الرّوح لغة وواقعاً

سامر إسلامبولي في الإثنين ٢٣ - يوليو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الرّوح لغة وواقعاً إن كلمة الرُّوح قد فسرت بصُورة غيبية ضبابية، وأحيطت بهالة من الغموض والسّرية، نحو قولهم: إن الرّوح هي سر الحياة. وإن الإنسان عندما يموت تخرج روحه...الخ وما شابه ذلك من الأفكار البعيدة عن الصّواب، والمخالفة للواقع، فالرّوح أمر قابل للدّراسة مثل أي أمر متعلق بالإنسان فما هي الرّوح؟
إن كلمة (روح) من (رح) ودلالة أحْرف كلمة (رح) هي:
ر: صوت يدل على التّكرار.
ح: صوت يدل على الدّعة والانبساط والسّعة والتّأرجح الشّديد.
فإذا اجتمع الحرفان مع بعضهما شكلا دلالة حسب ترتيبهما، حيث تكون كل صُورة ضد الأخرى مبنى ومعنى. (رح ـ حر).
فكلمة (حر) تدل على الانطلاق من التّأرجح والسّعة إلى حالة التّكرار لهذه العملية، ليشكلا مع بعضهما دلالة واحدة يتم استخدامها في الحياة الاجتماعية، أي يتم عملية استخدام الظّاهرة الفيزيائية لدلالة أصوات الأحرف الموجودة بصُورة مجردة عن الدّلالات الاجتماعية في الواقع، ونقلها إلى الاستخدام الواعي للإنسان في حياته الفاعلة لتماثل الحدث، أو السُّلُوك مع دلالة أصوات الأحرف، ويتم ذلك بصُور لا متناهية، وذلك لوُجُود أصل ثابت تجريدي ممثل بدلالة أصوات الأحرف، ووُجُود فرع متغير متنامي مُرتبط بحركة الإنسان في الواقع، وهذه الحركة في تصاعد وتنامي وتراكم مستمر، ممَّا يدل على استمرار ولادة صُور جديدة لاستخدام الكلمات وفق المحور الثّابت (دلالة صوت الأحرف فيزيائياً). وعملية إدراك الرّبط والعلاقة بين الدّلالة الصّوتية للكلمة في الواقع، ودلالتها الاجتماعية، أمر لا يدرك بهذه السّهولة، فهو يحتاج إلى عمق في التّفكير، وإلى تجريد الكلمة من دلالتها الاجتماعية التي لازمتها ثقافياً، وساهمت المعاجم والقواميس اللُّغوية في ترسيخها ممَّا أدَّى إلى غياب الدّلالة الأصلية للكلمة، وانتشرت بصُور استخدامها اجتماعياً وثقافياً، وهذا الأمر ساهم إلى حد كبير في ترسيخ الثّقافة السّلفية في المجتمعات المعاصرة، لأنهم قيدوا أنفسهم باستخدام الدّلالات الثّقافية والاجتماعية، التي كانت سائدة في المجتمعات السّابقة، وبهذا العمل جعلوا اللُّغة قالباً جامداً، وكون اللُّغة هي حقل ومجال وميدان التّفكير، انتقلت عملية القولبة والجمود إلى التّفكير فصار تفكيراً اجترا ريا لثقافة السّلف( ).
إذن لنحاول أن ندرك الآن العلاقة بين الدّلالة الصّوتية لكلمة (حر) واستخدامها من قبل الإنسان بصُورة ثقافية واجتماعية. نحن نطلق على الجو إذا سخن هواؤه بصُورة شديدة: أنه جو حار. لاحظ كيف تحققت الظّاهرة الفيزيائية لهذه الصّفة في الواقع. أولاً: نلاحظ أنَّ الهواء (غاز) يتمدد بالسّخونة، وهذا دلالة السّعة لصوت حرف (ح)، وهذه السّعة والتّمدد للغاز (الهواء) نلاحظ أنها في عملية تأرجح شديدة، حركة ذهاب وإياب تسببها السّخونة المستمرة للهواء، وهذا أيضاً دلالة صوت حرف (ح) في الواقع. ونلاحظ أن عملية السّعة والتّمدد والتّأرجح الشّديد للهواء السّاخن، يتم في الواقع بصُورة مكررة تعيد نفسها، وهذا دلالة صوت حرف (ر)، أما دُخُول حرف (آ) الذي يسمونه (لام ألف) وهو غير الهمزة، فقد أضاف لعملية السّعة والتّأرجح صفة الامتداد والاستقامة، وتحقق ذلك بطول الوقت والامتداد لسخونة الجو. بخلاف لو قلنا: الجو حر!!. وبهذا الشّرح أظن أنني استطعت أن أجعل القارئ يعلم ولو بصُورة نسبية العلاقة بين دلالة صوت الأحرف فيزيائياً، ودلالتها في الاستخدام، وكيف تم ذلك الاستخدام من قبل العرب بصُورة فطرية تفاعلية، فكانت أصواتهم صُورة صوتية حالية أو وظيفية للحدث في الواقع كما هو تماماً، سواء أكان ذلك بصُورة كُلِّيَّة، أم جزئية للحدث، وبهذا التّفاعل الفطري للعرب في الواقع وصلوا إلى ولادة أساس اللُّغة الأصل الذي أخذ صفة المحور الثّابت، وبعد ذلك تم بناء اللُّغة بصُورة تراكمية زمكانية حسب المستوى العلمي لكل مجتمع، ومازال هذا البناء مستمر لأنه يمثل الجانب المتغير الصّاعد المتنامي على محور الثّابت، وهذه الصّفة للُّغة هي ذات الصّفة للواقع، كونه محلاً لها كمدلولات، واللُّغة بمثابة مرآة للواقع.
