أوسلو في 14 فبراير 2003
لم يعد يختلف اثنان في الشرق أو في الغرب على أن قائد ثورة الفاتح من سبتمبر مخبول, ومجنون, وطاغية, وارهابي, ومستبد, وفيه تتجمع كل صفات الشر والتخلف والتهور!
لكننا الآن أمام ظاهرة تستحق الوقوف عندها طويلا, وتأمل جوانبها, والبكاء أو النحيب أو لطم الخدود على أكثر ظواهر العصر عجبا وحزنا وكمدا ونكدا ومأساوية.
رجل مجنون تخلص من معظم أتباعه الذين ساندوه في القضاء على النظام الادريسي الملكي, لكنه ظل بمف&Ntildlde;فرده وضعفه وحماقته وتخلفه العقلي قادرا على استعباد شعب بكامل أفراده, وتوجيه الاهانات له, واحتقاره, وازدرائه, واهدار أمواله وخيراته, وتفكيك دولته, واتخاذ قرار تسديد مليارات الدولارات من شعب يقترب حثيثا من حالة التسول تعويضا, ظالما أو عادلا, عن جريمة ارتكبها, واعترف بها.
ولآن عشرات المليارات من أموال الشعب الليبي اختفت, أو تم اهدارها في تبذير شيطاني, فقد قرر العقيد أن يدوس بحذائه على شعبنا الليبي ويخصم من مرتبات وأجور موظفي جماهيريته البائسة فارق قيمة التعويضات التي سيسددها صاغرا, مهانا أمام العالم كله.
ومع ذلك فلا تزال جامعة الدول العربية تستجديه أن لا يسحب عبيده منها, ويرسل إليه زعيم أكبر دولة عربية وزير اعلامه لعله يثنيه عن قراره بالانضمام إلى أفريقيا بديلا عن العالم العربي.
طوال أكثر من ثلاثة عقود كادت تصرخ كل ذرة تراب في ليبيا البائسة من جراء الاستبداد والطغيان والمعتقلات والاعدامات وفصائل تصفية الأحرار, وقام العقيد بتحويل بلد يملك كل مقومات الثراء والأمان والخير والرفاهية إلى مجموعة هتيفة يخرجون من بيوتهم إما للقبر أو للتظاهر فرحين بانتكاسة أو هزيمة أو تعويضات يدفعونها من قوت أبنائهم.
معمر القذافي شيطان يسجن شعبا عربيا, لكنه يحظى بموقعه كقائد وزعيم وسيد الوطن السجن.
وفي غضون الأربعة والثلاثين عاما البائسة من حكمه خرج عشرات الآلاف من القساة والغلاظ والمتحجرة قلوبهم من أجهزة الأمن والمخبرين والمرشدين وحراس السجون الساديين ليحكموا باسمه, ويذلوا من بقي من أفراد شعبه, ويتولون حمايته من غضب أو ثورة أو انقلاب أو حتى صمت مريب قد يخفي خلفه كراهية لنظام حكمه.
عندما تم ارغامه على دفع مليارات الدولارات من خزينة خاوية, واعترف بالمسؤولية عن جريمة لوكيربي, خشيت وقتها أن يقوم, فعلا لا مجازا, بالبدء ببيع الليبيين في سوق الرقيق, أو رهن الوطن المسكين لتسعة وتسعين عاما في مقابل موافقة البيت الأبيض على أن يلعق العقيد حذاء سيده.
كأننا بغال وحمير وكلاب ضالة يفعل بها سيدها ما يشاء, ومتى أراد, قتلا أو تعذيبا أو تجويعا أو بيعا أو اغتصابا!
القضية الآن ليست في لوكيربي أو الطائرة الفرنسية لكن مستقبلا أكثر ظلاما من قطع من الليل البهيم تنتظر شعبنا الليبي عندما تطلب تشاد تعويضات, وتوافق مصر على السماح بكل الذين آذاهم العقيد سواء بتفجيرات في القاهرة في عهد السادات أو بالطرد بعد السرقة والنهب من الجماهيرية برفع دعاوى قانونية أمام القضاء المصري, أو يطلب اللبنانيون تعويضات عما أصابهم من أضرار بسبب تدخل القذافي في الحرب الأهلية, أو يتجمع أقارب وأهالي الشهداء ممن قام هذا المجنون بتصفيتهم ويصرون على تعويضات مناسبة!
وهنا لن يبقى في ليبيا مواطن واحد يضمن وجبة طعام أو كساء أو قوت يوم أبنائه.
إذا استمر العقيد معمر القذافي مستعبدا شعبنا الليبي عدة أعوام أخرى فربما يتنازل الهنود الحمر في أمريكا عن اصرارهم على أنهم أكثر الشعوب تعرضا للابادة, وسيصبح الليبيون مثلا صارخا وحيا على أكبر جريمة بشرية في كل الحقب والعهود من تاريخ الاستبداد.
إنني غاضب غضب ريح صرصر عاتية على كل المثقفين والاعلاميين وأصحاب القلم الذين يمارسون بغاء الكلمة, ويقفون في صفوف مذلة خانعة أمام القنصل الليبي في عواصم الدنيا للحصول على تأشيرة دخول الدولة الجحيم وتقديم التهنئة أو التأييد أو الدعم لهذا المجنون وممارسة شهادة الزور, وتزييف حقائق جهنم الجماهيرية من أجل دراهم معدودات, وغرفة في فندق, ووجبة طعام دافئة في مطعم فاخر قد يكون مقاما فوق جثث أبرياء, أو بأموال تمت سرقتها من أفواه أطفال جائعين.
ما الذي حدث في عالمنا العربي وجعلنا ننحدر, وننزلق, ونهبط إلى أسفل السافلين بتأييدنا ودعمنا الصمت المقيت, والجبن المهين, والنظر ببلادة وحماقة ولا مبالاة لكل الجرائم المرتكبة علانية في رابعة النهار؟
هل صحيح أن الروح هربت من أجسادنا, وتركت بديلا عنها مسخا مشوهة من فضلات إبليس لعلها تستطيع أن تتعامل مع الفكر المستكين الذي أصابنا, وجعلنا نبكي في الأفراح وهي قليلة, ونبتهج للحزن, ونرفع سبابتنا بعلامة النصر لدى وقوع هزيمة منكرة بنا؟
سجون ومعتقلات وعشرات الالاف من الأبرياء يقبعون خلفها, وامتهان لكرامة المواطن, واغتصاب للوطن أو السلطة أو المواطن في أقسام الشرطة أو السجون أو صناديق الاقتراع أو خطبة الزعيم أو سلطة أولاده, ونحن لا نزال نبتسم ببلاهة نادرة, بل إن صمت أكثرنا دعوة صريحة لمزيد من الاغتصاب.
وليبيا ليست النموذج الوحيد, لكنها المثل الصارخ لانحطاط العقل العربي في أسوء العهود ظلما وظلاما وتخلفا حتى لو تبجح الكثيرون بالفضائيات وبمعارض الكتب وبعمليات التشييد والبناء والسياحة ومديح بعض الأجانب ذوي الشعور الذهبية والعيون والزرقاء في التطور الذي تشهده مدن عربية بفضل عبقرية الزعيم.
محاكمة العقيد معمر القذافي رسول الصحراء هي المقياس والمحك والمخرج الأول لحالة السبات البليد والمتخلف التي تهيمن على الوطن الكبير أو على الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة.
في عام ستة وتسعين قال العقيد بأن الغرب يريد الاستيلاء على ليبيا لأنها تزرع بطيخا لا مثيل له في العالم.
وابتسم المثقفون, ومزحت وسائل الاعلام, ولكن قلة من المخلصين والمهمومين بالوطن الحزين كانت تعرف أن الأمر أكثر خطورة من زلزال يصيب العالم العربي برمته.
إنها بداية سيطرة المتخلفين عقليا, والمعاقين ذهنيا, والمتهورين, والخارجين من رحم الطغيان ليحتلوا مقاعد السلطة, فيصفق المثقف للأمي, وينحني الأكاديمي أمام الجاهل, ويختفي الأحرار خلف قضبان لزنزانات تحت الأرض, ويهتف الشعب لأي خطاب أحمق يلقيه صاحب القصر أو الخيمة, وتقوم الصفوة من أبناء الأمة بتسليم مقاليد أمورها لمن يمسك بالسوط والسلطة والمال.أراقب عن كثب وفي داخلي طوفان من الغضب والحزن المشهد الليبي مستفسرا عن أصولنا: هل نحن بشر أم حمير؟
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو