يقول تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة 107 )ونلاحظ هنا الاتى : أنه أمر للنبى محمد عليه السلام فى حالة حدثت فى عهده ، وقد كشف رب العزة ما كان يتم فى هذا المسجد ، وأوضح حكما مستقبليا أنهم سينكرون التهم الموجهة لهم وهى تهم حقيقية قالها عنهم الله تعالى. ولذا نزل النهى للنبى من ان يقوم فى هذا المسجد مصليا أو داعيا، لأنه لو فعل لكان مخالفا لما قاله تعالى عن هذا المسجد واصحابه.
بالنسبة لنا فطالما نتاكد من سيطرة ضالين مضلين على مسجد ما فليس لنا أن نصلى فيه إلا إذا صلينا فى ناحية منه بعيدا عما يرتفع فيه من افتراء و أكاذيب. فاذا حوصرنا بأكاذيبهم فلا بد من الخروج وعدم البقاء فيها حتى لا نكون مثلهم (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) ( النساء 140 ) هذا إذا كنا أحرارا فى دخول المسجد ، أى يباح لنا دخوله دون أذى من المسيطرين عليه.
وعلى العموم نفهم من قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( البقرة 114 ) أن المستضعفين المؤمنين فى مكة بعد هجرة المؤمنين الى المدينة كانوا يدخلون مساجد مكة للصلاة فيها فكان الملأ الأموى القرشى يمنعهم ويطرده و يترصدهم بالارهاب و التخويف حتى حرمهم من المسجد وحرم المسجد منهم وهم الذين كانوا يعمرونه بصلاتهم الخاشعة الخالصة.الله تعالى لم يؤنب أولئك المؤمنين لدخولهم ذلك المسجد الذى يتحكم فيه كفار قريش ، وإنما لام الكفار القرشيين على طرد المؤمنين المصلين منه. وهنا نعلم أن أولئك المؤمنين كانوا ينفذون نهى الله تعالى من حضور مجالس الكذب على الله و التكذيب بآياته التى كان يقيمها مشركو مكة فى تلك المساجد ن ونزل النهى من الله تعالى فى سورة الانعام المكية ، النهى للنبى محمد نفسه من حضور تلك المجالس التى يخوض فيها أعداء الله تعالى فى كتابه تعالى : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ( الانعام 68 )
بل نفهم من الآية الكريمة السابقة أن النهى لم يكن عاما فى كل وقت وانما هو مرتبط بخوضهم فى آيات الله تعالى ، فإذا خاضوا فى حديث غيره ـ بعيدا عن دين الله تعالى و اكاذيبهم ـ فليس هناك من حرج فى الجلوس معهم.
على أن المنافقين فى المدينة استمروا فى عقد نفس المجالس فى نواديهم وفى المساجد يخوضون فى آيات الله تعالى و دينه ـ وكان بعض المؤمنين يحضر و يسمع ، فنزل نهى جدي يذكّر ويحذّر. يذكّرهم بالنهى السابق و يحذّرهم من المشاركة فى الجلوس معهم عندما يخوضون فى دين الله ، ولا مانع من الجلوس معهم عندما يخوضون فى حديث غيره : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء )140