ف 1 :خامسا : جهود البدوي فى المرحلة الأولى ( 637- 658 هجرية)
الظروف السياسية فى هذه المرحلة :
1 ـ كانت هذه الفترة صالحة للدعوة حيث كان الحكم الأيوبي يترنح فى مصر والشام بسبب التنافس بين صغار الأيوبيين علاوة على الخطر الصليبي الذى مثلته حملة لويس التاسع سنة 647، والزحف المغولي وما نتج عنه من دخول جنود الدولة الخوارزمية المنهارة للمنطقة ليزيدوا فى اضطرابها. ولأن الظروف السياسية هى المسرح الحقيقي المؤثر فى الدعوة الشيعية والذى تلعب دورها عليه كان علينا أن نفصل القول فى التيارات السياسية الداخلية والخارجية ال&EcirEcirc;ى واجهت مصر فى تلك الفترة ( 637-658) لنرى كيف استثمرها البدوي فأحسن الاستغلال .
2ـ فقبل مجىء البدوي لمصر – وأبان وجود أبى الفتح فى الأسكندرية ، كان السلطان (الكامل) الأيوبي حاكم مصر غارقا فى نزاعه مع أخيه (المعظم)عيسى صاحب دمشق ، وقد حدث أن أخاهم الثالث (الاشرف بن العادل ) واجه ضغطاً من الشرق حيث كان جلال الدين الخوارزمى يهدده فى حران، فاستجار( الأشرف) بأخيه (المعظم) صاحب دمشق فما كان من (المعظم )إلا أن اعتقل أخاه المستجير به وأرغمه على أن يتعهد له بمساعدته فى مجابهة أخيهما (الكامل) صاحب مصر، إلا أن ( الأشرف) ما كاد يفلت من يد (المعظم) حتى أكد تحالفه مع أخيه ( الكامل ) ضد ( المعظم ) فاضطر ( المعظم ) للخضوع لجلال الدين منكبرتي ليساعده ضد أخويه (الكامل) و (الأشرف) ، وفى المقابل تحالف (الكامل) مع الامبراطور فريديرك الثاني واتفق على إعطائه بيت المقدس سلما- وبيت المقدس تابع ( للمعظم ) .
وفى الوقت الذى كان فيه جلال الدين منكبرتي ( سلطان ما يعرف الآن بأفغانستان وما حولها فى آسيا الوسطى) يخيف الأيوبيين فى الشام والعراق ومصر كان يواجه من ناحية الشرق ضغط المغول أعدائه وأعداء أبيه ، وقد استطاعوا القضاء النهائي عليه وعلى دولته ، فتفرق الخوارزمية أتباع جلال الدين وجنوده فى الشام فزادوها اضطراباً وأسهموا فى حدة الخلاف بين صغار الأيوبيين المتحكمين فى المنطقة ، واشتهروا بالشدة والبأس .
ولقد آل ملك دمشق إلى ( الأشرف ) بعد موت (المعظم) وعجز ابنه عن الاحتفاظ بدمشق أمام تحالف عميه (الأشرف والكامل ) ، إلا أن العداء ما لبث أن استحكم بين (الأشرف) فى دمشق و(الكامل) فى مصر .ومنع موت (الأشرف) من نشوب الحرب بينهما ، ثم تولى (الصالح) إسماعيل دمشق سنة 635 فكون حلفا آخر ضد (الكامل) فأسرع (الكامل) وحاصر دمشق وعزل(الصالح) إسماعيل . ثم توفى (الكامل) سنة 635 وقد ترك ولدين (الصالح ) أيوب، وقد كان حاكماً بالفرات ، ومع أنه الأكبر إلا أنه لم يخلف أباه بسبب نفوذ أرملة (الكامل) أم ابنه (العادل الثانى) ، وقد تمكن (الصالح أيوب) بمساعدة الخوارزمية من الاستيلاء على دمشق، فوقع فى نزاع مع أخيه الأصغر (العادل الثاني) سلطان مصر ، واستعان كلاهما بالخوارزمية وأنصار من البيت الأيوبي . وبسبب سوء العلاقة بين (العادل الثاني) ومماليك أبيه فقد انضموا (للصالح أيوب) واعتقلوا (العادل الثاني ) واستدعوا (الصالح أيوب) فتسلطن فى مصر، ومنع الخوارزمية من الدخول لمصر، واستكثر من شراء المماليك واسكنهم فى مساكن خاصة على النيل فعرفوا بالمماليك البحرية الصالحية.
ويبقى علينا ان نتذكر هذا التسلسل التاريخى الذى أدى الى ظهور المماليك فى سياق التنازع بين صغار( بفتح الصاد ) السلاطين الآيوبيين .
3 ـ وقد وفد البدوي لمصر عام 637 وهى نفس السنة التى اعتقل فيها (العادل الثانى ) وتولى (الصالح أيوب) ، وفى هذا العام 637 استرد (الصالح إسماعيل ) دمشق، وكان (الصالح أيوب) قد طرده عنها قبلاً ، وقد استاء (الصالح إسماعيل ) من تولى غريمه (الصالح أيوب) سلطنة مصر فتحالف (الصالح إسماعيل) مع الصليبيين ضد (الصالح أيوب) فى نظير أن يعطيهم بيت المقدس ، وأن يرجع مملكة الصليبيين إلى ما كانت عليه قديما ، ولكى يبرهن على صدق نواياه بادر بالتنازل لهم عن بعض القلاع وطبرية وعسقلان وبيت المقدس..أما (الصالح أيوب) فقد تحالف مع (الناصر داود) الأيوبى فى الكرك وتمت المواجهة بين الجانبين ، (الصالح إسماعيل ) والصليبيون فى ناحية و (الصالح أيوب) و( الناصر داود) فى ناحية أخرى تؤيدهم الخوارزمية وهم الذين استطاعوا هزيمة ( الصالح إسماعيل ) وحلفائه الصليبيين ..
ثم إنشق (الناصر داود) عن (الصالح أيوب) وانضم (للصالح إسماعيل) وتكون حلف جديد بينهما يهدف للإطاحة (بالصالح أيوب) فى مصر فما كان من ( الصالح أيوب) إلا أن طلب التحالف مع الصليبيين ليواجه مؤامرات أقاربه. وكان لدى الصليبيين عرض آخر للتحالف مقدم من ( الصالح إسماعيل ) و(الناصر داود) ، وقد عرض الجانبان على الصليبيين السيطرة التامة على بيت المقدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة ، وكان ذلك عام 641 . وقد اختار الصليبيون بعد تردد التحالف مع ملكى دمشق والأردن ( الصالح إسماعيل والناصر دواد) .
ولم يجد الصالح أيوب أمامه إلا الاستعانة بالخوارزمية وقد استطاعوا تدمير الصليبيين وأعوانهم فى معركة غزة عام 642 ، وتم طرد الصالح إسماعيل من دمشق واقتطعت الجليل والأغوار من (الناصر داود )..
وكان الخوارزمية يطمعون فى أن يسمح لهم ( الصالح أيوب ) بالاستقرار فى مصر كمكافأة على صنيعهم معه إلا أنه رفض خوفاً على ملكه منهم ، فكان أن انقلب الخوارزمية على (الصالح أيوب) وانضم إليهم الصالح اسماعيل طريد دمشق و(الناصر داود ) وحاصروا دمشق إلا أن ( الصالح أيوب) تمكن بالحيلة من تشتيت الخوارزمية وهزيمتهم عام 645 ، وأعاد للدولة الأيوبية وحدتها ( القاهرة-القدس-دمشق).
إلا أنه ما كاد يستقر فى مصر حتى واجه حملة لويس التاسع 647وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وحين مات ( الصالح أيوب) أخفت زوجته شجرة الدر نبأ وفاته فأرسلت تستدعى ابنه ( توران شاه ) ، وتكاتف معها المماليك الصالحية البحرية إلى أن حضر ( توران شاه) وتم القضاء على حملة لويس التاسع .
ولكن (توران شاه) كان على شيمة أسلافه محبي التآمر ، وكان من عادة السلطان الأيوبي الجديد أن يفتتح عهده باضطهاد مماليك أبيه وتنشئة مماليك جدد يحملون إسمه ويدافعون عن حكمه ..وجاء " توران شاه " بنفس العقلية ، ولكن هذا الصنف من المماليك "الصالحية البحرية " قد أحسوا بما صنعوه من بطولات فى المنصورة وما قدموه لتوران شاه من جمائل أثناء غيابه فلم يخنعوا وقتلوه قبل أن يتم مؤامرته ضدهم ..
4ـ وقع المماليك فى حيرة ، فقد تسلطنت شجرة الدر أرملة الصالح أيوب وأم ولدهإلا أن الخيلفة العباسى والرأى العام رفض أن تتولى إمرأة حكم مصر، فاتفق على أن تتزوج شجرة الدر بأحد الكبار من المماليك. وفى هذه الأثناء تركزت زعامة المماليك بين " أيبك " زعيم مماليك القصر و" أقطاي "زعيم البحرية المقاتلة ، وكان " قطز" من أعوان " أيبك" بينما كان "بيبرس" من أعوان " أقطاي ". واحتدم النزاع بين "أقطاى " و"أيبك" وتقرب كلاهما إلى شجرة الدر لتختاره زوجا ، ووقع اختيارها أخيراً على "أيبك" خوفا من عنف "أقطاي" وشراسته . وتسلطن "أيبك " واستمرت "شجرة الدر" تحكم من وراء الستار . ولم يكن "لأقطاي" أن يسكت فأخذ أتباعه يعيثون فى الأرض فساداً ، بينما يخطب إلى نفسه أميرة أيوبية ويهدد العروسين " أيبك وشجرة الدر" بقوته وأطماعه ، وأتفق "أيبك " مع " شجرة الدر" على ضرورة اغتياله ..وتم التنفيذ بسيف "قطز" ، وهرب أعوان "أقطاي" إلى الشام والعراق وكان فى مقدمتهم "بيبرس" .
وما لبث أن دب الجفاء بين (أيبك ) و(شجرة الدر ) وعاد (أيبك ) إلى (أم على ) زوجته القديمة ، واستحكم الخلاف بينهما إلى درجة أن (ايبك ) بعث يخطب لنفسه نفس الأميرة الأيوبية التى خطبها (أقطاي ) قبلا ..وخدعت (شجرة الدر ) (أيبك ) وقتله أتباعها سنة 655.ولكن تولى الأمر أعداء (شجرة الدر ) فولوا (عليا بن أيبك ) برعاية(قطز ) وقتلت (أم على ) غريمتها (شجرة الدر ) .
ثم روع الجميع بالزحف المغولي وتدمير الخلافة العباسية وبغداد سنة 656 وتمهدت الأمور لسلطنة (قطز) 657 . وعمل (قطز ) على توحيد الجبهة المملوكية ضد المغول . فأصدر عفواً عاماً عن جميع المماليك البحرية الهاربين من اتباع ( أقطاى ) وكانوا يسهمون فى المؤامرات الأيوبية ضد السلطنة المملوكية فى مصر ، واستجاب كبارالمماليك البحرية فعادوا لمصر وشاركوا فى حرب المغول ،وكان فى مقدمتهم (بيبرس )الذى تولى قيادة المقدمة واسرع بالهجوم على المغول فى غزة ..وبعد انتصار (قطز ) فى عين جالوت لم يتركه (بيبرس ) ينعم بثمار انتصاره فقتله فى الطريق انتقاما لدوره فى اغتيال (أقطاي ) أستاذه ، وتولى (بيبرس ) السلطنة سنة 658 . 5 ـ وبدأ عهد جديد هو توطيد الدولة المملوكية ، وكان لذلك تاثيره على دعوة البدوي ، فبقدر ما استفاد البدوى وأعوانه من الفتن الأيوبية والمملوكية وحروب الصلبيين والمغول بقدر ما تقلصت حركتهم فى الفترة الثانية فترة التوطيد والاستقرار للحكم المملوكى الجديد.. وهكذا فإن الفترة الأولى التى نحن بصددها شهدت إنهيار الدولة الأيوبية وبداية قيام الدولة المملوكية ، وعادة ما يهتز الاستقرار فى انهيار الدولة الضعيفة وبداية القيام لدولة وليدة على أشلائها . فالظروف متشابهة على نحو ما ألمحنا إليه سريعا فى الظروف السياسية لمصر إبان هذه الفترة .. ومن الطبيعي أن ينجح البدوي فى إستغلال هذا (القلق) السياسى لصالح الدعوة.
سياسة البدوي فى طنطا فى هذه المرحلة:
1ـ هناك إجماع على أن البدوي وصل طنطا سنة 637 بعد عودته من العراق إلى مكة . يروى عبد الصمد عن البدوي قوله ( فلما دخلت مكة جاءني الناس وسلموا على وهنئوني بالسلامة فأقمت عند الحسن وأخواتي .. فى ألذ عيش ..فلما كانت ليلة من الليالي إذ بهاتف يقول لى فى المنام استيقظ من منامك يا نائم وسبح فى محبة الملك الدائم وسر إلى طندتا فأنك تقيم بها وتعطي وتربي بها أطفالاً يجىء منهم رجال وأى رجال ، فلما أصبحت أخبرت أخي الحسن بما رأيت تلك الليلة فقال لي : يا أحمد إمسك نفسك واكتم سرك حتى يكمل وعدك ويحل أوانك فأنا أخبر منك حتى يعاودك الهاتف ثانيا وثالثا .. فكتمت سرى ، قال الشريف حسن .. بينما كنت نائما ذات ليلة فى شهر رمضان المعظم ، وإذ بأختي فاطمة تنبهني من منامي وتقول: يا ابن والدي اعلم أن أخي أحمد قائم طول الليل وهو شاخص ببصره إلى السماء،وانقلب سواد عينيه بحمرة تتوقد كالجمر وله مدة أربعين يوما ما أكل طعاماً ولا شراباً ، فقلت لها يا فاطمة والله قرب فراق أخي ، قال سيدي أحمد وإذا بالهاتف عاودني فى المنام وقال : يا أحمد مثل أول مرة ثم عاودني ثلاث مرات وقال: قم يا همام وسر إلى طندتا ولا تشك فى المنام . فلما أصبحت أخبرت أخي حسنا بما رأيت قال لى أخي : قد انتهى الوعد فسر فى هذه الليلة ولا تخف [1])
لقد عاد البدوي من العراق وقد تعلم كيف يبدو مجذوباً ويتستر بالجذب ليخفى شأنه كداعية ، ولقد كان العصر المملوكى يتسامح مع المجاذيب ، وكانت للمجذوب حريته المطلقة فى فعل ما يريد ويتمتع مع ذلك باعتقاد الناس فيه وحدبهم عليه. وعلى ذلك فإن سياسة البدوي لها وجهان : وجه قابل به الناس وهو الجذب والجنون ، ووجه آخر عامل به المريدين وهو الحزم والدهاء ، وهى نفس سياسة الرفاعي التى تعلمها فى أم عبيدة .
سياسة البدوي مع الأجانب:
مرّ بنا أن فاطمة أخت البدوي وصفته بمظاهر الجذب حين تهيأ للسفر لمصر فقالت عنه( قائم طول الليل وهو شاخص ببصره إلى السماء ، وانقلب سواد عينيه بحمرة تتوقد كالجمر، وله مدة أربعين يوما ما أكل طعاماً ولا شراباً ) وقد حافظ البدوي على مظهر المجذوب فدخل به طنطا وأرعب بمنظره النساء فى بيت ركين الدين حين اقتحم البيت فجأة ( .. فبينما هم مجتمعون فى مثل ذلك اليوم إذ دخل عليهم سيدي أحمد البدوي ، فلما دخل عليهم تأملوه فإذا هو رجل أشعث أغبر ضارب اللثامين فصاحت النساء فى وجهه ) [2].
وانتقل البدوي للإقامة على سطح الدار (دار ركين الدين – ابن شحيط) وحرص منذ بدايته على السطح على أن يعلن جنونه على الملأ بأن يصرخ من فوق السطح ليعلم الجميع بجذبته.ويبدو أن صوته كان جهوريا أو مارس هذه العادة بإخلاص زائد فأقلق راحة الناس فى طنطا ، وهم ما تعودوا مجذوبا يدمن الصياح باستمرار وبتوقيت معين ، يبدو ذلك من قول ( الشريف حسن) وهو يتسمع أخبار أخيه البدوي من الحجاج المصريين فى مكة ( قال الشريف حسن: ثم جعلنا نسأل عنه من المسافرين والحجاج والتجار فأعطونا وصفه، فبينما نحن نتحدث بالحرم الشريف وإذا بأقوام قد أقبلوا علينا وسلموا علينا وقالوا يا أشراف عندنا رجل قرشى أقلقنا وأتعبنا من الصياح فى الليل والنهار وما عرفنا هل هو مجنون أو مفتون وما نعرف له مخبراً وهو يقول أنه شريف من أهل مكة [3]).وصار (الصياح) من مستلزمات الجذب عند البدوي ، فيقال فى ترجمته ( وأقام على سطح دار لا يفارقه ليلاً ولا نهار، وإذا عرض له الحال يصيح صياحاً متصلاً وكان يكثر من الصياح[4]) .
وإلى جانب ( الصياح) تزين البدوى بزى المجاذيب ، وقد سبق أنه دخل دار ركين الدين وهو " أشعث أغبر ضارب اللثامين"، وحافظ على هذا المظهر فكان ( إذا لبس ثوبا أو عمامة لا يخلعها لغسل ولا غيره حتى تذوب فيبدلونها له بغيرها )[5]. فهم الذين (يبدلونها له) لا هو الذى (يبدلها) .
ثم أصبح لقب المجذوب ضمن ألقاب البدوي الكثيرة فيقال فيه( هو الشيخ الصالح العارف المجذوب [6]) .
ويفتخر البدوى بتلك الصفة – التى لا يفخر بها عاقل إلا لهدف فى نفسه – يقول البدوى عن نفسه [7].
وقد وصفوني بالجنون جماعة فقلت لهم بيتا لســـــــــــــــــــــــامعه يحـلو مجانـين إلا أن سر جنـونـــــــــــــهم عجيب على أعتابهم يسجد العقل وقد صدق ، فإن العاقل إذا تستر بالجنون لهدف كبير فقد خدع بجنونه المصطنع أكثر العقلاء ، ويلاحظ أن (جذبة) البدوي لم تكن دائمة . أى يبدو مجذوبا إذا شاء وفى الوقت الذى يراه ملائماً وحينئذ يعلو صوته بالصياح أو حسب تعبيرهم ( وإذا عرض له الحال يصيح صياحاً متصلاً) . بهذه (الجذبة) التى هى طوع لإرادة صاحبها – تمكن البدوي من العبث بخصومه كيف شاء، وهو يعلم إن للمجذوب حرية كاملة فى التصرف يقرّها له المجتمع المملوكي ، من ذلك ما يروى ( إن الشيخ النحوي كان كثير الإنكار عليه، فراح إلى طندتا هو وجماعة من اصحابه الطلبة فجلسوا تحت حائط السطح الذى هو عليه ، فطلّ عليهم الشيخ أحمد البدوي وبال عليهم ، فقالوا : ما هذا البول على طلبة العلم ؟ فقال : ما يؤكل لحمه فبوله طاهر . رضى الله تعالى عنه ونفعنا به ) [8]اى انهم يعدون تبول البدوي على طلبة العلم مكرمة تعد له ومنقبة تشكر فتحمد لصاحبها.
ويبدو ان البدوي استمرأ هذا الأسلوب وتوسع فيه حتى وصل ببوله إلى المسجد وقت صلاة الجمعة والناس قيام للصلاة حين الأذان ، وذلك ليقنع بعض الأغراب القادمين لطنطا بأنه مجذوب حقاً وصدقاً.. فقد ذكر ابو المحاسن رواية مثبتة معنعنة تصف هذا الحال يقول( قال أحدهم بسنده ، ألزمنى الأمير ناصر الدين محمد بن جنكلي بن البابا بالمسير معه لزيارة الشيخ أحمد البدوي بناحية طندتا ، فوافيناه يوم الجمعة، فإذا به رجل طوال عليه ثوب جوخ غال وعمامته صوف رفيع والناس تأتيه أفواجاً منهم من يقول : يا سيدي خاطرك مع بقري ، ومنهم من يقول زرعي ، إلى أن حان وقت صلاة الجمعة فنزلنا معه إلى الجامع بطندتا ، وجلسنا فى إنتظار الصلاة فلما فرغ الخطيب من خطبة الجمعة وأقيمت الصلاة وضع الشيخ أحمد رأسه فى طوقه بعد ما قام قائماً وكشف عن عورته بحضرة الناس وبال على ثيابه وعلى حصير المسجد واستمر ورأسه فى طوق ثوبه وهو جالس حتى انقضت الصلاة ولم يصل [9]).
فقد سافر لزيارة البدوي أمير مملوكى وتابع له – هو الرواى - ورأيا أفواج الناس تأتي للبدوي متوسلة به من دون الله ، ثم حان وقت الصلاة للجمعة فنزلا معه للجامع ، وكانت فرصة للبدوي ليقنع زائريه بأن ( جذبته) لا تعرف الحدود أو القيود فانتظر وقت القيام للصلاة وقد تجهز ببوله ففاض به على نفسه والمصلين ..! وحسابه عند ربه .
لقد أفلح البدوي فى استغلال ( الجذب) سياسياً فخدع به الجميع فسلموا له بحاله، وهو فى نفس الوقت ينظم أمور مملكته السرية خطوة خطوة بترتيب وتنظيم ينم عن دهاء عظيم.
ومن ذلك موقفه من صوفية (طنطا) وسياسته لاتباعه.
سياسة البدوي مع الصوفية الآخرين فى طنطا :
كان أول خطوة قام بها البدوي هى تطهير (طنطا) من أى نشاط صوفي وجعلها مملكة خالصة له ليأمن على نفسه ما درج عليه الصوفية العاديون من تنافس وتناحر ووقيعة ، وهو يريد تفرغاً لمهمته وهدوءاً لا يبدده إلا صياحه المؤذن بجذبته حين يريد ذلك ..
ثم إن الشيعة على حذر تام من التسلل إلى صفوفهم عبر التصوف فهم أحرص على أن يكون التصوف فى طنطا من صنع أيديهم حتى يظل بمنأى عن محاولات التسلل والكيد .
ومع الأسف فإن جهود البدوي فى تطهير طنطا من الصوفية الآخرين يشوبها الكثير من التشويش المتعمد ، فالروايات لم تطلعنا إلا على نتيجة هذه الجهود وكيف أنها آتت أكلها فانصاع فريق من الصوفية للقادم الجديد وفريق آخر رحل وفريق قاوم فانهزم فى مكانه.
يقول الشعراني ( كان فى طندتا سيدي الحسن الصائغ الأخنائي وسيدي سالم المغربي ، فلما قرب سيدي أحمد من مصر أول مجيئه من العراق قال سيدي حسن : ما بقى لنا إقامة صاحب البلاد قد جاء، فخرج إلى ناحية أخنا وضريحه بها مشهور إلى الآن ، ومكث سيدي سالم فسلم لسيدي احمد ولم يتعرض له ، فأقامه سيدي أحمد وقبره فى طندتا مشهور . وأنكر عليه بعضهم فسلب وانطفى إسمه وذكره ، ومنهم صاحب الايوان العظيم بطندتا المسمى بوجه القمر ، كان والياً عظيما فثار عنده الحسد ، ولم يسلم الأمر لقدرة الله تعالى فسلب ، وموضعه الآن بطندتا مأوى الكلاب ، ليس فيه رائحة صلاح ولا مدد. وكان الخطباء بطندتا انتصروا له وعملوا له وقتاً – أى مولداً- وأنفقوا عليه أموالاً وبنوا لزاويته مأذنة عظيمة فرفسها سيدى عبد العال برجله فغارت إلى وقتنا هذا[10]) .
وبالتمعن فى النص يظهر لنا أن الصوفية كانوا على ثلاثة أقسام ، قسم يمثله سالم المغربى وهو المبشر بمجىء البدوي والذى جهز إقامته فى دار ركين الدين ومن الطبيعى أن يصير تابعا للبدوي فهم شركاء فى الدعوة .. وقسم آخر يمثله حسن الصائغ الأخنائي وهو من الصوفية ( الكلاسيكين ) سرعان ما سلم بالهزيمة فرحل عن طنطا وعد ذلك من مناقبه بالمقارنة إلى من قاوم فى طنطا وتعب وأتعب ، وأصابته الأساطير فى مقتل حين أنكر على البدوي كالشيخ وجه القمر.
