الاتفاق والاختلاف بين أولاد الزوانى : عمرو بن العاص وزياد ابن أبيه والحطيئة

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٢ - ديسمبر - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً

الاتفاق والاختلاف بين أولاد الزوانى : عمرو بن العاص وزياد ابن أبيه والحطيئة
مقدمة
1 ـ يجمع بينهم أنهم من مشاهير القرن الأول الهجرى ، كما يجمع بينهم النبوغ والتفوق كل منهم فى مجاله ، وأنهم ( أبناء حرام ) أو ( أبناء بغايا ) ، ولا ذنب لهم فى هذا فالقاعدة الاسلامية القرآنية ألا تزر وازرة وزر أخرى ، وقد وضع السنيون حديثا يجعل إبن الزنا شرا من والديه ، يقولون عنه ( هو شرُّ الثلاثة ).
2 ـ لم يكن الزنا عيبا عند العرب ، بل إعتبروه تراثا دينيا ساروا عليه وتمسكوا به ضمن ملامح الدين المتوارث ، وزعموا إن الله جل وعلا أمرهم بالفحشاء ، وجاء الردُّ من الله جل وعلا : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) الاعراف )
3 ـ لذا لم يكن عيبا أن يكون أحدهم مجهول النسب أو ابن عاهرة . المهم أن يثبت نفسه فى مجال مفتوح للمنافسة . إشتهر عمرو بن العاص قائدا عسكريا وحاكما داهية ، ومثله فى الدهاء كان زياد بن أبيه . أما الحطيئة فظهر نبوغه فى شعره . الاختلاف بينهم أن الحطيئة كان الأسوأ حظا لأنه لم يكن قرشيا ، كما إنه كان دميما سىء الأخلاق من أبخل الناس فى عصره ، مذموما متخصصا فى الهجاء ، يرتزق به ، يبتزُّ به القبائل والزعماء ، فأضاع موهبته الشعرية بهذه الوضاعة . وبين سطور تاريخهم نتعرف على بعض اللمحات التاريخية عن العرب فى القرن الأول الهجرى .
2 ـ ونعطى تفصيلا :
أولا : عمرو بن العاص
عرضنا له من قبل . قلنا إن أمُّ عمرو ( النابغة ) كانت من البغايا . إشتهرت بأن زبائنها من زعماء قريش . ومنهم أبو لهب ، وأمية بن خلف ، وهشام بن المغيرة ، وأبو سفيان بن حرب ، والعاص بن وائل ، في شهر واحد ، فولدت عمرا . فادعاه كلهم ، فحكمت فيه أمه فقالت : هو للعاص لأن العاص كان ينفق عليها . وقالوا : كان أشبه بأبي سفيان .
ثانيا : زياد بن أبيه :
لأن أباه كان مجهولا فقد إشتهر باسم ( زياد بن أبيه ) ، وهو الوحيد من مشاهير من سمى ب ( إبن أبيه ). ولم يكن يتحرّج من هذا وفق الثقافة العربية السائدة ، ولم يمنعه هذا من إبراز مواهبه السياسية والادارية . كانت امه (سمية ) جارية مملوكة للحارث بن كلدة الثقفي ، فزوجها الحارث غلاما روميا له اسمه عبيد ، وكان عبيد يعمل في حانة ، فعملت معه سمية بغيا . وجاء ابو سفيان الي الطائف في الجاهلية فنام معها ، فولدت زيادا وهي لا تزال زوجة عبيد . واقر ابو سفيان أنه ابنه في خلافة عمر . وقد ولد زياد في السنة الاولي من الهجرة واسلم في عهد ابي بكر ، وكان قريبا من عمر بن الخطاب في خلافته ، وعمل كاتبا للولاه مثل عبد الله بن عامر و عبد الله بن عباس والمغيرة بن شعبة ، ثم جعله علي ابن ابي طالب في خلافته واليا علي فارس عام 39، فحفظ له ذلك الاقليم ، مما اقلق معاوية في صراعه مع علي. وبعد مقتل (علي) ظل زياد معتصما بفارس التي تدين له بالولاء ومعه بيت مالها وكنوزها ، رافضا البيعة لمعاوية . فاستدعي معاوية الداهية المغيرة بن شعبة وقال له عن زياد : ( داهية العرب معه اموال فارس يدير الحيل ، ما يؤمنني ان يبايع لرجل من اهل هذا البيت (بيت علي) فاذا هو اعاد الحرب جذعة) ولأن المشهور أن أباسفيان هو الوالد الحقيقى لزياد فقد إقترح المغيرة بن أبى شعبة على معاوية أن يلحق زيادا بأبى سفيان ، وكان هذا بعد موت أبى سفيان . وافق معاوية فذهب المغيرة الي زياد ، وبعد مباحثات انضم زياد الي معاوية مقابل ان يلحق معاوية زيادا بنسب ابيه ، ويصير أخا لمعاوية يكون اسمه الرسمي زياد بن ابي سفيان . من أجله عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة وولاها زيادًا، ثم ‏جعله معاوية أمير المصرين (الكوفة والبصرة) أى العراق وما يتبعه شرقا، وكانت ولايته خمس سنين، وتوفي فى عصر معاوية بالكوفة في شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين. وتعرضنا لزياد بالتفصيل فى كتابنا ( وعظ السلاطين ).
ثالثا :
الحطيئة
بين الحطيئة وغيره من الشعراء
1 ـ كان مثل كثيرين مجهولى النسب فى القرن الأول الهجرى ، لكنه لم يكن قرشيا ، ولم يكن من عُشّاق أمه احد من السادة القرشيين ، ولم يكن وسيما جسيما بل كان قصيرا دميما فأطلقوا عليه لقب ( الحطيئة ) . ونشأ حاقدا على كل شىء ، واستغل نبوغه الشعرى فى الانتقام من عصره . مع أن نبوغه الشعرى كان ممكنا أن يجعله فى أفضل حال .
2 ـ المقارنة بينه وبين مشاهير الشعراء وقتها لم تكن فى صالحه . كان الشعراء من السادة والفوارس أمثال: ( امرؤ القيس ، طرفة بن العبد ، الحارث بن حلزة ، عنتر بن ابى شداد ، زهير بن ابى سلمة ، الاعشى ، عمرو بن كلثوم ، لبيد بن ربيعة ، عبيد بن الابرص ، النابغة الذبيانى ).
3 ـ وحتى فى العصر الأموى لم تمنع وضاعة ( عطية الخطفى ) من أن يكون إبنه ( جرير ) من أشهر شعراء عصره ، إذ أشغل الناس حتى بعد موته بشعره وتهاجيه مع الفرزدق والراعى النميرى وآخرين ، ولا تزال شهرته حتى الآن بين المتخصصين فى الشعر العربى . جاء شخص الى جرير وسأله : " من أشعر الناس ؟ " فاصطحبه الى فناء بيت ، وفيه ماعز وشيخ نائم تحتها يرتضع منها ، فقال له جرير : " هذا أبى ، يرتضع من الماعز حتى لا يطمع أحد فى لبنها " . ثم قال له : " أشعر الناس هو من فاخر الناس بهذا الأب فهزمهم ) .
4 ـ وحتى فى العصر العباسى لم تمنع وضاعة المتنبى من نبوغه الشعرى وشهرته التى لا زالت طاغية . وُلد المتنبى عام 303 بالكوفة . كان أبوه فقيرا يحترف السقى ( سقاء ) إسمه عبدان . إنتحل المتنبى بالكذب نسبا علويا ، وأخفى نسبه الحقيقى ، وهذا لسببين : الجُبن والطموح . إشتهر بلقب ( المتنبى ) الذى يدل على كذبه إذ زعم النبوة ، كما كانت كنيته ( أبو الطيب ) أُكذوبة ، فقد كان خبيثا كذابا جبانا غدارا . ولكن عبقريته الشعرية غطّت على هذا كله . وتعرضنا له بالتفصيل فى مقارنة بينه وبين كافور الاخشيدى فى كتابنا ( ملك اليمين ).
5 ـ لم يكن الحطيئة أقل منهم نبوغا فى الشعر ، ولكنه وقع ضحية لظروفه ، إستسلم لها ، وانتقم من الناس بسببها .
كيف تعامل الحطيئة مع ظروفه التى لا دخل له فيها
لم يكن الحطيئة مسئولا عن شكله ولا عن خطيئة أُّمّه وأبيه .
1 ـ نسب الحطيئة :
إسم أُمّه ( الضراء ) . كانت جارية عند زوجة شخص إسمه أوس بن مالك ، وقد حملت منه ، فأخفت إسم أوس عن زوجته عندما سألتها عن والد الطفل . وقامت زوجة أوس بن مالك بتربية الطفل الحطيئة ، وعندما كبر أعتقته . وبعد عتقه أخبرت ( الضراء ) ابنها ( الحطيئة ) أن أباه هو أوس بن مالك . الغريب إن الحطيئة عندما إشتهر شاعرا أصبح يتاجر بنسبه المجهول ، يزعم إنتماءه لقبيلة ثم يتبرأ منها ، وبين هذا وذاك يهجو هذا وذاك . حتى لقد هجا أمه وهجا نفسه ليقطع الطريق على الآخرين من ضحايا هجائه .
2 ـ هجا أمّه فقال ‏:‏
تنحى فاقعدى منى بعيدا أراح الله منك العالمينا
ألم أوضح لك البغضاء ولكن لا أخالك تعقلينا
أغربالًا إذا استودعت سرًا ** وكانونًا لدى المتحدثينا
جزاك الله شرا من عجوز ولقاك العقوق من البنينا
حياتك ما علمت حياة سوء وموتك قد يسرٌّ الصالحينا
3 ـ هجا نفسه فقال :
أبت شفتاي اليوم ألا تكلما ** بشر فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهًا شوه الله خلقه ** فقبح من وجه وقُبَح حامله .
4 ـ قصة الحطيئة مع الزبرقان بن بدر
قلنا إن حرب الردة إشتعلت لأن أبا بكر أرغم القبائل على دفع الزكاة له ، وإعتبروها إتاوة . وكانت العادة فى عهد النبى محمد عليه السلام أن الزكاة المالية تطوعية بلا إلزام شأن الصلاة والحج والصيام ، وأن الذى يحاسب الناس على العبادة هو الخالق جل وعلا . لذا كان النبى يعين شخصا من القبيلة يجمعها ويوزعها على المستحقين فى قبيلته تحت أعين الناس ورقابتهم . بصعوبة بالغة أخمد أبو بكر ثورة القبائل ، وأرسلهم الى الفتوحات ، وجاءتهم الفتوحات بكنوز هائلة ، فرجع عمر بن الخطاب الى النظام القديم ، لم يعد يأخذ الزكاة من القبائل ، بل جعل لكل فرد مرتبا أو ( عطاءا ) ، وأصبح فى كل قبيلة زعيم يتولى جمع الزكاة ويفرقها على المستحقين فى قبيلته . صلة هذا بموضوعنا عن الحطيئة أن الزبرقان بن بدر كان المكلف بجمع صدقات قومه ( عوف والأبناء ) وتوزيعها على فقرائهم . وفى الطريق تقابل الزبرقان مع الحطيئة فعرض عليه الزبرقان أن يكون معه وأن يتكفل به ، فرضى ، وأوصاه الزبرقان أن يذهب الى بيته حيث ستقوم زوجة الزبرقان له بالواجب . كان للزبرقان خصوم هم بنو قريع ، فخافوا أن يستغل الزبرقان الحطيئة فى هجائهم فاستمالوا الحطيئة بالأموال ، وأخذوه عندهم قبل أن يعود الزبرقان الى داره . ثم أخذ الحطيئة فى هجاء الزبرقان وفقا لآوامر بنى قريع . واشهر هجائه قوله له ساخرا :
دع المكارم لا ترحلْ لبغيتها ** واقعد فانك أنت الطاعم الكاسي
فشكاه الزبرقان الى عمر بن الخطاب ، وكانت لهذا قصة تعددت فيها الروايات . لكن هذه قصة تكشف دناءة الحطيئة .
أخيرا
نكتفى بهذا ، ونسأل أولئك الذين يروون حديث ( خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ) : ألم يقرأوا تاريخ الصحابة والتابعين والسلف الصالح ( جدا )؟؟
اجمالي القراءات 2887