وعودة إلى كلمة (حر) لاحظ الاستخدام الاجتماعي لها بقولنا: حَرَّ الرّجلُ الطّعام. إذا قام بعمل مؤرجح (ذهاب وإياب) مكرر وذلك يدل على تقليب الطّعام بصُورة عشوائية. ونقول أيضا:حَرَّ الرّجلُ زيداً. إذا قام الرّجل بسُلُوك نتج عنه اضطراب وغضب في نفس زيد. ومن هذا الوجه يظهر لنا دلالة (حرى) التي أضيف لها الألف التي تدل على الامتداد والاستقامة لتوجه عملية التّأرجح المكرر نحو وجهة محددة، وإذا أضفنا حرف (ت) إلى أولها تصير (تحرى) حركة مندفعة مؤرجحة مكررة بامتداد واستقامة. وهذه دلالة الكلمة اجتماعياً عندما نقول: تحرى الرّجلُ الأمر. إذا قام بعملية البحث والتّقصي عن أمر محدد. ونطلق على الرّجل الذي يمارس هذا الفعل اسم (التّحري). ومن هذا الوجه ظهرت كلمة (حُرِّيَّة) التي تدل على مُمارسة دون قهر منبثقة من السّعة والتّأرجح بين الأمور، وهذه دلالة صوت حرف (ح) وعملية التّنقل بينها ذهاباً وإياباً، وهذا يمثل دائرة الاحتمالات الممكنة والمتاحة للإنسان ليقوم بعملية الاختيار، وهذا دلالة صوت حرف (ر) وأتى بعده حرف (ي) ليعطي عملية الاختيار جهداً خفيفاً ممتداً نحو أمر معين، ويأتي حرف (ت) ليكمل عملية الجهد بدفع خفيف متوقف عند أحد الاحتمالات المعروضة. نلاحظ أن كلمة (حُرِّيَّة) عندما انتهت بحرف (ت) ـ الذي يدل صوته على دفع خفيف متوقف ـ لم تلزم الإنسان باختياره إلى الأبد، وإنَّما له أن يعيد هذه العملية الاختيارية متى شاء، بخلاف لو انتهت كلمة (حر) بحرف (ق) وصارت (حرق) ـ الذي يدل صوته على قطع شديد ـ كان أنهى عملية الاختيار ونفى عنها صفة المراجعة، وتغيير الرّأي، وتصادم ذلك مع واقع الإنسان كنفس وفطرة وصارت اللُّغة قهرية اعتباطية عشوائية لا تمثل الواقع على حقيقته.
أما كلمة (رح) فهي ضد كلمة (حر) مبنى ومعنى. أي أن ظاهرة دلالة صوت الحرفين قد تغير ترتيبهما في الواقع بصُورة عكسية. فكلمة (حر) بدأت بعملية التّأرجح وانتهت بعملية التّكرار، بينما نلاحظ أن كلمة (رح) بدأت من حيث انتهت كلمة (حر) وهي التّكرار وانتهت بحالة التّأرجح. فأتى الاستخدام الاجتماعي لكلمة (رح) حسب تحققها في الواقع فيزيائياً. لنر ذلك من خلال إسقاطها على محلها من الخطاب الإنساني:
نقول: رحم الأم. وذلك لتحقق عملية التّكرار والتّأرجح والسّعة والجمع فيه فيزيائياً، وظهر ذلك اجتماعيا من خلال عملية تكرار الحفظ والرّعاية للجنين، وسعته له وجمعه في داخله، الذي هو دلالة صوت حرف (م). ونقول: رحى الطّاحونة. وذلك للحجر المستدير الذي يستخدم في عملية طحن الحبوب.
لاحظ دلالة صوت حرف (ر) التّكرار كيف هي ظاهرة في حركة حجر الطّاحونة، ولاحظ دلالة صوت حرف (ح) الذي يعطي صفة التّكرار الإعادة إلى نقطة البداية، وهكذا تتضامن عملية التّكرار والتّأرجح، فيأتي صوت حرف (ى) ليعطي لهذه العملية قصد محدد. ونقول: مكان رحب. للمكان المتسع المتجمع، لأن دلالة صوت حرف (ب) هي تجمع متوقف. لاحظ تحقق دلالة صوت حرف (ر) وذلك في عملية تكرار بسط المكان، وأتى صوت حرف (ح) ليدل على سعة المكان وتأرجح الحركة فيه نتيجة البسط والسّعة، وأتت دلالة صوت حرف (ب) ليدل على تجمع متوقف للمكان. ومن هذا الوجه نقول للضّيف: على الرّحب والسّعة ونقول أيضاً: مرحباً.
