قراءة في كتاب ويسألونك عن الكهان
رضا البطاوى البطاوى
في
الأربعاء ٠٥ - أبريل - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً
قراءة في كتاب ويسألونك عن الكهان
الخطيب أحمد الجوهري عبد الجواد وقد استهلها بذكر علم الله وحده للغيب فقال :
"إن الله هو المنفرد وحده بعلم الغيب، فمن ادعى مشاركة الله في شيء من ذلك فقد جعل لله شريكاً فيما هو من خصائصه، وكذب على الله ورسوله، ومن أعظم ممن ذهب يفتري على الله تعالى فيدخل نفسه في شيء مما اختص به سبحانه نفسه عند ذاكم يغضب الجبار فلا يأمن هذا المتدخل غضبه فيدخله النار كائناً من كان."
واستشهد الرجل بحديث باطل فقال :
"روى أبو داود بسند صحيح من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: "كَانَ رَجُلاَنِ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ مُتَآخِيَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِى الْعِبَادَةِ فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ أَقْصِرْ فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ أَقْصِرْ فَقَالَ خَلِّنِى وَرَبِّى أَبُعِثْتَ عَلَىَّ رَقِيبًا فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَقُبِضَ أَرْوَاحُهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ أَكُنْتَ بِى عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِى يَدِى قَادِرًا وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِى وَقَالَ لِلآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ. "
والحديث هنا يعاقب المطيع الذى ينهى عن المنكر وكلامه نابع من الوحى الذى يتحدث عن أن من عصى الله دخل النار كما قال تعالى :
" ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا"
فالرجل لا يتألى على الله وإنما يخبر العاصى بما قاله الله ومع هذا الحديث يعاقب المطيع لله ويرحم العاصى
وتحدث الرجل عن الكهانة فقال معرفا الكاهن والعراف :
"أيها الإخوة:
من هو الكاهن؟ ومن هو العراف؟ وما حكمه؟
وما هي مصادره في الأخبار عن الغيبيات؟
وما حكم سؤالهم وإتيانهم؟ وإذا كنا نراهم يخبرون في بعض الأحيان ببعض الحق فما حقيقة ذلك؟ ولنتعرف إلى شيء من أحوالهم وأخبارهم، فإلى شيء من خبر اليقين من القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة تعالوا بنا نتحدث عن هذا الصنف من الناس وعن شيء من أمورهم أسأل الله أن يخرج الحق منا ويرضى به عنا.
من هو الكاهن؟ الكاهن -أيها الإخوة- هو من يدعي معرفة الغيبيات ويخبر عنها، وقيل: هو الذي يخبر عما في المستقبل عن طريق الجن والشياطين، وقيل: هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن.
ومن أجمل التعريفات التي أصابت الحقيقة التعريف الذي عرفه العلامة ابن حجر الهيثمي فقد عرف الكاهن بأنه هو الذي يخبر عن بعض المضمرات فيصيب بعضها ويخطئ أكثرها ويزعم أن الجن تخبره بذلك.
هذا هو الكاهن فمن هو العراف؟ قال البغوي: العراف هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات ليستدل به على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك.
وقال ابن تيمية: إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمّال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
قال الإمام أحمد: العرافة طرف من السحر، وقال أبو السعادات: العراف هو المنجم
والكاهن والعراف -أيها الإخوة- عمدتهم السحر والاعتماد على الجن بواسطة خدمتهم وتقديم المحبوبات لديهم، ومن ذلك الذبائح والقرابين التي يتأتى لهم بها منهم ما يريدون، تماماً مثلما أصلنا ذلك في الحديث عن السحر والسحرة خدمة بثمن والثمن باهظ هو الدين فيدفع الواحد من هؤلاء دينه وعقيدته في مقابل أن يقال فلان عنده معرفة فلان عراف، فلان طبيب روحاني ليشتهر بين الناس، ومن هؤلاء من يضحك على نفسه والناس ويقول: إن هذا الذي يفعله ويعلمه علم يتعلم ويعلم وطب يداوي ويعالج كذبوا كما يقال وصدقوا كذبتهم.""