ويبدو ذلك من حديث الشعراني عن " وجه القمر" أنه كان صوفيا عالى الشأن يتمتع بالخطوة عند الجماهير والفقهاء فأقاموا له ( إيواناً عظيماً ) وعمل له الفقهاء فى طنطا مولداً وزاوية بمئذنة ، ويتمتع أيضا برضى السلطات حتى ليوصف بأنه ( كان والياً عظيماً) . ويكفى ذلك لنتبين النفور بين الجانبين ، وما كان ( لوجه القمر) أن يصمد فى وجه البدوي صاحب الدعوة السرية والاتباع المنتشرين ، ومهما كان (لوجه القمر) من أتباع وإيوان وزاوية ومئذنة فإن ذلك جميعه لن يغني عنه شيئا أمام داهية يصطنع الجذب والجنون وهو يجمع الأتباع ويحكم الخطط، ولو كان البدوي مجرد مجذوب مجنون لما انهزم أمامه صوفية طنطا أحياءاً وأمواتاً.
ويذكر عبد الصمد ( أن سيدي أحمد البدوي لما دخل طندتا أتت المشايخ إليه ونظروا أحواله وسألوا منه الدعاء ، فأتاه الشيخ عبد الحليم المدفون فى ناحية كوم النجار وقال له : شىء لله تعالى ؟ فقال : إن الله تعالى قد جعل فى ذريتك الخير والبركة ، ثم أتاه الشيخ عبد السلام القليبي فقال له : شىء لله ؟ فقال السيد : قد جعل الله تعالى لك الشهرة بالولاية والفلاح إلى يوم القيامة عند الأمراء والملوك وغيرهم . ثم جاء سيدى عبد الله البلتاجي فقال: شىء لله تعالى ؟ فقال : قد جعل الله تعالى لك كل يوم حاجة تقضى إلى يوم القيامة ثم جاء جماعة من مشايخ الغربية فقالوا : شىء لله تعالى ؟ فقال: عليكم الطمس والخفاء إلى يوم القيامة فلم يشتهر واحد منهم[11].).
وفى هذا النص موقفان متناقضان للبدوي ، فهو مع رفاق الدعوة كريم معطاء كما فعل مع عبد الحليم والقليبي والبلتاجي ، وهم من مدرسة أبى الفتح الواسطي ، ثم نجد البدوي عنيفا مع الصوفية الغرباء مع أن الجميع أتوا إليه من خارج طنطا يطلبون – بزعمهم – المدد . والشأن فى الصوفي العادي أن يرحب بالجميع من الأشياخ طالما أتوا إليه مذعنين منقادين ، أما صاحبنا صاحب الدعوة السرية فلا يأمن إلا لمن يثق فيه أو يربيه على يديه وينشئه على طريقته وسياسته .
سياسة البدوي لأتباعه:
فى الدعوات الصوفية الشيعية السرية يتدرج المريد إلى درجات وتختلف السياسة معه فى كل درجة يعلوها ، وقد مر بنا أن ابن مرزوق القرشي فى العصر الفاطمي رفض أن يبوح بأسراره كلها للأربعة الكبار من أتباعه[12]، فكلما حظى المريد بدرجة حظى معها بأسرار ومسئولية ثم هو فى نهاية الأمر لن يصل إلى جميع الأسرار التى يضمها الشيخ الأكبر فى جوانح صدره . وقد كان الرفاعي يتحرز فى حديثه مع مريديه الأقربين ( فما مزح ولا مازحه احد وما كان يتكلم بغير سبب [13]).
وعلى هذا النسق جرت سياسة البدوي مع أخلص مريديه ، وقد استخلصهم من اتباعه الكثيرين الذين اعتقدوا فيه كمجرد شيخ صوفي مجذوب ، يقول الشيخ مصطفى عبدالرازق عن البدوي ( كان من دهائه لا يقابل رجلين معا بل كان يقابل كل رجل على حده حتى اكتمل عدد تلاميذه أربعين ، وهم السطوحية أى الذين تلقوا العهد على يده على سطح دار ابن شحيط . وانتشر هؤلاء الأربعون فى انحاء الديار المصرية يبشرون بتعاليم شيخهم احمد البدوي . وهنا اختصر المقال فأؤكد انه لم تكن ثمة دعاية لغير السياسة تحت ستار الدين ، ولم يكن اصحاب البدوى من الغفلة بحيث لا يعلمون حقيقة نياته [14]).
وأقول إن دهاء البدوي فى مقابلته لكل واحد منهم على حدة جعله يحكم على كل منهم بالحكم الصائب ويعطيه رتبته بين أقرانه وبالتالي درجته فى معرفة بعض الأسرار وتحمل المسئولية فى المكان الذى يتحدد له سلفاً.
ويتضح من بعض الإشارات أن البدوي كان عظيم التأثير على أتباعه لا يمكنهم مخالفته ، يقول فيه المناوي ( كان إذا أمر أحداً من أصحابه بالإقامة فى مكان لا يمكنه مخالفته) [15]ويقول الخفاجي ( كان عبد العال يأتى للبدوي بالذى يبول فى ثيايه فينظر إلى ذلك الشخص نظرة واحدة فيملؤه مدداً ، ثم يقول لعبد العال إرسله إلى البلاد الفلانية فيكون بها مقامه إلى أن يموت [16]) ويقول الحلبى ( كان عبد العال يأتيه بالرجل يبول فى ثيابه فينظر إليه فيملؤه مددا ويبعثه إلى إحدى النواحي[17]) ويقول الشعراني (وكان سيدى عبدالعال يأتى إليه الرجل أو الطفل فيطاطي من السطوح فينظر إليه نظرة واحدة فيملؤه مدداً ويقول لعبدالعال إذهب به إلى بلد كذا أو موضع كذا فكانوا يسمونه أصحاب السطح )[18].
ومن الطبيعيي أن تصور كتب المناقب قوة الشخصية لدى البدوي وتأثيره فى أتباعه بأن نظرة واحدة منه للمريد تكفي لقلب حياته رأساً على عقب فيصير أطوع للبدوي من بنانه .. وقبلا قالوا عن الرفاعى ( وإذا استدعى أحدا يمشي إليه الأمر فكان يتقيد ذلك الواحد بالشيخ من ساعته[19]).
وكان البدوي إذا شك فى بعض أتباعه يسارع بالتخلص منه بسهولة لتصبح كرامة يتناقلها الأتباع فيما بعد كما حدث فى كائنة عبدالمجيد .
واقعة عبدالمجيد:
وعبدالمجيد هذا كان من أوائل السطوحية وشقيقاً لعبد العال زعيم السطوحية ، يقول فيه عبدالصمد ( نشأ هو وأخوه فى ناحية فيشا المنارة.. وأما الشيخ عبدالمجيد فكان يتردد على سيدى أحمد البدوي مدة طويلة وتأدب بآدابه وعرف إشارته ، وكان لا ينام الليل تبعا لسيدي أحمد البدوي ، فاشتاق يوماً إلى رؤية وجه سيدى البدوي ، وكان سيدى أحمد دائما متلثما بلثامين، لا ترى الناس منه سوى عينيه. فقال له عبدالمجيد : يا سيدي أرنى وجهك انظر إليه، فقال له : يا عبدالمجيد كل نظرة برجل .! فقال: رضيت .! فكشف له سيدي أحمد اللثامين ، فرآه فخر ميتا..! ) [20].
واللثام ينبىء عن الأسرار التى يحتفظ بها البدوي كداعية سرّى ، له أسراره الخاصة التى لا يعلمها غيره من أتباعه.وقد تميز البدوى بلثامين عن غيره ممن تلثم بلثام واحد كأبي العباس الملثم ومنصور البطائحي الملثم وغيرهما. وتلثم البدوي بلثامين دليل على عظم الأسرار التى يسترها ، وقد صاغ أتباع البدوي المتأخرون فى القرن العاشر سيرته فى صورة رمزية أقرب للخيال منها للحقيقة ، ثم جعلوا من اللثام رمزا لأسراره التى دفنت معه ، وقالوا إن اللثام كان يخفي عن الناس وجهه مع أن وجه البدوى كان معروفاً وصفه الشعراني بقوله ( كان كبير الوجه أكحل العينين قمحي اللون، وكان فى وجهه ثلاث نقط من أثر جدري فى خده الأيمن واحدة وفى الأيسر ثنتان ، أقنى الأنف ، على أنفه شامتان ، من كل ناحية شامة .. إلخ ) [21].