وإذا وضعنا حرف (و) بين حرفي كلمة (رح) تصير (روح) ويزيد في دلالتها حسب دلالة صوت حرف (و) وتموضعه في الكلمة، وصوت حرف (و) يدل على ضم ممتد. فتصير دلالة كلمة (روح) هي تكرار منضم ممتد مؤرجح.
ونقول: روح الشّجرة. بمعنى مجموعة الأمور المكررة المنضمة على ذاتها وممتدة لتعود من جديد إلى نقطة البداية دون تخلف أو تغير (تأرجح). ونجد هذا المعنى متحقق بصفة القوانين التي تحكم الشّجرة فهي التي تتكرر وتنضم لبعضها وتعود إلى بدايتها. وهكذا تأخذ صفة التّكرار المنضم المؤرجح.
ونقول: روح الإنسان.
وهي أيضاً بمعنى القوانين التي تحكم حياة الإنسان. وهي نظام الحياة.
فالرّوح: كلمة تدل على الأمور المتكررة المنضمة لبعضها، وممتدة ومتأرجحة في حركتها، وهذه دلالتها فيزيائياً. وتحقق ذلك في استخدامها الاجتماعي عندما أطلقناها على الأشياء فنقول: روح الشّجرة، روح الإنسان...الخ. وقصد العرب بذلك مجموعة الأمور التي تحكم حركة الشّيء بصُورة دائمة لا تتخلف أبداً (النّظام).
ونقول: روح النّص ونقصد به مآل ومقصد النّص والباعث له. وهذه دلالة كلمة (روح) تماماً من حيث تحقق صفة الاستمرار والتّكرار لدلالات النّص وضمها إلى بعضها لتشكيل صُورة كُلِّيَّة عن الأمر وإسقاطه على محل الخطاب للوُصُول إلى المآل والمقصد منه، الذي يتجه النّص في حركته نحوه لتحقيقه على أرض الواقع، حيث كان هو الباعث ابتداء الذي ينظم عملية سير واستمرار انضمام أجزاء النّص إلى بعضها لتشكل الصّورة الكُلِّيَّة للنّص.
ومن الملاحظ من دلالة كلمة (روح النّص) أن ذلك غير ظاهر بالألفاظ والأجزاء، وإنَّما هو أمر مخفي يضبط حركة دلالات النّص حيث يصير هو الطّاقة الرّوحية للنّص. وإذا سلب من النّص روحه انتفى عن النّص صفة الفاعلية وصار نصاً عقيماً.
أما كلمة الرّوح في الواقع فهي لا تخرج عن دلالتها اللُّغوية، لأنَّ اللُّغة هي صُورة صوتية أو وظيفية للواقع. فلو نظرنا إلى الذّرة لوجدنا أنَّ الذّرة قائمة على حركة مستمرة مكررة منضمة إلى بعضها محققة حالة الدّعة والبسط والتّأرجح، تقوم بوظيفتها مُرتبطة مع غيرها لتحقيق غاية، وهذا واضح من خلال بنية الذّرة كنواة وإلكترون.
وما ينطبق على الذّرة يشمل الوُجُود كله إلى المجرة، كون الذّرة هي لبنة الكون الأولى، فماذا يعني هذا الكلام؟
إنه يعني أنَّ الذّرة لها روح، وروحها هي النّظام الذي يحكمها ويسيطر عليها، ويوجهها نحو غاية معينة، وكذلك المجرة لها روح، وهي النّظام الذي يحكم المجرة من أجزائها إلى كلياتها والعلاقة بينهم.
فالكون من الذّرة إلى المجرة له روح تحكمه يسير بحسبها لا يملك أن ينفك عنها، فهي ملازمة له، وهي الجانب المخفي في بنية الكون.
إذاً الكون مؤلف من جانب مادِّي حسي، وآخر روحي سنني يسيطر على الجانب المادِّي حيث صارا كلاهما كائنا واحدا: روح ومادَّة (رحمادي)( ).
وفي هذا الكون الرّحمادي، ومن رحمه ولدت الكائنات الحيةعلى سُلَّمِ التّطور، فحملت هذه الكائنات الحية صفات الكون الرّحمادي المتنامي واكتسبت صفة ميزتها عن أصلها، وهي صفة الحياة لأنَّ الكون مؤلف من كائنات ميتة أصلاً.
فما هي هذه الصّفة التي اكتسبتها هذه الكائنات فصارت بها كائنات حية؟
أول أمر يجب إثباته هو أنَّ الموت سابق عن الحياة، أي الوُجُود التّرابي سابق عن وُجُود الكائن الحي، وهذا معلوم من نهاية الكائنات الحية، لأنَّ النّهاية هي البداية، فنهاية الكائن الحي هي التّراب ممَّا يدل على أن بدايته من التّراب.قال تعالى: [يا ايها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ] الحج
[ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ] الروم
فالكائنات الحية أُخْرِجَتْ من الكائن الميت ابتداءً الذي هو التّراب، وتعود هذه الكائنات الحية إلى الكائن الميت التّراب.
وقال أيضاً:[الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا]الملك 2
فقد بدأ الخالق بذكر خلق الموت أولاً ليدل على أنَّ الحياة هي أمر لاحق بعد الموت، ويصير في الواقع على الصّورة التّالية:
موت (التّراب) فالحياة الدّنيا، ثم موت (التّراب) مرحلة الانتظار، ثم الحياة الآخرة (تزويج النّفوس للأجسام).
قال تعالى: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون  البقرة 28.
فما هو الموت؟
الموت لغة: فقدان قوة فاعلية الشّيء.
ولمعرفة الفرق بين الموت والحياة لابُدَّ من إسقاط ذلك على الواقع ومشاهدة الفرق بينهما.
قال تعالى:  وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون  يس 33.
الأرض الميتة: هي التّربة القاحلة الجد باء التي لا نبت فيها ولا أثر لوُجُود أي كائن حي في داخلها، فإذا نزل الماء عليها اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
قال تعالى: والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها  النحل 65، فعندما ينزل الماء الذي هو أصل الحياة كما قال تعالى:  وجعلنا من الماء كل شيء حي  الأنبياء 30، على التّربة تتفاعل التّربة مع الماء والضّوء والحرارة والرّطوبة فتصير مهيأة لأن تحتضن صُور الحياة في رحمها ويخرج منها الكائنات الحية من نبات وغيره.
إذاً الأرض الميتة:هي تربة ساكنة على نظامها الرّحمادي الحركي الثّنائي. فتكون الأرض الحية: هي تربة فاعلة ومنتجة للكائنات الحية.
الموت: هو فقدان الفاعلية والإنتاج.
الحياة: هي امتلاك صفة الفاعلية والإنتاج بصُورة ذاتية.
وبناء على معرفة كل من الموت والحياة نصل إلى تفسير مجموعة من الآيات القرآنية:
1 ـ كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة  آل عمران 185.
كلمة (ذوق) تدل على تناول بعض الشّيء لاختباره.
فيكون المقصد من النّص أن كل نفس لابُدَّ أن يصيبها الموت لفترة زمنية طالت أم قصرت، فالموت ليس صفة دائمة للنّفس، وإنَّما هو صفة تذوقية (مؤقتة) وبالتّالي فالموت ليس نهاية الحياة بالنّسبة للإنسان، وإنَّما هو مرحلة انتظار للانتقال إلى الحياة الأخرى، التي يتم فيها توفية الأجور حسب الجهد والعمل في مرحلة الحياة الأولى.
2 ـ إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى  طه 74.
فهذا المجرم الذي يدخل النّار يفقد صفة الفاعلية والإنتاج كونه ملازم لحالة العذاب، فهو من هذا الوجه ليس حياً حسب مفهوم الحياة. وكذلك ليس ميتاً حسب مفهوم الموت لأنه يمتلك أصلاً صفة الفاعلية والإنتاج ولكنها معطلة، فهو ـ المجرم ـ ليس بميت ولا حي. وكذلك ـ المجرم ـ في الحياة الدّنيا إذا استخدم فاعليته وإنتاجه في غير ما يصلح للنّاس من خير ونفع فهو إنسان عاطل ليس بميت وليس بحي.
3 ـ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل  غافر11.
هذا النّص يخبر إن الموت والحياة حصلا للإنسان الكافر بصُورتين:
الأولى: فصل النّفس عن الجسد في الحياة الدّنيا. الثّانية: الموت النّفسي له في الجحيم من أثر العذاب والخزي، وملازمته للحزن والإحباط والاكتئاب.
قال تعالى: إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى  طه 74.
وقال: الذي يصلى النار الكبرى  ثم لا يموت فيها ولا يحيى  الأعلى 12 ـ 13.
فالكافر في النّار ليس بميت من النّاحية الجسمية الحركية، وليس بحي من النّاحية النّفسية لأنه فاقد لصفة الفاعلية والإيجابية والسّرور والسّعادة، وما ينطبق على عملية الموت ينطبق على عملية الحياة تماما من حيث اتصاف الكافر بالحياة في الدّنيا على الصّعيد النّفسي والجسمي وامتلاكه مقدرة الحركة والفاعلية الواعية، والحياة في الآخرة في نار جهنم عندما جعل الله الكافر يملك المقدرة الحركية والحسية والشُّعُور بالألم والحزن مع فقدان صفة الفاعلية والإيجابية والسّعادة والسّرور.
بينما المؤمنون لا يذوقون إلا الموتة الأولى، التي هي فصل نفوسهم عن أجسامهم في الحياة الدّنيا، وبعد ذلك يتم بعثهم في الآخرة ويدخلون الجنة فيحيون حياة طيبة على الصّعيد النّفسي والجسمي.
قال تعالى: أفما نحن بميتين  إلا موتتنا الأولى الصّافات 59.
ويكون المؤمنون قد عاشوا حياتين فاعلتين سعيدتين: في الدّنيا من خلال الإلتزام بالرّوح التي أنزلها الله (القرآن)، وفي الآخرة من خلال فوزهم بالجنة ورضوان الله عليهم.
قال تعالى: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها  الأنعام 122.
وقال:  وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا  الشّورى 52.
وقال: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون  النّحل 97.
4 ـ  ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون  آل عمران 169.
إن الإنسان الذي يقتل في سبيل الله (الحق) سواء أكان نتيجة عمله في الفكر والثّقافة أم نتيجة سقوطه في المعركة أم غير ذلك ممَّا هو متعلق بسبيل إعلاء كلمة الحق لا يموت وإنَّما يمر بمرحلة الموت بصُورة ومضة تقتضيها عملية الانتقال من جسم إلى آخر، كون حياة النّفوس مُرتبطة بالأجسام( )، وكون قانون الموت لابُدَّ منه [ كل نفس ذائقة الموت ] فيذوق الموت لحظة وبرهة من الزّمن لا يشعر بها، ويستمر في حياته الجديدة وفق نظام آخر إلى أن تقوم السّاعة فيبعث الله الأجسام فيرجعون إلى أجسامهم ويستمرون بالحياة من خلالها. ومن هذا الوجه تبين لي صحة الحديث النّبوي الذي يقول:
[ إن نفوس الشّهداء الذين يقتلون في سبيل الله عز وجل يجعلها الله في حواصل طيور خضر يطيرون حيث يشاءون ويستمتعون بذلك ] وهذا الحديث هو تقريب مجازي لمفهوم أن نفوس الشّهداء الذين يقتلون في سبيل الله (الحق) ـ لأنه يُوجد شهداء لا يقتلون وإنَّما يموتون ميتة طبيعية ـ لا يموتون إلا ومضة من الزّمن التي تقتضيها عملية انتقال أنفسهم من الأجسام التي أصيبت بعطل قاتل كفصل الرّأس عن الجسد مثلاً أدَّى إلى امتناع استمرار الحياة فيها إلى أجسام أخرى يتم استخدامها مؤقتاً حتَّى تقوم السّاعة، ويبعث الله الأجسام مرة أخرى ليعودوا إليها. وهذه الأجسام الجديدة للشّهداء المقتولين تخضع لنظام آخر لا نشعر نحن به، ولكن هم يستمرون في الحياة عند ربهم يُرْزَقون تعويضاً لهم عن تضحيتهم وشجاعتهم وبذل أثمن ما عندهم في الحياة الدّنيا. بخلاف نفوس الآخرين فإنها عندما تنفصل عن أجسامها (تموت) يتم حفظها ساكنة إلى أن تتم عملية البعث لأجسامها يوم القيامة، وبالتّالي تطول عندهم عملية مرحلة تذوق الموت. إذاً التّراب والماء كائنات ميتة لا حياة فيها رغم وُجُود الرّوح التي تُسَيِّرُ المادَّة فيها، وعندما تمت عملية خلق الكائنات الحية كان ذلك من جراء إيجاد بنية متطورة بروحها عن الذّرة وليس هي إلاَّ الخلية فكانت اللّبنة الأولى التي تم خلق الكائنات الحية منها، فروح الذّرة غير روح الخلية رغم أنَّ الأولى هي الأساس للوُجُود، والفرق بينهما يكمن في أن:
الذّرة: كائن رحمادي حركي ثنائي غير فاعل ولا منتج بذاته.
الخلية: كائن رحمادي حركي ثنائي فاعل ومنتج بذاته لطاقته واستمراره في الحياة
.
إذاً الذّرة والخلية كلاهما مُسَيّران بالرّوح، وتمتاز الخلية عن الذّرة بامتلاكها صفة الحياة، والموت لهذه الخلية يكون بتوقيف روح الحياة من فاعليتها وإرجاعها إلى روح الذّرة. فترجع الكائنات الحية إلى التّراب وتتحلل إلى عناصرها الأولى نتيجة اضطراب أو استهلاك في بنية الخلية على صعيد روحها أو جسمها، مِمَّا يؤثر على حركة المنظومة الكُلِّيَّة التي تنتمي إليها الخلية، فتصيبها بالاضطراب في روحها بصُورة كُلِّيَّة تسير بها نحو الموت. إذاً الكائنات الحية لديها أرواح تحكمها ومُسَيَّرين بحسبها، وهي (الرّوح) النّظام السّنني الذي يحكم حياتهم. وبالتّالي من يعلم النّظام (الرّوح) يستطيع أن يطيل بحياتهم، وهذا معلوم ومشاهد على أرض الواقع، فالإنسان يقوم بإطالة أعمار الكائنات الحية من خلال دراسة أرواحها ومحاولة إصلاح ما فسد وهلك منها ليستمروا في الحياة إلى أن يصلوا إلى عمرهم الافتراضي. وما مسألة الاستنساخ إلا مسألة متعلقة بمعرفة روح الخلية.
إن الكون من الذّرة إلى المجرة كائن رحمادي حركي متنامي. لأن روح الكون قائمة على قانون الحركة كما هو معلوم في العلم، ومذكور في القرآن  وكل في فلك يسبحون  يس 40، والسّباحة من سبح التي تدل على الحركة المستمرة، وكلمة (فلك) تدل على أن هذه الحركة (السّباحة) إنَّما هي وفق خط منحني مغلق على نفسه (مدار إهليجي). وروح الكون قائمة على العلاقات بين الأجزاء الموجهة نحو غاية ووظيفة تقوم بها مجتمعة لتشكل العمل الكلي المترابط بأجزائه.
قال تعالى: كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون  النّور41.
فهذه الصّلاة الكونية ليست هي المعروفة من قيام وركوع وسجود، وإنَّما هي من الصّلة، وبالتّالي تكون بمعنى العلاقة. أي كل منهم قد تم برمجته حسب وظيفته مع ذاته وغيره ليتم انسجام كلي بحركة الكون لا يخرج أحد عن صلاته أو يقطعها، كما أنه لا يقف عن التّسبيح أبداً. قال تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم  الإسراء 44.
فتسبيح الكون بأجزائه هي عملية لا تخضع لعملية الفقه ولكنها تخضع إلى عملية العلم فماذا تعني عملية الفقه؟
فقه: كلمة تدل على الفهم والدّراية والإدراك المُباشر.
قال تعالى: واحلل عقدة من لساني  يفقهوا قولي  طه27 ـ 28.
ففقه القول هو فهمه وإدراكه بصُورة مُباشرة دون دراسة، نحو أن يتكلم إنسان لغة لا نعرفها فنقول: لم نفقه ممَّا قال شيئاً. مع وُجُود القدرة الفهمية على دراسة لغته ونصير عالمين بها، وبالتّالي يتحقق فينا عملية الفقه لهذه اللُّغة حين سماعها. فالإنسان لا يفقه حركة الكون، فمن منَّا يستطيع أن يشعر أو يرى حركة الذّرات في الماء أو الهواء بصُورة مُباشرة؟ والجواب قطعاً بالنّفي لا أحد يستطيع ذلك، ولكن ممكن أن نقوم باستخدام الأدوات المعرفية ودراسة الأمر فنصل إلى العلم بتسبيح الكون.
فعلاقة الكون مع بعضه هي علاقة تكاملية متناغمة مع بعضها كل جزء يقوم بوظيفته على أتم وجه، وهذه الأفعال (أعمال محددة) الله عليم بها ابتداء وانتهاءً. وهذه العلاقة إضافة إلى الحركة (التّسبيح) قائمة على الزّوجية، فقد خلق الله الكون ثنائيا وجعل بين هذه الثّنائيات علاقات ليتم التّكامل والانسجام والتّوالد والنّمو والتّفاعل والتّطور. قال تعالى:  ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون  الذّاريات 49.  والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون  الذّاريات 47.  ويخلق ما لا تعلمون  النّحل 8.
فالكون في حالة توسع دائم وخلق متجدد وفق قانون الحركة والزّوجية (الصّلاة والتّسبيح) إذاً الكون كله من الذّرة إلى المجرة في حالة صلاة وتسبيح، فهو كائن رحمادي حركي متنامي له وُجُود موضوعي، والرّوح التي فيه هي واحدة، وهي التي تحرك صُور المادَّة كل حسب وظيفته، فالأمر أشبه بالطّاقة الكهربائية والأجهزة، فهناك مكواة ومدفأة وغسالة ومروحة... الخ يعملون بالطّاقة الكهربائية ذاتها رغم اختلاف وظائفهم، أي علاقاتهم مع ذاتهم وغيرهم.
فطاقة الحركة في الكون واحدة تحرك الذّرة وتحرك المجرة، ومن هذا الوجه يظهر لنا وحدة الوُجُود الرّوحية، ويظهر لنا أحدية الخالق (الفاعل) إ ذ الفعل إنَّما هو واحد، ولكنه نما وتطور وتوسع ومازال محتفظاً بهذه الصّفات. ومن رحم الكون تمت ولادة وانبثاق الكائنات الرّحمادية الحية بصُور متطورة متقدمة على غيرها من الصّور. فظهر عالم النّبات، ثم عالم الحيوان، ثم عالم البشر، والإنسان ليكون أرقى صُورة متطورة للكائن الرّحمادي الحي، وهو يحتفظ في بنيته بكل صفات الرّحمادية من حيث خضوعه لقانون الحركة والثّنائية (التّسبيح والصّلاة) وما ينتج عن ذلك من علاقات. وصدق من قال:
وتزعم أنك جرم صغير ........وفيك انطوى العالم الأكبر





الرّوح في القرآن
بعد أن درسنا الرّوح لغة وواقعاً، وعلمنا أنَّ الرّوح غير الحياة، وهي أعم منها، والموت يقابل الحياة وليس الرّوح، وعرفنا أنَّ الرّوح هي نظام سنني يحكم المادَّة بصُورة لازمة، وبالتّالي فالكون هو كائن رحمادي، كما أنَّ الكائنات الحية أيضاً هي كائنات رحمادية من حيث الأصل واستمرت كذلك وأضيفت لها صفة الحياة.