وتعاريف الكاهن السابقة تخالف ما في القرآن فالكاهن متقول أى مشرع كما قال تعالى :
" وما هو بقول كاهن"
ومن ثم فهو يتكلم في كثير من الأمور منها تشريع الأحكام والتكلم في الغيب ويدعو للذبائح المحرمة وغير هذا مما يتعلق بمكان العبادة فهو ما يسمونه رجل الدين
وتحدث عن اتصال الكاهن بالجن فقال :
"وهذه طريقة من الطرق التي يتحصل بها هؤلاء على الأخبار والحوادث تصل الساحر منهم فيعلنها ويتحدث بها والجني الذي حدثه بها إما يتحصل عليها باستراق السمع من السماء وتبليغ الكلمة التي سمع قبل أن يصل إليه الشهاب فيحرقه فيتحدث بها من بلغته إلى الكاهن ويزيد الكاهن فيها، كما يخبرونه عن بعض ما لم يقع في الأرض من أشياء يؤمر بها أن تكون كالنصر والهزيمة ولكنها في الغالب لنقصانها معلومات مشوهة مبتورة.
وإما أن الكاهن يتحصل على هذه المعلومات عن طريق قرينه من الجن وهذا يخبره بالوقائع التي وقعت في الأرض في مكان ما منها ولكنها غابت عن الآخرين، وهذا الذي يسمى بالغيب النسبي ويدل عليه الحديث الماتع الذي ذكره البخاري في إسلام عمر وفصّله غيره ولا بأس أن نذكره فإنه يتصل بموضوعنا وأيضاً لطرافته، ولكن بعد أن نذكر المصدر الثالث من مصادر الكهان. المصدر الثالث من مصادر الكهانة والتي يتعرف بها الكاهن أو العراف على ما يخبر به فإنه الحدس والتخمين وحساب المقدمات وترتيب النتائج عليها كما قال ذلك البغوي في تعريفه الذي قدمناه فقد قال في العراف: هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك.
ومنه الذي يسميه الناس المندل ويذهبون إليه يتعرفون منه على أماكن وأشخاص السارقين وكل هؤلاء لهم أعوان من الجن كما في الحديث الذي أشرنا إليه وهو ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر قال: ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه كذا، إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، على الرجل، فدعى له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم، قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك قال بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح، أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا أنت، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا الرجل هو سواد بن قارب، ثم ذكر ما أخرجه البيهقي في دلائل النبوة عن البراء -رضي الله عنه- قال: بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس على منبر رسول الله (ص)-، إذ قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة، فلما كانت السنة المقبلة قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فقلت يا أمير المؤمنين، وما سواد بن قارب؟ قال: فقال له عمر: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئاً عجيباً، قال: فبينا نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب، قال: فقال له عمر: يا سواد حدثنا ببدء إسلامك، كيف كان؟ قال سواد: فإني كنت نازلاً بالهند، وكان لي رئي من الجن، قال: بينا أنا ذات ليلة نائم، إذا جاءني في منامي ذلك. قال: قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤي بن غالب، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وأنجاسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن كأرجاسها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
قال: ثم أنبهني فأفزعني، وقال يا سواد بن قارب، إن الله بعث نبياً فانهض إليه تهتد وترشد .. فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول كذلك:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوى إلى مكة تبغي الهدى ... ليس قداماها كأذنابها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى نابها
فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم قال:
عجبت للجن وتخبارها ... وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ليس ذوو الشر كأخيارها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ... ما مؤمنو الجن ككفارها
قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة، وقع قلبي في حب الإسلام من أمر رسول الله (ص)- ما شاء الله، قال: فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي، فما حللت عليه نسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله (ص)-، فإذا هو بالمدينة - يعني مكة - والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبي (ص)- قال: "مرحبا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك". قال: قلت يا رسول الله، قد قلت شعرا، فاسمعه مني. قال سواد فقلت:
أتاني رئي بعد ليل وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليالٍ قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت ... بي الدعلب الوجناء عند السباسب
فأشهد أن الله لا شيء غيره ... وإنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين شفاعة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
-: "ليسوا بشيء". قالوا يا رسول الله فإنهم يحدثون أحياناً الشيء يكون حقاً. قال رسول الله (ص)"تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة".
وفيهما أيضًا أن عبد الله بن عباس قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي (ص)- من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله (ص)- رمى بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله (ص)"ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمى بمثل هذا". قالوا الله ورسوله أعلم كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم فقال رسول الله (ص)"فإنه لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا -تبارك وتعالى- اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحمة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ماذا قال - قال - فيستخبر بعض أهل السموات بعضاً حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون به فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون".
وربما قال قائل: إن هذا كان في الجاهلية قبل البعثة أما الآن فإن الكهان لا يستعينون بالشياطين والجواب:
بل هذا مستمر إلى الآن ولذلك يرمى إلى اليوم بالشهب وإن كان قليلًا بعدما نزل القرآن وحرست السماء وجبن الجن عن استراق السمع ولذلك قلت إصابتهم عما كان قبل الإسلام، قال الحافظ ابن حجر كانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرةً جداً فلما جاء الإسلام ونزل القرآن حُرست السماء من الشياطين، وأرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: "إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب"
وكل ما سبق من روايات هى روايات كاذبة يكذبها أنه لا يوجد اتصال بين الجن والبشر فحتى الرسول(ص) لم يتصل بهم ولم يعرف أن الله أرسلهم إليه ليسمعوا منه القرآن إلا بعد انصرافهم وفى هذا قال تعالى :
"قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به"
فلم يكن هناك اتصال بينهم وبين الرسول (ص) نفسه حتى من أجل الإسلام وإنما صرفهم الله إليه ليكونوا دعاة الجن إلى الإسلام كما قال تعالى :
"وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم"
ومن ثم لو كان هناك وسيلة اتصال بين الاثنين غير معجزة من الله لاتصل بهم النبى(ص) أو غيره ولكن لا يوجد
الأمر الثانى أن الجن لا يعلمون شيئا من الغيب كما قال تعالى :
"إنما الغيب لله"
والدليل الثانى نفى الله علمهم بالغيب في قولهم :
"فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين"
ومن ثم كل تلك الروايات باطلة لا أساس لها وتحدث عن حكم الشرع فى الكهان فقال :
"فاتقوا الله -أيها الإخوة- والزموا حدود الله. لكن ما هو -أيها الإخوة- حكم الشرع في هذه الأمور؟ فيا -أيها الإخوة-! ما هو حكم الشرع في الكهان وفي إتيانهم.؟"
وتحدث عن العلم بالغيب مبينا أن الرسل (ص)قد يعلمون به فقال :
"وأحب قبل أن نبين حكم هذه الأمور: أريد أن أوضح أمراً هاماً جداً بالنسبة لعلم الغيب وهو أن المتدبر لآيات القرآن الكريم يجد أنه لا جدوى من محاولة معرفة الغيب، إذ هذا العلم من اختصاص الله علام الغيوب، ولا سبيل إلى معرفته بأي طريقة كانت يقول سبحانه: "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير"
ويقول -سبحانه وتعالى- أيضاً: "أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً"
وفي هاتين الآيتين الكريمتين دليل قاطع على عدم إمكانية الإنسان الاطلاع على الغيب بأي شكل كان.
لكن الله لحكمة يعلمها سبحانه قد يطلع بعض الرسل على بعض الغيب كما قال تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً"
وكَشفُ الله بعض الغيب لبعض رسله لحكمة معينة وإلا فالرسل أنفسهم لا يعلمون ما يحدث لهم قبل أن يحدث.
فهناك أمر من الله سبحانه إلى رسوله أن يعلم الناس بأنه لا حول ولا قوة له إلا بمشيئة الله -سبحانه وتعالى- وأنه لا يعلم الغيب، وهذا قد جاء به قوله تعالى على لسان رسوله: "قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون"
فإذا كان خير البشر محمد (ص)- لا يعلم الغيب، فكيف بمن هم دونه مرتبة وشرفاً ومكانة؟ واسمحوا لي -أيها الإخوة- أن أجيب عن بعض ما يجول في الصدور وتتحرج أن تتكلم به الألسنة في هذا المقام إذ إننا حين نطرح هذه الكلمات يتساءل البعض: كيف يقول الله: "وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام". وقد تمكن العلم مؤخرًا من تحديد وقت نزول المطر، وتمكن الطب من تحديد نوعية الجنين أذكر هو أم أنثى؟!"
