوين الأحاديث بقرنين من الزمان ، وكل من أسلم تعلم العبادات واللغة العربية بالطريقة العملية عن طريق الوالي الذي كان اسمه والي الصلاة وأعوانه في الولايات المفتوحة ، ثم يتعلم الأولاد من الآباء وهكذا ... تورثنا العبادات الإسلامية ، أو ما يسميه الفقهاء بالسنة العملية . هذا هو معنى السنة في مصطلح القرآن ، الشرع والفرض..

  مصطلح السنة في التراث تلوّن بطرقة عجيبة ..

1 ـ عندما ابتدع الأمويون المُلك الوراثي القائم على القوة كان بعضهم يقارن متحسراً بين حال المسلمين في الخلافة الأموية الوراثية المختلف عما سبقه . ومن هنا استعملت سنة الرسول استعمالا سياسياً يعني منهج النبي في الحكم ، وبدأ بذلك قيس بن سعد بن عبادة والي (على) في خلافته وقد قال قيس بن سعد بن عبادة للمصريين انه يسير على سنة النبي ، أي منهجه في الحكم  .

2 ـ وعندما بدأت طوائف الشيعة في إظهار عقائدها في تقديس (على) وأولاده ، أصبحت السنة في مواجهة الشيعة تعني الوقوف ضد تفضيل (على) على غيره من الخلفاء الراشدين .

3 ـ وفي خضم الصراعات بين الفرق والطوائف حول صفات الله تعالى والقضاء والقدر حمل الأشاعرة والماترودية لقب اهل السنة في مقابل الجبرية والمعتزلة.

4 ـ وبسبب الصراع السياسي بين الشيعة والعباسيين كانت الدولة العباسية "سنية" في مواجهة دعاة الشيعة والدول التي أقامها الشيعة في إيران واليمن وشمال أفريقيا ومصر .

5 ـ  وفي أحضان الدولة العباسية نشأت المذاهب الفقهية السنية والتراث السني الذي عرضنا لتشريعاته عن المرأة وقارنّاها بتشريعات القرآن . وبالنسبة للأحاديث فالشيعة لهم احاديثهم ولهم رواتهم ورواياتهم وتراثهم ، بنفس ما لأهل السنة من تراث وأحاديث ورواة ، ولهم مصطلحاتهم التي تختلف عن مصطلحات الشيعة .

6 ـ وفي داخل الغابة الاستوائية الفقهية وتلافيفها نبتت مصطلحات جديدة ، مثل النسخ بمعنى الإلغاء والإبطال للحكم ، والحدود بمعنى العقوبات ،

7 ـ وفيما يخص موضوع السنة ، فقد اصبح كمصطلح السنة يعنى الشيء الأقل أهمية من الفرض ، بمعنى ان تصلي فرض الظهر مثلا ، ثم تصلي الزيادة ومعناها النفل ، فجعل الفقهاء معناها السّنة .

8 ــ واقترن هذا بإضافة درجتين من درجات الأحكام التشريعية الإسلامية ، فالأحكام التشريعية في القرآن ثلاث فقط ، الفرض الذي ينبغي تأديته ، والحرام الذي ينبغي الابتعاد عنه ، وبينهما الحلال المباح ، الذي لا فرض فيه ولا تحريج عليه . أضاف الفقهاء " حكمين " أحدهما المكروه وهو أقرب للحرام ، والمندوب او المستحسن الذي "يُسنُّ" عمله ، وهو أقل من الفرض الواجب ، وذلك بالطبع يجافي تشريعات القرآن ، لأن المكروه في مصطلحات القرآن هو الحرام مثل الزنا والكفر والفسوق والعصيان ( الاسراء : 38 ، الحجرات : 7) كما ان السنة قرآنيا هي الشرع الواجب تنفيذه  وليس شيئا أقل أهمية من الواجب . والأصل في ذلك ان الأئمة الأوائل كالشافعي وابن حنبل كان أحدهم يقول "وأحب ان يفعل كذا " وأكره للمصلي ان يقول كذا " فأصبح ما يقوله الإمام محبوباً او مندوبا او مكروهاً . وبذلك نبت مصطلح جديد في القواعد الفقهية ، ثم أصبح من عادة الفقهاء المتأخرين ان يقول " ويُسنُّ كذا " ويقول برأيه في الموضوع دون أن يستشهد بحديث أي اصبح كلامه "سنة". وهكذا تلونت السنة بأكثر من مفهوم بين القرآن والتراث ..

