من الأكثر ولاء للوطن .. المواطن أم مزدوج الجنسية؟

محمد عبد المجيد في السبت ٢٨ - يوليو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

خمس سنوات مرت على هذا المقال...

أوسلو في 22 سبتمبر 2002

عندما كنا صغارا وجهنا كثيرا الاتهامات الصبيانية جزافا لأي أجنبي يثير حفيظتنا باعتباره جاسوسا! حتى أن أحد زملائنا في المدرسة الإعدادية كاد يلقي حتفه بين أيدي صبية غاضبين لأنه أشقر وكان خارجا لتوه من البحر فسرت شائعة بأنه واحد من الضفادع البشرية المعادية لمصر!
وفي المرحلة الثانوية كنا نتهامس لأن مسيو ريمون مدرس ا مدرس اللغة الفرنسية يبدو كأنه أيضا جاسوس! كل هذا على الرغم من أن مدينة الإسكندرية هي النافذة التي تطل منها مصر على العالم كله، وقبل الحرب العالمية الأولى كان ثلث سكان الثغر من الإيطاليين واليونانيين والفرنسيين.
وهي أيضا الإسكندرية التي تغني بها الأوروبي والمصري بنفس القدر من المحبة والحنين والشوق فخرجت روائع جورج موستاكي، ودميس روسو، وداليدا، ونانا موسكوري، وبيرم التونسي، وأحمد فؤاد نجم بصوت الشيخ إمام وصوت محمد منير، وغنت لها عزة بلبع، وكتب عنها ابراهيم عبد المجيد، وإدوارد الخراط، وأسامة أنور عكاشة، وصلاح جاهين، وكانت بصماتها واضحة في أعمال يوسف شاهين، ويسري نصر الله.

والعاصمة الثانية تمثل الانفتاح المصري الحضاري على العالم الآخر الواسع والممتد من شواطئها التي كانت ساحرة في يوم ما، ولكن للأسف الشديد فقد ظل فكر الاشتباه في الغريب قائما إلى يومنا هذا وتم أخيرا تقنينه باعتبار المصري الذي لم يتنازل في غربته عن جنسيته المصرية وظل محتفظا بها مع حصوله على جنسية وطنه الجديد ناقص الولاء للوطن ولا يحق له أن يصبح عضوا في مجلس الشعب ليعبر عن هموم وطنه الأم ولكن هذه العضوية تمنح لنواب القروض ونواب الكيف وغيرهم!
في رأيي أن العلاقة بين مؤسسات الدولة في مصر وبين المغتربين المصريين في الخارج هي علاقة غير صحية بالمرة ويشوبها في كثير من الأحيان جهل فاضح بأوضاع المهاجرين والمغتربين على كل المستويات، الإعلامية والثقافية والفكرية والشعبية والأكاديمية.
الذين شككوا في وطنية مزدوج الحنسية وأحقيته في عضوية مجلس الشعب لم ينطلقوا من مسلمات أخلاقية تتعلق بالثراء المريب وإهدار الأموال والاقتراض من المصارف بنية عدم تسديدها وانعدام الولاء الاقتصادي( إن صح هذا التعبير) للوطن الأم، لكنهم استندوا في اتهاماتهم الغريبة إلى نفس فكر المؤامرة الذي قدمت به هذا المقال، أي الشك في كل علاقة بالأجنبي كأن المغترب سيطلع على أسرار الدولة ويقوم بنقلها إلى وطنه الجديد الذي منحه الجنسية الثانية.

الحقيقة التي لا مراء فيها أن المهاجر أكثر ولاء للوطن من المواطنين أنفسهم، ففي الغربة يتم صقل الهوية وتستبعد طول فترة الغربة كل مشاعر الاستعلاء التي تكون قد تراكمت عبر السنين في الوطن ومنها على سبيل المثال إحساس المواطن المصري بأنه صاحب الحضارة الوحيدة القادرة على العطاء، وأن الإبداع دائما مصري، وأن العالم كله يبدأ وينتهي بمصر!