وصاغوا مقتل عبد المجيد الغامض بأنه صعق حين كشف البدوي له اللثامين فرأى وجهه الحقيقى ، وإذا عرفنا أن وجه البدوى كان معروفاً مألوفاً موصوفاً تيقنا أن المقصود باللثام هو السر الذى يخيفه البدوي وقد اطلع عبدالمجيد على بعضه ورأى البدوي فى تصرفاته مالا يطمئن إليه ، وإذا أدركنا أن الاطلاع على السر مسئولية عظيمة يتحملها المريد عرفنا أن الموت جزاء عادى للمريد إذا قصر فى حمل المسئولية أو ظهر منه ما ينبىء عن الشك فيه .
وقد تميز عبدالمجيد عن غيره من أوائل السطوحين بالتردد على البدوي كثيراً أثناء وقوفه على السطح وبأنه:( صحب سيدي أحمد البدوي مدة طويلة وتأدب بآدابه وعرف إشاراته وكان لا ينام الليل تبعاً لسيدي أحمد البدوي ) ، فهذا التلازم على السطح ليل نهار ، وتلك الصحبة الطويلة والمعرفة بآدابه وإشاراته ورموزه كل ذلك ينبىء عن أن عبدالمجيد عرف شيئا لا يسمح البدوي لأحد أن يعرفه أو خشى البدوي من طموحه لمعرفة المزيد أو شك فى نياته أو طموحه ، وكان أن تخلص منه بالقتل ، وتحولت المؤامرة إلى أسطورة حبكت على مثال قصة موسى عليه السلام حين طلب من الله تعالى أن ينظر إليه (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً.. الأعراف143.
ويلاحظ أن عبدالعال شقيق عبدالمجيد – كان شديد الصرامة مع الأتباع ومع ذلك فلم يظهر منه ما يفيد احتجاجاً على نهاية أخيه الغامضة، مما ينبىء عن قوة الأدلة فى إتهام عبدالمجيد ..
ويعزز ذلك أن عبد العال كان يتولى عن البدوي وبإشاراته تسيير البعوث إلى الأقاليم والبلاد . وقد ذكر أن عبدالمجيد كان مبعوثاً إلى فيشا مع محمد بطالة فى رواية الخفاجى [22]، بينما ذكر عبدالصمد [23]إن المبعوث إلى فيشا كان محمد بطاله وحده ، ومعنى ذلك أن عبدالمجيد قد لقى حتفه فى بعثته فى فيشا مع محمد بطاله ، الذى يعتقد –على هذا – أن له – أى بطاله – يدا فى الدس على عبدالمجيد عند عبد العال والبدوي مما أدى إلى مقتله بموافقة عبد العال أخيه ، وانفرد بطاله بعد عبدالمجيد بالنيابة فى فيشا واستمر منفردا فى نيابته حتى ذكره عبدالصمد كالمبعوث الوحيد فى فيشا.
ولأن فيشا موطن عبدالمجيد وعبدالعال فلابد أن تكثر الأقاويل عن عبدالمجيد فى نهايته الغامضة ، لذا ذكرت بعض الروايات [24]التى تؤخر موت عبدالمجيد إلى ما بعد موت البدوى لعلها تنفى الأولى وترفع الشك ، ومع ذلك تبقى نهاية عبدالمجيد الغامضة دليلاً على دهاء البدوي فى دعوته السرية.
بعوث البدوي :
سار على طريقة الرفاعي فى إرسال البعوث إلى القاهرة والمدن الرئيسية داخل مصر وخارجها ، وقد أوردت كتب المناقب ثبتا ببعوث البدوي ، فقد أرسل البدوي الشيخ قمر الدين إلى نفيا ، والشيخ وهيب إلى برشوم ، والشيخ يوسف الإنبابي إلى إنبابه والمعلوف إلى القليوبية ورمضان الأشعث إلى منف وعمر الشناوى إلى شنوى ، وابو جنينه أرسل إلى بركة القرع بمصر والشيخ خلف إلى عموم القاهرة ومصر والشيخ يوسف البرلسي إلى البرلس ، والشيخ على البعلبكي إلى بعلبك والشيخ سعدون إلى بلبيس وخليل الشامي إلى الشام ، وخلف الحبشى إلى منية حبيش ناحية نفيا وعلى الكيرواني إلى اليمن وابن علوان إلى تعز والشيخ عوسج إلى زبيد وسعد التكروري إلى حوران والشيخ نعمة إلى صفد وعبدالله اليوناني إلى بعلبك وعز الدين الموصلي إلى الموصل ومحمد بطاله إلى فيشه المنارة واحمد الأباريقي إلى روضة المقياس والشيخ بشير إلى مكة والشيخ بشير المدفون بدرب السد إلى مصر..إلخ ( وهؤلاء جميعهم أصحاب السطح [25]) وهم أربعون ..
ونضع بعض الملاحظات على بعوث البدوي لنتبين منها سياسته:
- إن أولئك المبعوثين كانوا دائمين، يظل أحدهم فى البلد الذى أرسل إليها حتى يموت ، فكان يقول لعبدالعال ( إرسله إلى البلد الفلانية فيكون بها مقامه إلى أن يموت[26]) وهى نفس السياسة التى سارت عليها الدعوة الشيعية ، والرفاعي أبرز من طبق ذلك على نفسه وأتباعه ، والبدوي أيضا طبقها على نفسه فأقام بطنطا إلى أن مات ، وأقام أتباعه بالبلاد التى أرسلوا إليها حتى اكتسبوا لقب البلد التى يعيشون فيها ونسبوا إليها مثل يوسف الإنبابي فى إنبابة وعمر الشناوى فى شنوى ويوسف البرلسى فى البرلس وعلى البعلبكى فى بعلبك ، وهكذا .
ومعنى هذا أن المبعوث الصوفى كان يهب حياته كلها فى سبيل الهدف الذى يعمل الشيعة له على مهل، ثم إن وجود المبعوث الصوفي فى بلد معين طول حياته يزيد فى أتباعه ونفوذه وذلك كسب للدعوة.
- لم يقتصر الدعاة على تغطية مصر وحدها بل وجه بعضهم للشام مثل سعد التكرورى فى حوران والشيخ نعمة فى صفد وعبد الله اليوناني فى بعلبك وعز الدين الموصلي فى الموصل والكيرواني وابن علوان وعوسج فى اليمن وبشير فى مكة.
وفى هذا دليل على تشعب الدعوة ودقة الاتصال فيما بين فروعها فى نطاق مصر والشام والحجاز واليمن ، وفيها دليل على دهاء البدوي ذلك الذى يتستر بالجنون وفى نفس الوقت يحدد المكان مسبقاً للداعية من لدنه ويرسله إليها فلا يستطيع مخالفته، ثم يزرع مصر وخارجها بدعاته.
- ثم هناك دقة فى التنظيم ونوع من توزيع المهام نلمحه فى إيفاد أكثر من مبعوث لقطر بعينه، ففى الشام أرسل علياً البعلبكى وخليلاً الشامى ونعمه الصفدي وعبد الله اليوناني البعلبكي وعز الدين الموصلي ، وقد توزع أولئك فى المدن الرئيسية فى الشام .. ولا ريب أن أحدهم تزعم الباقين ، وأظنه خليل الشامى لما يبدو من صلته بنائب الشام فى عهده كما تشير إلى ذلك كتب المناقب[27].
وفى اليمن أرسل ابن علوان إلى تعز وعوسج إلى زبيد ، ويبدو أن رأسهم فيها كان علياً الكيرواني وقد أرسل لليمن كلها دون تعيين ببلد بعينه .