أخيرا :

 1ــ وقد ظهرت فجوة في هذه الدراسة بين تشريعات المرأة في القرآن وتشريعاتها في التراث (السني) ، وكان من الطبيعي ان يتأثر الفقهاء بعصرهم ، وقرونهم الوسطى ، صحيح انهم كانوا أحيانا منصفين عندما يتمسكون بالنصّ القرآني ، ولكن الغالب كان في تأثرهم بالقرون الوسطى التي صادرت حقوق المرأة واعتبرتها كالجارية المملوكة ، وطبقا لمنطق العصور الوسطى نفسها كان يتم إضفاء الصبغة الدينية على الفكر والثقافة حتى تكتسب قداسة ومصداقية ، ولهذا كانت الآراء الفقهية التي تصاغ في شكل حديث أقوى أثراً وأسرع انتشاراً من غيرها ، ولا يتطلب الأمر اكثر من اختراع اسناد وكتابته وسرد أسماء السابقين في سلسلة العنعنة ، وبذلك تم إضفاء الصبغة الدينية على تشريعات القرون الوسطى بكل ما فيها من مزايا ومساويء ..

2 ـ ولم يهتم احد بالتفرقة بين الإسلام والثقافة الدينية ، أو بين الدين الحق المتمثل في القرآن وبين تعامل الناس مع هذا الدين ورؤيتهم له ، وظلت هذه النظرة سائدة بين أروقة الأزهر تنتظر مجتهداً يتصدى لها بشجاعة إلى أن جاء الإمام محمد عبده ، فوقف موقفاً جريئاً من الأحاديث ومن التصوف ، ولكن موته المبكر أعاق جهوده الإصلاحية خصوصا عندما أجهضها تلميذه السلفي رشيد رضا ... وتحول الفكر السلفي الذي بثه رشيد رضا إلى حركة سلفية سياسية تمثلت في الاخوان المسلمين الذين طمحوا لإقامة حكم ديني سلفي في مصر على غرار الحكم السعودي في الجزيرة العربية ، وفي عصر النفوذ السعودي أتيح للتيار السلفي أن يسود سياسياً وثقافيا وأن يخترق العقول والقلوب وأجهزة الدولة الإعلامية والتعليمية والثقافية والدينية . وكل ذلك بهدف سياسي يحمل شعارات تطبيق الشريعة ، دون أدنى اهتمام بتحديد ماهية الشريعة المراد تطبيقها ، هل هي شريعة القرآن وكيف ..؟ ام شرائع التراث ..؟ فأيِّ منها ..؟ وأي في القوانين السائدة ما يتفق منها والشريعة (المقصودة) ومالا يختلف . كل ذلك وغيره من المشاكل العلمية دخلت ضمن المسكوت عنه في خطاب التيار الديني الذي لا يرى إلا كرسي الحكم هدفا ، ولا يرى في الإسلام وشعاراته إلا مجرد وسيلة مواصلات يركبها ليصل لهذا الهدف .

3 ـ وأصبح الأمر مفزعاً لكل باحث مسلم غيور على دينه وحب لوطنه وقومه ، أن يتم العبث بدين الله ، وأن ينتشر الكذب والقتل والإرهاب والتعصب باسم الإسلام . ودفع كاتب هذه السطور من حياته نضالاً واضطهاداً في سبيل كلمة حق ، يريد بها إنصاف الإسلام ممن يستخدم اسمه العظيم في سبيل حطام دنيوي ، ومنذ 1982 وكتب المؤلف تتوالى في نفس الموضوع من كتاب "السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة سنة 1982" إلى كتاب الحسية : دراسة أصولية تاريخية سنة 1995 ..وهذا الكتاب عن ( تشريعات المرأة بين القرآن والدين السني) هو جهد متواضع في هذا الطريق ،  يلفت به المؤلف نظر الناس إلى أن الاسلام  يحتاج اليوم لمن يعاني في سبيل إظهار حقائقه السمحة ، وليس محتاجا إلى أولئك الذين يتاجرون باسمه العظيم في دنيا الجاه والشهرة ... والطموح السياسي ...

والله ــ تعالى ــ هو المستعان ...

تم الكتاب  فى : القاهرة . مساء الأحد 26 نوفمبر : 1995 م

اجمالي القراءات 2235