وفي الغربة يمتد حب المصري لبلده إلي المكان الأكثر رحابة وأوسع ثقافة وهو الوطن العربي الكبير فيكتشف المصري أنه ينتمي إلى أمه عريقة تمتد على مساحة جغرافية هائلة وأن ماضي أجداده يحتل صفحات أكثر من التاريخ المصري.
وفي هذا الاكتشاف العظيم الذي توفره الغربة تتسع مساحة التسامح الفكري والثقافي لدى المصري ولا تعود أخبار الوطن الأم مقتصرة على هامش بسيط ومتواضع تمنحه له الصحافة القومية أو سذاجة القناة الفضائية المصرية أو مسلسلات بطيئة تم إنتاجها للمتخلفين عقليا أو إعلانات مزيفة من هيئة الاستعلامات عن الوضع السياحي المصري في محاولات متكررة وسخيفة لتزوير الوعي في أوراق رسمية، ولكن مصر تصبح أكبر بكثير من المؤسسة الحاكمة وعالم البيروقراطية وماسبيرو ومانشيتات الصحف التي تختصر أرض الكنانة كلها في عبقرية الرئيس!

الغربة هي حالة حب وجداني عنيف والتحام روحي بالوطن الأم لا يفهمه أو يستوعبه الذين يضعون القوانين الظالمة والمنفرة والحمقاء من أجل مزيد من توسعة الفجوة بين المغترب وبين وطنه الأم، وعندما حدث زلزال عام اثنين وتسعين تمكن المصريون في الخارج بخليط من المشاعر المصرية والقومية العربية من جعل آثار الزلزال المدمر تبدو كأنها اخترقت أغشية القلب لدى كل مغترب أو مهاجر في أرض الله الواسعة فكانت المساعدات والهبات والأموال والأدوية تصل إلى مصر وتكفي لإعادة البسمة والسكن والدفء إلى كل المتضررين على الرغم من معرفة مصريي الغربة والمهجر بأن المساعدات لن يصل منها إلا القليل إلى المستحقين أما الجزء الأكبر فلن يخطئ طريقه إلى جيوب وبطون لصوص الوطن من المواطنين الذين يشككون في ولاء المغتربين.

نحن في الغربة نحمل الوطن الأم معنا في كل ساعة وفي كل دقيقة، ونحتضنه في النوم لعله يتجسد لنا في أحلامنا، ونراه في أحلام اليقظة مع كل لمسة تقدم أو تحضر ونتمنى أن يكون له نصيب منها أو حظ من بعضها.
ونحن في الغربة أكثر وطنية من الذين يدمرون الوطن في كل مناحي الحياة، في المدرسة والجامعة والشارع، والذين يزايدون علينا يدافعون عن قضية خاسرة حتى لو انحازت إليهم قوانين جامدة خرجت لتوها من رحم مومياءات عتيقة تصلح لقراءة الرسوم على جدران معابد فيلة أو وادي الملوك، لكنها تجهل مشاعر المغتربين ولا تملك مقياسا للولاء أو الوطنية تتسلل به إلى صدور وعقول وقلوب مصريي الغربة والمهجر.
ونحن في الغربة لا نبكي على الوطن بدموع وقحة كما يفعل نواب القروض والكيف ومستثمرو مارينا ولصوص السياحة ومدمرو الإعلام وسطحيو الثقافة، لكننا نأخذ مصر معنا في كل مكان، ونحافظ عليها، ونرسم لها صورة جديدة غير تلك التي شوهها المواطنون أنفسهم أصحاب الجنسية الواحدة.

ونحن في الغربة لسنا كلنا مستثمرين كما يحب أن يرانا المواطنون، لكننا عاشقون للوطن ولا تقل أحلام أي منا عن أحلام كل من لم تتلوث أوراقه الرسمية، وفقا للقوانين الجاحدة الجديدة، بجوازات كندية واسترالية وفرنسية وسويدية وبريطانية ونرويجية.
بين آلاف المصريين الذين تهفوا قلوبهم للعمل في الكيان الصهيوني ويعمل فعلا الكثيرون منهم خدما في صالح اقتصاد المشروع الاستعماري القذر على أرض فلسطين المحتلة لا تجد من بينهم مصريا واحدا حاملا الجنسية المزدوجة، ومع ذلك فالقوانين العرجاء الجديدة توزع أوسمة الوطنية والولاء وفقا لأمزجة واضعيها مع عدم مراعاة أي صورة من صور العدل، فيعود المواطن المصري من العمل في الكيان الصهيوني ويعامله القانون معاملة المواطنة الكاملة وقد يترشح لمجلس الشعب بعد حين أو يصبح عضوا بالتعيين في مجلس الشورى، لكنه في واقع الأمر " جاسوس نائم" أو يطلق عليه في هذا العالم الغريب، أي المتعاون مع العدو صمتا أو تجميدا لنشاط أو انتظارا لتوجيهات.

مؤيدو مشروع قوانين عدم تولي مزدوجي الجنسية مسؤوليات وزارية أو في مجلسي الشعب والشورى مشاركون في جريمة اغتيال أحلام المصريين في الغربة، فنحن ثلاثة ملايين أو أربعة أو أكثر من هذا أو أقل ولا نخضع لمقاييس الوطنية التي يحتفظ بها مقننو الجهل بأوضاع المصريين في الخارج ولكن من قال بأن الوطن يعدل بين أبنائه في الداخل حتى يعدل بين المواطنين وبين المغتربين؟
ألا يوجد هناك آلاف من أبناء المصريات الذين ولدوا في مصر وقضوا طفولتهم وشبابهم وتعلموا فيها ورضعوا حبها وشربوا من نيلها، ومع ذلك فالرئيس حسني مبارك يرفض رفضا قاطعا منحهم الجنسية المصرية، وقد تم الحكم عليهم بالإعدام الوطني وهم في أرحام أمهاتهم المصريات؟
واضعو القوانين المزاجية الجديدة هم جزء لا يتجزأ من الشريحة العريضة من المجتمع المصري الذين طاردوا أبناء الوطن في العمل وفي البيروقراطية وفي التعيينات الظالمة والشكاوى وعرقلة التوظيف وغيرها من آلاف المعوقات الطاردة للعمالة والتي تحث المواطن على الهجرة، فلما هاجرنا قيل هؤلاء أنصاف مواطنين ينبغي أن لا يتشرف أي منهم عندما يعود إلى الوطن الأم بمنصب في وزارة أو في مجلسي الشعب والشورى.
إنه ظلم ذوى القربى الذين يرون الدكتور يوسف والي وهو يُحَيّي النجمة السداسية في سفارة إسرائيل بعاصمة المعز في ذكرى اغتصاب فلسطين أكثر وطنية من المهاجر المصري مزدوج الجنسية الذي يُعَلّم أولاده أن الاعتراف بإسرائيل حرام وأن زيارة الكيان الصهيوني هي صورة من صور التجسس ضد الوطن الأم..أرض الكنانة.

ألا يكفي هؤلاء من واضعي القوانين الظالمة أن المغتربين والمهاجرين يعانون من كل المشاكل النفسية والعصبية التي يسببها لهم أبناء الوطن الأم وهم يدمرون مصر قطعة..قطعة وينشرون ثقافة التسول، ويغمضون العين عن نهب أرض الخيرات، ويصمتون عن ديموقراطية مشوهة تسمح لكل مواطن أن يدلي بدلوه في قضايا وهموم مصر، لكنها لا تطلب من السيد الرئيس الاستجابة لمطالب المواطن أو تحقيقات الصحافة أو استغاثات النجدة من المظلومين؟
إن جريمة التشكيك في ولاء مزدوجي الجنسية يجب أن يتم عرضها على منظمات حقوق الإنسان، وعلى المثقفين والمفكرين والقانونيين من شرفاء هذا الوطن، فلسنا نحن من يغتصب الوطن وينافق الرئيس ويقترض من المصارف بنية الهروب وتدمير اقتصاد مصر ويروج لبضائع إسرائيلية ويغتال السياحة ولا يكترث لمستقبل مصر.
إن سن قوانين تحريم المواطنة الكاملة على مزدوجي الجنسية جاء كنتيجة طبيعية لصراعات السلطة مع بعض الكبار وفي مقدمتهم ولكن لا يمكن أن يتطور الوطن وينهض ويواكب العصر إن كانت قوانينه صادرة عن ردود أفعال بدائية لصراع حيتان الرأسمالية المتطفلة في الوطن الضحية.
إن الرؤية الساذجة والانتهازية والتسولية التي تبلورت في السنوات العشر الماضية تجاه المغتربين المصريين والمهاجرين بأن الترحيب بهم في الوطن الأم يشترط تحويلهم من عشاق لمصر إلى مستثمرين أنصاف أجانب جاءت لتطعن أبناء الوطن في الخارج في أعز ما يملكون وهو حلم العودة إلى مصر والذي قد لا يتحقق ما بقي للمهاجر من عمر، لكنه يظل ملاذا آمنا يختبئ في صدر المغترب ويلون أحلامه المستقبلية بكل ما في ماضيه من سعادة طفولية وصلة رحم وتراب وطن.

نحن نتهم مباشرة وبصراحة جارحة واضعي القوانين الظالمة الخاصة بمزدوجي الجنسية بأنهم لا يفهمون مشاعر الغربة ولا يعرفون ميزان العدل في قياس الولاء للوطن، وأن هذه قوانين ينبغي أن يعاقب القانون واضعيها بتهمة ازدراء أبناء مصر في الخارج.
لهذا لم تفلح أي محاولة إعلامية أو سياحية للتعرف على أبناء مصر في الخارج، فالبرامج الساذجة التي تبثها القناة الفضائية المصرية، وهي بالمناسبة قناة تلفزيونية يتكدس فيها أكبر عدد ممكن من المشوهين ثقافيا والمعوقين ذهنيا والأميين إعلاميا، تصلح للعرض في مدرسة ابتدائية معزولة في إحدى القرى التي لا تدخلها وسائل الاتصالات الحديثة.

وأخيرا نأتي إلى السؤال الطبيعي والحتمي لرفع الغبن والظلم عن مواطني مصر في الخارج من حملة الجنسيتين ونتردد ألف مرة أو يزيد قبل عرضه على السيد الرئيس حسني مبارك، فتجاربنا، كما هي تجارب ملايين المصريين في الداخل وفي الخارج، تنتهي إلى نتيجة واحدة لم تتغير طوال عقدين من الزمان وهي عدم اكتراث السيد الرئيس لأي ظلم يقع على مصري، بل إن الذي يحدث هو العكس أي إذا طلب الشعب كله مثلا من الرئيس وقف الاعتداءات المتكررة من ضباط الشرطة على المواطنين أو تغيير الوجوه الفاشلة في الحكومة أو عرض ملفات الوزراء على المخابرات ومباحث أمن الدولة أو وضع قوانين صارمة ضد نهب اقتصاد مصر أو وضع ضوابط للعمل الاستثماري أو الاستعانة بشباب مصر وعباقرتها في تسيير أمور الدولة أو عدم التجديد لعواجيز الحكومة من الذين تحنطوا فكرا وعقلا وكرسيا في الوزارة أو تغيير رئيس مجلس إدارة مصر للطيران أو تعيين نائب للرئيس أو إلغاء قانون الطوارئ المهين لمصر وشعبها أو الاهتمام بكرامة المصريين في الخارج أو إعطاء وقته لهموم ومشاكل الشعب بدلا من أن يكون رئيسا للسياسة الخارجية فإن سيادته لن يستجيب ولو شج كل المصريين رؤوسهم في الحائط أو اضربوا عن الطعام حتى الموت، فهل نتوقع من الرئيس إلغاء القانون الظالم عن مزدوجي الجنسية؟ لا نظن، فالرئيس وضع خطا أحمر منذ عشرين عاما يحجبه عن هموم المصريين فقد كانوا ولا يزالون في ذيل قائمة اهتمامات السيد الرئيس حسني مبارك!

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

أوسلو

اجمالي القراءات 15688