Oslo 03.04.2004
رأيت فيما يرى النائم بذهن أكثر حضورا من وعي اليقظ طرفا من وقائع محاكمة بدا لي فيها خلف قفص الاتهام العقيد الليبي معمر القذافي.
أما رئيس المحكمة والمستشارون فكانوا كلهم من الليبيين ولم أذكر أنني رأيت جنودا أمريكيين أو بريطانيين أو حتى مراقبين زرق العيون عليها أوجه بيض!
ظهر المتهم ذليلا كسيرا وقد أحاط به اثنان من حراس المحكمة وهو الذي اعتاد أن تحيط به حارسات من فدائيات القائد كما كان الحال مع المحيطين بشيطان بغÏgrave;غداد من فدائيي صدام.
كان الجو حارا، وقاعة المحكمة تكتظ عن آخرها بأقرباء المتهم وعائلته وقبيلته وبعض من بقايا قيادات اللجان الثورية ورهط من الفضوليين والصحفيين وثلاثة أو أربعة من أعضاء جبهة الانقاذ الوطني.
تسللت نسمة هواء على استحياء لتبلغنا أن مبنى المحكمة ليس بعيدا عن شاطيء البحر، ربما في طرابلس الغرب أو بنغازي أو طبرق أو مصراته.
المتهم يكاد يختنق من اقتراب جدران المبنى الخرساني المسلح ولكن مهانة الوقوف خلف القفص منعته من التعبير عن تمنياته بأن ينتقل الجميع إلى خيمة ملونة أشرف عليها بنفسه قبيل ساعات قليلة من القاء القبض عليه.
بعد عشر دقائق من الاجراءات الروتينية لانعقاد الجلسة الأولى ونداء الحاجب وانحسار الهمهمات والهمسات وتحريك بعض المقاعد من الخلف إلى المقدمة، بدأ التاريخ الليبي الجديد بسؤال القاضي للمتهم الماثل أمام عدالة المحكمة: اسمك ووظيفتك؟
المتهم: معمر القذافي، قائد ثورة الفاتح من سبتمبر العظيم!
القاضي: لا تبدأ اجابتك على أسئلة المحكمة بهذا الهزل، وأنت تعلم ما أعني.
المتهم: رئيس ليبيا سابقا!
القاضي: كيف تسلمت الحكم؟
المتهم: في الأول من سبتمبر عام 1969 قمت مع مجموعة من الشباب الليبي المتحمس والمتأثر بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر بثورة ضد الملك إدريس السنوسي لاقامة نظام حكم وطني.
القاضي: هل كانت لديك أفكار مسبقة عن نظام الحكم الوطني والرؤى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية، وكيفية تحقيق مجتمع الأمن والرفاهية والسلام؟
المتهم: لم تكن لدي أدنى فكرة عن الدولة الحديثة والادارة ومصالح الوطن، لكن المفاجأة التي عقدت لساني لبعض الوقت هي التفاف الجماهير حولي وهي ظاهرة غريبة في عالمنا الثالث، ولو قام مهرج أمي بانقلاب عسكري أو مدني مسالم، وأصدر البيان رقم واحد، ووعد الجماهير المطحونة والمقهورة بالمن والسلوى فستخرج كلها خلفه تبايعه، ويلتف حوله المنافقون والأفاقون وسماسرة القصر.
ثم أكمل المتهم العقيد معمر القذافي شرح رؤيته التي نزلت كالصاعقة على رؤوس الحاضرين قائلا: صدقني، سيدي القاضي، لو قام حمار حقيقي بدمه ولحمه وشحمه وأذنيه بانقلاب على القصر، واستولى على الاذاعة والتلفزيون وأصدر البيان رقم واحد فاحتمالات الالتفاف حوله لا تزال كبيرة، بل ربما زاد الملتفون خلفه عن الملتفين حول زعيم وطني ومثقف وذكي ومؤمن باشراقة النور في مستقبل بلده.
القاضي: كنت مستبدا طوال فترة حكمك، وقتلت بدم بارد عشرات الالاف من أبناء شعبك في جرائم يخجل منها الطغاة الآخرون، لماذا ارتكبت كل تلك الجرائم والحماقات؟
المتهم: نحن الطغاة نتلقى دروسا من بعضنا، ويعلمنا التاريخ أن ذاكرة الشعوب ضعيفة، وأنا لم اختلف عن غيري من الطغاة في عالمنا الثالث، والفارق الوحيد هو أنني تركتهم يسخرون مني ويتناقلون روايات عني وكأنها حكايات للاضحاك ولم يتنبه إلا القلة عن حجم البكاء والحزن فيها.
القاضي: أين ذهب أعضاء الثورة من زملائك الذين قاموا معك بانقلاب الفاتح؟
المتهم: تخلصت من بعضهم، وأنفض الآخرون عن القيادة وغابوا، أعني قمت بتغييبهم عن أعين الشعب، فتولى الصمت مهمة دفنهم أحياء.
القاضي: منذ عام 1969 وأنت تهدر أموال الشعب، ألم يدر بخلدك أن تلك الأموال ليست ملكا خالصا لك، وأنك أمين عليها؟
المتهم: يا سيدي، أنا لست مجرما كما يصورني بيان الاتهام من النيابة، لكنني شخص متمرد، وثوري، ولم أكن عندما قمت بالثورة أفقه في الاقتصاد والسياسة والفلسفة والأخلاقيات والدين، فلما تجمعت السلطة في يدي فاجئني العبيد برقابهم، وابتهجوا بالذل، واغتبطوا بالمهانة، حتى أنني وصفت شعبي في حفل عام بأنهم كالماعز فصفقوا لي.
القاضي: ولكنك قمت بتصفية الالاف من أبناء شعبك، وصنعت جماهيرية الرعب، وجعلت من ليبيا سجنا أكثر توحشا من سجون ومعتقلات زملائك من الزعماء الرعب، ألم يكن أمرا طبيعيا أن يخشاك مواطنوك؟
المتهم: حتى قبل التوسع في بناء المعتقلات والسجون كانت الجماهير مهيئة لكل أشكال القمع والقهر.
وضعت لهم ( الكتاب الأخضر) وهو مجموعة من التعاليم الساذجة والتي يخجل طفل في المرحلة الابتدائية من كتابتها، فجعلوه كتابا مقدسا، وتم تأسيس مركز الكتاب الأخضر، وأنفقت من أموال الشعب مئات الملايين التي تم نهب أكثرها بحجة تعريف العالم بفكر رسول الصحراء.
قمت بتبديل التاريخ الهجري ليستخدم الشعب تاريخ وفاة النبي، فتهافت مثقفو ليبيا ومعهم عدد هائل من المنافقين والمتزلفين على تبرير قراري.
ضربت الدبلوماسية في مقتل، وصنعت مكاتب شعبية في الخارج كانت مسرحا للتهريج والسيرك الدبلوماسي، فعثرت على الملايين يؤيدونني ويطيعونني.
أقمت مؤتمرات بعدد حبات رمال الصحراء للبحث في فكري، واستخراج العبقرية من قراراتي المفاجئة وغير المتوازنة، فكانت المكاتب الشعبية الليبية في الخارج تستقبل آلافا من مفكري الأمة وعلمائها وفقهائها ومثقفيها وضمير شعوبها يطلبون السفر إلى الجماهيرية، ويشتركون في حوار أحمق عن سذاجة فكرية، فتخرج قرارات وتوصيات ومديح لم يحصل على مثلها نبي من أنبياء الله منذ آدم عليه السلام.
حتى هزيمة جيشي في تشاد وعودة جنودي في نعوش عبر الصحراء الليبية بعد انتصار القبائل التشادية المسلحة ببنادق من بقايا الاستعمار تحولت إلى مظاهرات فرح.
القاضي: ما هي حكاية التعويضات في قضية لوكربي؟
المتهم: لقا تم اسقاط الطائرة في الفترة الخصبة التي طاردت فيها بأموال شعبي الكلاب الضالة، وقتلت الأبرياء، وحولت أجهزة الأمن إلى مطاردة كل من يخالفني الرأي، فكانت خطتي بقتل ركاب الطائرة التي انفجرت فوق المدينة الاسكوتلندية الهادئة، ثم كان الحصار الذي استمر سنوات طويلة فجعلت الشعب يؤمن أننا في الجماهيرية نقف في خندق الصمود ضد قوى البغي, وفي النهاية اضطررت لتسديد أقل من ثلاثة مليارات دولار لأهالي الضحايا شريطة أن لا تتم محاكمتي كمجرم حرب.
القاضي: ولكنك فعلا مجرم حرب ومجرم سلام، فكيف نجوت من محاكمة دولية؟
المتهم: لأنني أعرف أن مصالح الدول الكبرى ، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تحدد قيم العدالة في الغرب، لذا دفعت صاغرا التعويضات، وقمت بتسليم الادارة الأمريكية آلاف الوثائق والمستندات الخاصة بالمنظمات العربية والاسلامية والدولية، وكشفت كل أسرار من ظن أنها في صدري ولن أبيعها لخصومهم، وأهديت للحكومة البريطانية أسرار الجيش الجمهوري الايرلندي!
القاضي: .. وبعت أيضا الفلسطينيين، أليس كذلك؟
المتهم: عشرات المرات وبعضهم لا يزال يعلق آمالا كبيرة على وعودي!
في حصار بيروت حجبتُ عنهم السلاح، وطلبت منهم الانتحار..
وكان كثيرون منهم يعملون في الجماهيرية، فلما شعروا بالأمن، طلبت من أجهزة أمني أن يلقوهم في صحراء السلوم، ويسرقوا ممتلكاتهم ومتاعهم وأموالهم..
وقمت ببيع وثائقهم واسرارهم ومستنداتهم لرجال الرئيس في أمريكا في مقابل أن يرضى عني البيت الأبيض.
القاضي: هل ظننت أن خزينة الدولة السجن كانت ستكتفي بدفع تعويضات لكل من أضرتهم أعمالك الارهابية؟
المتهم: حتى لو تسول الليبيون من بعدي في شوارع تشاد وأوغندا والسودان وسوازيلاند، فلم يكن هذا يمنعني من دفع مليارت الدولارات لكل من يرفع قضايا تعويض ضدي، فالألمان لهم نصيبهم من أموال شعبي بسبب حادث البار في برلين، والفرنسيون غرفوا من أموال البترول تعويضا عن اسقاط الطائرة فوق النيجر، حتى أبناء الاستعمار الايطالي كانوا يستعدون للحصول على تعويضات مني.
القاضي: ما هي حكاية الخيمة التي تنتقل بها في كل مكان، وتسبب حرجا لمضيفيك، وتنصبها في حديقة قصر المضيف، وتكلف الدولة المفلسة ملايين في كل مرة، وتصطحب معك ناقتين وعشرات من الأشخاص الذين تنحصر مهامهم في نقل الخيمة ونصبها واعداد الأثاث لها، ودورة المياه والحمام والفضلات.. أخشى أن أتهمك بالجنون لئلا تنجو من المحاكمة ويتسلمك من العدالة أطباء في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية؟
المتهم: إن عقدتي، سيدي القاضي، تكمن في كراهيتي للاهمال، فإذا شعرت أن هناك من خطف الأضواء مني، فإن لساني على استعداد أن يقدم أي اقتراح بعيدا عن العقل والمنطق والسوية، حتى لو قلت بأن وليم شكسبير كان عربيا ويدعى الشيخ زبير، أو أن الهنود الحمر عرب، أو أنه لا يوجد في العالم العربي مسيحيون ( وكان المرحوم الدكتور غالي شكري قد صحح هذا الخطأ لي، فعرفت أن لدينا مسيحيين عربا )، أو أن المسجد الأقصى عبارة عن قطع من الأحجار ولا يمثل لي أي قداسة، أو أن حل الصراع العربي الاسرائيلي يكمن في دولة ( اسراطين)، أو عشرات غيرها من الأشياء التي تخطف عيون وآذان المواطنين، فالمهم أن أبقى أنا في الضوء طوال الوقت.
القاضي: مثلما قلت بأن الأوروبيين يطمعون في احتلال ليبيا للاستيلاء على بطيخها، فضحك العرب، وتندروا على فكاهاتك، وبقيت أنت في الحكم السيرك، ألست أنا محقا؟
المتهم: نعم، سيدي القاضي، إنه فن الطغيان الذي لم يكتشفه قبلي في عالمنا قلة قليلة.
عندما قال كل عربي وليبي لأخيه: دعه إنه مخبول وكوميدي، فقد كان هذا يعني اطالة أمد حكمي وسطوتي وسيطرتي على مقدرات الليبيين.
القاضي: ماذا حدث في سجن ( أبي سليم ) عام 1996؟
المتهم: لم يحدث أي شيء غير طبيعي، فقد بدأ أن هناك تمردا على أوضاع السجن فأعطيت التوجيهات اللازمة لزبانيتي وكلاب خيمتي من رجال الأمن القساة فتولوا، مشكورين، مهمة التخلص من 1200 سجين، وتم ارسالهم إلى العالم الآخر، فأنا لدي من الليبيين، أعني الذين وصفتهم بالماعز، أكثر من الهم على القلب.
ثم إنني، سيدي القاضي، أقوم بما يفعله أشقائي في العروبة من زعماء الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالد!
ألم يتخلص صدام حسين من أكثر من ربع مليون عراقي في طول أرض الرافدين وعرضها، فضلا عمن سقطوا في الحرب المجنونة مع ايران، ومن دمرتهم آلة الحرب اليانكية وهم ينسحبون بذلة واستكانة من الكويت متجهين إلى القائد المهيب لعله يرسلهم إلى جحيم عدوان جديد؟
ألم تدفن سرايا الدفاع بقيادة العقيد رفعت الأسد، صاحب شبكة الأخبار العربية المدافعة عن حقوق الإنسان، بجوار سجن تدمر أكثر من 1000 شخص في مقبرة جماعية؟
ألم يأمر أمير المؤمنين الحسن الثاني، رحمه الله، وزير داخليته الجنرال محمد أوفقير بالتخلص من أي شخص يحلم أو يفكر في معارضة الملك، فلما قام طلاب الدار البيضاء بمظاهرات سلمية لم تمر عدة ساعات حتى كانت سيارات الجيش تقوم بجمع جثث دافئة لشباب وأطفال في المدينة الآمنة بعدما استجاب الجنرال لمليكه المهووس بالقتل، واختفى المغاربة في قبور جماعية أسوة بمواطني معظم الدول العربية؟
ألم يقم الحسين بن طلال, رحمه الله، بمجزرة سبتمبر الأسود ضد الفلسطينيين وراح ضحيتها أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني، وتوقف بعدها القلب الكبير لجمال عبد الناصر؟
لماذا تتهمني، سيدي القاضي، بارتكاب المجازر الجماعية وأنا أقوم بتأدية واجبي في التخلص من عدة آلاف من المواطنين وفقا للعادات والتقاليد العربية، ولو لم أفعل لما احترمني زملائي الزعماء العرب؟
القاضي: هل كانت لك أي علاقات بالكيان الصهيوني؟
المتهم: أرسلتُ في احدى المرات بعض الحجاج للمدينة المقدسة، وختمت أجهزة الأمن الاسرائيلية على جوازات سفرهم بنجمة داود، وكنت أريد أن اختبر ردود فعلي شعبي المسكين، فتلقيت التهاني من كل قطاعات الشعب الليبي العظيم .. أحفاد عمر المختار.
وقد فعل مثلي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة فأرسل بعض الصحفيين الجزائريين، لكن الشعب الجزائري لم يستوعب هذه الكارثة، فصمت الرئيس وأدعى أنه لم يكن على علم بالزيارة.
أما العلاقات السرية بين ليبيا واسرائيل فلم يحن بعد وقت الاعلان عنها، وهل تظن، سيدي القاضي، أن الإدارة الأمريكية ترضى عني إن لم أقدم الضمانات والأمن لاسرائيل ذليلا ومقهورا ومهزوما؟
لقاضي: هل قمت فعلا بتصفية الامام موسى الصدر وهو ضيفك، والتقاليد العربية منذ عهد الجاهلية تراعي دائما أمن وسلامة الضيف حتى لو كان عدوا لك؟
المتهم: نعم، سيدي القاضي، قمت بقتله مع مرافقيه، وقامت أجهزة الاستخبارات الليبية بعمل مسرحية عن سفر الضيوف إلى العاصمة الايطالية، لكن حبكة اللعبة لم تكن على مستوى درجة ذكاء أي أجهزة أمن، فمخابراتي تحتل المركز الأول في الغباء والبلاهة والحماقة، حتى عندما قامت باختطاف منصور الكيخيا، عرف العالم كله بالعملية قبل أن تقوم أجهزة أمني بتسليم المعارض لي.
القاضي: أنت تتصرف أحيانا كمعتوه ينبغي عرضه على طبيب نفسي وأحيانا أخرى كقائد متهور، ولكن في كل الأحوال أنت واحد من أقسى طغاة العصر الحديث، فهل كان لك هدف محدد أو مشروع قومي؟
المتهم: حاولت، كما ذكرت من قبل، جذب الأنظار، وكنت في الحقيقة اشعر بدونية شديدة، فقدراتي العقلية لا تسعفني في كثير من الأحوال، لكن يشفع لي دائما أن السوط في يدي، وأضرب به ظهور الليبيين متي شئت وكيفما أردت، وأرسل أي عدد منهم إلى ملك الموت، ولو أعطيت توجيهات بسحب كل أرصدة البنوك ودفعها تعويضات عن جرائمي لصفق الشعب وخرج في مظاهرات تطوف شوارع البؤس الليبي، وتعتبر قراري حالة نادرة من العبقرية الصحراوية للقائد الملهم!
لو نزل الوحي مرة أخرى على نبي من الأنبياء لما تمكن من صناعة سلطة مقدسة كالتي صنعها لي شعبي.
القاضي: وماذا عن محاولات الانقلاب والاغتيال التي تعرضت لها خلال فترة حكمك الأسود لشعبك المسكين؟
المتهم: كانت كثيرة وخرجت من قلب الصحراء ومن طرابلس ومن الجبل الأخضر، ولكن لدي أجهزة أمن تستطيع أن تعد على الليبي أنفاسه، وتعرف عدد أسنانه، وتتسلل إلى أحلامه، ولديها أوامر وتوجيهات مني بأن لا تتهاون أو تأخذها رحمة أو شفقة أو تتردد هنيهة واحدة في قطع رقاب الكلاب الضالة ولو بلغ عددهم نصف سكان جماهيرتي.
في المقابل فإن صمتا مريبا ران على العالم كله، والتزم به العرب من بحرهم إلى مائهم بأن لا يدخلوا عش الدبابير، ولا يثيروا غضبي وحنقي، وأخص بالذكر مصر والسودان وإلا فإن أموالي لن تعرف طريقها إلى حكام الدولتين.
ولعلك، سيدي القاضي، تعرف أن المكاتب الشعبية الليبية في الخارج تضج من كثيرة المترددين عليها من المثقفين والأكاديميين والمفكرين والاعلاميين الذين يطلبون تأشيرة أو دعما أو مساهمة أو زيارة يتبعها مديح زائف ونفاق أعمى وتبريرات لكل جرائمي ضد شعبي الليبي.
لذا فإنني لم أطلب اجراء احصاء بعدد الذين قمت باعدامهم نتيجة شبهات انقلاب ضدي أو مؤامرات لم تتم أو معارضة مقصوصة الأجنحة أو تجمعات بريئة تتحدث عن هموم ليبيا!
القاضي: كيف كنت تتعامل مع القانون والدستور؟
المتهم: إن الدستور الذي أعرفه هو الكتاب الأخضر الذي أوهمت شعبي أنه يحتوي على عصارة فكر القائد، وحلا لمشكلات الدنيا كلها، وضربا موجعا للفكر الماركسي والرأسمالي والاشتراكي والاسلامي، وأنفقت من أموال النفط مئات الملايين على جعل الكتاب الأخضر أكثر قراءة من الكتب المقدسة أو تعاليم ماو أو رأس المال لكارل ماركس، وكان الأخ أحمد شحاتي يتولى رئاسة مركز الكتاب الأخضر وينفق بدون حساب.
الدستور كلمة تعني تقييدي بقوانين دولة، وعقدا اجتماعيا مع شعب له حقوق، وتنظيما لادارة شؤون الحكم والعلاقة بين الحاكم والرعية، وكل هذه الأمور خرافات وهراء لم أعترف بها يوما واحدا.
كنت، سيدي القاضي، الحكم والخصم والجلاد والسجان والقائد والأب الروحي ورسول الصحراء ومعبود هذا الشعب.
اللجان الشعبية تتابع أعمالي وزياراتي وأقوالي وأفعالي وكل ما تتفوه به شفتاي فتتحول إلى دستور غير مكتوب، وتتولى أجهزة اعلام استخراج العبقرية من الهزل، واعداد مائدة شهية من القيء، وتأهيل الاستبداد في تجميع هرمي لكل قوى الدولة الروحية والمالية والشعبية والأمنية وتصب كلها في يدي.
القانون كان صناعة في خيمتي الملونة، وما لم يصدر عني فلا تعتد به أي محاكم أو قضاة أو أجهزة الدولة متفرقة أو مجتمعة.
القاضي: وكيف كانت علاقتك بمصر وبحكامها؟
المتهم: كنت أشعر بدونية شديدة أمامهم، لذا أقوم باصدار الأوامر بين الحين والآخر بطرد العاملين المصريين الغلابة، والقائهم في الصحراء، وسرقة ونهب أموالهم البسيطة التي ادخروها بعد سنوات من العمل الشاق ثم تتوسط الحكومة المصرية، ويبعث الرئيس وسيطا غالبا ما يكون صفوت الشريف الذي حمل ملف ليبيا في العلاقات مع مصر، وتأتي مكرمتي باعادة بعض العمال المساكين إلى جنة الجماهيرية.
عندما قام رئيس تحرير مجلة طائر الشمال بزيارة إدارة الرقابة على المطبوعات في لاظوغلي عام 1990، وقابل وكيل الوزارة عبد القادر لطفي ومدير الرقابة السابق فتحي أبا زيد وسأل عن سبب منع المطبوعة من دخول مصر، قيل له بأن الخط الأحمر كان ليبيا ، وأن أي نقد للأخ العقيد معمر القذافي لا تتسامح فيه إدارة الرقابة على المطبوعات، فالعقيد يمنحنا الدعم المالي، وتوجيهات الرئاسة حاسمة في شأن عدم المس بكرامة قائد ثورة الفاتح من سبتمبر.
القاضي: هل صحيح أنك تآمرت على قتل ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز؟
المتهم: التآمر على القتل كان حرفتي، وقد سددت من ميزانية الجماهيرية مبالغ طائلة للمرتزقة والمأجورين، وأنا فعلا أحمل كراهية شديدة لآل سعود، وزادت بعدما كشف ولي العهد السعودي أمام كاميرات التلفزيون علاقاتي بأجهزة الأمن الغربية، وكاد يفضحني على الملأ وأمام شعبي.
لكن حكاية الاغتيال في لندن باطلاق صاروخ على موكبه لا تناسب اطلاقا احترافي القتل، فأنا أصدرت الأوامر باسقاط الطائرة فوق لوكربي، والفرنسية فوق النيجر، وخطفت الإمام موسى الصدر والمعارض منصور الكيخيا، وفجرت قنابل في مصر وقتلت الأبرياء وتعاملت مع الارهابيين في كل مكان، ولم أكن في حاجة لوضع خطة بلهاء مثل ضرب الموكب بصاروخ في قلب العاصمة البريطانية, فالذين حبكوا القصة حمقى ويبدو أنهم تلاميذ في مدرسة الاعلام الأمني.
القاضي: أعلن الاتحاد الليبي للمدافعين عن حقوق الإنسان وعلى مسؤوليته الأدبية والمهنية أنه يملك قائمة بأسماء 800 اسم لسجناء سياسيين قمت أنت بتوجيه الأوامر بتصفيتهم .. هل هذا صحيح؟
المتهم: نعم فقد أبلغنا أسرهم وذويهم بوفاتهم في المعتقلات والسجون، فهؤلاء كانوا خونة يعترضون على طريقة حكمي.
القاضي: لماذا قمت بالقاء تهمة التخلص من الإمام موسى الصدر على أبي نضال على الرغم من أن أبا نضال نفسه كان رجل ليبيا؟ ثم لماذا انتظرت طوال هذه السنوات لتتهم أحد رجالك؟
المتهم: لأن اللبنانيين والايرانيين صدعوا رأسي بإمامهم، وكنت أعلم أن تصفية أبي نضال حتمية سواء مني أو من صدام حسين، فقررت قذف الكرة في ملعب آخر بعيدا عن جماهيريتي.
القاضي: لماذا أردت عن طريق ابنك سيف الاسلام تقسيم ليبيا إلى ولايات صغيرة متباعدة ومتفرقة؟
المتهم: لأن الأمن كان قد أصبح معقدا ومتشابكا، وليبيا تحتل في نصفها الشمالي نصف طول شمال أفريقيا، وكان لابد من اقامة محافظات صغيرة وولايات وكانتونات تحت إمرة اللجان الشعبية وعمداء وشيوخ وزعماء قبائل حتى أضمن لنفسي ولأولادي أمنا وسلاما وطاعة لعشرات من الأعوام.
القاضي: الحصار الدولي على ليبيا كلف الخزانة أكثر من خمسين مليارا من الدولارات، وكان بسبب أعمالك الارهابية وفي مقدمتها حادثة لوكربي.
لماذا لم تعترف في بداية الحصار؟
المتهم: الحصار كان مهما بالنسبة لي، فقد لعبت دور البطل الذي ناهض ويعارض وينتقد أمريكا.
ووضعت يدي على كل دينار في خزينة الدولة بحجة الانفاق على الجماهيرية المحاصرة، وفرض العالم عزلة كبيرة مما مكنني من احكام قبضتي على كل ليبي، فالاعلام كان بعيدا، ووكالات الأنباء قاطعت ليبيا، فتمكنت من التخلص من الآلاف من الكلاب الضالة التي تتمرد على نظام حكمي.
القاضي: لكنك خضعت في النهاية لسيد البيت الأبيض، ودفعت من جهد وعرق وخيرات شعبك المليارات تعويضا عن جرائمك، وطعنت الأصدقاء في ظهورهم بتسليمك الوثائق التي كانت في حوزتك إلى أجهزة الأمن الأمريكية، وكدت ترهن نفط بلادك لشركات الاحتكار التي حاربتها أنت طويلا.. ماذا تبقى من القذافي؟
المتهم: عندما رأيت صورة صدام حسين يخرج من جرذ الفئران، ويتعرض لامتهان لم يحدث مثله منذ سقوط غرناطة، ويكشف عريف طبيب أمريكي على سقف حلقه، ويتأكد من عدم وجود قمل أو براغيث أو حشرات في شعره الأشعث الأغبر، تخيلت للحظة واحدة مصيري، وكدت أسقط مغشيا علي من هول الخوف والرعب والفزع، ولم أتصور نفسي ملقيا على الأرض تحت حذاء جندي أمريكي، فقررت بيع ما تبقى من ليبيا، ولعنة الله على الوطن والأهل والشعب، فإذا مت ظمآن فلا نزل القطر.
القاضي: كنت تقحم نفسك في كل شيء وتخصص، فأنت روائي وقصاص وأديب وسياسي وقائد وصانع عصر الانعتاق الكبير ورسول الصحراء وقائد ثورة الفاتح من سبتمبر العظيم والمحارب، وتفسر القرآن الكريم وتصدر فتاوى نسائية وتبحث في الأصول اللغوية للكلمات بجهل وحماقة وتنهزم في كل المعارك، ومع ذلك ظل جهلك مصدر قوة لك، ومضحكاتك تأكيدا لتثبيت حكمك، فكيف بالله عليك حكمت أحفاد عمر المختار كل تلك السنوات؟
المتهم: حتى لو مسخني الله حمارا فأغلب الظن أن الشعب كله كان سيهتف باسمي، ويطيع أوامري، ويستخرج من أحط التصرفات عبقرية يهتف لصاحبها.
لقد كنت أملك السلطة والسوط ورجال الأمن وكلاب القصر أعني الخيمة، وكل هؤلاء يمثلون ضمانا لركوع الشعب أو حتى سجوده أمام طاغيته.
بعد فترة قصيرة من تولي السلطة تبدأ عملية انتفاخها ووصولها كالسرطان إلى كل مكان فلا يعرف المرء أين موضع المرض لأن الجسد كله يصبح مريضا بنفس القدر في كل موضع منه.
هل تتذكر، سيدي القاضي، عام 1999 عندما قمت بزيارة جامعة القاهرة وشرحت لرجال المستقبل في أكبر بلد عربي مفاهيم هلامية من استفراغ فكري مريض وقلت لهم بأن كلمة مافيا ترجع إلى كلمة ( معفية ) العربية لأن عصابات المافيا معفية من السلطة والمحاكمة؟الذي حدث أن طلاب الجامعة العريقة هتفوا في صوت واحد قائلين: علمنا يا عقيد علمنا!
القاضي: أنت كنت تدغدغ مشاعر الجماهير بأموال شعبك، وكنت تقذف الدولارات من نافذة سيارتك فيجري خلفها الأفارقة المساكين، فظن كل من يراك أنك ستضع يدك في جيبك أو جيوب شعبك لتدفع له إكرامية.
هل تتذكر فريق كرة القدم الألماني الذي كان يعاني من نقص في الأموال فقرر رئيسه أن يرتدي اللاعبون فانيلات عليها شعار الكتاب الأخضر، فلما نفحتهم بمليون دولار، استبدلوا بشعارك فانيلاتهم الأصلية؟
المتهم: ولكن وسائل الاعلام والمستشارين لم يكونوا أمناء معي، وأنا ظننت أن ألمانيا كلها ستقرأ الكتاب الأخضر الذي تخطيت فيه مرحلتي الاشتراكية والشيوعية إلى عصر الجماهير.
القاضي: هل أنت عبيط أم أهبل؟ كيف ستتأثر ألمانيا بشعار على صدور لاعبي أحد أنديتها
ثم يخرج الشعب الألماني يهتف لك بالروح والدم؟
المتهم: لماذا لا يخرج العالم كله يهتف باسمي؟ لقد قمت بتاسيس نظرية تحرير البشرية
القاضي: وتاريخك الملوث بعمليات الاغتيال والغدر والقتل وسفك الدماء، هل هو أيضا تحرير للبشرية؟
سأذكرك بأقل القليل من جرائمك اللعينة في عمليات الاغتيال وأهمها:
*محاولة اغتيال الرائد منعم الهوني، عضو مجلس قيادة الثورة السابق.
* اغتيال محمد سالم الرتيمي في روما.
* اغتيال محمد مصطفى رمضان في لندن.
* اغتيال عبد اللطيف المنتصر في بيروت.
* اغتيال محمود عبد السلام نافع في لندن.
* اغتيال عبد الله محمد الخازمي في روما.
* اغتيال عمران المهدوي في بون.
* اغتيال محمد فؤاد أبو حجر في روما.
* اغتيال ابو بكر عبد الرحمن في أثينا.
* اغتيال عبد الحميد الريشي في روما.
* اغتيال عز الدين الحضيري في ميلانو.
كل تلك الجرائم البشعة حدثت في عام واحد فقط، ولعل ما تعرفه عدالة المحكمة أكبر بكثير.
وهنا تقدم أحد المستشارين للقاضي بورقة، فنظر إليها وعلامات الدهشة تغطي وجهه، ثم قال:وفي 11 نوفمبر 1980 قامت عناصر لجانك الثورية بتسميم طفلين في مدينة بروتسموت ببريطانيا.
وفي أواخر عام 1981 قام رجالك بتسميم السيد علي الأطيوش في اليونان.
وقام رجالك أيضا باختطاف جبريل الدينالي في المكتب الصحي الليبي في بون.
وفي يناير عام 1983 اكتشفت أجهزة الأمن المصرية خلايا ليبية لاغتيال عدد من المعارضين الليبيين لحكمك في مصر.
وفي 12 يونيو 1984 قام أحد رجال مخابراتك ويدعى لطفي العسكر باغتيال صالح أبو زيد في أثينا، وتم تهريب القاتل إلى ليبيا.
وفي ديسمبر عام 1984 فشلت محاولتك باغتيال محمد يوسف المقريف زعيم المعارضة في الخارج، وكنت وعدت بنفسك المكلف بالعملية بمبلغ مليون دولار.( المصدر في أسماء وتواريخ الاغتيالات من Libyans 4 Justice .
وطوال سنوات طويلة هي عمر حكمك المشؤوم والارهابي كنت الرجل الأول في التوجيهات بالاغتيالات، وكل الأسماء تم عرضها عليك، ولا تزال هناك مئات من أسماء الشهداء لدى المحكمة، وهؤلاء قمت بخسة ونذالة واجرام بقتلهم أو أعطيت الأوامر بتصفيتهم.
هل أحدثك عن المزيد من عمليات الاغتيال؟
المتهم: إنني، سيدي القاضي، لم اخترع ثقافة الاغتيالات، ولو لم أقم بها فلن يحترمني أكثر الزعماء العرب!
ثم إنها عادة عربية تتعامل بها السلطة مع أبناء الشعب كأنهم يحملون أرواح كلاب.
ألم يقم صدام حسين بعمليات اغتيال وتسميم لمعارضيه أكثر مما فعلت أنا؟ وكان يقطع الألسن والآذان، ويضع العراقيين في حامض الأسيد، ويتلذذ بمنظر القبور الجماعية، ويقوم بتصفيات كأنها إبادة( مثل حلبجة وانتفاضة مارس 1991)؟
ألم تقم المخابرات السورية بتصفية الخصوم، حتى ميشيل نمري رئيس تحرير مجلة ( النشرة ) قامت أجهزة الأمن السورية بقتله في أثينا.
ألم يقم جعفر النميري بأشد الجرائم بشاعة ضد شعبه، ثم أصدر كتابا عن النهج الاسلامي، وقام بتأدية مناسك الحج، وظهرت في جبهته زبيبة صلاة، وكان يقرأ القرآن الكريم بعد أن يستمع لأخبار عمليات التعذيب في معتقل كوبر؟
ألم يفعل عمر حسن البشير نفس الشيء، وأحال حياة السودانيين إلى جحيم؟
أليست سلطات الأمن التونسية مشغولة بكل تونسي يعارض الرئيس مدى الحياة زين العابدين بن علي، وتترقب وصول أي معارض، وتفتح أبواب سجونها للآلاف بتوجيهات مباشرة من القائد؟
ألم يستعبد الملك الحسن الثاني المغاربة أربعين عاما أذاقهم فيها الويلات، واحتقرهم، وتولى الاشراف بنفسه على عمليات الاغتيال ومنها المهدي بن بركة الذي أذابه في أحماض كيماوية؟
ألا تعرف المخابرات الأردنية أحلام الأردنيين وكوابيسهم، وتنتظرهم أجهزة تعذيب مستوردة من العالم المتحضر خصيصا لكي يتعلم الأردنيون آداب العبودية؟
ألم يبتهج ويسعد الرئيس حسني مبارك طوال فترة حكمه عندما كانت تأتيه أخبار التعذيب في أقسام الشرطة والمعتقلات، وكان الانتهاك والجلد والصعقات الكهربية واغتصاب الرجال ونفخهم أو اشعال النار في أجسادهم، فيزداد الرئيس طغيانا واستبدادا وتمسكا بالعرش؟
وأنا أيضا، سيدي القاضي، أحمل قائمة طويلة بطول الجبل الأخضر بأسماء المواطنين العرب الذين قضوا في سجون ومعتقلات الوطن العربي الكبير.
القاضي: وهل هذا يعفيك من المسؤولية، أو يخفف عنك العقوبة، أو يهون من شأن جرائمك؟
المتهم: لكنني كنت قائد ثورة، وفي جماهيرتي مؤتمرات شبه يومية يؤمها في العام الواحد آلاف من صناع الكلمة وحملة الضمير من مثقفين وعلماء ورجال دين وسلطة وأكاديميين ومسؤولين، وكلهم يعتبرونني حالة من الحلم العربي للاستقلال والحرية ومناهضة الامبريالية.
القاضي: أنت كنت تشتري بأموال شعبك الشعوب الأخرى، ولك أن تنظر ماذا فعلت يداك الملوثتان دما في أفريقيا؟
قمت بدعم الاستبداد، وأطلت في أعمار الأنظمة الارهابية، وانتهجت سياسة فرق تسد، وأهدرت أموال شعبك المسكين، ولم تكن تعرف إن كنت عربيا أم أفريقيا أم من الهنود الحمر أم تريد الانضمام لحلف وارسو.
المتهم: كان الليبيون يخرجون في مظاهرات تجوب الجماهيرية طولا وعرضا، ويؤيدون أي قرار حتى لو سببتهم أو لعنتهم أو وصفتهم بأنهم كالماعز. كنت وأولادي نستعبدهم وهم في لذة وهاجة، ومتعة شديدة في أن يمنحوني رقابهم.
القاضي: لأنهم كانوا يخشون أجهزة أمنك التي لا ترحم أو ترأف أو تعفو عن أي معارض. هل نسيت المذابح الجماعية التي قمت بها ضد أبناء ليبيا، وفي مقدمتها مذبحة سجن أبي سليم؟
.. ومع ذلك كنت تظن حقا أنك نبي هذا العصر، أليس كذلك؟
المتهم: صدقني، سيدي القاضي، إن قلت لعدالة المحكمة بأنني لم أصنع نفسي لكن الجماهير هي التي صنعتني هكذا ..
قدمت كتابي الأخضر وقلت بأنه يشبه البشارة، وأن العالم في حاجة إلى نبي جديد، فجاءت اللجان الثورية لتصبغ علي هذا الوصف، ثم تم تخفيفه إلى رسول الصحراء.
قلت لهم بأن مئة وسبعين طائرة معادية حلقت في سماء طرابلس، وضربت ليبيا وشعبي وخيمتي في سبيل احراق مسودة كتابي، فصدقني الليبيون!
صنعت لهم عالما من الفوضى، فاعتبروها عبقرية في الحكم.
ألغيت مهنة المحاماة إثر خطاب زوارة الشهير، فصمت كل محاميي العالم، والتزم السكوت رجال القانون العرب.
ألقيت بالتونسين والمصريين والفلسطينيين والسودانيين في قلب الصحراء الحارقة، فلم يعترض زعيم عربي واحد على امتهاني لكرامة رعاياه، وهم يستقبلونني استقبال الأبطال!
خضت حربا فاشلة في تشاد ضد قوى بدائية مسلحة بالعصي وفروع الشجر وبنادق أنتيكية، فشكرني شعبي على الانتصار الساحق.
أحلت حياة المصريين إلى جحيم، وفجرت قنابل، وزرعت الرعب في أرض الكنانة، وأمرت بسرقة ونهب واذلال المواطنين المصريين العاملين في جماهيرتي، وكانت النتيجة أن الرئيس حسني مبارك يتودد إلى، ويأتي فورا عندما أغضب، ويطلب من سكان مرسى مطروح استقبالي كبطل محرر.
أثرت متاعب في الصحراء، وقمت بدعم الصحراويين في جمهوريتهم بدلا من عودتهم إلى الوطن الأم .. المغرب، وأنفقت من أموال شعبي على إثارة القلاقل والمتاعب للمغرب، فساد صمت مريب في العالم العربي، ولم يعاتبني زعيم واحد.
أشعلت النار في لبنان، وسعيت لفتنة طائفية، وقمت بدعم كل الأطراف، وخطفت زعيما شيعيا كبيرا ومفكرا رائعا، وقمت بتصفيته، فلم يقبل معظم الزعماء العرب أن تتهمني الصحافة أو تشير صراحة إلى جريمتي!
قتلت ألفا ومئتي مواطن ليبي في سجن واحد فقط، فصدرت التوجيهات من القيادات العربية بعدم الاشارة إلى جريمتي.
أوهمت شعبي بأن هناك مشروعا ضخما يعادل سور الصين العظيم وهو النهر الصناعي العظيم المنبثق عن فكر قائد ثورة الفاتح من سبتمبر العظيم في الجماهيرية العظيمة، وأهدرت مليارات من قوت شعبي، ولم يحاسبني أحد.
قمت بمحاولة احتلال مدينة( قفصة) التونسية، ودبرت محاولات اغتيال عشرات من السياسيين التونسيين، لكن تونس الخضراء تفتح ذراعيها ي، ويعانقني بحرارة استقبال علانية الرئيس التونسي، ويعمل لدي آلاف من التونسيين رقم الفقر الذي يعيش فيه ثلثا الليبيين.
القاضي: وماذا عن علاقتك باسرائيل؟
المتهم: ظاهريا كنت المناضل الذي يحارب الكيان الصهيوني، ويفتح أرضه وسماءه للفلسطينيين، ويدرب رجال المقاومة.
أما الحقيقة فقد أبديت اعجابي بالدولة العبرية، بل إنني طلبت من أحد أصدقائي اليهود ترتيب زيارة حجاج ليبيين لبيت المقدس، وكان أكثرهم من رجال الأمن والاستخبارات، وطلبت من المقاومة الفلسطينية في لبنان الانتحار والصمود حتى تتولى اسرائيل تصفيتهم، وقذفت بآلاف الفلسطينيين إلى الصحراء في العراء، ثم قلت بأنني أفعل هذا من أجلهم، وعلى استعداد لنصب خيمتي الملونة بجوار خيامهم، فاعتبرني شعبي بطلا نبيا يسحر الجميع بعبقرية أفكاره.
القاضي: أكنت حقا تظن نفسك نبيا كما وصفتك الصحفية الايطالية ميريلا بيانكو في كتابها ( القذافي رسول الصحراء)؟
المتهم: الأنبياء لهم رسائل تنزل عليهم من السماء، أما أنا فقد صنعت رسالتي بنفسي، ومن يتابع المشهد القذافي في شطر منه لا يخالجه أدنى شك في أنني أعتبر نفسي أعلى قدرا ومقاما ورسالة سامية من الأنبياء أنفسهم.
لهذا عندما فسرت كلمة كن فيكون وكان ذلك في بنغازي خلال انعقاد مجلس اتحاد الجامعات العربية في فبراير عام 1990، كانت رسالتي واضحة للجميع بأنني أكثر قداسة والهاما وعبقرية وأهمية من كل الأنبياء والرسل الذين جاءوا قبلي.
القاضي: ما هي عدد محاولات الانقلاب التي قمت بها ضد الدول الأخرى والأنظمة العربية والأفريقية وباءت بالفشل؟
المتهم: لا أتذكر لكنها قد تكون مئة أو أكثر أو اقل.
القاضي: كيف كان رد فعلك عندما غزا العراقيون دولة الكويت المستقلة والعضو في جامعة الدول العربية؟
المتهم: كنت سعيدا للغاية رغم كراهيتي لصدام حسين، وزايدت على أبي عمار الذي طالب بانتخابات جديدة في الكويت أملا في أن لا يعود آل الصباح لتولي مقاليد الحكم، فقلت قولتي المشهورة بأن الكويت دولة كرتونية، وطالبت بتقسيمها بين العراق والسعودية.
القاضي: ومع ذلك التف كل الكويتيين في مؤتمر جدة الشهير في أكتوبر عام 1990 حول آل الصباح كشرعية دستورية وشعبية حاكمة، ونفذ الأمير وولي العهد تعهدهما للشعب بالتحرير بأي ثمن، ولو كنت أنت مكانهما لما أعادك الليبيون إلى بلدك إلا مكبلا بالأصفاد، أليس كذلك؟
المتهم: إنني أكره الخليجيين كراهية شديدة فهم يبحثون عن السلام والأمن وتطوير مجتمعاتهم، ولا يثيرون متاعب مع الجيران ولا يبعثون فرق تصفية لخصومهم، وهذا يعريني أمام شعبي وأمام العالم كله بأنني مشاغب ومشاكس دون أي نتائج أو انتصارات أو تطور ملموس يشعر به الليبيون.
كيف بدأت عمليات اغتيال معارضيك في الخارج؟
المتهم: لقد طلبت منهم في يونيو عام 1981 أن يعودوا إلى ليبيا في مقابل العفو عنهم، ثم بعد ذلك أصبحت في حل من وعدي وطلبت من اثنين من رجالي، هما سليم حجازي والسنوسي، أن يقوما بعمل فرق اغتيال لتصفية هؤلاء الكلاب، وفعلا نجحنا في قتل العشرات في معظم العواصم الأوروبية، وهذا جزاء من يعارض حكم معمر القذافي.
القاضي: في نفس العام قام أحد الفرنسيين يعاونه بلجيكي يدعى دونيه بمحاولة بيع نفايات نووية إلى ليبيا بمبلغ 400 مليون دولار، فهل تمت العملية؟
المتهم: لم تتم، وصحيح أن آلافا من المستغلين والمنتفعين والمرتزقة جنوا ثروات طائلة من نظام حكمي، لكن كل هذا تم بمعرفتي ورضاي، أما النفايات النووية فلم نقدم على شرائها، والفرنسي الآخر الذي باعنا أنابيب مجوفة على أنها شحنة من السلاح قمنا بتصفيته وشريكه الليبي، فالقتل بالنسبة لي كنسمة هواء صيف تهب على وجهي من خليج سرت وأنا أجلس في خيمتي وأشرب حليب الناقة.
القاضي: عميل المخابرات الأمريكية اودين ويلسون قال بأن الأمريكيين كانوا يحقنون الملك إدريس السنوسي وهو مريض بمضادات حيوية، وأقنعوه بالسفر إلى تركيا ليتصلوا بدورهم بالشرطة العسكرية في محاولة انقلاب فاشلة، في نفس الوقت الذي قمت أنت بانقلابك فظن رجال الجيش والأمن أنهم مشتركون في هذا الانقلاب عام 1969، هل هذا صحيح؟
المتهم: فيه كثير من الصحة، فالملك الراحل الحسين بن طلال كان قد مر بنفس الظروف العصيبة التي يمكن للمريض وهو يحتضر أن يتم حقنه بمضادات حيوية بالغة التعقيد. فكان أن عاد إلى العاصمة الأردنية وركل أخاه الأمير الحسن بن طلال، وقام بتعيين عبد الله بن الحسين، ثم عاد إلى فراش الموت في أمريكا.
التعاون بيننا وبين المخابرات الأمريكية كان قائما على قدم وساق، وكان الملك السنوسي بالفعل قد دعم مصر خلال حرب يونيو عام 1967، لكن أجهزة إعلامي حجبت الحقائق عن الشعب الليبي وأوحت إلى الذاكرة الليبية والعربية بأن العدوان على مصر قام من قاعدة ويلز بدعم ملكي.
والمخابرات الأمريكية بدأت في التآمر على نظامنا عندما اقتربنا أكثر من الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية في ذلك الوقت.
القاضي: كيف كانت المخابرات الليبية تنفق كل هذه الأموال دون رقيب أو حساب؟
المتهم: أنا قائد الثورة والوحيد المؤهل لحكم ليبيا، وأوامري لا يعصيها إلا من يتهاون في شأن زيارة ملك الموت له.
وأموال ليبيا كلها تحت إمرتي، ولكن هذا لم يمنع وجود غطاءات سرية لتسهيل بعض الأمور، ومنها مثلا أن تسديد مبالغ كبيرة في عمليات سرية كانت تتم من ( مكتب التجارة الأفريقي ) وهو مكتب وهمي تديره أجهزة استخباراتي.
القاضي: كيف سحب عمر المحيشي أموال المخابرات الليبية من حسابات سرية في جنيف؟
لمتهم: كانت لديه الصلاحيات والثقة رغم أنني نادرا ما أثق في أحد، وأقوم بتبديل مواقع رجالي صعودا وهبوطا حتى تصبح أرواحهم في قبضتي، وأظن أن معظم زملائي في مهنة الطغيان في العالم العربي يفعلون نفس الشيء.
القاضي: كانت لديكم قدرة على استضافة مئات الوفود من حركات التقدم والثورة والتمرد في العالم كله، منهم الصادقون وأكثرهم من المرتزقة الوصوليين. كيف كنتم تفرقون بينهم وتمنحونهم الدعم المالي، وعلى أي أساس؟
المتهم: كانت تحت يدي أموال النفط بالمليارات، ونحن بلد صغير وطموحاتي أكبر من طموحات قادة الدول العظمى، لذا لم يكن أمامي غير انفاق المليارات لكي تظل زعامتي قائمة، وصورتي في وسائل الاعلام الغربية والأمريكية لا تفارق عيون المشاهدين والقراء والمتابعين لأخبار ونشاطات زعماء العالم.
القاضي: يقال بأن الإمام موسى الصدر ناقشك في أمور خاصة بالسنة والشيعة، وطلب منك رفع يديك عن لبنان، فقررت تصفيته، هل هذا صحيح؟
المتهم: سيدي القاضي، ليس المهم سبب القتل، ولكن الأهم أن ازهاق روح مواطن أو رجل دين أو ضيف أو معارض أو صديق أو رفيق في الثورة جعل فترة حكمي تطول، فالناس بطبيعتها تركن إلى الخوف، وكان لابد أن يتناقل الليبيون حكايات التصفية والتعذيب والقتل والمطاردة ليصمت كل من تسول له نفسه حلم المعارضة ولو كان يعمل في مكان مجهول في قرية صغيرة في أقاصي الأرض.
وكما كان من حق الكويتيين أن يقدموا أدلة ومستندات ووثائق تدين صدام حسين في محاكمته فإن اللبنانيين، كما أنا توقعت، قدموا لعدالة المحكمة مئات الوثائق عما فعلته أنا بهم في وطنهم الذي مزقته الحرب الأهلية ولم تكن أموالي بعيدة عن اشعالها.
القاضي: كيف كانت علاقتك بالاسلام؟
المتهم: كنت أشعر بغيرة شديدة من نبي الاسلام نفسه، لذا طالبت بأن يكون القرآن الكريم المصدر الوحيد الذي يأخذ منه المسلم دينه..
ثم أمرت بالغاء التاريخ الهجري فهو يمثل انتصار الرسالة المحمدية على قوى البغي وجعلت تاريخ الوفاة بديلا له فهو يمثل لي انتهاء عصر آخر الأنبياء.
إنني كما أكدت اللجان الشعبية نبي العصر، ومفجر النهضة، وواضع الكتاب الأخضر المقدس، وصانع الانعتاق النهائي، وأنا كما وصفني المثقفون والمفكرون في العالمين العربي والاسلامي سياسي وعسكري وقائد ومخطط حروب وقصاص وروائي( وصف الدكتور سمير سرحان رواياتي بأنها تعبر عن عبقرية فلسفية) ورسول الصحراء والزعيم الملهم والفيلسوف والمفكر حتى الأغاني قررت في فترة تجليات صافية كتابتها لكنني عدلت في اللحظة الأخيرة.
لذا أتعجب أنني الآن في قفص الاتهام، أما الذين صنعوني فلم توجه لهم النيابة أصابع الاتهام.
إنهم هناك، سيدي القاضي، يستعدون لصناعة نفس البطل، ويلهمون الأحمق أفكار الهلوسة، وينفخون في صورته، ويركعون لسخافاته، ويسجدون لملكوته وقوته.
كم وددت أن تأمروا باحضار عشرات الالاف من الذين كانوا سياجا يتولى حمايتي،وسوطا يلهب ظهر الشعب الليبي، ولسانا يردد الأكاذيب والأباطيل، وسجّانا يقف على بوابة الوطن السجن لحراسة أبناء شعبي خشية هروبهم من الجماهيرية الجحيم.
القاضي: الطغاة في أي مكان في العالم ليسوا في حاجة للبحث عن مؤيدين وجبناء وسجانين وهذا لا علاقة له بطبيعة الشعب، فهتلر صنع من الشعب الأكثر تحضرا نازية عنصرية قاسية، وستالين لم يرف له جفن وهو يقتل ستة ملايين روسي ويستعين بأبناء شعبه لزيادة عدد ضحاياه من أهلهم وذويهم، وبول بوت كان يشير باصبعه فيطيعه ذئاب مفترسة من الكمبوديين حتى كاد أن يقضي على نصف السكان بواسطة النصف الآخر، وسوموزا في نيكاراجوا حكم وأسرته البلاد المنكوبة لأكثر من أربعين عاما، وسالازار في البرتغال اكتظت سجونه بخيرة أبناء شعبه، وشاه إيران صنع من عرش الطاووس سافاكا يسمع نبضات قلوب الايرانيين حتى قيل بأن ربع الشعب الايراني كان منخرطا في أجهزة الأمن الأكثر غلظة فلما خرج الايرانيون كلهم لاستقبال الخوميني العائد المنتصر باسم الاسلام والطهارة والعفة والوحدانية لم تكلف الثورة رجالا لحراستها فتطوع مئات الالاف وحدثت عشرات الالاف من التجاوزات والمحاكم السريعة التي كانت تستغرق أحيانا دقيقتين فيصدر الخلخالي حكما باعدام المتهمين.
ألم تكن في كل بيت عراقي عيون لشيطان بغداد من أهل البيت أنفسهم؟
من الذي خمد ثورة مارس عام 1991 في العراق؟ ألم يكونوا جنودا قساة بلغ عددهم عشرات الالاف فذبحوا وعذبوا وقتلوا ودمروا وتباروا في قطع رؤوس الأطفال؟
الطاغية في أي مكان وزمان لا يحتاج للبحث عن جبناء وأنذال ووحوش مفترسة تنهش لحوم أبناء شعبه لأنهم يتطوعون من تلقاء أنفسهم للدفاع عن المستبد.
المتهم: لكنني، سيدي القاضي، لم أعثر على معارضين بحجم سطوتي وكثرة جرائمي ضد أبناء الشعب.
القاضي: أنت كاذب وجاهل، فالليبيون رغم أن ثلثيهم لم يعرفوا غير نظام حكمك الجائر استطاعوا صناعة معارضة شريفة، وقدموا للوطن آلاف الشهداء، وتفرقوا في الأرض والغربة ليعيدوا تجميع أنفسهم أفرادا أو جماعات لمعارضة طغيانك واستبدادك، وحرضوا عليك، وقدموا لمنظمات حقوق الانسان وثائق تدينك، وقاموا بفضح أكاذيبك، وفندوا أباطيل إعلامك.
الآن حدثني عن عمليات الاختفاء القسري التي مارسها نظامك العفن وتفوق فيها على كل جمهوريات الموز المعروفة بظاهرة الاختفاء.
المتهم: لقد جرى العرف في عالمنا العربي أن يأتي زائر الفجر ويطرق الباب فتنهض الأسرة من نومها مذعورة، لكن ضابطا يصطنع الأدب يتقدم مهدئا من روع أفراد الأسرة ويطلب معيلها أو أحد أبنائها لزيارة مركز الأمن ولن يستغرق الأمر ساعتين أو يزيد بقليل، ثم يعود إلى أهله وأحضانهم الدافئة ليمارس حياته العادية.
مسرحية سخيفة يكررها جلاوزة الأمن والضباط والمخبرون والمرشدون في معظم دول وطننا العربي الكبير الممتد من بحر الغزال إلى سد أتاتورك، ومن طنب الكبرى إلى جزيرة الخالدات مرورا بجزيرة حنيش وليلى وسبتة ومليلة.. فالرجل لا يعود إلى أهله إلا أن تحدث معجزة أو يقوم عزرائيل بزيارة زعيم البلد قبل أن يعرج على رب الأسرة المعتقل.
أما رجالي، سيدي القاضي، فهم يفهمون قائدهم، ويحققون رغباتي في إذلال كل أفراد الأسرة لدى زيارتهم المشؤومة في عتمة الليل أو ضوء القمر، فيتم جر المواطن على بطنه أو ظهره، ويتولى رجالي الضرب بأعقاب البنادق وتوزيع الشتائم والتهديدات، ثم تبتلعهم الأرض ليظهروا فجأة في واحد من المعتقلات الكثيرة، فوق الأرض أو تحتها، والممتدة من طبرق إلى العزيزية، ومن الجبل الأخضر إلى غدامس أو الحدود التشادية.
وهنا يبدأ الجحيم الأرضي الذي لم ينافسني فيه زعيم آخر، وإذا كان معتقل ( كوبر) ينزل الرعب في قلوب السودانيين، و(الجفرا) يزلزل كيان الأردنيين، و( تدمر ) يجعل السوريين يشتاقون إلى جهنم لعلها أكثر رحمة منه، و( تزمامرت ) يقف شامخا في المغرب معتزا بأنه نتاج عبقرية الحسن الثاني في انزال أقسى العذاب بمعارضيه، و( وأبو غريب ) يشهد العالم على أنه في عهديه التكريتي والأمريكي الأكثر شهرة عن ظلم الانسان لأخيه الانسان، فإن سجوني ومعتقلاتي ستشهد يوم الحشر كل جدرانها بأنها صناعة قذافية لم يصل لمثلها إنس أو جان في صنوف التعذيب والتنكيل والاذلال والمهانة.
القاضي: ساديتك جعلتك لا تَمُتّ من قريب أو من بعيد للأرض الطيبة التي أخرجت من بطنها عمر المختار وقاومت الغزاة وصنعت مناضلين وشعراء وأدباء وعلماء ومؤرخين وجنودا بررة بالوطن.
المتهم: كنت أكره الليبيين كراهية شديدة، وأصفهم بصفات دنيئة دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة، وأمعن في سياسة الاختطاف والاختفاء القسري لعل أهلهم وذويهم وأحبابهم يتعذبون أيضا فتزداد نشوتي، وتسجل لجان حقوق الانسان ملفاتي لديها كواحدة من أهم تجاوزات الأنظمة المستبدة فتنتعش نفسي وأعرف أن رجالي قاموا بالواجب على أكمل وجه.
كنت أرى الاختطاف عذابا مضاعفا للأسرة وللأحباب وللأصدقاء، فهم لا يعرفون أين ذهبنا بالمختطف والمرتهن لدينا، وتبدأ عملية اذلال العائلة في تنقلاتها من سجن إلى آخر ومن مسؤول إلى ثان ورابع وعاشر، وترفع إلى الشكاوى ورسائل الاستجداء وبرقيات الاستغاثة فيزيدني عذاب الشعب نشوة وبهجة.
قمنا بخطف الدكتور عمرو النامي الأستاذ الجامعي المرموق، وامعانا في تعذيب أسرته حدث الاختطاف من بيته وأمام أفراد العائلة.
ما الشيخ محمد البشتي فقد رأينا أن الاختطاف ينبغي أن يتم من داخل المسجد وأمام المصلين ليتعلم الليبيون أن لا قداسة لأحد في عهدي، وأن شيخهم الذي كان يقف خاشعا أمام الله تستطيع أجهزة أمن الجماهيرية أن تنتزعه من صلاته ونسكه وبيت الرحمن دون توجيه أي تهمة. ولم تكن، سيدي القاضي، البيوت والمساجد فقط هي الأماكن المفضلة لدينا لاختطاف المواطنين، فقد اخترنا فندقا فاخرا في عاصمة الفاطميين لنمارس فيه لعبة الاختطاف والاختفاء القسري، وكان هذه المرة وزير الخارجية الأسبق منصور الكيخيا لأنه تجرأ واستعد لحضور اجتماعات المنظمة العربية لحقوق الانسان.
أما الصحفي الفلسطيني جهاد عبد الله فقد رأينا أن الاختطاف ينبغي أن يتم في مقر عمله، وفي العاصمة الجميلة أبو ظبي حيث الأمن والأمان اللذين صنعهما الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان معذرة، سيدي القاضي، فذاكرتي لا تسمح لي أن أستدعي منها مئات الحالات من الاختفاء القسري الذي برع فيه نظامنا.
القاضي: لقد كنت أنت أكثر المسؤولين العرب جبنا بعد القبض على صدام حسين، وانكشف المستور، وكان من المفترض أن يثور الشعب وتتوحد المقاومة وتصبح المعارضة في الخارج يدا واحدة بعدما اتضح أنك تبيع الوطن أرضا ونفطا ووثائق وأسرارا واصدقاء وكرامة واستقلالا، فكيف استمر حكمك فترة أخرى بعد تعريتك في تعويضات لوكيربي؟
المتهم: لأن الزمن رؤية نسبية، فالشعوب تنتظر سنوات طويلة حتى يجمعها زعيم، والزعيم يتردد طويلا حتى يتأكد من أن الشعب لن يخذله.
كان من الممكن أن تدعو المعارضة إلى عصيان مدني بعد عام وتعد له متكاتفة وشارحة لكل ليبي في الداخل أو في الخارج أهمية هذا اليوم.
حتى لو علم الطاغية والمستبد والقائد بموعد العصيان المدني قبله بعام واستخدم كل ما يملك من اسلحة أمنية واعلامية وتخطيطات في مركز الاستخبارات الأمريكية أو الموساد أو غيره، فإن العصيان المدني كان يمكن أن يطيح بي بعد وقت قصير من كشف سوءاتي بعيد تسليمي الوطن إلى الأمريكيين. كلنا مشتركون في جريمة اغتصاب الوطن، وإذا كنت أنا المتهم الرئيس فأنتم أيضا، سيدي القاضي، في قفص الاتهام معي. كيف صمتم عدة عقود وكل منكم يملك الأدلة القاطعة والبراهين الموثقة على جرائمي؟
ستقولون بأنكم خائفون من أجهزة أمني ومخابراتي وكلاب خيمتي وذئاب سلطتي، ونسيتم أو تناسيتم أنهم أهل لكم وأقارب وأحباب وأصدقاء وزملاء ومعارف ..
نعم، لقد جعلتكم في النهاية في مؤخرة صف الباحثين عن مكان في زمن يضرب بوش وشارون مؤخرة أي معارض أو مناضل أو وطني ..
وزرعت الرعب في قلوبكم، وأهدرت خيراتكم، وبددت ثرواتكم، وصنعت جيلين من المخدرين والمغيبين وحمقى التظاهرات اليومية ..
لكنكم، سيدي القاضي، مجرمون أيضا ومشتركون معي في اغتيال الوطن. لقد انتظرتم طويلا بعد أن أوشكت على رهن الوطن وشعبي في مزاد علني. وهنا ارتعشت يدا القاضي، واهتز جسده، وأغرورقت عيناه بدموع الحزن أو الأسف أو الغضب، وفتح فاه بصعوبة بالغة موجها حديثه للمتهم معمر القذافي قائلا:الحكم بعد المداولة!
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
http://taeralshmal.jeeran.com
http://www.taeralshmal.com
Taeralshmal@hotmail.com
http://Againstmoubarak.jeeran.com
http://blogs.albawaba.com/taeralshmal