1 ـ تواجه الباحث فى سيرة البدوي مشكلة أن ما كتب عنه قد يمثل فى الحقيقة فكرة أتباعه عنه واعتقادهم فيه ، وقد لا يمثل بالضرورة أفكار البدوي بالنص والحرف. ويزيد من صعوبة المشكلة أن البدوي كان ضحل الثقافة ضيق الوقت لانشغاله بدعوته السرية فلم يترك مؤلفاً نحكم به له أو عليه اللهم إلا بعض الأشعار والأوراد والأحزاب البسيطة التى لا ترقى إلى مستوى شهرته ولا تضارع ما تركه الآخرون كالشاذلي والمرسي والدسوقي من أوراد و أحزاب ومؤلفات ..ثم إن أحزاب البدوي ووصاياه لا تمثل فكراً متميزاً وإنما هى مجموعة من الآيات والوصايا التى تتردد على الألسنة ومن السهل أن تنسب لأى شخص ، الأمر الذى يجعلنا نشك أنه قالها فعلا ، وربما نسبها له عبد العال أو غيره فلا تفترق عن كلمات الأحمدية فى شىء. وتظل ( أغلب كلمات ) البدوى الحقيقية سرا دفن معه كما هو الشأن فى دعوته السرية وسائر ألغازه .
ومن هنا فإننا نواجه مشكلة حقيقية حين نحاول تحديد المسئولية بالنسبة للبدوى عما اقترفه أتباعه من بعده حين قدسوه وعبدوه وعاملوه كإله ثم أفسدوا أنفسهم والناس معهم خلقياً بشتى الخرافات والمعاذير والتأويل .
وكان ممكنا أن نصدق الصوفية الأحمدية فيما نسبوه للبدوي من شعر وقصص يحث الناس على الحج إليه وتقديسه أو أنه يشفع لهم إذا انحرفوا فى مولده فهو الذى يحمى الوحوش والأسماك .. إلخ. كان من الممكن أن نجعل البدوي مسئولاً ونصدق افتراء الأحمدية عليه فى دعوتهم المحمومة للدعاية للمولد والاستفادة به بعد موته ، ولكننا رفضنا أن نصدق ما كتبه الصوفية أنفسهم من نصوص قاطعة تدين البدوي ، لا حباً فى البدوي ولا خوفاً من تصريفه المزعوم وإنما إنصافاً للحق .. فالبدوي فى نظرنا مجرد إنسان عادى مات وانقطعت صلته بالاحياء ويواجه مصيره المحتوم أمام خالقه تعالى ، ولا يعقل أن يخرج لسانه من قبره داعياً لمولد أو منكراً على من يحتج عليه ، لهذا وضعنا الأمور فى نصابها فنسبنا هذه الأقوال إلى الأحمدية وحاسبناهم عليها ولم نعتبر البدوي مسئولا عنها .
ولكن إنصاف البدوي فى البعض لا ينفى اتهامه فى البعض الآخر ، فنحن فى النهاية نحتكم إلى ( عقل) مجرد عن الهوى وإلى (علم ) بالتصوف ورجاله وعقائده ، منذ أن بدأ التصوف على استحياء مضطهدا فى القرن الثالث إلى أن عقد الغزالي الصلح بينه وبين الإسلام فى القرن الخامس ثم إلى أن انتشر وبدأ فى النمو السريع منذ القرن السابع " عصر البدوي "، وظل فى الانتشار إلى أن تحكم فى الحياة الدينية تماما فى القرن العاشر وما تلاه ، وأصبح الصوفية الذين كانوا مضطهدين فى القرن الثالث يضطهدون خصومهم فى القرن السابع كابن تيمية وفى القرن التاسع كالبقاعي ، ثم انعدم خصوم التصوف تماما فى العصر العثماني حيث تمت له السيطرة والنفوذ .
