الحضارة المصرية أقدم الحضارات وتأثيراتها على الشعوب المجاورة من الحقائق التاريخية المعروفة.
وحساب القبر ونعيمه وعذابه من أهم مقررات العقائد الدينية الفرعونية، ويؤكد الأستاذ سليم حسن فى بحثه عن الحياة الدينية المصرية القديمة أن كل شىء فى الشعائر الدينية كان يشير إلى الاهتمام بمصير جسد الإنسان عند الموت أكثر من نفسه أو روحه، وإن ذلك الاهتمام بمصير جسد الميت ازداد بعد طغيان عقيدة إيزيس وأوزوريس حيث كان أمل الميت أن يعود جسده للحياة السوية كما حدث فى أسطورة أوزوريس الذى عاد للحياة بعد الموت.
وفى العقائد الجنائزية لما بعد الموت هناك ثلاث روايات مختلفة عن مصير الميت بعد دفنه وحسابه أمام أوزوريس الذى كان إله الموت والموتى وكان الإله العظيم لعالم الموتى وسيد القضاء للموتى فى قبورهم. ويقرر (إرمان) فى كتابه ديانة مصر القديمة أن الميت يصحو فى القبر ليس على شبح خيالى وإنما فى بعث متجسد، أى يصحو بجسده وهى نفس الفكرة التى لا يزال يكررها فقهاء الأرياف عند إلقاء الخطبة التقليدية عند الدفن.. ولا يزال المصريون يعتقدونها.. ونقرأ فى الفصل الخامس والعشرين بعد المائة من كتاب الموتى مشهداً لمحاكمة الميت فى قبره حيث يجلس أوزوريس على عرشه وأمامه رمز أنوبيس وأبناء حورس وآكل الموتى وهو حيوان مرعب يتشكل من تمساح وأسد وفرس النهر، ويجلس قضاء أوزوريس، قضاة المحكمة وهم على أشكال مخيفة ولهم ألقاب مفزعة وعددهم اثنان وأربعون قاضياً بعدد مقاطعات مصر القديمة، ويتم حساب الميت بوزن قلبه فى الميزان ويسجل (تحوت) كاتب الآلهة النتيجة على لوحة ثم يخبر بها أوزوريس.
ويتقدم الميت مخاطباً أوزوريس بالتمجيد ثم يبدأ بالدفاع عن نفسه وينفى وقوعه فى شىء من المعاصى..
والناجحون فى الامتحان يدخلون مملكة أوزوريس وجنته أما الراسبون العصاة فيظلون فى مقابرهم جوعى وعطشى بل أن القضاة يحملون معهم أدوات لتعذيب الموتى العصاة، والحيوان المخيف الواقف أمام أوزوريس يلتهم الميت ويمزق أعضاءه، واسم ذلك الحيوان آكل الموتى "باباى".
وفى رواية أخرى يكون الميت فى قبره بين ثلاث فئات.. فئة تفوق سيئاتهم حسناتهم، ومصيره إلى الحيوان الوحشى الذى يأكله، وهنا يحدث تحوير صورة ذلك الحيوان، إذ يكون فى تلك الرواية كلبة متوحشة وليس الحيوان الخرافى باباى.. وقد يكون الميت من فئة تفوق فضائله رزائله، وحينئذ ينضم إلى جنة الآلهة، وقد تتعادل حسناته وسيئاته وحينئذ توكل إليه مهمة خدمة الآلهة..
فى رواية ثالثة يتحول الحيوان الخرافى الذى يعاقب الميت العاصى إلى ثعبان أفعى ضخم رهيب المنظر، وإذا أفلح الميت فى حسابه أمام أوزوريس يقال لذلك الثعبان الهائل يا أفعون لا تأكله..
وانتقلت تلك الأسطورة الأخيرة إلينا فى شكل جديد بعد عدة تحويرات.. أصبح أوزوريس فيها يتسمى باسم عزرائيل.. وأصبح أفعون الضخم ثعباناً أقرع، وأصبح القائمون على محاسبة الميت فى قبره اثنين فقط من الملائكة أطلق عليهما لقب منكر ونكير.. ندخل بذلك إلى التفصيلات.. وجذورها التاريخية..