وفى القاهرة ومصر ( أى القاهرة الكبرى الآن بضواحيها ) توزع أتباع البدوى من السطوحية داخلها وحولها ، فالشيخ شعيب بالقرب من باب البحر خارج السور وبشير الحبشي بدرب البيدي وعماد الدين قرب بركة الناصرية والأباريقي فى الروضة – المقياس- وأبو جنينه بالقرب من بركة القرع ويوسف الإنبابي فى إنبابه ، ورأسهم جميعا كان الشيخ خلف ، قال فيه عبد الصمد ( كان سيدي أحمد يقول له يا خلف أنت خليفتنا فى مصر ، وكان لا يضع جنبه الأرض ليلاًولا نهاراً[28]).
- وواضح أنه أمر قد أعد قبل مجىء البدوي بذكاء وحذر . وإلا فبما نفسر توافد الدعاة للبدوي فى قرية مجهولة هى( طنتدا) وقد أتوا إليه من الشام ومكة واليمن وأصبحوا من أوائل دعاته من أصحاب السطح وفى بداية عهده؟؟ العقل يؤكد وجود اتفاق مسبق وتنسيق على مستوى عال من الدقة ، والمصادر الصوفية تلمح إلى ذلك فتقول عن عوسج اليمني ( هو من أصحاب السطح ، وكان ورد على مصر فزار سيدي أحمد بطنتدا وهو على السطح فأشارعليه بالرجوع إلى زبيد وقال: أقم هناك تذكر من يزور ليلي وما بقى بيننا اجتماع [29]) .
ويقول عن عز الدين الموصلي (وكان أصله نائبا فى طرابلس فهاجر إلى سيدي أحمد لما كان بالعراق فصحبه وخرج عن الدنيا وكان من أوائل أصحاب سيدى أحمد ، مات بالموصل [30]) ومعنى ذلك أن البدوي فى رحلته للعراق لم ينشغل بفاطمة بنت بري كما تدعي كتب المناقب وإنما كان على اتصال بالدعاة استمر بعد عودته من العراق إلى مكة ثم بعد وصوله إلى طنطا فوفد إليه بعضهم وصار من أهل السطح ثم عاد لبلاده مبعوثا ..
ومن أولئك كان أحمد بن علوان اليمني ، ويقول عنه عبد الصمد ( من أصحاب سيدي أحمد بمكة أوائل جذبه قبل خروجه إلى بلاد العراق[31]) ويقول عنه صاحب طبقات الرفاعية ( أحمد ابن علوان أخذ عن السيد البدوي وعن السيد أحمد الصياد ، ولكل صلة [32]) أى أن ابن علوان كان من مدرسة عز الدين الصياد بمكة مع البدوي ، وحين هاجر البدوي إلى طنطا لحق به ابن علوان تنفيذاً لأوامر عز الدين الصياد الذى كان يمسك بالخيوط كلها فى يده فأرسله البدوي مبعوثاً للدعوة فى تعز.
5ـ وكان البدوي على اتصال مستمر بأولئك الدعاة المقيمين طول حياتهم فى تلك الجهات .. وإلى جانب مناسبة الحج حيث يتم اللقاء بدون رقيب كانت للبدوي وسائله فى الاتصال المستمر بأتباعه الموزعين فى مصر.. من ذلك أنه كلف الشيخ علياً ( البريدى) بمهمة الاتصال كما يدل على ذلك لقبه ، ولم يرد فى ترجمته إلا ما يؤكد أنه ظل إلى جانب البدوي فى طنطا طوع أمره حتى دفن فى مقابله [33].
ثم كان للبدوي عيونه على أصحابه المبعوثين يأتونه بأخبارهم ويتعرف على خباياهم وإذا نمى إليه شك فى أحدهم بادر بعزله كما فعل مع يوسف الإنبابى بوشاية الشيخ أبى طرطور .. يقول الشعراني فى ترجمة أبى طرطور أن البدوي أقامه(تجاه إنبابه فى البرية ) أى فى مقابل إنبابه فيما يلى الصحراء ، ويقول عن يوسف الإنبابي فى نفس الصفحة ( فأما سيدي يوسف فاقبلت عليه الأمراء والأكابر من أهل مصر وصار سماطه فى الأطعمة لا يقدر عليه غالب الأمراء فقال الشيخ أبو طرطور يوما لأصحابه اذهبوا بنا إلى أخينا يوسف ننظر حاله ، فمضوا إليه فقال لهم : كلوا من هذه الماوردية واغسلوا الغش الذى فى بطونكم من العدس والبسلة لسيدى أحمد، فغضب الشيخ أبو طرطور من ذلك الكلام وقال ما هو إلا كذا يا يوسف فقال: هذه مباسطة فقال أبو طرطور : ما هو إلا محاربة بالسهام ، فمضى أبو طرطور إلى سيدي عبد العال وأخبره بالخبر فقال لا تتشوش يا أبو طرطور نزعنا ما كان معه وأطفأنا اسمه وجعلنا الاسم لولده اسماعيل ، فمن ذلك اليوم انطفأ اسم سيدى يوسف إلى يومنا هذا وأجرى الله على يدى سيدى اسماعيل الكرامات وكلمته البهائم . وأنكر عليه شخص من علماء المالكية وأفتى بتعزيزه [34]).
وتحاول رواية الشعراني أن تموه وتوحي بأن عزل يوسف الإنبابي كان لمجرد كلمة قالها مباسطة حول الطعام ، ولكن ما يرد فى ثناياها يثبت أن الأمر أخطر بكثير من مجرد كلمة قيلت ، أنه أمر يختص بالولاء ، الولاء للبدوي ، ويلاحظ أن يوسف الإنبابى كما يقول الشعراني ( اقبلت عليه الأمراء والأكابر من أهل مصر وصار سماطه فى الأطعمة لا يقدر عليه غالب الأمراء ) وهذا الوضع الجديد أثار انتباه أبى طرطور القائم فى اتجاهه من الناحية الأخرى فقال لأصحابه ( اذهبوا بنا إلى أخينا يوسف ننظر حاله) ونظر أبو طرطور على الطبيعة فلم يجد إلا ولاء مفقوداً فسعى لعبدالعال- القائد العام لقوات البدوى – فأصدر أمره بعزل يوسف الإنبابي وتولية ابنه مكانه ، ولم تغن عن يوسف جموعه وأتباعه من الأمراء والأكابر ، وما كان له أن يحتج فإبنه مخلص للبدوي ولا يستطيع أن يفعل ما يضر به، وليس غريبا بعد ذلك أن يختلف الحال مع اسماعيل الإنبابي بالمقارنة بأبيه فبينما توافد الأمراء والأكابر على أبيه يوسف فأن حظه – وهو المخلص للبدوي – أن أنكر عليه عالم مالكي وأفتى بتعزيره وتقوم الكرامات – كالعهد بها – بمعاقبة الفقيه المالكي والتشويش على اتهام إسماعيل الإنبابي ، ثم أن اختيار اسماعيل بعد عزل أبيه يدل على سابق صلة وطيدة بين اسماعيل وأساطين الدعوة فى طنطا جعلتهم يتأكدون من ولائه الزائد ويعينونه مكان أبيه ، ورضى الابن بهذا الوضع دليل على عمق تلك الصلة برغم أنف أبيه.
6ـ وكما لوحظ فى ترجمة اسماعيل الإنبابي المخلص للبدوي فإن اضطهاد السلطات الحاكمة لمبعوثى البدوي كان السمة الظاهرة فى تراجمهم – وتقوم الكرامات بالانتقام منهم على صفحات كتب المناقب ، وتفعل كتابة ما كان أتباع البدوي يتمنونه فى أحلام اليقظة ولا يستطيعون ، وغالبا ما يوصف الحكام بصفات الظلم ويقوم أصحابنا بمعاقبتهم إذا ما تعرضوا لصاحب الترجمة أو لأتباعه.
من ذلك ما ورد فى ترجمة الشيخ وهيب المبعوث إلى برشوم قليوبية يقال فيه (وله كرامات كثيرة وإذ وقع أن أحداً من الظلمة أو الأعداء أراد أن يكبس البلد تأتى الناس بأمتعتهم وحلى النساء والأموال فيضعونها فى قبته فلا يقدر أحد أن يدخلها من الظلمة وإن أراد أن يدخلها يبست أعضاؤه ) [35].
وكان رمضان الأشعث المدفون فى منف يرسل عكازه إلى الكاشف مع المظلوم فيقضى حاجته، فردّ الكاشف شفاعته مرة فطلعت له غدة فى رقبته فمات فى الحال[36] ، ومثله الشيخ الشيشيني الذى نفخ فى الكاشف فقلبه فى الهواء [37]، وكان كاشف بلبيس يرتعد فرقاً من الشيخ سعدون مبعوث البدوي فيها [38]وكانت للشيخ خليل الشامي كرامات كثيرة مع نائب الشام جعلته ينجذب ويتبعه تاركا الإمارة [39]، وغير ذلك [40]
7ـ وكان من أصحاب البدوي السطوحيين يدققون فى اختيار المريدين متابعة منهم لشيخهم ، وتلمح إلى ذلك أقوال الشعراني فى الشيخ عبدالوهاب الجوهري المدفون بناحية الجوهرية ،"وكان من أجل أصحاب البدوي" ، (وكان يأخذ العهد على المريدين .. وكان كل من أراد أن يأخذ العهد يقول له : خذ هذا الوتد ودقه فى الحائط داخل الخلوة فان ثبت فى الحائط أخذ العهد وإن خار ولم يثبت قال له : اذهب إلى حال سبيلك [41]. هذا وإلى جانب المبعوثين ابقى البدوي الى جانبه طائفة من الأتباع اختص كل منهم بوظيفة معينة اكتسب لقبها مثل الشيخ على البريدي رسول البدوي إلى بعوثه واصحابه ، والشيخ عبدالعظيم الراعي (كان يرعى بهائم سيدى احمد وغنمه[42]) و(الشيخ محمد الفران الذى كان يخبز لسيدى احمد [43])و(محمد الكناس شيخ الكناسية الذين يكنسون المقام كل سنة فى المولد وكان سيدى احمد يحبه محبة شديدة[44]) ومعنى ذلك ان البدوي الذى جاء طنطا منذ قليل لا يملك شيئا أصبح يتحكم فى مملكة ثرية بقطعان الماشية والأغنام وتحوز كثيرا من الدور والزوايا للواردين من الضيفان ويقوم على رعاية هذه المملكة ثلاثة من السطوحية هم عبدالعظيم الراعي ومحمد الكناس ومحمد الفران .
ثم هى مملكة غنية بقطيع من الأتباع الواردين لطنطا كل منهم يتوسل بالبدوي ليرعى ولده أو ماشيته أويبارك زرعه .. ثم مملكة سرية بأتباع منتشرين فى المنطقة داخل وخارج مصر موزعين بانتظام دقيق والاتصال بينهم مستمر بمركز الدعوة السرى فى طنطا .. ويقوم على إدارة هذه المملكة السرية والعلنية عبدالعال اليد اليمنى للبدوي وخليفته الحازم الصارم ويعاونه (وزراء) اختص كل منهم بوظيفة محددة كالبريدى والراعى والكناس والفران ...
تلكم هى مملكة البدوي ، ذلك المتستر بالجنون والجذب والصياح والتبول على الناس جهاراً ..
بقى ان نقول ان مملكة البدوي كانت على اتصال مستمر بأعوانه وشركائه من المدرسة الواسطية ، ومرّ بنا أن البدوى كان يرسل زعيم أتباعه عبدالعال إلى المليجي، وكان القليبي والبلتاجي يزوران البدوي فى طنطا ، كما كان الدريني على اتصال مستمر بهم وبالبدوي بحكم مقامه بالريف وتنقله فى البلاد .
ثم كانت للبدوي اتصلاته بأخيه الحسن فى مكة ، وقد ذكرنا أن الشيخ بشير كان مبعوث البدوى الدائم فى مكة ، وقد ورد فى الجواهر السنية لعبدالصمد أن الحسن كان يتسمع اخبار البدوي فى العام الأول لرحيله إلى طنطا وأن بعض الحجاج من طنطا قد أتوا إليه وعرفوه بأخيه وصياحه المزعج ، وفى الجواهر السنية اتصالات غامضة بين الحسن وأخيه البدوي ثم بين البدوى وابن أخيه الحسن بعد موت الحسن وتتخلل تلك الاتصالات دعاوى الكرامات وطي الأرض فى خطوات [45].. والمهم إن الإتصال بين البدوي ومكة المركز الرئيسى للدعوة لم ينقطع وإنما تجدد بتجدد الحج كل عام ، وكان أولو الأمر فى مكة على علم بكل تحركات البدوى وخططه .
البدوي وانهيار الأيوبيين :
ظل البدوى مقيما على السطح اثنتى عشرة سنة يقوم خلالها بعملين متناقضين الأول :يوجه إذاعة مستمرة من الصياح والصراخ والموسيقى المزعجة ليقنع الناس بجذبته وجنونه ، وفى نفس الوقت يسير البعوث الدائمة ويحكم الخطط للدعوة ويعاونه عبدالعال فى التنفيذ .. يقول الشعرانى ( فلم يزل سيدي أحمد على السطوح مدة اثنتى عشرة سنة وكان سيدى عبدالعال يأتى اليه بالرجل أو الطفل فيطاطي رأسه من السطوح فينظر اليه نظرة واحدة فيملأه مددا ويقول لعبدالعال : اذهب به الى بلد كذا أو موضع كذا فكانوا يسمونه اصحاب السطح [46]).
وبعد اثنتى عشرة سنة نزل البدوى من على السطح وسكتت الأذاعة المحلية فى طنطا عن الصراخ والصياح..فما الذى حدا بالبدوى لقطع مرحلة السطح ؟؟..
تسكت المصادر الصوفية عن رصد تحركات البدوى بعد فترة السطح ..
ولا يجد المؤرخ أمامه من سبيل إلا تلمس وقائع التاريخ ليربط بين الحوادث ويكمل النقص ليعلل انتهاء فترة السطح وبداية مرحلة جديدة فى الدعوة – لا ندرى مع الأسف الشديد – حقيقة الجهد المبذول فيها ..
نقول : ربما أنهى البدوى خطته كاملة فأتم زرع الدعاة فى مصر وخارجها وأتم سيطرته على طنطا وأصبح أعوانه متحكمين فيها يرصدون كل غريب ويتشممون كل خبر .. وإذن فلا داعى للادعاء بالجنون جذبا وصياحا ليقتنع من فى طنطا ، وصار عليه أن يتجول فى مملكته بحرية ينتظر الأخبار ويرسل الرسل ويحكم الخطط ويقابل الأتباع فى نفس الوقت الذى حافظ فيه على مظهر التصوف والجذب فى مقابلته لقطيع البشر الذى يفد الى طنطا متبركا متوسلا..
ويؤيد ذلك أن طنطا أصبحت مأوى لمريدى البدوى من جميع الأنحاء حتى من القاهرة كما ورد فى النص الذى اوردناه عن الأمير جنكلي بن البابا الذى زار البدوي وفوجئ به يتبول فى المسجد حين الصلاة للجمعة ، ويؤيد ذلك أن مملكة البدوي أصبحت تضم متخصصين من بين السطوحية فى التراسل ورعى البهائم وإعداد الطعام والكنس والتنظيف .
ولكن انتهاء فترة السطح فجأة بعد اثنتى عشرة سنة بالتمام لا يكفى فى تعليلها أن الدعوة انتشرت فى طنطا وخارجها , فالشأن فى الدعوة ان تبدأ فى الازدهار التدريجي بعد سنوات قلائل وإذا بدأت فى النمو فنموها مضطرد طالما تسير وفق مخطط متكامل ناجح وحينئذ يصبح من الجائز أن يستمر البدوي على السطح أو ينزل إلى السفح دون تعيين بمدة . فالمنطق يرجح أن يكون هناك حدث ما شجع البدوي على النزول من على سطحه ومباشرة الأمر بنفسه ، ولأن المصادر الصوفية لا تسعفنا بجهود البدوي بعيد فترة السطح فإننا نلجأ لمصادر التاريخ لتشفى الغليل .
لقد دخل البدوي طنطا سنة 637 فاعتلى السطح وظل يصرخ ويخطط اثنتى عشرة سنة ثم انقطع الصراخ فجأة سنة 649 وبدأ عهد جديد من التخطيط فى هدوء ودون ضجيج أو صريخ . والتاريخ يقول أن المدة ما بين 648 :649 شهدت أحداثاً هائلة من تاريخ مصر والمنطقة .. فقد شهدت هذه الفترة بدأ الحملة الصليبية التى قادها القديس لويس التاسع واستولى فيها على دمياط ثم زحف جنوباً حتى وصل الى البحر الصغير وزحف السلطان الأيوبي الصالح أيوب من القاهرة الى موقع مدينة المنصورة – وأشرف على مواجهة الحملة الصليبية .
وفى خضم المناوشات بين الجانبين مات الصالح ايوب – وكان يعانى من مرض الصدر – فتولت محظيته شجرة الدر تدبير الأمور وبعثت فى طلب ولي العهد توران شاه واستمر القتال ونجح المماليك السلطانية فى الإجهاز على هجوم الفرنجة على المنصورة وتابعوا الانتصار وأغرقوا الأعداء فى الوحل والفيضان وتم أسر الجيش الصليبي وقائده لويس ، وكان توران شاه قد جاء فتولى الإجهاز على بقية الحملة الصليبية وشارك فى انتزاع النصر مع المماليك البحرية ، إلا انه تآمر على زوجة أبيه فأسرع المماليك بقتله وتم ذلك سنة 647 وتولت الحكم شجرة الدر كأول سلطانة فى التاريخ الإسلامي ، وآخر سلطانة أيضاً واحتج الخليفة العباسى على أن تتولى الأمر فى مصر امرأة وبعث يتندر بأولي الأمر يقول إذا خلت مصر من الرجال فإنه على استعداد أن يبعث برجل ليحكم.
ولم يكن البدوى ببعيد عن مجريات الأحداث فالمنصورة جد قريبة من طنطا .. وجواسيس البدوي فى كل صقع .. والبدوى (ابو الفتيان ) و(أبو الرجال ) وجد الفرصة سانحة ، ولعله نزل من السطح وقد أحس بالعار من سخرية الخليفة العباسي وبقولته بأن مصر خلت من الرجال طالما تحكمت فيهم إمرأة ، وقد رأى أن الفرصة سانحة فأتباعه منتشرون والسلطة فى اضطراب بعد سقوط الدولة الأيوبية وتحكم المماليك فى الأمر بزعامة شجرة الدر... وفى هذه الحال فالصراخ على السطح مضيعة للوقت وصياح فى الهواء لا يأتى بفائدة اللهم إلا وجع الدماغ .
ثم جد عامل آخر شجع البدوى هو تذمر المصريين من أن يحكمهم المماليك وهم رقيق سابقون فكيف للرقيق أن يحكم الأحرار.. يقول ابو المحاسن ( إن أهل مصر لم يرضوا بسلطان مسه الرق وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك – الذى تزوج شجرة الدر وحكم معها – وهم يسمعونه ما يكره حتى فى وجهه إذا ركب ومر فى الطرقات [47]) والبدوي بنسبه الشريف الذى يدعيه أولى من الرقيق بحكم مصر .
وزاد من خطورة الأمر أن الأيوبيين فى الشام لم يرضوا بما حدث فى مصر فتحتمت الحرب بين المماليك والأيوبيين ، وواجهت الدولة المملوكية الناشئة خطر الأيوبيين فى الشام مع تذمر المصريين فى الداخل ، واستغل هذه الظروف بعض الشيعة فأعلن الثورة وهو حصن الدين ثعلب الذى ادعى النسب العلوى – وأعلن أن ملك مصر يجب أن يكون للعرب وليس للأرقاء ، وأقام دولة عربية مستقلة فى مصر الوسطى ومنطقة الشرقية ،وحاول حصن الدين أن يتصل بالناصر الأيوبي صاحب الكرك وعدو المماليك إلا أن عقد الصلح بين الأيوبيين والمماليك خيب أمله فأضطر للإعتماد على جهوده الذاتية [48].
والمهم أن مبادرة حصن الدين ثعلب بالثورة اضافت عنصراً جديدا أقنع البدوى بإنهاء مرحلة السطح وتطوير دعوته ودفعها على طريق جديد ..
ومع الأسف فإننا لا نعرف المدى الجديد الذى وصلت اليه الدعوة بعد انتهاء فترة السطح ، ولكن يعنينا أن انشغال المماليك بفتنهم الداخلية وحروبهم مع الأيوبيين ثم مع المغول مكن للبدوي من التحرك الجديد مستغلا فترة القلق التى تصاحب إنهيار دولة وقيام دولة على أنقاضها ووجود عامل خارجى تمثل فى الهجوم الصليبى بحملة لويس التاسع..
ومهما يكن من أمر فإن التحرك الذى قام به البدوي بعد نزوله من على السطح – والذى لا نعرف حقيقته لم يقدر له الاستمرار والنجاح .. فالاضطراب الذى واجهته الدولة المملوكية الوليدة من التنازع الداخلى بين المماليك وبينهم وبين الأيوبيين وبينهم وبين الغزو المغولي – ذلك الاضطراب انتهى بعد الانتصار المملوكي على المغول فى عين جالوت التى رفعت شأن الحكم الجديد وزادته قوة فى الداخل والخارج، ثم تمكن بيبرس من القبض على السلطة بيد من حديد فتفرغ لمواجهة أعداء الدولة فى الخارج ونجح فى الميدانين معا .. وأفشل حركات الشيعة الصوفية السرية والعلنية .. ولم يفلح معه التطورالجديد الذى بدأه البدوي بالنزول من على السطح ، بل وربما كانت يد الظاهر بيبرس الحديدية سبباً فى عدم معرفتنا بجهود البدوى حين نزل من على السطح .. فقد تحولت المبادرة إلى جانب السلطة المملوكية التى يمثلها بيبرس واقتصر البدوي وكل أعداء الدولة على مجرد رد الفعل.
[1]الجواهر السنية 60
[2]نفس المرجع 40
[3]عبد الصمد . نفس المرجع 61
[4]نفس المرجع 8، 39
[5]نفس المرجع 12، الطبقات الكبرى للشعرانى 1160
[6]نفس المرجع 6
[7]نفس المرجع 123
[8]) عبد الصمد نفس المرجع 38
[9]المنهل الصافى مخطوط 5191
[10]) الطبقات الكبرى 1160
[11]) عبد الصمد . نفس المرجع 35- 36 الخفاجى النفحات الأحمدية 166
[12]) الشعرانى . الطبقات الكبرى 1130
[13]) النجم الساعى 27
[14]مجلة السياسة 11
[15]) الطبقات الكبرى : مخطوط 274
[16]النفحات الأحمدية 153
[17]) النصيحة العلويه . مخطوط 25
[18]) الطبقات الكبرى 1159 ، عبد الصمد الجواهر 11
[19]) النجم الساعى 46
[20]عبد الصمد : نفس المرجع 26، النفحات الأحمدية للخفاجى 157، الطبقات الكبرى للشعرانى 1160
[21]الطبقات الكبرى 1160
[22]النفحات الأحمدية 276
[23]الجواهرالسنية 33
[24]) النصيحة العلوية 31، 32 مخطوط
[25]عبد الصمد 27: 35 ،النفحات الأحمدية 276:277
[26]النفحات الأحمدية 153
[27]) عبد الصمد : 32.
[28]الجواهر السنية :30
[29]) نفس المرجع 33
[30]) نفس المرجع 33
[31]) نفس المرجع 33
[32]) طبقات الرفاعية 27
[33]) عبد الصمد 29
[34]الطبقات الكبرى 1/ 161 .
[35] عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
[36]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
[37]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
[38]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
[39]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
[40]عبد الصمد 28، 29، 31، 32، 34
[41]) الطبقات الكبرى 1 161، عبد الصمد 27
[42]) عبد الصمد 29، 30
[43]) عبد الصمد 29، 30
[44]) عبد الصمد 29، 30
[45]عبد الصمد : الجواهر 63، 65
[46]الطبقات الكبرى 1159 ، وفى رواية أخرى أنه ظل عشر سنين فقط أى ( 637- 647 ) راجع الجواهر السنية 37
[47]) النجوم الزهراء 713 ، أنظر المقريزى . السلوك 1380
[48]السلوك 1/ 386: 387