وبالعقل الذى يحدد ما للبدوي من أقوال وما افتروه عليه ، وبالعلم بتاريخ التصوف وعقائده ورجاله ومدارسه بين تصوف نظري أوعملي وتصوف شيعي أو تصوف خاضع للسلطة السياسية ، بذلك كله نستطيع أن نلقي أضواء كاشفة على ما خفي من سيرة البدوي الحقيقة لنتعرف على مسئوليته الحقيقة فيما وقع فيه أتباعه من بعده.وليس أمامنا من طريق آخر لبحث حقيقة البدوي؛ذلك ( المجهول ) المشهور (الغامض ) المعلوم .
2 ـ ويمكن القول أن البدوي يتحمل مسئولية عامة عما اقترفه الأحمدية من بعده ، فهو الذى تستر بالتصوف فى دعوته السرية وضم إليه الأحمدية أتباعاً وزعهم فى المدن والقرى ، ثم إذا فشل فى دعوته السياسية استرسل فى دعواه الصوفية وتبعه أنصاره الموزعون فى النواحي .
ولكن البعض ينكر تماماً أن يكون للبدوي نشاط سري سياسي وهو يراه صوفياً حقيقياً لا متستراً بالتصوف ، ونحن لا ننكر صلة البدوي بالتصوف فسواء تستر بالتصوف أو أخلص فى طريقه الصوفي فصلته بالتصوف قائمة وبالتصوف كانت شهرته ثم بالتصوف أيضا تكون مسئوليته ، وإذا وافقنا هذا البعض على أن البدوي متصوف فقط فإن مسئوليته تكون أفدح وأعظم ؛ فعلى هذا فإن تصوف الأحمدية المنحرف يرجع إلى ما نشأوا عليه فى مدرسة البدوي التى استمرت من (637 ) إلى وفاته سنة (675) فالمسئولية هنا كاملة لا يخفف منها عامل التستر والاستغلال الظاهري للتصوف . وإذا كان البعض يصر على اعتبار البدوي صوفياً وصوفياً فقط فإننا نرى أن اتهام البدوي بالتصوف كاتهامه بالكفر تماماً ، إذ أن التصوف فى حقيقته تقديس للبشر واضفاء صفات الالوهية على الاولياء أحياء أو أمواتا كما وضحنا فى نظرية الصوفية للبدوي وتأليههم له .
3 ـ ومع أن ثقافة البدوي البسيطة ووقته المشحون بالدعوة السرية قد قللا إلى حد كبير من أقواله الصوفية التى نحكم بها على عقيدته فإن طابع التصوف فى عصر البدوي وما قاله رفاق البدوي فى الدعوة كل ذلك يجعلنا نؤكد أن تصوف البدوى لم يفترق عن التصوف السائد فى القرن السابع حيث عاش البدوي وربى أتباعه وأنشأهم كصوفية لا يفترقون فى شىء عن أقرانهم من الصوفية إن لم يزيدوا عنهم إنحرافاً . ولكى نثبت هذه الحقيقة فسنعرض للعقائد الصوفية وأقوال المعاصرين للبدوى فيها ثم أقوال البدوى نفسه كما جاءت فى كتاب عبد الصمد لنرى إلى أى حد كان هناك اتساق وتناغم بينها جميعاً .
4 ـ و" الاتحاد" اهم عقائد التصوف . ويعنى أن الصوفي بالمجاهدة يستطيع الوصول لله والاتحاد به فيكون جزءاً منه أو يتحقق بالحق ويكون العبد زماناً فانياً فى الحق تعالى. وفى بداية التصوف كانت الغلبة للسنة وسيف الاضطهاد مسلط على كبار الصوفية حتى اعتقل معظمهم فحوكم وقتل البعض كالحلاج ـ حينئذ كان الصوفية يعبرون عن عقيدة الاتحاد بالرموز والايحاءات كقول الجنيد " التوحيد هو الخروج من ضيق رسوم الزمانية إلى سعة بقاء السرمدية [1]" أى الخروج من البشرية الفانية إلى الألوهية السرمدية .. وعلى نفس النسق الموحي يقول رويم ( التوحيد هو محو آثار البشرية وتجرد الألوهية [2]) أى محو البشرية فى العبد ليتحد بالله وتتجرد فيه الألوهية ، أو يقول " للعارف ـ أى الولي الصوفي ـ مرآة إذا نظر فيها تجلى له مولاه [3]" أى أن الألوهية كامنة فى الولي الصوفي فإذا أراد اتحاداً بالله فى أى وقت تجلى له مولاه فاتحد به .. أما أبو سعيد الخراز " أول من تكلم فى علم الفناء [4]" أى (علم الاتحاد) فقد كان أكثر صراحة فى التعبير فقد قال " إذا أراد الله أن يوالى عبداً من عبيده فتح له باب ذكره ، فإذا استلذ بالذكر فتح عليه باب القرب ثم رفعه إلى مجلس الأنس ثم أجلسه على كرسي التوحيد ثم رفع عنه الحجب فادخله دار الفردانية وكشف له عن الجلال والعظمة فإذا وقع بصره على الجلال والعظمة بقى بلا هو فحينئذ صار العبد فانيا فوقع فى حفظ الله " أى تم اتحاده به " وبرىء من دعاوى نفسه [5] أى تخلص من أثر البشرية فى ذاته .
ثم جاء الغزالي فى القرن الخامس فتوسع فى شرح عقيدة الاتحاد الصوفية وحاول ربطها بالإسلام فى كتابه الاحياء فى مواضع متفرقة حيث دعمها بأقوال فى وحدة الوجود التى توسع فيها ابن عربي فيما بعد. ولسنا فى مجال الإطالة هنا ولكن نستشهد ببعض أقوال الغزالي فى الاتحاد فهو يقول " إن سالك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع الطريق تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافا له [6]" ويقول إن من شرب من كأس الرياسة فقد خرج عن إخلاص العبودية[7]وروى عن صوفي لم يحدد أسمه قال " إنى أقول يارب يا الله ، فأجد ذلك على قلبى أثقل من الجبال لأن النداء يكون من وراء حجاب ، وهل رأيت جليسا ينادي جليسه [8]" أى يدعو لعدم توسل الصوفي بالله لأن الفوارق بين العبد والرب قد زالت ولم يعد هناك حجاب ولم يعد رب وعبد وإنما تكافؤ وتماثل .
وفى القرن السادس بدأت الدعوة الشيعية الصوفية وكان الرفاعي زعيمها فى العراق فارتبطت لديه دعوة الاتحاد الصوفي بادعاء الألوهية فيقول " إن العبد إذا تمكن من الأحوال بلغ محل القرب من الله وصارت همته خارقة للسبع سموات وصارت الأرضون كالخلخال برجله وصار صفة من صفات الحق جل وعلا لا يعجزه شيئاً وصار الحق تعالى يرضى لرضاه ويسخط لسخطه " [9]. وفى القرن السابع برز فى مصر إبراهيم الدسوقى وهو القائل عن الله تعالى [10]:
تجلى لى المحبوب فى كل وجهة فشاهدته فى كل معنى وصورة
وخاطبني مني بكشف ســـــــــــــــرائري فقال أتدري من أنا قلـت منــــــــيتي
فأنت منائي بل أنا أنـت دائما إذا كنت أنت اليوم عين حقيقتي
فقـال كذاك الأمر لكنه إذا تعينت الأشياء كـــــنت كنســـــــــــختي
فأوصلت ذاتى بإتحادى بذاته بغير حلول بل بتحقيق نسبتي
والدسوقى رفيق للبدوي فى الدعوة والتستر بالتصوف والصلة بينهما حميمة وكلاهما ينتمى صوفياً وسياسياً للرفاعي .
5 ـ وقد جاء فى سيرة البدوي أنه حين زار العراق توجه لضريح الحلاج [11]،والحلاج أبرز الصوفية المتشيعين وممن أعلن عقيدة الاتحاد صراحة .ويقول البدوي متابعا لمقالة الرفاعي السابقة فى مزج الاتحاد بإدعاء الألوهية وتمنى التحكم السياسي [12]:ـ
سائر الأرض كلها تحت حكمي وهى عندي كخردل فى فلاء
وإذا بان فى الولاية غوث فهو من تحت قبضتي وولائي
أنا سلطان كل قطب كبير وطبولي تدق فوق السماء
ويقول البدوي على نسق الدسوقي فى تائيته السابقة [13]
وباسطني عمداً فطاب خطابه فيا طيبها من حضرة صمدية
فغيبني عني فصرت بلا أنا دهشت بمرآة ووحدت وحدتي
فتوجني تاجاً من العز والبها ومن خلع التشريف ألبسـت خلعتي
من فوقها طرز الوفاء بنـوره مكللة من فيض رب البرية
أنا قطب أقطاب الوجود باسـره وكل ملوك العالمين رعيتي
أنا أحمد البدوي قطب بلا خفا عـلى الأقطاب صحت ولايتي
6 ـ ومع ذلك فإن عقيدة الاتحاد الصوفية لم تكن تستهوى المتصوفة الشيعة بالذات ، ربما لأن عقيدة الأتحاد كانت اشتراكية بعض الشئ فأعطت لكل صوفي الحق فى إعلان اتحاده بالله بل وتوسع بها الغزالي ثم ابن عربي فجعلوا من الكون كله شريكاً لله فى وحدة الألوهية أو ما يعرف بوحدة الوجود أى أنه لا فارق حقيقي بين الخلق والحق [14]
والتصوف وليد التشيع ، ولكن حين بدأ التصوف يأخذ نوعا من الاستقلالية ويوسع دائرته بإعلان عقيدة الاتحاد الأكبر أو وحدة الوجود بدأ البعض بنحلة جديدة هى الحقيقة المحمدية التى واكبت وحدة الوجود ، إذ صدرتا معاً بتوسع عن ابن عربي وذلك لكى يحفظ للتشيع ذاتيته الخاصة داخل العقائد الصوفية.
والحقيقة المحمدية تعنى أن حقيقة محمد أزلية جاءت من نور الله تعالى قبل خلق العلم وقد تنقلت فى الأنبياء إلى أن ظهرت فى محمد عليه السلام وبعده انتقلت إلى على بن أبى طالب فالأئمة الأولياء من بعده ثم تنقلت فى الأقطاب إلى أن حلت فى الرفاعى ثم الدسوقي والبدوي وهكذا . وقد بدأت هذه النحلة فى العصر العباسي بمذهب الشلقاني المقتول سنة 322 وقد عرض ابن الأثير لأقاويله فى التناسخ وحلول الألوهية فى الأئمة بما يشبه مقولة الصوفية الشيعة فى الحقيقة المحمدية ثم قال ابن الأثير :" وما أشبه هذه المقالة بمقالة النصيرية ولعلها هى ويقول الدسوقي شعرا [19] :
نشأتي فى الحــــــــــب من قـبل آدم وسرى فى الأكوان من قبل نشأتي
أنا كنت فى العلياء مع نور أحمد على الدرة البيضاء فى خلويتي
أنا كنت فى رؤيا الذبيح فـــــــــــــداءه بلطف عنايات وعين حقيقة
أنا كنت مع أدريس لما أتى الــــــــعلا وأسكن الفردوس أنعم بقعة
أنا كنت مع عيسى على المهد ناطقا وأعطبت داود حلاوة نغـمة
أنا كنت مع نوح بما شهد الورى بحارا وطوفانا على كف قدرة
أنا القطب شيخ الوقت فى كل حـالة أنا العـــــبد إبراهيـم شيخ الطــــــــــــريقة
وعلى نفس النسق يقول البدوي [20]:
دعني لقد ملك الغرام أعنتــــــــــــى لكننى خضت البحار بهـــــمتى
أصبحت فى جــــــــنباتها متجــــــردا بين الصفا أسعى وبين المــــــــروة
فقرأت من توراة موسى تســــــــــــعـة تليت على موسى لها لم يثبــــــــــت
وقرأت من إنجيل عيــــــسى عشـرة تليت عن عيسى فزادت رفــــــــــــعتي
وقرأته وفهـــــــــــــمته وشـرحته وجعلت فيه من شواهد حكمــــــــتي
أنا صاحب الناموس سلطان الهوى أنا فارس الانجاد حامي مكة
أنا أحمد البدوي غوث لا خفا أنا كل شبان البلاد رعيتي
ويقول البدوي فى قصيدة أخرى [21]:
طاب وقتى بالرتبة العــــــــــــــــــلـياء فى الأرض والجو ثم السماء
ودعتنى الأملاك من كل قطر وأتـوني تـبركوا بدعــــــــــــــــــــــــــــــــــــائي
أنا من قبل قـبل وجـــــــــــــــــــودي كنـت غوثا فى نـــــــــــــطـفة الآبـاء
أنا بــــــــــــــــــــــــحر بلا قـرار وقــد شرب العارفون من بعض مائي ..
والدسوقي كان يقول " أنا فى السماء شاهدت ربي وعلى الكرسي خاطبته [22]، وكرر البدوي هذا المعنى شعراً فقال [23]:
أنا من قبل وجودي فى الورى كنت قطباً وإماماً واصـلا
أنظر الكرسي وما فوق السما ورأيت الحق لى قد انجلى
ليس لي شيخ ولا لي قــدوة غير خير الرسل طه الاولا ..
7 ـ وقد تأثر الأحمدية بعقيدة البدوي فترددت أقوال لهم تعكس الحقيقة المحمدية، فعبد الصمد يقول فى أول كتابه " الحمد لله الذى أطلع الأنوار الأحمدية فى سماء الشهود وجلا جمالها فى مرأة الوجود فأشرقت أنوراها حتى اقتبس منها كل موجود " إلى أن يقول أو أشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وخليله الأول فى الايجاد والوجود المستغرقة حقيقته الآحاد والأنواع والأجناس والوفود ".
والشهاب العلقمي يمدح البدوي بأسلوب الحقيقة المحمدية فيقول له [24]:
أنت بحر البحر نقـطة فيـــــــــــــــــض من نبي سادت به الأنبياء
ورأيت الذى له خر موسى صعقا قـبل أن يـرى ما شـــــــــــــــــــــاء
وترددت عقيدة الاتحاد فى وصف البدوي فقال عنه أتباعه فيما يرويه الشعراني " حصلت له جمعية على الحق تعالى فاستغرقته إلى الأبد ولم يزل حاله يتزايد إلى عصرنا هذا [25]أى أنه اتحد بالله ـ تعالى عما يصفون ـ وإن هذه الحالة فى تزايد مستمر إلى عصر الشعراني ..
وعبر الشمس البكري عن هذا المعنى شعرا فقال عنه [26]:
الله جلا جلاله بالحق أشهد أن الإله جماله للقوم أشهد
وأنالهم رتب السيادة والعلا لا سيما بدريهم ذو المجد أحمد
سر الحقيقة والشريعة والذي مصباحه من نور خالقه توقد
لقد كان الدسوقي أكثر ثقافة من البدوي وأقل مسؤلية منه فاستطاع أن يؤلف الجوهرة ، عرض فيها لآرائه الصوفية التى استقى منها الشعراني ملخص مذهبه فقال " هذا ما لخصته من كتاب الجواهر له وهو مجلد ضخم [27]" أما البدوي فلم تسمح ظروفه بتأليف كتأليف الدسوقي ولو فعل لكان اراحنا فى الحكم عليه ، ومهما يكن من أمر فإن تلك الأبيات التى عبرت عن عقيدة البدوي تكفينا شاهداً ويؤكدها ما قاله الدسوقي رفيقه فى الدعوة وما قاله السابقون للبدوى والدسوقى .
ومنطقى أن البدوي لو خالف رفاقه فى العقيدة وأنكر عليهم نحلتهم فى الاتحاد والحقيقة المحمدية لتغيرت سيرته ولتميز أتباعه عن باقى الصوفية .. ولكن ذلك لم يحدث ، بل على العكس كان التشابه واضحاً فى السلوك والعقائد لدى الفقراء الأحمدية والبرهامية والقادرية والرفاعية ، حتى أن الشعراني كان ينكر عليهم معاً ويهاجمهم بالجملة إذا كانوا أكثر انحرافاً عن باقى الصوفية .
8 ـ والصوفية كالعهد بهم فاقوا السابقين كفراً حين اعتنقوا عقيدة الاتحاد . وقد كان العرب الجاهليون جعلوا من الملائكة بنات الله فقال تعالى (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمْ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ)) الزخرف 15، 16 ولكن الصوفية جعلوا من أنفسهم جزءاً من الله يتحدون به ويفنون فيه ويحل فيهم ، ثم توسعوا فمحوا الفوارق بين الله تعالى والعالم وزعموا أن ليس لله وجود إلا فى العالم أو حسب تعبير ابن عربي عن الله تعالى " فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود فالعالم صورته وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير ، إن شئت قلت هو الخلق وإن شئت قل هو الحق والخلق [28] " . والصوفية حين جعلوا من محمد حقيقة إلهية تتقلب فى الرسل ثم تحل فيهم بالتعاقب ـ إنما خالفوا صريح القرآن الذى قضى على محمد بالموت كسائر الناس (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) الزمر:30 ، وخالفوا القرآن حين قال (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ)الأنبياء : 34 ، والصوفية حين زعموا أن محمدا ـ والصوفية معه ـ حضروا انقاذ نوح ومناجاة موسى وتآمر أخوة يوسف بيوسف .. إلخ إنما خالفوا صريح القرآن إذ قال يخاطب محمد (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ ..وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ..)( وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ مريم ).. (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) القصص 44 ، 45 ، وآل عمران 44 ، يوسف 102 ، هذا بالنسبة للنبى عليه السلام فكيف بأولئك الصوفية ؟ .
9ـ نخلص من هذا أن البدوي مسئول مسئولية تامة عما وقع فيه أتباعه من بعده ، صحيح أنه لم يخترع عقيدة الصوفية وإنما بدأت قبله بقرون ولكنه سار عليها واستغلها فى جمع الأتباع وتدبير حركته السرية ، وحتى إذا برئ من التصوف فلن يبرأ من التشيع وهو الأصل الفاسد للتصوف ، والمسلم الحق يبادر بالإنكار على كل عقيدة تخالف دين الإسلام ويعلن براءته منها .. لا أن يتستر بها لهدف دنيوي أو يؤمن بها ويجمع على أساسها الأتباع والأنصار .
لقد كان البدوي إماماً للطرق الأحمدية ، وبهذه الصفة سيحشر مع أتباعه ممن قدسوه وعبدوه:(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) الصافات . وحين يفاجأ الأحمدية بالبدوي معهم فى الجحيم سينقلب التقديس إلى عداء وخصام (قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98))الشعراء، وستتحول نقمة المستضعفين من الأحمدية إلى شيوخهم الكبار ، ممن غرر بهم من مؤلفي الكرامات ومخترعي المقامات وخالقى الأساطير وبائعى الأوهام والأكاذيب، زمنظمي الموالد وجامعى النذور والنقوط .. حينئذ لا يجد المستضعفون إلا الحسرة والنقمة (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) الأحزاب) اللهم استجب ..
" صدق الله العظيم
[1]اللمع للطوسى : 9 ، تحقيق عبد الحليم محمود
[2]اللمع ، 51
[3]الطبقات الكبرى للشعرانى 1/57
[12]الجواهر 95
[13]الحواهر 100، 101
[14]راجع فى الأحياء كمثال : 4/ 211 ـ 212 ، 213 ، 270
وراحع لابن عربى فصوص الحكم بشرح القاشانى ـ 8: 11 ، 132 : 133 مجرد أمثلة .
[15]تاريخ ابن الأثير 8/ 110 ـ 111
[16]صفحات 9، 10، 11، 12 ، 15 ، 16، 18 ، 20 ، 21 وما بعدها
[17]الطبقات الكبرى 1/ 157 .
[18]الطبقات الكبرى 1/ 157 ، 158 وموعدنا مع الدسوقى فى الكتاب القادم إن شاء الله تعالى .
[19]الطبقات الكبرى 1/ 157 ، 158 وموعدنا مع الدسوقى فى الكتاب القادم إن شاء الله تعالى
[20]الجواهر 98
[21]الجواهر 95
[22]الطبقات الكبرى 1/ 157
[23]الجواهر 140
[24]الجواهر 93
[25]الطبقات الكبرى 1/ 159
[26]الجواهر 106
[27]الطبقات الكبرى 1/ 158
[28]الفصوص 132، 133 ، 134 .