فى القرن العاشر الهجرى اجتمعت امامة الفقهاء ومشيخة الصوفية للشيخ عبدالوهاب الشعرانى المتوفىسنة973 هجرية ، وقد عاش طرفا من العصر المملوكى وشهد الفتح العثمانى لمصر ، وتسيد الحياة العقلية والثقافية فى العصر العثمانى وظلت مؤلفاته الكثيرة تتحكم فى العقلية المصرية عدة قرون ، وحتى الآن لاتزال له مكانته المقدسة لدى الكثيرين الذين يعتبرونه القطب الروحانى والكهف الصمدانى الامام الشعرانى !!
وقد عانى المصريون من قسوة الظلم المملوكى ثم جاء العثمانيون فتضاعف الظلم أضعافا مضاعفة وتنوعت طوائف الظلمة من أمراء مماليك متنازعين إلى مشايخ أعراب سفاكين للدماء إلى الولاة والجنود العثمانيين الذين لايعنيهم إلا امتصاص دماء الشعب المسكين !!
وكان أولئك الظلمة على اختلاف طوائفهم يرفعون لواء الاسلام والشريعة المطهرة وكانوا يكرمون الفقهاء والأشياخ ، وكانت للامام الشعرانى مكانته المقدسة لدى أولئك الحكام باعتباره امام الفقهاء وكبير الصوفية فى نفس الوقت .
وكان الشعب المطحون المقهور يتطلع أيضا إلى الامام الشعرانى ليرفع عن كاهله باسم الاسلام شيئا من الظلم والتفت الامام الشعرانى إلى المصريين المظلومين ثم التفت إلـــى الحكام الظلمة الغرباء وسجل فى مؤلفاته طريقته الفريدة فى التعامل مع الظلم والظلمة ،
فماذا قال وباختصار.
فى البداية يعترف الشعرانى بان الحكام يظلمون الناس وهم يعتمدون علىشفاعة الأولياء
الصوفية لهم، وانهم مهما ظلموا فان شفاعة الأولياء ستنجيهم يوم القيامة يقول الشعرانى
" أكثر الحكام يظلم وينهب ويجور ويبلص ويهلك الحرث والنسل ويقول مادام الشيخ طيبا علىّ ماأخاف.. ولسان حالهم يقول مادام سيدى الشيخ يدعو لنا وهو حامل حملتنا لا نبالى ولو ظلمنا العباد والبلاد " !! .
وبدلا من أن يقوم الشعرانى بواجبه فى اظهار الحق ومواجهة الظلم فانه انبرى يضــــع القواعد التى تكرس الظلم وتبيح النفاق والركوع للظالم مهما فعل !!.
فالشعرانى يضع القواعد للاشياخ الصوفية بكيفية نفاق الحاكم الظالم فيأمرهم إذا اجتمعوا به أن يسألوه فى أن يدعو الله لهم ويدعى أن الله تعالى يستحى أن يرد دعاء هؤلاء الأكابرحتى لو لم يكونوا صالحين !
ويحذرهم الشعرانى إذا دخلوا على الظالم أن يذكروا امامه محاسن الأمير الذى سبقه ..
ويفتخر بأسلوبه"الدبلوماسى" فى نفاق الحاكم يقول "وهذا دأبى دائما فى سياسة الولاة اذا علمت أن أحدا منهم ظلم انسانا لا أجعل ذلك الظلم على علمه وانما أقول بلغنا أن جماعتك ظلموا فلانا من غير علمك ، وكثيرا ماأقول: السلام على الأخ العزيز العبد الصالح فلان وأقصد بذلك صلاحه للجنة أو النار !!.
ثم التفت الشعرانى للمظلومين يدعوهم للرضا بالظلم والصبر عليه لأنهم يستحقــــــــون مايحدث لهم بسبب مايقعون فيه من ذنوب، يقول" ومن استحق أن يحرق بالنار فصولح
بالرماد لاينبغى له أن يتكدروأيضا فان الظالمين ماظلمونا حتى ظلمنا أنفسنا أو غيرنا .."
ثم تطرق الشعرانى فحذر المظلوم من الدعاء على الظالم لأن ظلمه لم يصدرفى الحقيقة
إلا عن المظلوم ، وأن الحاكم الظالم إنما هو مسلط على الناس بحسب أعمال الناس ،
فالظالم حكمه حكم السوط الذى يضرب به ، وليس الذنب ذنب السوط ولكن ذنب الواقع
فى الأثم واستحق عليه عقوبة الله !! وهكذا منع الشعرانى سب الولاة مهما جاروا ومنع
اغتيابهم وأوصى بعدم الجلوس " فى مجالس القيل والقال والطعن فى الولاة"..
" وألا يكثروا فى اللغو وجر قوافى الولاة وغيرهم ".
ووضع الشعرانى للناس قواعد النفاق للظالم وربط ذلك بالدين على عادته.. فيقول:
" أخذ علينا العهود أن ندور مع أهل زماننا وننخدع لهم .. ونتلون لهم كما يتلونون لنا..
وأن نأمر اخواننا بأن يدوروا مع الزمان وأهله كيف داروا .. "
وإذا حبس الحاكم مظلوما فينبغى الكف عن زيارته وارسال الاطعمة له حتى لايغضب
أولو الأمر وأيضا لأن المحبوس كلما ضاقت عليه كلما قصرت مدة حبسه !!
ثم يضع الشعرانى قاعدة أساسية فى نفاق الحاكم وهى أن ذلك النفاق للحاكم مقصور على وقـــــت حكمه وسلطانه فان عزل من سلطانه فلا تعظيم ولانفاق " لأن التعظيم حقيقة انما هو
للرتب لا للذوات فمن عظم أميرا أو صاحب جهه فى أيام عزله كما كان أيام ولايته فقد أخطأ وجه الحكمة ونقص مقامه بقدر مارفع ذلك المعزول".
تلك باختصار مقتطفات من موقف الشعرانى من الظلم العثمانى. ولقد التفت الشعب
المصرى المظلوم للامام الشعرانى يستجيربه فما وجد عنده غير ذلك فكان أن ردد النا س فى أمثالهم الشعبية أقوال شيخهم الشعرانى فقالوا فى العصر العثمانى " الخضوع عند الحاجة
رجولية" "الناس أتباع لمن غلب " "سلطان غشوم خير من فتن تدوم " واستمرت الأمثال
الشعبيةعلى نفس المنوال تقول" ضرب الحاكم شرف " " علقة تفوت ولاحد يموت" "طاطى لها تفوت " "ماحد يقول ياجندى غطى وقتك " " دور مع الأيام اذا دارت" "إلى ماتقدرتواقعه نافقه" "الايد اللى ما تقدر تقطعها بوسها" "بوس الايادى ضحك علىالدقون" "ان كان لك عــــند الكلب حاجه قوله ياسيد"!!
لقد أفلح الشعرانى بمؤلفاته الكثيرة فى تركيع الشعب المصرى للظلم العثمانى فظل الناس
يعتبرون السلطان العثمانى خليفة المسلمين ، وظل الفقهاء يدعون للسلطان بالنصر على
الكفار .. ولا يزالون ..
أى لازلنا نعيش فى عصر الشعرانى !!