أول حرب عالمية فى التاريخ ذكرها القرآن الكريم

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٥ - فبراير - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً

أول حرب عالمية فى التاريخ ذكرها القرآن الكريم
مقدمة
نعرض لها فى ثلاث مقالات . الأولى فى القرآن الكريم ، والثانية فى العهد القديم ، والأخيرة فى هجص القرطبى فى ( تفسيره ) .
المقال الأول :
قال جل وعلا :( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ (31) المائدة )
أولا : ملاحظات عامة
1 ـ هى أول حرب عالمية فى تاريخ البشر ، حيث تمثلت البشرية وقتها فى آدم وزوجه وإبنيه . وهذه الحرب هى أول تجسيد للعداء بين بنى آدم ، وهو المذكور فى قوله جل وعلا لآدم وزوجه وذريته من خلالهما : ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) البقرة 36 ) ( قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (الاعراف 24 ) ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) طه 123 ).
2 ـ ولأنها أول حرب عالمية فى التاريخ فقد:
2 / 1 : كان فيها أول جريمة قتل لنفس بريئة ، وأول جثة بشرية فى التاريخ ، وهى جثة ابن آدم القتيل ، وكان أول من مات من البشر ، ولذا إحتار القاتل كيف يفعل بجثّة أو ( سوأة ) أخيه .
2 / 2 : كان فيها أول دفن لواحد من البشر .
2 / 3 : كان فيها أول مأساة يشهدها والدان فى حياتهما. كان آدم وزوجه على قيد الحياة عندما نشبت هذه الحرب العالمية بين إبنيهما . لو كان آدم أو زوجه قد ماتا من قبل ما إحتار الابن القاتل كيف يفعل بجثة أخيه القتيل .
2 / 4 : كان فيها إبنان فقط من الذكور لآدم ، قال جل وعلا : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ ). وسياق القصة يدل على ذلك إذ لا وجود لأبناء ذكورآخرين لآدم ، نفهم هذا من : ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ )( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ (31) المائدة ) . نفهم إن إبنى آدم قد كبرا حتى بلغا مبلغ الرجال دون أن يكون لهما أخ أو أخوة من الذكور . وربما كان لآدم بنات ، تزوج بهما إبنا آدم ، وتكاثر بهم أحفاد آدم من أبناء القاتل والقتيل . كانت البشرية وقتها فى حاجة الى كثرة النسل ، وهو بكثرة عدد النساء وليس بكثرة عدد الرجال . لو كان فى مجتمع ما ألف رجل وإمرأة واحدة تناوبوا عليها طيلة عام واحد لم يزد عدد المجتمع سوى مولود واحد ، هذا إذا عاشت المرأة . أما لو كان فى مجتمع ألف إمرأة ورجل واحد ، وقد تناوب الرجل عليهن جميعا فسيزيد العدد ألفا من المواليد. ولهذا يوجد التعدد فى الزوجات ، وتلك قضية أخرى .
3 ـ كان قتل الصيد معروفا ، ولكن قتل الانسان لم يبدأ إلا بهذا . الأخ الذى كان يعرف قتل الحيوان هدّد أخاه بالقتل كما يقتل الصيد ، والأخ الآخر كان يعرف قتل الصيد أيضا ولكنه لم يُرد قتل أخيه ، ولم يُرد أصلا أن يدخل معه فى صراع الحياة والموت .
4 ـ الاسلام ــ دين السلام والتقوى ـ كان متغلغلا فى قلب الأخ الذى رفض الدفاع عن نفسه ، وقال : ( لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)). الأخ التّقى يعترف أن له ذنوبا وآثاما .
5 ـ لكل إنسان ذاتيته الخاصة ، ولا يكون نسخة من أبيه أو أمه ، فله إختياراته الخاصة ، ولذا فالهداية إختيار شخصى ، ليس مهما أنت إبن من أو والد لمن . ابنا آدم تناقضا فى اختياراتهما ، كان أحدهما متقيا تقبل الله جل وعلا منه القربان ، والآخر كان ظالما لم يتقبل منه الرحمن جل وعلا : ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ (27)). أبواهما عصيا ثم تابا ، وتقبل الله جل وعلا توبتهما : ( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) البقرة )، وقد قال جل وعلا عنه : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) آل عمران ). الابن الذى إختار العصيان تنكّب طريق أبيه . هذا يذكّرنا بابن نوح ووالد ابراهيم وأبى لهب وزوجة نوح وزوجة لوط . كل فرد واختياره وما كسبه، قال جل وعلا : ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) الطور)، ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) المدثر )
6 ـ نشأ إبنا آدم فى كنف أبيهما ، وتعلما منه ، وإختلفت خياراتهما . لكنهما قاما بتأدية الشعائر ، ومنه تقديم القرابين لوجه الله جل وعلا . وحيث لم يوجد وقتئذ مستحقون للصدقة فقد كان تقديم القرابين مجرد طاعة تأتى إشارة من الرحمن جل وعلا بقبولها أو عدم قبولها . و ( القربان ) يأتى من الفعل ( قرّب ) أى تقرّبا لله جل وعلا وقدّما شيئا لوجه الله جل وعلا ، وهذا هو المفهوم من قوله جل وعلا : ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ ). الله جل وعلا لا يتقبّل من الصدقات إلا ما كان منها خالصا لوجهه ، فهو جل وعلا كما قال ابن آدم التقى : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ ) . هذا يذكرنا بقوله جل وعلا : ( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) سبأ ).
7 ـ فيما بعد أصبح تقديم القرابين شعيرة دينية فى الأديان الأرضية الشيطانية يقدمونها تقربا الى الأوثان والقبور المقدسة ( الأنصاب / النُّصّب ) ، ولا يزال هذا سائدا بين المسيحيين والمحمديين وغيرهم ، وقد حرّم الله جل وعلا الأكل منه : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ )(3) المائدة ) . جاءت الاشارة الى هذه القرابين فى قوله جل وعلا :
7 / 1 : (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) آل عمران ). هنا زعم بعض أهل الكتاب الكافرين بأن الله جل وعلا ( عهد اليهم ) أى أمرهم ألّا يؤمنوا برسول إلّا إذا أتى لهم بآية ، قربان تأكله النار . والردُّ هنا بتذكيرهم بالأنبياء الذين قتلهم أسلافهم .
7 / 2 : ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) الاحقاف ). هنا إشارة الى هلاك الأمم الكافرة السابقة ، وقد كانوا يؤمنون بآلهة مزيفة لم تنقذهم من الهلاك ، برغم ما كانوا يقدمون لها من قرابين .
8 ـ قال جل وعلا : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) .
8 / 1 : هنا إخبار عن غيب السرائر لا يعلمه سوى الخالق جل وعلا .
8 / 2 : إبن آدم طوّعت له نفسه قتل أخيه فأسرع وقتله . ( طوّعت ) يعنى برّرت وسوّغت ، يعنى إستحلّت دم أخيه . حين فعلت له نفسه هذا لم يقل لها : كفى ، هذا حرام " بل سارع بالتنفيذ . ( إستحلال الحرام ) جريمة تفوق إرتكاب الحرام نفسه . هناك من يقتل ظالما وهو يعرف أنه يفعل ذلك ظلما وعدوانا ، لا يحاول التبرير . هذا قد يتوب لأنه يعرف خطأه . هناك من ( يستحلُّ ) القتل . هذا لا يمكن أن يتوب لأنه فى نظره لم يرتكب حراما بل فعل ما هو حلال مُباح . هناك الأسوأ ، وهو الذى يجعل الحرام ( قتل النفس البريئة ) فريضة دينية يجب تنفيذها . وهذا فى تشريعات الأديان الأرضية الشيطانية ، مثل قتل المرتد والزانى المحصن وتارك الصلاة وتارك الجماعة ، والأفظع منه الجهاد الشيطانى ، فى الفتوحات ( العربية ) و ( الحروب الصليبية ) . ونسأل بكل هدوء : إذا كان ابن آدم قد أصبح خاسرا لأنه فى نوبة غضب قد قتل أخاه ، فماذا عن أبى بكر وعمر وعثمان ، وهم بدون غضب قد قتلوا واسترقوا مئات الألوف ، يزعمون أن هذا هو الاسلام ؟
8 / 3 : لقد خلق الله جل وعلا النفس بفجورها وتقواها ، وجعل داخلها مشيئة عليا يمكن أن ترتفع بالنفس أو أن تتسفّل بها . قال جل وعلا : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) الشمس ). ابن آدم الخاسر طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ـ بينما أخوه إرتفع بنفسه وقال لأخيه : ( لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ). هذا ينطبق عليه قوله جل وعلا : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) النازعات ). ليس الأمر ( إمّا وإمّا ) ، فهناك من يخطىء ثم يتوب . تغلبه نفسه الأمّارة بالسوء ، ثم يتوب ويعترف بخطئه . هذا ما حدث لامرأة عزيز مصر فى قصة يوسف ؛ ( طوّعت ) لها نفسها التحرُّش بيوسف وصممت على إغتصابه ، ولما رفض أدخلته السجن . ثم تابت واعترفت بذنبها علنا أمام الملك والملأ . وكان مما قالت : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) يوسف ). إبن آدم القاتل لم يعترف بذنيه ، مع إنه أصبح من النادمين . دليلنا قول الله جل وعلا عنه ( فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) .
9 ـ ( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ (31) المائدة ) . القاتل كان يعلم بأن نفس أخيه قد رحلت وأن الذى يراه ليس أخاه ، بل سوأة أخيه . وقف القاتل حائرا أمام جثة ( سوأة ) أخيه . المعروف أن الصيد المقتول مصيره الأكل ، سواء كان القاتل إنسانا أو حيوانا مفترسا . هنا وضع جديد . هل يترك جثة أخيه تأكلها الجوارح أم يحملها الى أبويه ؟ . بعث الله جل وعلا غرابين تقاتلا وقام الغراب القاتل بدفن جثة المقتول . تعلم ابن آدم كيف يدفن جثة أخيه ، وتوارثنا هذا وأصبح من إكرام من مات هو تغييب جسده السوأة فى الأرض قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) الاسراء ). ولكن الشيطان يجعل أغلبية بنى آدم تعبد الجثث والجيف البشرية ..!!
10 : الجسد البشرى هو ( سوأة ) سواء كانت لنفس حية أو بعد ترك النفس لهذا الجسد . جسد آدم وجسد زوجه فى الجنة الأرضية البرزخيه كانت تغطيهما طبقة نورانية برزخية ، لما أكلا من الشجرة المحرّمة زال عنهما الغطاء أو الغشاء النورانى ، وبدا يتكشّف جسدهما ، حاولا دون فائدة تغطية جسدهما السوأة بأوراق شجر الجنة النورانية . فهذا الجسد المادى ( سوأة ) أى يسوء النظر اليها . وتشفّى فيها الشيطان وهو يقوم بإظهار جسدهما ( السواة ) لهما . قال جل وعلا :
10 / 1 : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ )( وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) ( فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) الاعراف 20 : 22 ).
10 / 2 : ( فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ) ( طه 121 ).
11 ـ وهما فى الجنة البرزخية كان يريان الشيطان . بهبوطهما الى الأرض المادية انتهى ذلك ، بالنسبة لهما ولذريتهما . قال لنا ـ يعظنا ــ جل وعلا : ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) ( الاعراف 26 : 27 ).
12 ـ أصبح البديل النورانى لنا فى الدنيا هو نور القرآن الكريم للنفس البشرية إذا إهتدت . قال جل وعلا :
12 / 1 : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (175) النساء )
12 / 2 : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) (52) الشورى )
12 / 3 : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) المائدة ).
13 ـ إذا إهتدت النفس بالقرآن الكريم :
13 / 1 : أصبح لها القرآن الكريم حياة ونورا معنويا فى الدنيا تمشى به بين الناس . قال جل وعلا : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) الانعام )
13 / 2 : سيكون نورا حقيقيا مرئيا يوم القيامة . قال جل وعلا :
13 / 2 / 1 : ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) الحديد )
13 / 2 / 2 : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) الحديد )
13 / 2 / 3 : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) التحريم )
أخيرا :
الذى يحكى قصة ابنى آدم هو الله جل وعلا : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ) يعنى أنه قصص حق ، وفيه إشارة الى باطل شوّه هذه القصة ، وسنعرض له لاحقا . هذه القصة القرآنية فيها نفس الملامح التى أشرنا اليها والتى تجعلها مختلفة عن المنهج التاريخى . لا يوجد هنا تحديد للزمان أو المكان ، ولا إسما إبنى آدم ، ولكن فيها تفصيلات عن الحوار الذى دار بينهما ، وخطرات النفس عن الابن الذى طوعت له نفسه قتل أخيه ، وأصبح من النادمين ، وسيكون فى الآخرة من الخاسرين . هنا قصص يتحدث عن الماضى الغيبى ، يخبر به رب العالمين وهو على كل شىء شهيد . والهدف هو العظة والعبرة . والتدبر فى هذه القصة يفهم منها الكثير ، وقد أشرنا الى بعضه ، ولا يزال المجال متسعا لمن يتعمّق أكثر . وفوق كل ذى علم عليم .
اجمالي القراءات 3672