المؤثرات الفرعونية فى الشام فى عذاب القبر ونعيمه:
أشار أدولف إرمان فى كتابه "ديانة مصر القديمة" إلى انتقال عقيدة إيزيس وأوزوريس إلى أوروبا واستمرارها إلى العصور الوسطى، وكان تأثيرها شديداً فى الشام خصوصاً فى اليهودية والنصرانية.. وأكد هذه المقولة باحثون أمثال "ويلز" فى كتابه "موجز تاريخ العالم" و"شارل جينيير" فى كتابه عن تاريخ المسيحية..
وقبلهم جميعاً أشار القرآن إلى تأثر بنى إسرائيل بالعبادة الفرعونية برغم ما أنعم الله عليهم من آيات، حتى أنهم عندما عبروا البحر ورأوا معبداً فرعونياً فى سيناء أرادوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِيَ إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىَ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىَ أَصْنَامٍ لّهُمْ قَالُواْ يَمُوسَىَ اجْعَلْ لّنَآ إِلَـَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ (الأعراف 138). وحين تركهم موسى عبدوا العجل الذهبى يضاهون به عبادة عجل أبيس الفرعونى ﴿وَاتّخَذَ قَوْمُ مُوسَىَ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ (الأعراف 148)، ﴿فَرَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتّمْ أَن يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مّوْعِدِي. قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَـَكِنّا حُمّلْنَآ أَوْزَاراً مّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ. فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـَذَآ إِلَـَهُكُمْ وَإِلَـَهُ مُوسَىَ فَنَسِيَ. أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً. وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَقَوْمِ إِنّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنّ رَبّكُمُ الرّحْمَـَنُ فَاتّبِعُونِي وَأَطِيعُوَاْ أَمْرِي. قَالُواْ لَن نّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتّىَ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىَ. قَالَ يَهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلّوَاْ. أَلاّ تَتّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي. قَالَ يَابْنَأُمّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرّقْتَ بَيْنَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي. قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَسَامِرِيّ. قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ (طه 86: 96).
وفيما يخص موضوعنا عن القبر حسابه وعذابه فإن القرآن يشير إلى أن اليهود عبدوا (عزير) زاعمين أنه ابن الله وأنهم بذلك يسيرون على نهج الكافرين السابقين ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ﴾ (التوبة 30). واليهود فى مصطلح القرآن الكريم ليسوا كل الذين هادوا وليسوا كل من يتمسك بالتوراة بل فقط الطائفة المتطرفة من قوم موسى ومن سار على نهجهم.
أوزوريس اسمه المصرى وباللغة المصرية القديمة عزير.. حرف العين يوجد فى اللغة المصرية القديمة ولا يوجد فى اللغة اليونانية ولذلك فإن الأوروبيين حين نطقوا (عزير) باللغة اليونانية القديمة قالوا (أوزوريس) أى (أوزير) وتضاف إليه (S)..
وأضافت اليهود إلى (عزير) تحريفاً آخر تحول به من إله الموتى عند قدماء المصريين إلى ملك الموت، وأصبح اسمه (عزرائيل).. وتوارثنا منهم الاعتقاد بأن "عزرائيل" هو ملك الموت ولقد ذكر القرآن أسماء بعض الملائكة مثل جبريل وميكال، ومالك وتحدث عن الروح وملك الموت ولكن لم يذكر إسماً لملك الموت.. ولأن القرآن هو وحده المصدر الذى نستقى منه الغيبيات فإن "عزرائيل" المشار إليه على أنه ملك الموت لا أصل له فى الإسلام..
وقد عرفنا أصله الإسرائيلى المأخوذ من أوزير أو عزير أو أوزوريس.
وهذا يدلنا على أن المؤثرات الفرعونية ظلت حية فى مصر والشام والعراق بعد ظهور الأنبياء من بنى إسرائيل وإلى ما بعد ظهور خاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام..
والعقائد المرتبطة بالموت وعذاب القبر وحسابه مأخوذة من أصول فرعونية ولكن تحولت لبعض التحوير الذى أشرنا إليه..
وقد أحيا القصاص تلك العقائد الدينية القديمة فى العصر الأموى وما تلاه..
القصاص والترغيب والترهيب:
القُصًّاص هم مجموعة من الناس احترفوا الوعظ فى المساجد وغيرها بعد أوقات الصلاة.
وكان عمل القُصًّاص تطوعياً فى بدايته يقوم به رؤوس الصحابة للوعظ والدعوة إلى الحق ، وأول من تطوع لهذه المهمة الأسود بن سريع وكان صحابياً غزا مع النبى أربع غزوات..
ثم تحول القصص إلى وظيفة سياسية دينية رسمية فى العصر الأموى فقد احتاج معاوية إلى جهاز دعائى يقنع أهل الشام بأحقيته فى القيام ضد (على بن أبى طالب) لذا أصبح منصب القصًّاص يكافئ منصب القاضى، وقد يجمع الرجل بين الوظيفتين معاً، لذلك يقال أول من قص بمصر سليمان بن عتر التجيبى وكان يجمع بين القضاء والقصص وكان يمارس عمله فى المسجد العتيق بالفسطاط..
وكان القصاص يجلس بالمسجد وحوله الناس فيستحوذ على ألبابهم بالحكايات والأقاصيص والأساطير ثم يخلط كلامه بالدعوة السياسية لأولى الأمر والهجوم على (أبى تراب) وهو كنية (على بن أبى طالب)..
وهناك ناحية سيكولوجية تنبه لها أولئك القصاص وهى التركيز على التخويف والإنذار والترهيب من عذاب القبر والآخرة وبعد إخضاع المستمعين بالأساطير المرعبة عن عذاب القبر يسهل التأثير فيهم وبث الدعاية السياسية فى عقولهم بعد أن تتم السيطرة عليها..
وحتى الآن فإن المتطرفين يركزون فى الخطب والكتابات على عذاب القبر والثعبان الأقرع وعذاب الآخرى ليشيعوا الإرهاب الدينى فى النفوس ومن ثم يسهل لهم السيطرة على الناس، فطالما أخضعوا لهم الناس بالدين كان سهلاً أن يخضع لهم الناس فى أمور الدنيا..
ونعود إلى العصر الأموى الذى أعاد الأفكار الفرعونية القديمة فى عذاب القبر والذى اتخذ أسلوب القصص والقصاص وسيلة للدعاية السياسية..
نقول إن المصدر الذى يستقى منه القصًّاص مادتهم الخرافية عن عذاب القبر وخلافه تتمثل فى اثنين من اليهود، ومنهم جاءت "الإسرائيليات" فى فكر المسلمين وعقائدهم، وهما وهب بن منبه وكعب الأحبار بالإضافة إلى عبد الله بن سلام..
ومعروف أن أبا هريرة كان صديقاً لكعب الأحبار وأنه أخذ عنه، كما أخذ أيضاً عبد الله بن عباس، وبذلك دخلت مرويات كعب الأحبار إلى الأحاديث..
ومن يريد الاستفاضة فى هذا الموضوع يمكنه أن يرجع إلى مؤلفات الشيخ محمود أبو ريه فى كتابيه "أضواء على السنة"، "شيخ المضيرة" وكتاب الأستاذ أحمد أمين "فجر الإسلام".
وقد أشار الأستاذ أحمد أمين إلى أن أولئك القصاص أدخلوا الكثير من الإسرائيليات والخرافات فى الحديث والتفسير والتاريخ، وقبله انتقد ابن تيميه خرافات القصاص فى كتابه "أحاديث القصاص" إلا أن المؤسف أن بعض الأقاصيص الخرافية ارتدت ثوب الأحاديث النبوية وهى تؤسس العقائد المصرية القديمة فى حقيقة الأمر، والمؤسف أكثر أن محققى الجرح والتعديل فى الحديث تساهلوا مع تلك الأحاديث لأنه لا يترتب عليها تحريم أو تحليل، إذ أن عصور الفقهاء كانت تجعل التركيز قائماً على تحرى الأحاديث الخاصة بالحلال والحرام تبعاً للصراع المذهبى بين أهل الفقه، أما أحاديث الترغيب والترهيب ومنها أحاديث القبر فقد كانوا يتسامحون فى روايتها، ولم يفطنوا إلى خطورتها على تكوين العقل والمعتقد، وهكذا راجت أحاديث الأوزاعى وغيره.. وانتشرت هذه الأحاديث وانسجمت الأغلبية المتدينة معها لأنها فى الحقيقة بضاعتنا المصرية القديمة وقد ردت إلينا. ولأنها تتحدث عن الموت والقبر وتضخم خوفنا الغريزى من ظلمة القبر وأساطيره.. ولأن التيار الدينى المتحكم الذى يريد أن يركب ظهورنا باسم الإسلام لابد له أن يضع حجاباً على عقولنا وإرهاباً فى قلوبنا حتى نركع له ونخضع. وتناسينا فى خضم هذا الموضوع أن نرجع إلى القرآن الكريم وأن نحتكم إليه.