عرفانا بالجميل للأحباب من أهل الكتاب
آحمد صبحي منصور
في
الجمعة ٣١ - مارس - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً
عرفانا بالجميل للأحباب من أهل الكتاب
مقدمة
1 ـ مع أول مارس الماضى دخلت عامى الرابع والسبعين ، ومعى من سنوات قلب مريض ومجموعة رائعة من الأمراض أتوقع معها الموت فى أى لحظة . لا بد الآن أن أبادر بتقديم العرفان بالجميل للنبلاء الأحباب من أهل الكتاب .
2 ـ أذكر لمحة عنهم بالاسم وبعض التاريخ المشترك داعيا الله جل وعلا أن يجزيهم عنى خير الجزاء .
أولا : الأقباط
كنت الأزهرى الوحيد الذى أظهر إضطهاد الأقباط فى رسالتى للدكتوراة ، وكان هذا ضمن معاناتى وقتها ، ثم فى عام 1984 فصّلت معاناتهم فى كتاب ( شخصية مصر بعد الفتح الاسلامى ) والذى قررته على طلبة قسم التاريخ فى جامعة الأزهر. وحتى عام 1990 لم أكن قد عرفت أى مصرى قبطى . جاءت فرصة التعرف ببعضهم من خلال صديقى الراحل د فرج فودة . ثم توثقت الصلة بأولئك الأحبة من الأقباط بعد إغتيال فرج فودة ، وقيامنا بتحويل مكتبه الى ( الجمعية المصرية للتنوير ). جعلت إضطهاد الأقباط من أولوياتى كاتبا فى مصر ثم فى أمريكا . أصبح لى أحبة من الأقباط ، أعرض لمن أدين لهم بالفضل والشكر :
1 ـ د . مارلين تادرس :
سيدة مصرية صعيدية ، من أسرة عريقة ، فيها شهامة وكرم وسُمُوّ أخلاق . عملنا معا فى الجمعية المصرية للتنوير ، وكان من إهتماماتها حقوق الانسان وحقوق الأقباط . كنت وقتها أجتاز فترة صعبة حتى كنت أعمل فى تصحيح بعض النشرات . وقفت الى جانبى ، وكان إبنى حُسام فى طفولته يقول عنها ( عمتو مارلين ). هاجرت مارلين لأمريكا ، ثم بعدها بسنوات هربت بحياتى الى أمريكا عام 2001 . فى عام 2003 رشحونى استاذا زائرا فى منحة لمدة عام فى برنامج لحقوق الانسان فى كلية الحقوق فى جامعة هارفارد فى بوسطن . صادف هذا حصول زوجتى وابنى الأصغر منير على حق اللحاق بى . كان لا بد من السفر لبوسطن وتأجير سكن قبل مجىء زوجتى وإبنى ، إتصلت بمارلين وكانت على صلة بجامعة هارفارد وبالقائمين على برنامج حقوق الانسان فيها ، وكانت تعيش فى ولاية رود إيلاند الصغيرة بالقرب من ولاية ماسوشيتس ( بوسطن ). سافرت الى بوسطن ، وكانت فى إنتظارى ، وساعدتنى فى العثور على سكن ، وعدت فى نفس اليوم لأستقبل زوجتى وابنى فى اليوم التالى فى واشنطن ، وسافرنا بالقطار الى بوسطن . وإلتقينا بمارلين ، وساعدت زوجتى فى شراء لوازم بيتنا الجديد ، وإشترت لنا الكثير . حاولت قبل إنتهاء عام المنحة الحصول على وظيفة فى الأقسام العربية و ( الاسلامية ) فى جامعة هارفارد ، تبين أنها تتعيش على المساعدات من دول الخليج ، ولهذه الدول مندوبون هناك يعلمون بوجودى ، سدّ أبواب الرزق فى وجهى . عُدت الى فيرجينيا .
2 ـ الراحل : وجيه خير . رحمه الله جل وعلا
كان عضوا بارزا فى الجمعية المصرية للتنوير ، وناشطا سياسيا ذا أُفُق واسع . تحمل تكلفة نسخ كتابى ( اثر التصوف فى الحياة الدينية فى مصر المملوكية ) بأجزائه الثلاثة ، ووقف الى جانبى كثيرا فى أوقات الشدّة .