والرجل لم يفرق بين معانى الغيب فالغيب يطلق على الأخبار الخفية مستقبلا وماضيا وحاضرا كما يطلق على الوحى نفسه واطلاع الرسل(ص) معناه اطلاعهم على الوحى ولذا قال تعالى عن المؤمنين :
" الذين يؤمنون بالغيب"
فالمؤمنون يؤمنون بالوحى وأما أخبار الغيب فكيف يؤمنون بشىء وهم لا يعلمون به
وتحدث عن مفاتح الغيب فقال:
"وابتداء أقول: لا حرج أبدًا على هذه النفوس الحائرة أن تعبر عن ما فيها طلبًا للراحة مما يؤرقها على أن يكون ذلك التعبير على سبيل الاستفهام والاستفسار لا على سبيل الجدل والسفسطة وإلا كانوا ممن قال الله تعالى فيهم: "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير"
أيها الإخوة! إن الله عنده علم الساعة: أي أن علم وقت الساعة مختص بالله سبحانه فلا يعلم أحد بوقته سواه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما قال سبحانه: يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله ويقول: لا يجليها لوقتها إلا هو ونحن نعلم أن الله -تبارك وتعالى- بعد خلقه للسموات والأرض، خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فمه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخ بالصور. فإذا كان إسرافيل الملك المكلف بالنفخ بالصور إيذاناً ببدء القيامة لا يعرف موعدها، إذا كان هذا هو حاله فكيف بأي منجم أو دجال يقول: إن الساعة ستقوم في يوم كذا أو في عام كذا. تلكم كلها أكاذيب.
وينزل الغيث ومما يختص الله تعالى بمعرفته وقت إنزال المطر ومكانه المعين. أما نشرة الأرصاد الجوية في أيامنا فتعتمد على بعض الحسابات والأمارات.
وما ترصده بعض الأجهزة المخصصة لمعرفة نسبة الرطوبة وسرعة الرياح فليس ذلك غيباً، وإنما هو تخمين وظن وحسابات قد تخطئ وقد تصيب فذلك ظن، وقد يحدث نقيضه كما أن معرفته تكون قبل مدة قريبة، يلاحظ فيها اتجاهات الرياح والمنخفضات الآتية من الشمال أو الغرب مثلاً.
ورغم هذا فنحن نسمع دائماًَ: يتوقع الفلكيون نزول الأمطار، ويقولون إن الفرصة مهيأة لنزول الأمطار. وتتجمع الغيوم في السماء، وتنذر الحالة بأن المطر سينزل ولكن في اللحظات الأخيرة، يأمر الله الرياح كيف يشاء فتذهب بهذه الغيوم القاتمة دون أن تنزل منها قطرة واحدة فنزول المطر عملية دقيقة جداً لا يستطيع البشر أن يقوم بها مهما بلغ علمه، بل لو اجتمعت البشرية كلها على أن تنزل مطراً في مكان ما أو تمنع المطر من النزول في مكان ما فهي لا تستطيع ولن تستطيع.
"ويعلم ما في الأرحام" فهل تحديد نوع الجنين هو المقصود بالآية؟ والجواب: لا، فإن علماء المسلمين من المفسرين لم يقولوا بهذا، بل وجدنا من المفسرين وهو الإمام القرطبي وتفسيره في الأرض منذ مئات السنين قال: وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك. إذن فمعنى ما في الأرحام ليس المقصود منه هل المولود ذكر أم أنثى بل معناه أوسع من ذلك بكثير، لأن الله يعلم من هو أبو المولود ومن هي أمه قبل أن يتزوجا"أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير"
إن معنى كلمة ما في الأرحام هنا: تعني حياة المولود من لحظة ولادته إلى لحظة وفاته هل هو شقي أم سعيد طويل أم قصير، ما هو لونه، هل هو صحيح أم مريض؟ ما هو عمره، وماذا سيفعل، ما هي الأحداث التي ستقع له، وماذا سيعمل؟ وأي مهنة سيمتهنها؟ وأي البلاد سيسافر إليها؟ وبمن سيتزوج؟ وما هو رزقه؟ وهل سيرزق بأولاد أم لا؟ وهكذا فمن يعلم مثل هذه الأمور غير الله؟ هل يستطيع أحد من البشر أن يدعي هذا العلم؟ لا يستطيع ولكن الله يستطيع ذلك؟ وقد فعل فالله كتب مقادير الخلق وأرزاقهم وآجالهم قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام وهو موجود عنده سبحانه فوق العرش"إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير"
هذا غيض من فيض مما تحمله الآية الكريمة من معان.
وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، أي لا تعلم ماذا تكسب في الغد من خير أو شر في دنياها وأخراها.
"وما تدري نفس بأي أرض تموت" من يعلم ساعة موته، متى تكون؟ وأين تكون؟ لا علم لأحد بذلك."