نأتي الآن إلى كلمة الرّوح في الاستخدام القرآني لنر كيف استخدمها وبأي دلالة؟
مع العلم ابتداء أنه ما ينبغي أن يُوجد خلاف بين الواقع واللُّغة والقرآن في استخدام دلالة الكلمة، لأنَّ المصادر الثّلاثة مُرتبطة ببعضها بعلاقة جدلية منسجمة كل الانسجام مع بعضهم.
قال تعالى: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أتيتم من العلم إلا قليلا  الإسراء 85.
هذه الآية هي أشهر نص في الاستخدام القرآني، التي يستخدمها بعض من يزعم أنَّ الرّوح مسألة غير قابلة للدّراسة، وهي سر غيبيّ وهي أصل سر الحياة، وما شابه ذلك من أقوال. والمدقق في النّص المذكور يلاحظ أنَّ النّص هو جواب لسؤال توجه إلى النّبي محمد ، والسّؤال لم يذكر لا من قريب ولا من بعيد أن مدلول الرّوح في ذهن السّائلين هو سر الحياة، أما الوجه الآخر للنّص فهو أنه ليس من أسلوب القرآن غموض السّؤال وغموض الجواب! فهذا عبث مُنزه النّص القرآني عنه، والوجه الأخير للموضوع هو أنه ليس من أسلوب القرآن أن لا يعطي جواب للسّؤال، ويمنع التّعلم والدّراسة، وهو الذي يطالب بالعلم والتّفكير والتّعقل!.
انظر قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس  البقرة 219.
وقوله تعالى:  يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج البقرة 189.
وقوله تعالى:  ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض  البقرة 222.
والنّص المعني بالدّراسة هو من هذا القبيل، سؤال صريح، وجواب كاف شاف، لا يُوجد فيه نهي عن الخوض في مادَّة السّؤال، أو هو سر غيبي لا يمكن أن يعلمه أحد، انظر للنّص من جديد بنظرة أخرى؟ ألا تجده على نمط الأسئلة السّابقة  ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أتيتم من العلم إلا قليلا  فهذا النّمط من السّؤال والجواب ليس مثل قوله تعالى: يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي  الأعراف 187. لاحظ صراحة السّؤال والاهتمام بالجواب وتشجيع النّاس على أن يوجهوا أسئلتهم دون خوف أو خجل، لأن مفتاح العلم والمعرفة هو السّؤال، لذلك يجب أخذ السّؤال بصُورة جدية والقيام بالجواب العلمي له. فالنّص المعني بالدّراسة أتى الجواب فيه بصيغة  قل الروح من أمر ربي وما أتيتم من العلم إلا قليلا  بينما بجواب السّؤال عن وقت السّاعة أتى بصيغة  قل إنما علمها عند ربي  ويُوجد فرق كبير في الدّلالة بين جملة  من أمر ربي  وجملة  عند ربي  فالأولى لم تنف العلم وإمكانيته عن النّاس بل أخبرت أن ما تسألون عنه هو من أمر الرّب القابل للدّراسة والاكتشاف، لذلك أنهى الجواب بقوله  وما أتيتم من العلم إلا قليلا  إشارة إلى طلب الاستمرار في رحلة التّعلم والدّراسة لكشف أمر الرّب في الأشياء والأحداث كيف قامت وكيف حدثت، وما نصل إليه من عُلُوم واكتشافات يبقى قليلا بالنّسبة لما هو غير معلوم من أمر الرّب في الوُجُود، بينما جواب السّؤال عن السّاعة أتى صريحاً في نفي إمكانية العلم بوقتها وأن ذلك موجود عند الرّب حصراً، وبالتّالي فأي دراسة وبحث وتفكير في معرفة وقت إقامة السّاعة هو مضيعة للوقت لاستحالة الوُصُول إلى الحقيقة.
وأمر الرّب في الاستخدام القرآني أتى على حالتين:
الأولى: الأوامر الشّرعية. قال تعالى: قل أمر ربي بالقسط  الأعراف 29.
إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه  يوسف 40.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى  النّحل 90.
الثّانية: الأوامر الكونية وهي الأحداث التي تجري في الواقع على صعيد الآفاق والأنفس ضمن سنن الله عز وجل.
قال تعالى: حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون  التّوبة 48.
وقال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم  هود 43.
وقال: إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود  هود 76.
وقال:  ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين  الأعراف 54.
فأوامر الرّب على وجهين: كوني وشرعي، الأول يخضع النّاس له قهراً، والثّاني يخضع النّاس له إيمانا واختياراً. والنّص المعني بالدّراسة ذكر أنَّ الرّوح من أمر الرّب ممَّا يُؤكِّد ما ذهبنا إليه سابقاً من أنَّ الرّوح هي الجانب العلمي السّنني للشّيء لأن أمر الرّب في الواقع له جانبان: الأول الجانب النّظري (العلمي والتّشريعي). والآخر حصوله في الواقع بصُورة موضوعية. وهذا واضح في قوله تعالى  ألا له الخلق والأمر  فالخلق هو الجانب المادِّي، والأمر هو الجانب المخفي الذي يحكم المادَّة، فعملية الخلق دائما مُرتبطة بالأمر. انظر قوله تعالى:  وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون  البقرة 117.
فيكون الجانب العلمي المتعلق بأمر الله هو المقصود بكلمة الرّوح كونها أتت في النّص بصيغة من أمر الرّب، وبقية أمر الرّب هو الجانب المادِّي للأمر الإلهي. فيكون المقصد من السّؤال  ويسألونك عن الروح  هو سؤال عن الجانب المخفي الذي يحكم الأحداث والأشياء، فكان الجواب أن ذلك من أمر الرّب المُرتبط بالوُجُود المادِّي، فإذا درستم هذا الجانب المادِّي تصلون إلى الرّوح التي تتحكم في حركة وبنية المادَّة، فتكتمل عندكم الصّورة للشّيء المدروس مادَّة وروحاً، وبذلك تكونون قد وصلتم إلى معرفة أمر من أوامر الرّب في الوُجُود الرّحمادي.
ونتابع استخدام النّص القرآني لكلمة (الرّوح).
قال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا  الشّورى 52.
وقال: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق  غافر 15.
الملاحظ في النّصين أن كلمة الرّوح أتت مُرتبطة بأمر الرّب، والمقصود به هو مادَّة الوحي التي نزلت على النّبي وليست هي إلا القرآن الذي جعله الله نوراً وهدى، ووصفه بالرّوح لأنه يحتوي على مجموعة الأوامر الإلهية المتعلقة بتنظيم حياة الفرد والمجتمع التي يجب على الإنسان أن يُسَيِّر نفسه بها. وكذلك يحتوي على أوامر متعلقة بالآفاق والأنفس التي تُسَيِّرُ الإنسان، حيث يصير عنده روحان. الأولى: يُسَيّر نفسه بها إيماناً واختياراً، والثّانية: تُسَيّره نظاماً. والرّوح الشّرعية منسجمة مع الرّوح الكونية ومتناغمة معها بصُورة متكاملة. فعندما يعرض الإنسان عن الالتزام بالرّوح الشّرعية يصير شاذاً في حركته ومضطرباً في نفسه لانتفاء التّناغم والانسجام مع الرّوح الكونية والاجتماعية والنّفسية التي تحكمه نظاما لأن كلا الرّوحين من أمر الرّب تبارك وتعالى.
قال تعالى:  نزل به الروح الأمين  الشّعراء 193.
وقال: يوم يقوم الروح والملائكة صفا  النّبأ 38.
وقال: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا  مريم 17.
واضح من النُّصُوص أنَّ المقصود بكلمة (الرّوح) هو الملك جبريل، ووصفه الله بالرّوح لأنه المَلَكُ الموكل بحمل أمر الرّب وتطبيقه في الواقع.
قال تعالى: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه  النّساء 171.
لقد خلق الله عيسى بن مريم من خلال إلقاء كلمته إلى مريم، وكلمة الله هي (كن) المذكورة في قوله تعالى:  و إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون  البقرة 117، وحقيقة كلمة الله في الواقع هي سنة الله في الخلق، فآدم تم خلقه بقانون، وكذلك عيسى عليه السّلام تم خلقه بقانون آخر يتناسب مع وضعه دون والد، أما كلمة (وروح منه) فالمقصد أنَّ النّبوة رافقت عملية الخلق ابتداء، فهو النّبي الوحيد الذي صار نبياً وهو في بطن أمه، وما إن ولد حتَّى كَلَّمَ النّاس وأخبرهم بنبوته، والنّبوة هي مقام علمي( )، فكلمة الرّوح مقصود بها العلم بنوعيه الكوني والشّرعي، ومن هذا الوجه يظهر لنا سبب قيام النّبي عيسى بإحياء الموتى بإذن الله (سنة الله) وإبراء الأكمه، وغير ذلك كله بإذن الله، إضافة لأوامر الله الشّرعية التي يعلمها للنّاس.

فكلمة الرّوح لا علاقة لها بالذّات الإلهية، وبالتّالي لا علاقة لها بصفة الحياة للفرق بينهما.
إذاً استخدام كلمة الرّوح في القرآن أتى متطابقاً مع دلالتها لغة وواقعاً.

 فالرّوح في القرآن هي سنن الله التي تحكم المادَّة، وهي أيضاً مجموعة الأوامر الشّرعية التي أنزلها الخالق للنّاس ليُسَيّروا أنفسهم بحسبها إيماناً واختياراً. فعندما نقول: إن هذا الإنسان روحاني. نقصد بذلك أنه يُسيّر نفسه بشرع الله، وعندما ننفي عنه صفة الرّوحانية يكون إنساناً متمرداً خارجاً عن شرع الله. وكذلك الإنسان الذي يدرس عُلُوم الآفاق والأنفس تكون دراسته روحية كونها متعلقة بالواقع الرّحمادي.

اجمالي القراءات 17138