3 ـ الراحل كمال بولس
كان رفيقا لوجيه خير ، ومثله كان لى صديقا عزيزا . قام بنشر أعمال فرج فودة ، بعد أن قمت بمراجعتها ، وواصل دوره النضالى مع أولادى بعد هجرتى لأمريكا . أخبرنى إبنى محمد أنه بعد أن خرج المعاش من عمله فى دار الكتب أعطوه مكافأة ضخمة ، عرضها على إبنى محمد فرفض أن يأخذها شاكرا . هو موقف فى غيابى لا أنساه . عليه رحمة الله جل وعلا .
الراحل فيليب جلاب
كان الاستاذ لطفى واكد من قادة حزب التجمع ، ومن أصحاب التأثير فى جريدة ( الأهالى ). وهو أصلا من بلدة قريبة من بلدتنا ، وكانت معرفتنا وثيقة ، ومع هذا تحرّج من أن يجعلنى أكتب فى الأهالى . الذى سمح لى بالكتابة هو الراحل فيليب جلاب ، عندما تولى رئاسة تحريرها ، وكانت فرصة لصداقة معه ، رحمه الله جل وعلا .
د . يونان لبيب رزق
تعارفنا فى الجمعية المصرية للتنوير . قدّم لى معروفا حين رشحنى لعمل بحث عن ( الدُّخّان ) لصالح شركة كبرى فى لندن . وسافرت هناك أقدم لهم البحث ، وحصلت على مبلغ لم أكن أحلم به ، وجاء فى وقت عسير ، كنت فيه مُفلسا ، والفقر كان رفيقا وصديقا لى فى مصر بلد الحرامية !.
مجدى خليل
تعرفت عليه فى مصر ، وتوثقت الصداقة بعد لجوئى لأمريكا ، وتشاركنا فى العمل السياسى فى أواخر عهد مبارك . وهو صاحب فضل فى إستقدام إبنى محمد لأمريكا .
د . عدلى ويلسون
عرفته فى أمريكا عن طريق مجدى خليل . هو طبيب أسنان مشهور، ومثقف واسع الأُفُق ، ومسيحى مستنير . تزاوزنا على مستوى العائلة . وعالجنى مجانا رافضا بكل حزم أن أعطيه أجرا .
كميل حليم
مليونير مصرى شهم . تعرفت اليه وقت أن كنت نشطا سياسيا فى أمريكا أواخر عهد مبارك . إحتجت لمبلغ 40 ألف دولار كمقدمة لشراء البيت الذى أسكن فيه الآن من عام 2006 . طلبت منه هذا المبلغ فبادر بارسال شيك به . وتم السداد بعدها ، ولا زلت أحمل له هذا جميلا وقت الشّدّة . وكان نائب رئيس مجلس إدارة المركز العالمى للقرآن الكريم فترة من الزمن .
ثانيا :
النبلاء أصحاب الفضل من اليهود
كانت تلك هى المفاجأة التى عصفت بثقافة الكراهية لكل اليهود التى تربينا عليها فى مصر . اليهود فى أمريكا وفى كندا هم أعظم وأروع من عرفت . وأعرض لبعض أصحاب الفضل منهم :
الراحل اليكسندر آبستين رحمه الله جل وعلا
هو محامى كندى وناشط حقوقى . سمع عنى ، وتقابلنا فى مؤتمر عن مواجهة الارهاب فى لندن . ورجعت مصر لأجد المعتاد وهو الحجز فى المطار والتحقيق معى ( ترقّب وصول ). بعد إغلاق مركز ابن خلدون عشت حوالى عام أنتظر إعتقالى .جاءتنى دعوة لحضور مؤتمر فى نييورك عن السلام فى الشرق الأوسط ، حصلت بها على تأشيرة لأمريكا . إتصل بى اليكسندر آبيستين يخبرنى إنه كلم السفير الكندى فى القاهرة ليعطينى تأشيرة لكندا . لم أجد لها داعيا . عشت أكثر من عام فى ضنك شديد منتظرا الموافقة على اللجوء وتصريح العمل . كنت أعيش فى سكن بائس ، وحددت لنفسى ألّا أتجاوز سبع دولارات اسبوعيا فى الطعام . وقتها إتّصل بى يعرض علىّ أن أعمل إماما لمسجد فى عاصمة إحدى الولايات الأمريكية . وعملى هناك سيسهل إجراءات اللجوء واستقدام أولادى ، علاوة على سكن فى المسجد ومرتب محترم . كان الامام السابق للمسجد معتقلا بتهمة الترويج للارهاب ، ويريد من يهمهم الأمر العثور على إمام مسلم مستنير ، فرشحنى لهم اليكسندر أبيستين . كانت فرصة رائعة ، ولكن قلت لا بد للقائمين على المسجد أن يعرفوا من أنا أولا . بعثت لهم بترجمة كتابى ( حد الردة ) طالبا أن يقرءوه ، فإّا وافقوا عليه جئت لهم . فزعوا من الكتاب ومن الهجوم على البخارى ورفضونى إماما ، فاعتذرت لصديقى اليكسندر أبيستين . بعدها حصلت على اللجوء وتصريح العمل ، وعلم اليكسندر آبيستين فجاء لزيارتى واصطحبنى لرئيس الوقفية الأمريكية للديمقراطية ، وجعله يعطينى منحة إستثنايئة ( ثلاثة أشهر ) لأقدم بحثا عن الديمقراطية فى الاسلام . رحمه الله جل وعلا .!
د . ايرفنج وزوجته فيرجينيا
هو المحامى الذى تولى قضية اللجوء . ومعه زوجته الرائعة فيرجينيا . قلّ أن يوجد مثلهما فى الطيبة وفعل الخير للجميع . أصبح رئيس مجلس إدارة المركز العالمى للقرآن الكريم ، ونتزاور كلما سنحت الظروف ، وأفضالهما علينا كثيرة ، ونعتبر أنفسنا عائلة واحدة .
الشاب الاسرائيلى زميلى فى هارفارد
من أسف أن نسيت إسمه . كان مكتبه مجاورا لمكتبى هناك . أبوه من دمشق ثم هاجر الى إسرائيل . فى الأسبوع الأول لنا فى السكن الجديد فى بوسطن كنت وزوجتى وابنى نعيش بلا اثاث ، وكنت أبحث عن سريرين وملحقات أخرى . سألته إن كان يعرف محلات تبيع بسعر معقول ، فطلب منى عنوان السكن قائلا إنه سيزورنى . فوجئت به بالليل يطرق بابى ومعه زميل له ( يهودى أيضا ) وهما يحملان أجزاء الأثاث ، ينوءان بحملها بسبب السُّلّم الضيق المتعرج . قاما بحمل كل الأثاث رافضين أن أساعدهما . وبعد تركيب وتنظيم كل شىء رفضا حتى شرب الشاى أو القهوة . وانصرفا فى هدوء تاركين دهشة لا تزال حيّة فى القلب . رجع الى إسرائيل ، ولكن ذكراه وزميله لم تغادر القلب . جزاهما الله جل وعلا كل خير..!
ميمرى
( ميمرى ) مركز إسرائيلى أمريكى فى العاصمة واشنطن متخصّص فى فضح الارهاب وشيوخه. إتصلوا بى وقت أن كنت أبحث عن عمل بعد رجوعى من بوسطن . عرضوا علىّ أن أعمل عندهم ورحّبت . عملت معهم أكثر من عام . الصحيح أننى لم أعمل ، ظلوا يعطونى مرتبا ألفى دولار شهريا ، دون عمل . أدركت أنها طريقة نبيلة للمساعدة بدون إحراج . تركتهم مُحرجا وشاكرا .
د . دانيل بايبس
يبغضه المحمديون الأمريكيون ومنظماتهم وأهمها ( كير )، لأنه يتصدى لهم مسلحا بثقافته العربية ومركزه المتخصص فى الشرق الأوسط . كتب عنى مدحا فهوجمت بقسوة حتى فى مصر ، ومنها مقال فهمى هويدى فى الأهرام. جرت مناظرة بين د . بايبس و فلسطينى أمريكى ، فاندفع الفلسطينى يتهمه بأنه يموّل منكر السُنّة ( أحمد صبحى منصور ) . ترك د بايبس مكانه غاضبا ، إذ لم تكن هناك علاقة شخصية بيننا ، ولم يحدث وقتها أن قدّم تمويلا للمركز العالمى للقرآن الكريم . فوجئت به بعدها يتبرع بخمسة آلاف دور للمركز ، ردأ على هذا الشخص . بعثت له بخطاب شكر . لا زلت أحتفظ له بالامتنان .
تشارلز جيكوب
بنفوذ القرضاوى وتمويلات الخليج بدأ المحمديون فى بوسطن إقامة أكبر مسجد فى أمريكا . إنفضحت هوية القائمين على بناء المسجد ، رئيسهم دخل السجن لأنه تآمر مع القذافى على قتل الملك عبد الله السعودى. واكب هذا فتوى القرضاوى بقتل أى أمريكى مدنى فى العراق . كنت فى فرجينيا ، وتكونت فى بوسطن جمعية للوقوف ضد أولئك الناس ومسجدهم الضرار . إحتاجوا الى شريك مسلم فدلّهم دانيل بايبس علىّ . وتكونت جمعية ( مواطنون من أجل السلام والتسامح ) تضم يهوديا هو تشارلز جيكوب ومسيحيا هو أستاذ جامعى أمريكى ، وأنا . كانت هذه هى البداية فى تعارفى بالناشط السياسى الحقوقى الاستاذ تشارلز جيكوب . عملنا معا فى بوسطن ( العاصمة الثقافية لأمريكا ) لقاءات تليفزيونية وأحاديث صحفية ، جعلت القائمين على ذلك المسجد يرفعون علىنا قضية تشويه السمعة ، ويتهموننى بأننى مأجور . أثبت المحامى عنا أننى لم أتقاض أى مال من أى شخص ، وقدّم لهم كل المستندات وطلب الاطلاع على مستنداتهم فأحسّوا بالخطر ، وتنازلوا عن القضية . وكان نصرا مؤزرا . إحتفالا بهذا النصر أقيم لقاء ضخم فى قاعة كبرى فى بوسطن حضره ألوف من اليهود الأمريكيين، ودعيت للكلام فيها. بدأت بقولى : " إننى أشعر بالأمن بينكم ". وقفوا جميعا متأثرين يصفقون لى دقائق ، جعلوا دموعى تنهمر . لم أشعر فى مصر سوى بالخوف والقهر والذُّل والفقر، وهانذا ألقى كل هذا الترحيب . أتممت خطبتى ، ونزلت فأحاطوا بى ترحيبا ، وكنت نجم المؤتمر . عاتبنى بعدها تشارلز جيكوب أننى لم أنتهز الفرصة وأطلب تمويلا للمركز العالمى للقرآن الكريم . قلت له : " إننى أستحى ولم أتعود هذا " . بعدها جاءتنى دعوة من نفس المنظمة التى دعتنى من قبل لمؤتمرها عن السلام فى نيويورك ، هذه المرة فى هاواى ، وكالعادة مدفوعة الأجر وإقامة فى فندق فاخر . ولكن إتّصل لى تشارلز جيكوب يدعونى للقاء فى بوسطن مع شخص يريد التعرف بى . فضّلت دعوة تشارلز جيكوب ، كان يهوديا ، تبرع بعشرين ألف دولار للمركز ، فأنعش المركز وقتها . تحياتى الحارة لصديقى تشارلز جيكوب ، ومن أسف أن إنقطع التواصل بيننا بعد دخلنا الشيخوخة .
أخيرا
تبرز قيمة هؤلاء النبلاء حين أقارنهم بالحضيض الذى وصل اليه بعض من أحسنت اليهم . أحقرهم قمت بتربيته طفلا مع وجود أبيه ، وتحملت مسئوليته وقت الضنك والرخاء ، كنت أعتبره إبنى ، ثم بعد زواجى كان يعيش معنا ، وحين جئت لأمريكا إستجلبته وزوجته وطفليه ، ليعيشوا معنا سنوات . فى كل هذه السنوات فى أمريكا ( 13 عاما ) وهو يرفض المساعدة فى الموقع ثم فى نشر الفيديوهات فى قناة أهل القرآن مع استطاعته ، ألححت عليه أن يتجهز فاعلا فى الموقع ليكون خليفتى فيه رفض بسوء أدب . عاش حياته معى ( 50 عاما ) يعتبر لنفسه حقا مكتسبا أن يعيش عالة علىّ ثم على أولادى محتفظا بكل هذا الجحود . كتبت له : هذا فراق بينى وبينك ، لا تحضر موتى ولا جنازتى ولا عزائى . ألغيته من حياتى ، أو ممّا تبقى من حياتى . كانت صدمة العمر ، أعيش بها فى نهاية العمر ..!