والآية التى تحدث عن تفسيرها الرجل لا تتحدث عن أن الله وحده هو من يعلم الأمور الخمسة سوى الساعة كما أن نزول الغيث " ينزل الغيث " ليس مذكور فيه العلم وإنما المذكور إنزال الله للغيث وهو المطر وبقية الآية تنفى علم الناس بالأرحام والمراد بموعد الحمل وموعد الولادة " كما قال " وما تغيض الأرحام وما تزداد" وتنفى علم النفوس بمكان وزمان موتها وتنفى علم النفوس بماذا تفعل فى الغد بالدقيقة والثانية وأصناف الأعمال
فالآية تنفى المعرفة البشرية فى أمور معينة
وذكر الرجل بعض الروايات فقال :
"ومن جميل ما قرأت أن ملك الموت مر على نبي الله سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه. فقال الرجل: من هذا؟ قال سليمان عليه السلام: هذا ملك الموت، فقال: كأنه يريدني، وسأل الرجل سليمان عليه السلام أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ففعل. ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجباً منه، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند، وهو عندك.
وهذا مصداق ما روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير، عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جعل الله ميتَة عبد بأرض إلا جعل له فيها حاجة"
أيها الإخوة! ورغم هذه الآيات الصريحة في أن علم الغيب مختص بالله -سبحانه وتعالى- إلا أن هذه الآيات تتعرض لمصادمات صريحة من الكهان والعرافين والدجالين ومن يصدقهم بادعائهم الغيب."
وتحدث عن حكم العراف ومن يصدقه فقال :
"فما هو حكم من عمل بالكهانة والعرافة وما حكم من أتاهم يسألهم؟ أيها الإخوة! إذا كان هذا هو عمل الكهان والعرافين وتلك طرائقهم في التعرف إلى ما به يتكلمون فلا يجوز لأحد أن يذهب إليهم ليعرف منهم شأنه أو مرضه، كما لا يجوز أن يصدقهم فيما يخبرونه به فإنهم يتكلمون رجماً بالغيب أو يستحضرون الجن ليستعينوا بهم على ما يريدون، وهؤلاء شأنهم الكفر والضلال لكونهم يدعون أمور الغيب، وقد روى مسلم في صحيحه أن النبي (ص)- قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" ، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي (ص)- قال: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (ص)- "والحديث أخرجه أبو داود وأخرجه أهل السنن الأربع وصححه الحاكم عن النبي (ص)- بلفظ: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (ص).
وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله (ص)"ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكُهِّن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" والحديث أخرجه البزار بإسناد جيد.
ففي هذه الأحاديث الشريفة النهي عن إتيان العرافين وأمثالهم وسؤالهم وتصديقهم والوعيد على ذلك، فالواجب على ولاة الأمور وأهل الحسبة وغيرهم ممن لهم قدرة وسلطان إنكار إتيان الكهان والعرافين ونحوهم، ومنع من يتعاطى شيئاً من ذلك في الأسواق وغيرها والإنكار عليهم أشد الإنكار، والإنكار على من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يأتي إليهم ممن ينتسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم؛ بل من الجهال لما في إتيانهم من المحذور، لأن الرسول (ص)- قد نهى عن إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم لما في ذلك من المنكر العظيم، والخطر الجسيم، والعواقب الوخيمة، ولأنهم كذبة فجرة، كما أن في هذه الأحاديث دليلاً على كفر الكاهن والساحر لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، ولأنهما لا يتوصلان إلى مقصودهما إلا بخدمة الجن وعبادتهم من دون الله، وذلك كفر بالله وشرك به سبحانه، والمصدق لهم بدعواهم على الغيب ويعتقد بذلك يكون مثلهم، وكل من تلقى هذه الأمور عمن يتعاطاها فقد برئ منه رسول الله (ص)- ولا يجوز للمسلم أن يخضع لما يزعمونه علاجاً كنمنمتهم بالطلاسم، أو صب الرصاص، ونحو ذلك من الخرافات التي يعملونها، فإن هذا من الكهانة والتلبيس على الناس ومن رضي بذلك فقد ساعدهم على باطلهم وكفرهم، كما لا يجوز أيضاً لأحد من المسلمين أن يذهب إلى من يسأله من الكهان ونحوهم عمن سيتزوج ابنه أو قريبه أو عما يكون بين الزوجين وأسرتيهما من المحبة والوفاء أو العداوة والفراق ونحو ذلك لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى-."
ومن ثم العراف كافر ومن يصدقه كافر وبعض الأحاديث المستشهد بها باطلة كحديث عدم قبول العمل أربعين يوما فمن تاب قبل عمله أى من استغفر غفر الله له كما قال تعالى :
" ومن يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما"