برسباي
كتاب ( تطبيق الشريعة السنّية لأكابر المجرمين في عصر السلطان المملوكى الأشرف برسباى ) كاملا

في الثلاثاء ٢٨ - سبتمبر - ٢٠٢١ ١٢:٠٠ صباحاً


كتاب ( تطبيق الشريعة السنّية لأكابر المجرمين في عصر السلطان المملوكى الأشرف برسباى )
هذا الكتاب
هناك من يطالب بتطبيق ما يسمونه بالشريعة ، ولا يعرفون أن أسلافهم طبقوا شريعة شيطانية لصالح أكابر المجرمين . هذا الكتاب يعطى تقريرا تاريخيا عن تطبيق شريعة أكابر المجرمين في عصر السلطان برسباى من واقع تاريخ السلوك للمقريزى.
فهرس الكتاب
المقدمة
الباب التمهيدى :
عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى
الفصل الأول :
( منهج المؤرخين : التركيز على أكابر المجرمين واهمال المستضعفين ) والفارق بين منهج القصص القرآنى ومنهج التأريخ .
الفصل الثانى :
( مؤرخو عصر برسباى )المؤرخ القاضي ابن حجر العسقلانى الذى كان من أكابر المجرمين المفسدين . المؤرخ أبو المحاسن (813 :874 ) الذى كان من أكابر المجرمين . المقريزى : أعظم المؤرخين الذى لم يكن من أكابر المجرمين
الفصل الثالث :
( لمحة عن الدولة المملوكية ) نوعية الدولة المملوكية : البحرية ثم البرجية وعرض سريع لتاريخ المماليك من خلال مكرهم ببعضهم أو تآمرهم ببعضهم للوصول الى الحكم .
الفصل الرابع :
( قبل عصر برسباى : السلطان المؤيد شيخ وتطبيق شريعته السُّنّية ) السلطان المملوكى المتدين ( المؤيد شيخ ) الذى كان من أكابر المجرمين
تطبيق الشريعة السُّنية في عصر السلطان المتدين ( المؤيد شيخ )
الفصل الخامس :
( برسباى ) من طفولته في القوقاز الى أن صار أكبر أكابر المجرمين الذين يتصدرون العناوين .
الباب الأساس :
عن تطبيق الشريعة السنية لأكابر المجرمين في عصر السلطان برسباى
الفصل الأول : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 825
الفصل الثانى : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 826
الفصل الثالث : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 827
الفصل الرابع : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 828

الفصل الخامس : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 829
الفصل السادس : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 830

الفصل السابع : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 831

الفصل الثامن : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 832

الفصل التاسع : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام الطاعون : 833

الفصل العاشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام الطاعون : 834

الفصل الحادى عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 835
الفصل الثانى عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 836
الفصل الثالث عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 837
الفصل الرابع عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 838
الفصل الخامس عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 839
الفصل السادس عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 840
الفصل السابع عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 841
الخاتمة

المقدمة
أولا :
1 ـ في الردّ على بعض أكابر المجرمين رافعى شعار ( تطبيق الشريعة ) كتبنا في مصر في تسعينيات القرن الماضى بحثا بعنوان :( المجتمع المصرى في ظل تطبيق الشريعة في عصر السلطان قايتباى ). لم نستطع نشره في مصر . ثم نشرناه مقالات في موقعنا ( اهل القرآن ) وموقع ( الحوار المتمدن )، وتم تجميعها في كتاب بنفس العنوان .
2 ـ صدر لنا كتاب ( أكابر المجرمين من رجال الدين في رؤية قرآنية ) وهو مؤسس على القاعدة القرآنية في قوله جل وعلا : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) النساء ). وهو يوضّح أن الكهنوت السُنّى والشيعى والصوفى وشيوخه هم أعدى أعداء الرحمن ، ويجب إحتقارهم بدلا من تقديسهم.
3 ـ فيما بعد رأينا أن نكتب بحثا تاريخيا يقدم تأكيدا لهذه القاعدة التاريخية القرآنية ، ويثبت الإعجاز التاريخى للقرآن الكريم المستمر تاريخيا بعده . إخترنا عصر السلطان المملوكى الأشرف برسباى ، وهو شخصية تاريخية ليست مشهورة ، ولكن حظيت بتسجيل تاريخى لأعظم مؤرخ مصري في العصور الوسطى هو تقى الدين المقريزى الذى كان شاهد عيان على عصر السلطان برسباي يؤرّخ أحداثه باليوم والشهر والسُنة . كان الى جانبه مشاهير من المؤرخين المعاصرين منهم ابن حجر العسقلانى وبدر الدين العينى وأبو المحاسن إبن تغرى بردى ، ولكن تميز عنهم المقريزى بجُرأته وإستقلاليته وعبقريته التاريخية في التسجيل .
4 ـ كان هناك هدفان آخران لهذا الكتاب عن عصر السلطان برسباى :
4 / 1 : فضح أكابر المجرمين من الفقهاء السنيين وعلى رأسهم ابن حجر العسقلانى المعرف ب ( امير المؤمنين في الحديث ) وكان قاضيا للقضاة ومؤرخا ، ومشاركا في الفساد ، والى جانبه قاضى القضاة بدر الدين العينى ، وكان أيضا مؤرخا وفاسدا ، وكلاهما قام بشرح ( صحيح البخارى ) في عصر إعتاد إقامة مناسبة سنوية لتلاوة البخارى وتقديسه تحت رعاية السلطان وحضوره في أغلب الأحيان .
4 / 2 : فضح الشريعة السنية التي ينادى بتطبيقها السلفيون في عصرنا . كان تطبيقها فسادا وسفكا للدماء وظلما للمستضعفين في الأرض ، وهذا من واقع ما كتبه المقريزى وغيره ، هم لم يقصدوا فضح الشريعة السنية ، فقد كانوا سنيين ، ولكن تحليل وقائع التاريخ التي سجلوها يُظهر تطبيقها العملى للشريعة السنية المسيطرة ، ليس فقط في تقديس البخارى وكُتب السُنّة ولكن أيضا لأن أكابر المجرمين من السلطان وأمرائه يحظون بموافقة أكابر المجرمين من الفقهاء والقضاة السنيين التابعين لهم ، وكل جرئمهم كانت تطبيقا لهذه الشريعة ، ولو لم تكن لاعترض عليها من كانوا يُعرفون ب ( قُضاة الشرع الشريف ) .!.
4 / 3 : نؤكد هنا على أن الشريعة السنية الحقيقية ليست شريعة الإسلام المبينة في القرآن الكريم والتي تتأسّس على حرية الدين والحرية السياسية وحرية التعبير وحقوق الانسان والعدل والإحسان وتحريم البغى والفحشاء والمنكر .
5 ـ تم تعديل العنوان ليكون :( تطبيق الشريعة السُنّية لأكابر المجرمين في عصر السلطان المملوكى الأشرف برسباى ). جاء هذا التعديل أثناء نشر الكتاب في مقالات ، ففوجئنا بمن تسلل الى موقعنا يحذف بعض فصول الكتاب ويتلاعب بها ، واسرعنا بتدارك الموقف وإعادة نشر المحذوف فاستمر التلاعب ، فتوقفنا وأرجأنا الاستمرار في نشر مقالات الكتاب بسبب قلة الإمكانات وقلة الوقت ، وإلتفتنا الى غيره من الكتب .
6 ـ ثم كان تدمير موقع ( أهل القرآن ) بالكامل ، ولا زلنا نحاول إسترجاعه وتحديثه وتأمينه ، وكتبنا ونشرنا ( كتاب النصر ) ، ثم التفتنا الى كتاب ( تطبيق الشريعة السنية لأكابر المجرمين في عصر السلطان المملوكى الأشرف برسباى ) أعدنا نشر ما سبق نشره من مقالات مع بعض تعديلات ، وبعد استكمال نشر المقالات قمنا بتجميعها في هذا الكتاب ، بتعديلات أخرى واضافات .
ثانيا :
1 ـ ونُعيد التأكيد على أن كل أحداث العصر التي قام بها أكابر المجرمين تدخل في نطاق تطبيق شريعتهم السنّية . ليس في عصر السلطان برسباى وحده ، بل ما قبله حتى عصر أبى بكر ( الزنديق ) وبعده حتى سلاطين عصرنا الردىء الذين يستخدمون الكهنوت في تبرير جرائمهم ، سواء كانوا من العرب أو من العجم . لذا لا داعى لأن نُعلّق على كل خبر بأنه دليل على شريعتهم وتطبيق عملى لها . لا عبرة بالمكتوب في ( الفقه ) النظرى للشريعة السُّنّيّة ، من أحكام فقهية نظرية ، بل العبرة في التطبيق العلمى الذى يتم فعلا بقضاة الشرع في أحكامهم ، وفيما يقترفه السلطان من جرائم بموافقتهم . لا عبرة بهذا الفقه النظرى ، فأكبر فقيه في العصر المملوكى كان ابن حجر العسقلانى ، وله عشرات الكتب في الفقه النظرى والأحاديث ، وهو مع ذلك كما سيظهر في الكتاب كان أكبر واشهر قاض للقضاة الشافعية ، وكان أيضا أكبر المفسدين بينهم ، وينافسه في الفساد بدر الدين الحنفى قاضى القضاة الأحناف .
2 ـ الدولة المملوكية بالذات كانت المثل الواضح في تطبيق الشرع السُّنّى ، وتوارثت عن الدولة الأيوبية دين التصوف السُّنّى ،أي تطبيق الشريعة السُنّية مع تقديس أولياء التصوف . الدولة المملوكية ــ رسميا ـ هي دولة دينية عسكرية ، فالترتيب الرسمي فيها يضع إسم الخليفة العباسى قبل إسم السلطان ، ثم بعده السلطان وقادة العسكر ..وتأتى أسماء القضاة الأربعة للمذاهب ضمن حُكّام الدولة .
3 ـ . والمماليك كان يؤتى بهم رقيقا من بلادهم فيتعلمون العربية والعلوم الشرعية مع التدريب العسكرى وفنون القتال وأحطّ ساليب التآمر على أنها الطريقة الشرعية للوصول الى مرتبة عليا ، والى منصب السلطان ، وقد يفقد الأمير المملوكى حياته ، وقد يصل لأعلى فوق جثث مناوئيه . وكل هذا مُباح بالشرع السُنّى ، وعندما يصل الى مرتبة السلطنة يبايعه الخليفة العباسى وقُضاة الشرع، فيصبح سلطانا شرعيا وفق الشريعة السُنّية . لم يحدث مطلقا أن إمتنع الخليفة أو القُضاة على مبايعة سلطان وصل لمرتبة السلطنة بسفك الدماء ، ولم يحدث مطلقا أن إعترض فقيه سُنّى أو قاض على جرائم المماليك ، بل كانوا يتنافسون في خدمتهم ونيل وظائفهم ، وكانت العادة أن يقبلوا الأرض أمام السلطان ، وهذا أكبر من السجود للرحمن جل وعلا . وكانوا يدفعون الرشاوى للسلطان في ديوان مخصّص لهذا إسمه ( ديوان البذل والبرطلة ) . بل كان البغاء مسموحا به في الشريعة السنية وقتها ، وكانت ( ضامنة المغانى ) التي تدير بيوت الدعارة تدفع للدولة المملوكية ضرائب ، وكان الشيوخ من الصوفية والفقهاء وقضاة الشرع يتنافسون في هذا الانحلال ، بل كان القُضاة أشد إنحلالا وفسادا من المماليك ، حتى كان برسباى المفسد الأكبر يحاول اصلاحهم ، وحتى لقد اضطر السلطان قايتباى لعزلهم جميعا وبدأ يحقق معهم بنفسه ، وتصدّى هو للحكم بدلا عنهم بنفسه ، ثم ملّ وضجر وأعادهم لوظائفهم . هذه حقائق تاريخية مجهولة كشفنا عنها الغطاء في كتابين لنا هما ( أثر التصوف في الانحلال الخلقى في مصر المملوكية ) و ( المجتمع المصرى في ظل تطبيق الشريعة في عصر السلطان قايتباى ) ، وهما منشوران في موقع ( كتب أحمد صبحى منصور )، والذى يشرف عليه الأستاذ أمين رفعت ، أكرمه الله جل وعلا.
4 ـ السلطان الظاهر بيبرس المملوكى هو الذى أعطى الدولة المملوكية العسكرية هذا الكهنوت الدينى ، لتسويغ حكم المماليك ( الرقيق السابقين ) بالشريعة السُنّيّة ، فهو الذى :
4 / 1 : أعاد الأزهر للعمل في خدمة الدولة ودينها ( التصوف السُّنّى ). كان الأزهر من قبل هو الكهنوت الشيعي للدولة الفاطمية ، ثم أغلقه صلاح الدين الأيوبى ، وأقام مكانه خانقاة سعيد السعداء قلعة لدين التصوف السنى المناوىء لدين التشيع . اصبح الأزهر من وقت الظاهر بيبرس خادما للسلطة القائمة وحارسا لدين التصوف السنى ..ولا يزال .
4 / 2 : إستقدم الخلافة العباسية الى القاهرة بعد سقوطها في بغداد ، وجعل الخليفة العباسى ممثلا للكهنوت ، مهمته مبايعة السلطان المملوكى الذى يتولى السلطة .
4 / 3 : إفتتح عهد بناء المؤسسات الدينية المملوكية ، ببناء مسجده الهائل في القاهرة ، بعده أنشأ السلطان قلاوون مجموعته المعمارية الدينية ، وتوسع السلاطين والأمراء المماليك في إنشاء المساجد والجوامع والقباب والزوايا والأضرحة والأربطة والخوانق والزوايا ، وخصصوا فيها دروسا لعلوم الشريعة السنية من فقه وحديث وتفسير ، وأعاشوا فيها الصوفية يدعون لهم ، باعتبار أن الصوفية أولياء يشفعون لهم يوم القيامة مهما أجرموا . ثم كان إنشاؤهم لتلك المؤسسات الدينة سببا آخر ، يقع ضمن شريعتهم السنية ، لأن الأمير أو السلطان المملوكى ينهب الأموال ، وحين يسقط في الصراع يستولى المنتصر على أمواله ، لذا عمد المماليك بنصيحة فقهاء شرعهم الى التحايل على تحصين سرقاتهم بالوقف الأهلى ، بإقامة مؤسسات دينية والانفاق على من فيها من معلمين وطلبة وصوفية وعاملين ، وأوقفوا عليها ما ينهبونه من أموال وضياع ، ويجعل السلطان أو الأمير نفسه متحكما في الوقف ، ويحرم عندهم شرعا مصادرة هذا الوقف . لذا شاع تأسيس هذه المؤسسات الدينية ليس فقط بأموال السُّحت وبمصادرة حقوق الغير بل أيضا بتسخير الناس في العمل فيها بالبطش والضرب والتعذيب ، وهذا كله في إطار المسموح به في الشريعة السنية ، وكان كبار الفقهاء وكبار القضاة يتولون الاشراف على هذه المؤسسات ، ومنهم ( الحافظ أمير المؤمنين في الحديث إبن حجر العسقلانى ) . بهذا تميز عصر المماليك بالعمائر الدينية ، والتي لا تزال تملأ القاهرة ومصر حتى اليوم ، ومنها مسجد السلطان برسباى .
4 / 4 : بزعامة مصر منذ عهد الظاهر بيبرس أصبح لها السيطرة على الحجاز وتحملت عبء تأمينه من غزو الصليبيين ، وهى التي كانت تسيّر مواكب وقوافل الحج ، ويأتي الى القاهرة من يريد الحج من شمال أفريقيا ليلتحق بقوافل الحج المملوكية ، وتخصّص أمير مملوكى في قيادة قوافل الحج ، وكان هناك في القلعة ـ في القاهرة ـ مقر السلطة المملوكية دار لصناعة كسوة الحج ، وهناك إحتفال بعرضها ، وإحتفال بخروجها مع قافلة الحج وخط سير مرسوم داخل القاهرة ، ويكون المنطلق بعدها من ( بركة الحاج ) أحد أهم معالم القاهرة المملوكية. وكان تسجيل خروج المحمل من الأحداث التي يذكرها المقريزى كل عام .
5 ـ برز في هذا العصر تقسيم العالم الى ( دار السلام و دار الحرب )
5 / 1 : إذا كان السلطان قُطز هو الذى قهر المغول فقد كان ذلك بمساعدة بيبرس ، ثم توسع بيبرس بعده في مطاردة المغول والصليبيين في الشام . وبعده إجتثت الدولة المملوكية الوجود الصليبى في الشام ، ودار الصراع بحريا بين المماليك الممثلين ل ( أُمّة محمد ) والأوربيين الممثلين ل ( أُمّة المسيح ). والسلطان برسباى ــ الذى نعرض له هنا ــ هو الذى إستولى على قبرص التي جعلها الصليبيون موطأ قدم للهجوم على مصر. ففي هذا العصر برز ــ بقوة ــ الصراع بين ( المحمديين : أمة محمد ) و ( الصليبيين : أمة المسيح ) ، وهذا في إطار ما إستحدثته الشريعة السُنّية من تقسيم العالم الى ( دار السلام والسلام ـ معسكر المحمديين ) و ( دار الحرب : معسكر الفرنجة والصليبيين ) . وارتبط هذا بالتقاتل داخل ( معسكر المحمديين ) . بدأ هذا وذاك فعليا وعمليا بالفتوحات التي قام بها الخلفاء الأوائل ، وبما يسمّى بالفتنة الكبرى والحروب الأهلية في عهدهم ، ثم تمّ تأطيره فقهيا ، واستمراره عمليا في حروب بين ( معسكر المحمديين ومعسكر الصليبيين ) وفى الحروب البينية داخل معسكر المحمديين . برز هذا أكثر في سلطنة برسباى الذى إحتل قبرص التي كانت موطئا للهجوم الصليبى على الدولة المملوكية ، وهو أيضا الذى اشتبك في معارك حربية مع خصومه داخل معسكر المحمديين في العراق وايران والأناضول .
ثالثا
1 ـ المصرى المهموم بوطنه اليوم حين يقارن حكم العسكر المملوكى بالعسكر المصرى الحاكم حاليا قد يلطم وجهه بحجارة من ( غرابيب سود ). لماذا ؟ .. لأن :
1 / 1 ـ العسكر المملوكى لم يكن مصريا ، جىء به الى مصر ليحكمها سيدا على سكانها متحكما فيهم بالبطش والتعذيب والاستبداد والفساد . لا ننتظر من عسكر أجنيى يحتل مصر ويتحكم في المصريين أن يكون رفيقا بهم ، خصوصا ومعه كهنوت شيطانى يزين له سوء عمله ، ثم إن المماليك لم يكونوا بدعا في هذا الاستبداد والفساد وانتهاك حقوق الانسان ، فقد كانت ثقافة العصر التى تأسست بها أديان أرضية أبرزها دين السُّنّة الذى تعلمه المماليك . لذا لا ننتظر من المماليك تعديلها أو الخروج عليها ، فالخروج عليها كفر ب ( الشرع الشريف ) . ولكن المماليك إرتفعوا بمصر الى المكانة التي تستحقها ، زعيمة للمحمديين في العالم المعروف وقتها تواجه باسمهم المغول ثم الصليبيين وتحمى الحجاز والحجّاج ، ويمتد سلطانها من برقة غربا الى العراق وجنوب ما يعرف الآن بتركيا .
1 / 2 ـ يتناقض الوضع مع العسكر المصرى الحاكم الآن ، الذى جعل مصر ذيلا لابن سلمان السعودى وابن زايد الاماراتى ، هذا مع بيع أراض مصرية والتنازل عن حقوق مصرية في النهر والبحر ، وتجريف الثروة المصرية وبيع ما تبقى منها أنقاضا ، ثم بشريعته السنية وبأزهره يقهر المصريين وينهب أموالهم ويرهبهم بالسجن وبالتعذيب ، وهو في خصومة علنية مع ثقافة عصرنا ، عصر الديمقراطية والشفافية وحقوق الانسان . أي يشترك العسكر الذى يحكم مصر الآن بالعسكر المملوكى في الفساد والتعذيب واستغلال الكهنوت الدينى لصالحهم ، ولكن الفارق في أن العسكر المملوكى غريب جىء به لمصر ويعامل أهلها باحتقار وهو يحكم وفق الثقافة الدينية والسياسية لعصره ، أما العسكر الذى يحتل مصر ألان فهو مصري ، وهو يستغل الجيش المصرى ليس في الدفاع عن مصر ولكن في التفريط في الوطن المصرى ، ويستغل الشرطة والأمن ليس في حماية المواطن المصرى ولكن في قهره ، وهذا كله بالمخالفة للثقافة العالمية السائدة من الديمقراطية والشفافية وحقوق الانسان. وفى كل هذا يحظى العسكر المصرى الخائب الخائن بتعضيد الأزهر .
رابعا
1 ـ تحولت مصر الى ولاية عثمانية بعد أن أسقط السلطان سليم العثمانى الدولة المملوكية ، ورجع من مصر ومعه آخر خليفة عباسى ، وبعده أصبح السلطان العثمانى هو الخليفة ليسبغ على منصبه العسكرى كهنوتا دينيا ، وإستمر المماليك يحكمون مصر في الداخل في إطار الدولة العثمانية ، وظلوا في حكم مصر الى أن قضى عليهم محمد على في مذبحة القلعة . وفى تحديثه لمصر فإن ( محمد على ) قد تخلّص من كل رموز الدولة السابقة ( المماليك والجيش العثمانى )، وأسّس نظام جديدا بديلا ، ولكنه أبقى على ( الأزهر ) كهنوتا له .
2 ـ ولا يزال الأزهر يلعب نفس الدور ظهيرا للإستبداد والفساد ، ولا أمل في إصلاح الأزهر لأنه ( أينما توجهه لا يأت بخير) ، ولأنّه ( لا يفلح حيث أتى ) . وطالما تحمل مصر الأزهر فوق كاهلها فلا يمكن أن تنهض ، كما لا يمكن للعسكر المستبد أن يستغنى عن الأزهر ، كلاهما محتاج للآخر ، وكلاهما عدو لرب العزة جل وعلا ، وعدو للمستضعفين المصريين . ثم ظهرت الوهابية وتسللت الى مصر برعاية العسكر ، ودار صراع بين العسكر ومنظمات الوهابية الساعية للحكم ، وأخطرهم الاخوان المسلمون . والعسكر يستطيعون القضاء عليه بسهولة بفضح تناقض الوهابية مع الإسلام الحق ، هذا لو أراد العسكر ، ولكن العسكر يريد الوهابية فزّاعة يخيفون بها الداخل والخارج . ويساعدهم في هذا الأزهر ، فالعسكر يركبون الكهنوت الأزهرى ، والكهنوت الأزهرى يركب المصريين ، ونفس الحال مع الكهنوت المسيحى .
3 ـ وظهر أهل القرآن يدعون الى الإصلاح السلمى ونشر حقائق الإسلام الغائبة وشريعة الإسلام القائمة على السلام والعدل والحرية الدينية والفكرية والرحمة . تحالف علينا العسكر والإخوان معا ، وهما معا ينسون خلافاتهم ويتّحدون ضدنا دفاعا عن دينهم الأرضى البائس وشريعتهم الشيطانية . ونحن مستمرون في جهادنا ومنتصرون عليهم بعون الرحمن جل وعلا . وفى أثناء تأليف هذا الكتاب تعرض أهلنا في مصر لهجة أمنية من أولئك الذين يصدون عن سبيل الله جل وعلا ويبغونها عوجا .
أخيرا
1 ـ نشكر النبلاء القائمين على موقع الحوار المتمدن ، الذى ينشر مقالاتنا من عام 2005 . موقع الحوار المتمدن هو سجلُّ لمعظم كتاباتنا ، ونرجع اليه لنستعيد ما دمّره خصومنا في موقع ( أهل القرآن )، ومنها مقالات تطبيق الشريعة السنية في عصر السلطان برسباى .
2 ـ نشكر النبلاء الذين يدعموننا بالجهد والمال لنستعيد موقعنا ولنواصل مسيرتنا .
3 : ونشكر حُمق خصومنا المتربصين بنا. نحن الذين نمسك بزمام المبادرة ، نبدأ بالكتابة فضحا لهم فيردون بالهجوم ، نبدأ بالحُجّة فيردون بالقوّة ، ونستفيد بما يفعلون ، وفى النهاية فنحن المنتصرون ، ليس فقط لأن الصراع بين القوة الغاشمة والقلم ينتهى دائما بانتصار القلم ولكن أيضا لأننا الأعرف بتاريخهم وتراثهم وشرائعهم نعرضها على القرآن الكريم ، نستشهد به ردّا على أكابر المجرمين . ونرجو أن يكون نصرنا النهائي والأكبر عليهم يوم الدين ، حين يجمعنا رب العالمين ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون .
4 ـ وهذا الكتاب : ( تطبيق الشريعة السنية لأكابر المجرمين في عصر السلطان المملوكى الأشرف برسباى ) نهديه الى ( الماعز ) الذين لا يزالون يتشدقون بشعار تطبيق الشريعة ، دون توضيح لماهية هذه الشريعة التي يطالبون بتطبيقها ، ودون معرفة أن تطبيق شريعتهم إستمر من عصر أكابر المجرمين المستبدين من الخلفاء الى السلاطين وخدمهم من الفقهاء والقُضاة الفاسقين ، وبهذه الشريعة الشيطانية ظلموا الله جل وعلا بالافتراء عليه وظلموا الشعوب ، فلم يزدادوا بها إلا قهرا وظلما.


الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى
مقدمة
يتناول هذا الباب التمهيدى لمحة عن الدولة المملوكية واهم مؤرخيها ، ثم يتعرض لتطبيق الشريعة الوهابية قبل عصر السلطان برسباى ، ثم لمحة عن برسباى قبل وصوله للسلطنة .
وهذا من خلال الفصول الآتية :
الأول :( منهج المؤرخين : التركيز على أكابر المجرمين واهمال المستضعفين )
الثانى :( مؤرخو عصر برسباى )
الثالث : ( لمحة عن الدولة المملوكية )
الرابع : ( قبل عصر برسباى : السلطان المؤيد شيخ وتطبيق شريعته السُّنّية )
الخامس : ( "برسباى " من طفولته في القوقاز الى أن صار أكبر أكابر المجرمين الذين يتصدرون العناوين )

الفصل الأول : منهج المؤرخين : التركيز على أكابر المجرمين واهمال المستضعفين
أولا :
1 ـ السوشيال ميديا إفتتحت عصرا جديدا في تاريخ البشرية ، عصر الناس العاديين الذين لم يكن يأبه بهم الإعلام في القرن العشرين ولم يكن يأبه بهم التأريخ في العصور الوسطى حيث ركّز المؤرخون على تسجيل أفعال أكابر المجرمين ، سواء في الحوليات التاريخية التي تتابع أعمالهم بالحول والسنة ، أو في التأريخ الخاص بالسلاطين والدول والأُسرات الحاكمة. بل أجبرت السوشيال ميديا القنوات الفضائية على أن تنقل عنها ، تكتب ما يقوله الأشخاص العاديون تعليقا على حدث من الأحداث .
2 ـ قبل ذلك لم يكن الشخص العادى شيئا مذكورا في كتابات المؤرخين ، إلا إذا وقع ضحية لأكابر المجرمين ، فيضطر المؤرخون أن يذكروه دون التصريح بإسمه . الأمثلة كثيرة في تاريخ السلوك للمقريزى ، وستأتى لاحقا ، ولكن نعطى أمثلة :
4 : وقام المؤرخ القاضي ابن الصيرفى بتسجيل عصر السلطان قايتباى. ابن الصيرفى هو تلميذ لابن حجر ، وكما كتب إبن حجر تاريخه ( إنباء الغُمر بأبناء العُمر ) كتب الصيرفى على منواله كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر )، وتابع فيه الطريقة المعتادة في عدم ذكر الشخاص العاديين إلا إذا كانوا ضحية لأكابر المجرمين . يقول إبن الصيرفى :
4 / 1 :عن الأمير قانم نعجة ت 873 : ( كان من الأشرار الظلمة ، كثير الفسق والزنا ، وإن سكر عربد ، حتى أنه في بعض سكره عضّ أنف إنسان فأكله ، وأراح الله المسلمين منه ومن ظلمه وشؤمه وآذاه وافتراه ، وجعل الحميم مأواه.).
تعليق
ذكر أحد أكابر المجرمين ، ولم يذكر إسم الضحية .
4 / 2 : في أحداث أول صفر 874": ( وفيه رسم السلطان ــ نصره الله ــ بشنق حرامى ، وهو مستحق لذلك ، فإنه سرق فقطعوا يده وأطلقوه ، فسرق ثانياً فقطعوا أرجله وأطلقوه ، فسرق ثالثاً فرُسم بشنقه ، فشنق . وقطعت يد صغير سرق وهو غير مكلف . ).
تعليق
1 ـ لم يسأل المؤرخ القاضي الصيرفى عن حالة ذلك اللص المشنوق ، هل كان محتاجاً للسرقة أم لا، وكيف كان يعيش بعد أن قطعوا يده ورجليه. واضح أنه عضّه الجوع فاضطر للسرقة بعد أن فقد ثلاثة من أطرافه ولم تبق له إلا يد واحدة تناول بها ما يسد رمقه فجعلوه، سارقاً وشنقوه، والذى أمر بشنقه هو السلطان قايتباى كبير أكابر المجرمين الذى كان يسرق الجميع ويبيح له شرعه السّنى قتل ثلث الرعية لاصلاح حال الثلثين ، وبالتالى فمن حقه قتل من يشاء حتى إذا اضطرهم الجوع للسرقة.
2 ـ ونتوقّف مع قول إبن الصيرفى فى أحداث نفس اليوم : ( وقطعت يد صغير سرق وهو غير مكلف.)!! . لم يسأل مؤرخنا القاضى نفسه هل يجوز قطع يد صبي صغير حتى لو سرق ؟ وهل يجوز تطبيق الحدّ على غير المكلّف؟.!!. لم يسأل نفسه شيئاً، واكتفي بالدعاء للسلطان نصره الله.! لماذا لأن هذا المؤرخ القاضي من أكابر المجرمين .
4 / 3 : في أول محرم 875 ( ضرب الأمير اينال الأشقر غلاماً من غلمان أحد المماليك بسبب أنه سرق طائراً "أوزة" وعليقة شعير، فضربه اينال ضرباً مبرحاً ، ومثّل به، فجعل في أنفه سهماً مثقوباً ، وأشهره بالمدينة.).
تعليق
ما هو إسم الغلام ؟ لا نعرف .
4/ 4 : وفي يوم 28 جمادى الثانية 875 ( وجدوا نصرانياً مذبوحاً بطاحونة بباب البحر ، ولم يعرف له قاتل.)
تعليق
عرفنا أنه نصرانى ، ولكن لا داعى لذك إسمه .!
4 / 5 : ( وفي يوم الثلاثاء أو الأربعاء 10 أو 11 شعبان 876 وجدوا شخصاً مسلوخ الوجه مقطوع الأنف بالقرب من باب الفتوح ، ولم يعرف له أقارب ولا قاتل ، وذهب دمه هدراً.)
4 / 6 : يوم السبت 16 ذى القعدة 876 :( ووجدوا قتيلاً بالصحراء ، فاعتقلوا الخفير المسئول عن "الدرك" وضربه ضرباً مبرحاً بالمقارع.)
تعليق
لا نعرف إسم القتيل ولا إسم الخفير.
4 / 7 في صفر 877 ( غرقت معدّية بنهر النيل ، فيها عدة أنفس من رجال وصبيان ونساء، وغرق فيها شخص من جماعة قاضى القضاة، قطب الدين الخيضرى أعزه الله .)ـ
تعليق
ذكر ابن الصيرفى إسم واحد من أكابر المجرمين وهو قاضى القضاة الخيضرى ، أما بقية الغرقى فلا أسماء لهم حتى لو كان أحدهم من أتباع قاضى القضاة .! هو مجرد ( شخص )
4 / 8 : يوم الاثنين 20 صفر 877 شكوا تاجراً إلى الداودار الكبير يشبك من مهدي أنه أخذ من التجار بضائع إلى أجل، وحين جاء الأجل رفض أن يدفع ما عليه بسبب ما عليه من ديون، فأمر الداودار بضربه، ولما ذاق الضرب المملوكي: ( صار يصرخ ويقول: ادفع الحق..) فأمر الداودار أن يعمل أجيرا في الحفير ويدفعوا أجرته لمن له في ذمته شيء).
تعليق
من هو ذلك التاجر المفلس ؟ لا نعلم .
4 / 9 : ربيع الأول 877 : يقول الصيرفى : ( وفي هذه الأيام قبضوا على جمع كثير بالقاهرة من المنسين والفلاحين والأرياف وأودعوهم الحديد، ( أى إعتقلوهم بلا ذنب ) وأرسلوهم إلى المقر الأشرفي الأتابكي (أزبك) بسبب ما يعمّره من القناطر بالجيزة ) أى ليعملوا عنده فى مشروع فى منطقة الجيزة . يقول ابن الصيرفى : ( ويصرف لهم أجرتهم وافية، فإن هذا أمر مهم وفيه عمارة البلاد، وكلما زاد البحر أتلف ما صنعوه، ومقصودهم أن يؤسسوا ويبنوا على الأساس فإن الماء كلما بنوا شيئاً قلبه، وغرم السلطان على هذا البناء أموالاً عظيمة، وبلغنى أن في هذا البناء نحو ألفي رجل خارج عن مماليك المقر الأشرف الأتابكي، وفيه نحو مائتى معمار ومهندس. )، وقد احتاجوا للمزيد من الأيدى العاملة فلم يجدوها، ففكروا فى حيلة شيطانية ، يقول مؤرخنا : ( وإنهم احتاجوا مع ذلك إلى الرجال فدبروا حيلة. وسمّروا شخصاً ، ونادوا عليه ببولاق: " هذا جزاء من يقتل النفس التى حرمها الله "، فاجتمع الخلائق للتفرج عليه وصاروا خلفه ، فقبضوا عليهم ورموهم الحديد ، وجهزوهم إلى العمل . فهذه من العجائب. والسلام.).!.
تعليق
هذا المسكين لا نعرف إسمه ، وهو الذى سمّروه ، أى صلبوه بالمسامير على خشبة وطافوا به فى القاهرة بلا ذنب. هذا الضحية لم يستحق عبارة عزاء من القاضي المؤرخ إبن الصيرفى ، سوى أنه قال متعجبا ( فهذه من العجائب. والسلام.).! لماذا ؟ لأن الصيرفى المؤرخ القاضي ـ مثل شيخه ابن حجر ـ كان من جُملة أكابر المجرمين .
ثانيا :
1 ـ لم يكن المؤرخون يعرفون شيئا عن أولئك المماليك وهم في بلادهم قبل أن يؤتى بهم الى مصر . وحتى مع مجىء لمصر فلم يأبه بذكر أسمائهم المؤرخون إلا إذا دخل أحدهم في دوّامة الترقّى والصراع على السلطة، وأصبح من أكابر المجرمين ، لأنه بهذا يعلو باسمه ووصفه الى السطح فيذكره المؤرخون . والأكثر إجراما بينهم هو الذى يتولى السلطنة، ويطوف به المؤرخون . وتبعا لأخبار السلطان أكبر أكابر المجرمين تأتى أخبار كبار أعوانه من الأمراء المماليك وكبار المباشرين ( الموظفين ) في الدواوين وفى المؤسسات الدينية والتعليمية والقضاء. بقية الناس هم ضحايا مستضعفين ، خصوصا أهل الريف ، لا يتعطف عليهم المؤرخون الا بين السطور ، يذكرونهم بالوصف دون الاسم إذا جاءهم ( الشرف ) وتعرضوا للقتل أو التعذيب أو الموت بالوباء .
ثالثا
لماذا نقول هذا الكلام ؟ لأن التاريخ يعيش في أحضان الطُّغاة وأكابر المجرمين. هي حقيقة تنطبق على من يسمونهم بالخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم . هم أئمة أكابر المجرمين ، بل هم آلهة في أديان المحمديين ، و المشكلة التي تواجهنا أننا حين نناقش تاريخهم ـ الذى كتبه مؤرخون مؤمنون بهم ـ تنهال علينا اللعنات ، وهذا لا يهمنا . الذى يهمنا أن بعض السطحيين يرى أن الصحابة هم فقط من ذكرهم المؤرخون. هذا ناقشناه من قبل ، ونُعيد التذكير به ، ونقول:
1 ـ هناك فارق بين منهج القصص القرآنى ومنهج التأريخ . لا بد للمؤرخ حين يذكر حدثا تاريخيا أن يحدد الزمان والمكان وأسماء أبطال الحدث . ولكن المؤرخين المحمديين إلتزموا بتحديد الزمان والمكان وأسماء أكابر المجرمين وأعوانهم فقط . 2 ـ منهج القصص القرآنى يركّز على العبرة لأن القرآن الكريم كتاب هداية وليس كتاب تاريخ . لذا لم يأت إهتمام بالمكان أو الزمان أو أسماء الأشخاص . يقول جل وعلا :
2 / 1 : ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) يس ). ليس هنا تحديد للزمان ولا لمكان القرية أو إسمها ، ولا ذكر للرسل الثلاثة .
2 / 2 : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ..)(246) البقرة ). وذكر رب العزة جل وعلا تفاصيل القصة، وليس فيها إسم النبى ولا مكان الأحداث .
2 / 3 : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) البروج ) ، ليس مذكورا أسماء أكابر المجرمين ولا الضحايا ولا الزمان ولا المكان ـ
3 ـ بالنسبة لما يُطلق عليهم الصحابة :
3 / 1 : ذكر الله جل وعلا أعظم الصحابة المؤمنين بالوصف دون الإسم ، وبالتالي فأسماؤهم غيب بالنسبة لنا . قال جل وعلا :
3 / 1 / 1 : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ ) (20) المزمل )
3 / 1 / 2 : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) الحشر )
3 / 1 / 3 : ( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) الاحزاب )
3 / 1 / 4 : ( لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) التوبة ).
4 ـ وذكر الله جل وعلا مواقف المنافقين الظاهرين بالوصف؛ ما قالوه وما فعلوه وحتى مشاعرهم ولكن دون ذكر لأسمائهم ، وجاء هذا في سور الحشر والأحزاب والبقرة والنساء وآل عمران والمنافقون والمائدة.
5 ـ وتعرضت سورة التوبة للكثير من التفصيلات ، كانت مسحا لسكان المدينة ومن حولها من الأعراب من حيث درجات الايمان . على سبيل المثال :
5 / 1 : ( وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102 ) التوبة )
5 / 2 : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) التوبة ) .
6 ـ كان أخطر المنافقين أولئك الذين مردوا على النفاق ، إلتصقوا بالنبى محمد عليه السلام محافظين على نفاقهم في أعماق أعماقهم ، ثم تولوا الأمر بعده خلفاء، وأظهروا حقيقتهم أكبر أكابر المجرمين .
7 ـ في سلطانهم توارى الصحابة الحقيقيون وابتعدوا عن المشاركة في جرائم الفتوحات لأنهم كانوا متقين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، قال الله جل وعلا في شأنهم ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص ) . لذا لم يذكرهم التاريخ ، ولا نعرف عنهم شيئا ، والكلام عنهم انتهاك للغيبيات .
8 . الخلفاء الفاسقون من أبى بكر وعمر ومن تلاهم علوا في الأرض إجراما وفسادا ، ففرضوا أنفسهم على التاريخ العالمى ، لأن التاريخ يسجل فقط أعمال أكابر المجرمين ، لا فارق بين أبى بكر الزنديق والسلطان برسباى .!


المؤرخ القاضي ابن حجر العسقلانى الذى كان من أكابر المجرمين المفسدين
الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى
الفصل الثانى :( مؤرخو عصر برسباى )
ملاحظة
1 ـ هذا الفصل يمكن أن يكون أساسا لبحث الدكتوراة لأى باحث مجتهد ، يمكنه أن يبنى على هذا الفصل في عقد مقارنة بين المؤرخين الثلاثة في السنوات التي قاموا بالتأريخ لها من واقع المشاهدة والمعاصرة . وقد يصل بالبحث الى تأثر المؤرخين اللاحقين من الجيل التالى بهم : السخاوى و الصيرفى وابن اياس .
2 ـ ندخل في موضوعنا .
المؤرخ القاضي ابن حجر العسقلانى الذى كان من أكابر المجرمين المفسدين ( 1 من 2 )
مقدمة
شهد عصر السلطان برسباى ثلاثة من أشهر مؤرخى مصر العصور الوسطى ، أعظمهم المقريزى ، وعاصره ابن حجر وأبو المحاسن ابن تغرى بردى . نبدأ بابن حجر ثم أبى المحاسن يوسف جمال الدين بن تغرى بردى المملوكى ، وكانا من أكابر المجرمين . وننتهى بالمقريزى ، أعظم مؤرخى العصور الوسطى في التاريخ العربى . ولم يكن من المجرمين .
(ابن حجرالعسقلانى) (773-852 ). مؤرخ من أكابر المجرمين المفسدين
لمحة عن ابن حجر
تقلب إبن حجر في مناصب القضاء ( قاضى قضاة الشافعية ) ، وكان يتولاه ثم يُعزل عنه طبقا لسياسة المماليك في العزل والتولية لأن المعتاد وقتها تقديم رشوة ، أو شراء المنصب . لم يكن هذا عارا ، بل كان شريعة معروفة حتى لقد أنشأ المماليك جهازا مختصا بذلك هو ( ديوان البذل والبرطلة ) . تولى القضاء 21 سنة في مرات عديدة من عام 827 الى قبيل موته أي عام 852 . وتولى ابن حجر الإفتاء واشتغل في دار العدل ، وبسبب صلته بأكابر المجرمين أسندوا اليه وظيفة التدريس في المدارس الشيخونية والمحمودية والحسنية والبيبرسية والفخرية والصلاحية والمؤيدية ومدرسة جمال الدين الأستادار وبالمدرسة الجمالية والمنكوتمرية وبالخانقاه البيبرسية ، بالإضافة الى نظر الأوقاف ، أو الاشراف على مؤسسات الوقف ، وكانت مغارة ( على بابا ) في السرقات . وتولى الخطابة في جوامع كثيرة ، أشهرها الجامع الأزهر وجامع عمرو بن العاص ، وبالجامع الأموى في دمشق . والأهم من هذا كان يخطب بالسلطان في جامع القلعة ( مركز الحكم المملوكى ). وتوثقت صلته بالسلاطين ، يحضر مجالسهم ، ومنهم السلطان برسباى الذى نعرض له هنا ، فكان في صحبة برسباى في حملته العسكرية حين سافر الى ( آمد ) . مع كل هذا الانشغال فقد بلغت مؤلفاته حوالى 55 كتابا . لم يجد وقتا للتفكير الابداعى ، ولكن وجد وقتا لتلخيص أو شرح أو التعليق على ما كتبه السابقون . كان القرن التاسع هو عصر الكثرة الكاثرة من التلاميذ الذين لا يجيدون سوى الرقص على أنغام السابقين . ظهر ابن تيمية وابن القيم في القرن السابق لابن حجر ببعض تجديد ، فرفضهما العصر ، واستراح لأمثال ابن حجر ، فنبغ فيه ابن حجر . خصوصا وقد كان ضمن أكابر المجرمين تابعا للسلاطين .
شُهرة ابن حجر ليست في كتاباته التاريخية بل في كتاباته في الدين السُنّى
1 ـ شهرة ابن حجر لم تكن في التاريخ ، وإنما كانت في هجص الدين السُنّى من ( الحديث ). واشهر أعماله ( فتح البارى في شرح صحيح البخارى )، لم يأت فيه ابن حجر بأى جديد ، لم يناقش صحة أي حديث من أحاديث البخارى ، بل إنه لم يتعرض لموضوع الأحاديث المصنوعة الموضوعة ، وقد تعرض لها من قبل ابن الجوزى المتوفى عام 597 ، ثم ابن تيمية المتوفى عام 728 ، وابن القيم الجوزية المتوفى 751 قبل ابن حجر بقرن من الزمان . ومع هذا فان شهرة ابن حجر ذاعت وحاز لقب ( أمير المؤمنين في الحديث ) ، وذاعت أنباء تأليفه شرح البخارى . ولم يكن يدانيه في الشهرة وقتها سوى كتاب المقريزى ( السلوك ).
2 ـ وقت تأليفه كتاب (فتح البارى ) وصلت شهرته لسلطان المشرق شاه رخ ، ووصلت اليه أيضا شهرة كتاب ( السلوك ) للمقريزى ، وكان لا يزال في طور التأليف أيضا ، فبعث هذا السلطان يطلب نسخة من الكتابين .
2 / 1 : ، وسجّل المقريزى هذا في أحداث عام 833 ، فقال : ( وفي رابع عشرينه‏:‏ ( محرم 833 ) قدم رسول ملك المشرق - شاه رخ بن تيمور - بكتابه يطلب فيه شرح البخاري للحافظ قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر ، وتاريخي ( السلوك لدول الملوك ) ويعرض فيه بأنه يريد أن يكسو الكعبة ويجري العين بمكة‏. ).
2 / 2 : وذكر المؤرخ أبو المحاسن نفس الخبر عن كتابى ( السلوك ) و ( فتح البارى ) فقال : ( الأحد رابع عشرين المحرم سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، قدم إلى القاهرة رسول ملك الشرق شاه رخ بن تيمورلنك بكتابه يطلب فيه شرح البخاري للحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر وتاريخ الشيخ تقي الدين المقريزي المسمى بالسلوك لدول الملوك ، ويعرض أيضًا في كتابه بأنه يريد أن يكسو الكعبة ويجري العين بمكة ، فلم يلتفت السلطان إلى كتابه ولا إلى رسوله وكتب له بالمنع في كل ما طلبه‏.).
2 / 3 : أما ابن حجر المهووس بنفسه فذكر الخبر في تاريخه ( إنباء الغمر ) عن كتابه فقط دون ذكر لكتاب ( السلوك ) ، فقال : ( وفيها ورد كتاب ملك الشرق شاه رخ يستدعى من الأشرف ( السلطان الأشرف برسباى ) هدايا منها فتح البارى ، فجهزت له ثلاث مجلدات من أوائل الكتاب ، ثم عاد الطلب في سنة تسع وثلاثين ، فلم يتفق تتمة الكتاب ) .
بين ابن حجر والمقريزى
1 ـ مقابل هذا التجاهل نجد المقريزى يشيد بابن حجر في التأليف في الدين السُنّى ، حتى في مجال الإشارة اليه في ثنايا الوظائف .
1 / 1 : يقول في معرض المناصب لعام 840 : ( وقاضى القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن على ابن حجر، وإليه المرجع في عامة الأمور الشرعية ، لسعة علمه وكثرة اطلاعه ، لاسيما علم الحديث ومعرفة السنن والآثار ، فإنه أعرف الناس بها ، فيما نعلم‏. ) .
1 / 2 : بل وجعله ( شيخ الإسلام ) وذكر الحفلات التي أقامها ابن حجر تكريما لنفسه بمناسبة الانتهاء من كتابه ( فتح البارى ) . ذكر المقريزى هذا في تاريخه السلوك كأحد الأخبار الهامة مع وصف تفصيلى ، فقال : ( وفي يوم السبت ثامنه، جمع الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن حجر، أعيان الدولة، وفيهم المقام الناصري محمد ولد السلطان وغيره من الأمراء، وكاتب السر، وناظر الجيش، والوزير وناظر الجيش، والقضاة وشيوخ العلم في عامة طلبة العلم وغيرهم، فاجتمعوا بأعلا الخمس الوجوه من أرض التاج خارج القاهرة . وكان الوقت شتاء والأرض مخضرة بأنواع الزراعات، والخيول على مرابط ربيعها، وقدم لهم من أنواع الحلاوات وألوان الأطعمة الفاخرة ما يجل وصفه ويكثر مقداره، وقد أكمل تصنيف كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخار في عشرين مجلدة، ثم قرىء من آخره مجلس خفيف، وقام بعده ختمه الشعراء، فقرأ عدة منهم قصائد في مدحه، هذا وقد اجتمع بهذه المنظرة وحولها من أسفلها عالم كبير من الرحال وغيرهم، ونصبت هناك سوق، وضربت خيام عديدة، فكان من الأيام المذكورة التي لم نعهد في معناه مثله، أنفق فيه مال جزيل على ما تقدم من المال، وما أجيز به الشعراء في هذا اليوم . ) . ثم عقد ابن حجر حفل تكريم آخر لنفسه في اليوم التالى في خانقاه بيبرس . ذكره المقريزى فقال : ( وفي يوم آخر بعده: إجتمعوا فيه بخانكاة بيبرس من القاهرة، قام فيه شعراء أخر بمدائحهم، فأجيزوا بجوائز سنية عديدة، وفرق أيضًا مال جم في جماعة كثيرة، كتبوا هذا الشرح، والحافظ المشار إليه يمليه عليهم بهذه الخانكاة، حتى أكملوا نسخه في أعوام، فكان هذا من المآثر السنية، والفضائل الجليلة التي زادت في رفعته . ) . أي يصفه المقريزى بالرفعة والفضائل الجليلة .
2 ـ وكان متوقعا أن تتعاظم إشادة المقريزى بابن حجر ، لو مات ابن حجر في حياة المقريزى ، ولكن المقريزى مات عام 845 في حياة ابن حجر الذى توفى عام 852 . وفى كتابه ( إنباء الغُمر ) ذكر ابن حجر وفاة المقريزى في وفيات عام 845 ، فقال عن نشأة المقريزى : ( وكان مولد تقي الدين في سنة ست وستين وسبعمائة، ونشأ نشأة حسنة، وحفظ كتابا في مذهب أبي حنيفة تبعا لجده لأمه الشيخ شمس الدين بن الصائغ الأديب المشهور، ثم لما ترعرع وجاوز العشرين ومات أبوه سنة ست وثمانين تحول شافعيا، وأحب إتباع الحديث ، فواظب على ذلك حتى كان يتهم بمذهب ابن حزم ، ولكنه كان لا يعرف به، ونظر في عدة فنون، وأولع بالتاريخ فجمع منه شيئا كثيرا وصنف فيه كتبا، وسمع من شيوخنا وممن قبلهم قليلا كالطبردار وحدث ببعض مسموعاته، وكان لكثرة ولعه بالتاريخ يحفظ كثيرا منه، وكان إماما بارعا مفننا متقنا ضابطا دينا خيرا، محبا لأهل السنة يميل إلى الحديث والعمل به حتى نسب إلى الظاهر - حسن الصحبة، حلو المحاضرة، وحج كثيرا وجاور مرات. ). هنا لم يُعط ابن حجر المقريزى حقه كأعظم مؤرخ في العصور الوسطى .
3 ـ هذا مع إن ابن حجر كان ينقل عن المقريزى بعض كتاباته وبعض أقواله . عاشا في عصر واحد ، وكتبا يؤرّخان لعصرهما ، ولم ينقل المقريزى عن ابن حجر ، بينما كان ابن حجر ينقل عن المقريزى تبعا لعادة ابن حجر في النقل عن الآخرين حتى لو كانوا من أبناء عصره . ومع ذلك فحينما كتب عنه في الوفيات لم يعطه حقه . وننقل بعض ما اعترف بنقله عن المقريزى في تاريخه ( إنباء الغمر ) . قال :
3 / 1 : ( محمد بن محمد .. الدمراني الهندي محب الدين الحنفي قدم مكة قديما، وسمع من العز بن جماعة وهو عالم بارع، وكان يعتمر في كل يوم ويقرأ كل يوم ختمة، ويكتب العلم ولكنه كان شديد العصبية، يقع في الشافعي ويرى ذلك عبادة، نقلت ذلك من خط الشيخ تقي الدين المقريزي. )
3 / 2 : ( ... قال الشيخ تقي الدين المقريزي: كان أبوه وعمه عبد الجليل مشهورين بالعلم والفقه والدين فاقتدى بهما وأربى عليهما، قال: وكان سمحا كريما حسن الملتقى، جميل المحيا، وكان يتعصب لابن تيمية.)
3 / 3 : ( علي بن عبد الواحد .. رئيس الأطباء بالديار المصرية .. قرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي: كان يصف الدواء للموسر بأربعين ألفا ويصف الدواء في ذلك الداء بعينه للمعسر بفلس، قال: وكنت عنده فدخل عليه رجل شيخ فشكا شدة ما به من السعال فقال له: لعلك تنام بلا سراويل? قال: إي والله قال: فلا تفعل، ثم بسراويلك، فمضى، قال: فصادفت ذلك الشيخ بعد أيام فسألته عن حاله، فقال لي: عملت ما قال لي فبرئت، قال: وكان لنا جار حدث لابنه رعاف حتى أفرط فانحلت قوى الصغير، فقال له: شرط أذنيه، فتعجب وتوقف، فقال: توكل على الله وافعل، ففعل ذلك فبرأ، قال: وله من هذا النمط أشياء عجيبة. )
3 / 4 : ( ... وذكر لي الشيخ تقي الدين المقريزي أنه حلف له أنه في طول ولايته القضاء بالكرك والديار المصرية ما تناول رشوة ولا تعمد حكما باطلا رحمه الله تعالى. )
3 / 5 : ( حسن بن علي بن أحمد الكجكني .. نائب السلطنة بالكرك .. قال الشيخ تقي الدين المقريزي: كان تام المعرفة بالخيل وجوارح الطير محبا لأهل السنة عاقلا مزاحا. )
3 / 6 : ( شيخ الخاصكي .. قرأت بخط المقريزي: كان بارع الجمال فائق الحسن لديه معرفة وفيه حشمة ومحبة للعلماء وفهم جيد، تائها صلفا معجبا منهمكا في اللذات، توجه إلى الكرك فمات في أوائل السنة. )
3 / 7 : ( عبد الرحمن بن عبد الكافي .. مؤذن الركاب السلطاني، ... كان يجالس الملك الظاهر فاتفق أن جمال الدين لما كان ناظر الجيش أنف أن يجلس دونه فذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعتبه على ذلك، قرأت ذلك بخط الشيخ تقي الدين المقريزي . ).
3 / 8 : ( علي بن عمر بن سليمان الخوارزمي .. وقرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي أن المذكور باشر شد الأقصر لبعض الأمراء فذكر أن مساحتها أربعة وعشرون ألف فدان، وأنه لما باشرها في سنة إحدى وتسعين لم يكن يزرع بها إلا نحو ألف فدان وباقيها خرس وبور.. )
3 / 9 : ( وفيها على ما قرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي أنه بلغه في مجاورته بمكة هذه السنة أن أندراس الحطي صاحب مملكة الحبشة الكفرة مات في الطاعون العظيم الذي وقع في بلاد الحبشة حتى مات بسببه من لا يحصى من المسلمين والنصارى، وأقيم بعده ولد له صغير...) .

رأى المؤرخ أبى المحاسن في ابن حجر
1 ـ ذكره أبو المحاسن في تاريخه ( النجوم الزاهرة ) في وفيات عام 852 ، وقال عنه : ( وتوفي قاضي القضاة شيخ الإسلام حافظ المشرق والمغرب أمير المؤمنين في الحديث شهاب الدين أبو الفضل أحمد ابن الشيخ نور الدين علي بن محمد محمد بن علي بن أحمد بن حجر المصري المولد والمنشأ والدار والوفاة العسقلاني الأصل الشافعي . قاضي قضاة الديار المصرية وعالمها وحافظها وشاعرها ، في ليلة السبت ثامن عشرين ذي الحجة وصلي عليه بمصلاة المؤمني ، وحضر السلطان الصلاة عليه ودفن بالقرافة‏.‏ ومشى أعيان الدولة في جنازته من داره بالقاهرة من باب القنطرة إلى الرملة ، وكانت جنازته مشهودة إلى الغاية ، حتى قال بعض الأذكياء إنه حزر من مشى في جنازته نحو الخمسين ألف إنسان‏.‏ وكان لموته يوم عظيم على المسلمين ، ومات ولم يخلف بعد مثله شرقًا ولا غربًا ، ولا نظر هو مثل نفسه في علم الحديث‏.‏ وكان مولده بمصر القديمة في ثاني عشرين شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وقد أوضحنا أمره في ترجمته في ‏"‏ المنهل الصافي ‏"‏ من ذكر سماعاته ومشايخه وأسماء مصنفاته‏.‏ وكان رحمه الله تعالى إمامًا عالمًا حافظًا شاعرًا أديبًا مصنفًا مليح الشكل منور الشيبة حلو المحاضرة إلى الغاية والنهاية عذب المذاكرة مع وقار وأبهة وعقل وسكون وحلم وسياسة ودربة بالأحكام ومداراة الناس ‏.‏ قل أن كان يخاطب الرجل بما يكره ، بل كان يحسن إلى من يسيء إليه ، ويتجاوز عمن قدر عليه ، هذا مع كثرة الصوم ولزوم العبادة والبر والصدقات . وبالجملة فإنه أحد من أدركنا من الأفراد‏.‏ ولم يكن فيه ما يُعاب إلا تقريبه لولده ، لجهل كان في ولده ، وسوء سيرته .. ).
تعليق
نلاحظ أن أبا المحاسن أسهب في مناقب ابن حجر ، وأشار الى فساده في جملة وحيدة تكفى للإطاحة بكل هذه الفضائل ، هي قوله : ( ولم يكن فيه ما يُعاب إلا تقريبه لولده ، لجهل كان في ولده، وسوء سيرته ). أي لم يؤدب ولده فنشأ جاهلا سىء السيرة ، ومع ذلك استخدم ابن حجر نفوذه في حصول ابنه على وظائف بلا استحقاق .
2 ـ جدير بالذكر أن المقريزى ذكر أخبارا فيها إدانة لابن حجر وفساده ، ولم يتعرض له بالنقد ، مثلما قال أبو المحاسن آنفا . ونفهم مما ذكره المقريزى في ( السلوك ) في أخبار شهر ربيع الأول، عام 841 أن القاضي محمد بدر الدين إبن قاضى القضاة ابن حجر العسقلانى تولى بالواسطة والمحسوبية ناظرا للجامع الطولونى . قال : ( فيه إستقر القاضى بدر الدين محمد ابن قاضى القضاة شيخ الإسلام شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر في نظر الجامع الطولونى ونظر المدرسة بين القصرين، نيابة عن قاضى القضاة علم الدين صالح بن البلقينى، بسؤال القاضى زين الدين عبد الباسط له في ذلك، فأذن له حتى إستنابه عنه. ).
تعليق
1 ـ أي إن شهاب الدين إبن حجر ( أمير المؤمنين في الحديث ) لم يكن فقط يتولى القضاء بالرشوة بل كان أيضا يستخدم نفوذه لصالح أبنه بدر الدين الذى جعله نائبا، أي قاضيا يتبع أباه قاضى القضاة الشافعى . وإستخدم نفوذه أيضا في تعيين نفس الإبن الجاهل الفاسد ناظرا ( أي مديرا ) للجامع الطولونى ( جامع أحمد بن طولون ) وناظرا لمدرسة بين القصرين ، وذلك باذن من ناظر الجيش القاضي زين الدين عبد الباسط ، وكان صاحب نفوذ هائل في سلطنة الأشرف برسباى . كانت الوظائف الكبرى ( دينية وديوانية ) تكون بالشراء ، وبالوراثة أيضا . ويتولى المنصب من ليس مؤهلا له سوى أن معه مالا ، أو كان ابنا لأحد الشيوخ ، أو هما معا . كان قضاة القضاة أفسد الناس في العصر ، وكان أفسدهم وأشهرهم ابن حجر .
2 ـ ونلاحظ أن المقريزى لم يعلق منتقدا ابن حجر بشخصه ، كان ينتقد فساد القُضاة عموما في مواضع كثيرة في السلوك ، دون أن يذكر اسم ابن حجر ، مع ورود إسم ابن حجر أحيانا في الخبر .
ابن حجر مؤرخا
لابن حجر فى مجال التاريخ :
1 : ( رفع الأصر عن قضاة مصر )، نقل فيه ما قيل عن قضاة مصر ، من مؤلفات السابقين .
2 : ( الإصابة في تمييز الصحابة ) ، نقل ما قاله المؤرخون السابقون عن الصحابة من محمد بن سعد في ( الطبقات الكبرى ) و ما كتبه ابن الأثير في ( أُسد الغابة في معرفة الصحابة ) وغيرهم .
3 ـ وفى تاريخ العصر المملوكى كتب :( الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة.) فى أربعة أجزاء ، وفيه نقل عن مؤرخى القرن الثامن الهجرى .
4 ـ وقام بنفسه بالتذييل عليه بعنوان في كتاب مختصر بعنوان : ( تاريخ المائة التاسعة أو ذيل الدرر الكامنة)، وهناك نسخة خطية لهذا الكتاب فى دار الكتب المصرية بقلم ابن حجر نفسه، وفى فترة اعدادى لرسالة الدكتوراة بين عامي ( 1976 : 1977 ) عن أثر التصوف في العصر المملوكى عثرت علي هذه النسخة وتأكدت من أنها بخط ابن حجر نفسه بالتعليقات والتعديلات والتشطيبات والملاحظات والحديث عن نفسه . وكانت صعبة القراءة جدا ، ولكن لأنها تأريخ معاصر للقرن التاسع الهجرى فقد نقل عنها بعض المؤرخين .
5 ـ ولكن اشهر كتبه في التاريخ : ( إنباء الغمر بأبناء العمر) الذى يؤرخ فيه لعصره من سنة ميلاده 773 الى 850 قبيل وفاته. وهو الذى يعنينا هنا .

ابن حجر في تاريخه ( إنباء الغمر )
1 ـ قال في مقدمة كتابه ( إنباء الغمر بأبناء العُمر ): ( أما بعد ، فيقول العبد الضعيف أحمد ابن على بن محمد بن على بن أحمد بن محمود بن أحمد بن حجر، العسقلانى الأصل ، المصرى المولد ، القاهرى الدار : هذا تعليق جمعت فيه حوادث الزمان الذى أدركته منذ مولدى سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة ، وهلم جرا مفصلا فى كل سنة ..) وقد أرّخ من عام 773 حتى عام 850 ، أى قبل وفاته بعامين ، وقد توفى عام ( 852 هجرية /1449 ميلادية ). وفى كتابه هذا ـ الذى أرّخ فيه لسنوات حياته ـ كان ابن حجر يسجل أحداث عصره في سنوات نشأته نقلا عن السابقين ، ثم بعدها أصبح يكتب من واقع المشاهدة والمعاصرة.
ابن حجر مؤرخا من أكابر المجرمين متعاليا على الناس
1 ـ كان مفترضا فيه كعالم وفقيه وقاض أن يتحرى العدل فى تأريخه لعصره فينال العوام بعض اهتمامه حيث يشملهم عنوان تاريخه الذى يقول ( إنباء الغمر بأبناء العمر ) وقد كان العوام الذين عاصروه ضمن أبناء عمره أيضا، ولكنه سار على طريقة أكابر المجرمين فى التعالى على المستضعفين ، ولذا ولّى وجهه نحو السلطان ومن حوله .
2 ـ بل إنه تعاليه يظهر في أنه إختار عنوانا غريبا ومستفزّا لكتابه ( إنباء الغُمر بأبناء العمر ) ، جعل سنوات عُمره مدار التاريخ ، ثم يصف فيه غيره ب ( الغُمر ). و( الغُمر ) هو الشخص الساذج الذى لا خبرة له .
نماذج من كتاباته التاريخية في ( إنباء الغُمر .. )
1 ـ يقول ابن حجر في أحداث سنة 826: ( وفي هذه السنة وجد قتيل بقرية فأمسك الوالي أهل تلك البلاد ولا يدري هل القاتل منهم أم لا. فأمر السلطان بقطع أيدي بعضهم ، وآناف بعضهم ، وتوسيط بعضهم ).
تعليق
1 ـ أي بسبب العجز عن معرفة القاتل أمر السلطان بعقاب من يشك فى ضلوعهم فى الجريمة ، بقطع بعضهم نصفين بالسيف ( التوسيط ) ، وقطع أنوف البعض الآخر ، وأيدى الاخرين ، كيفما اتفق ، مع معرفته بأن بعضهم برىء لا ذنب له . السلطان فعل هذا تحت اسم الشريعة التي كان يمثلها ابن حجر باعتباره أكبر قاض للقضاة في عصره . ابن حجر هنا هو المؤرخ الذي يسجل الحادث ، وهو الذى يعمل قاضيا للقضاة، وقد عاصر هذه الحادثة ، وكان مفروضا أن يحتج على ظلم الأبرياء هنا ، أو حتى يعلق كمؤرخ برأيه مستنكرا ، كما كان يفعل المقريزى أحيانا ، ولكنه لم يفعل. بل إنه استعمل منهج التعالى فى ذكره لتلك الحادثة التاريخية. وجعل البطولة للسلطان الأشرف برسباي، أما الضحايا الأبرياء فقد استحقوا شرف التسجيل في سطرين فقط لا غير في كتابه الذى يحمل عنوان ( إنباء الغُمر بأبناء العُمر ). بالتالى فلم يعتبر المستضعفين المصريون المظاليم من أبناء عُمره. أبناء عُمر هذا المؤرخ القاضي هم أكابر المجرمين الذين يطوف حولهم في كتاباته التاريخية مؤرخا ، ويحكم بشريعتهم السُّنية قاضيا . وهذا متسق مع شريعة ابن حجر السُنّية التي تجعل الحاكم يملك الأرض ومن عليها ، وأن الشعب هم ( الرعية ) أي الأنعام ، وهو الراعى المالك للانعام ، ومن حقه أن يذبح منها ما يشاء ويستبقى ويستثمر منها ما يشاء ، وأن من حق الامام ( أي الحاكم ) أن يقتل ثُلث الرعية لاصلاح حال الثلثين . لذا فمن العادى جدا والمُباح شرعا للسلطان برسباى أن يحكم بتوسيط وقطع أيدى وأنوف بعض الفلاحين ، ليس مهما إن كانوا أبرياء ، فلا قيمة لهم عند ابن حجر العسقلانى قاضيا ومؤرخا .
2 ـ وقد كان الفلاحون المصريون يتعرضون لأشد العقوبات من الكاشف المملوكى فى الريف دون أن يصل صراخهم الى القضاة والمؤرخين فى القاهرة ، وحتى لو وصل صراخهم الى أولئك القضاة والمؤرخين ما اهتموا ، لأن بؤرة اهتمامهم هو فى التنافس على خدمة السلطان الذى يملك الأرض ومن عليها ، وهم حاشيته طبقا لمعادلة الاستبداد والكهنوت. لذلك فان القاضي الذى يعمل مؤرخا لا يبالى بملايين الفلاحين والصناع والحرفيين والحرافيش إذا ماتوا تحت العذاب ، فهذا خبر عادى يحدث كل يوم وفق تطبيق الشريعة السُّنّية فى العصر المملوكى . ولأن موتهم أو تعذيبهم ليس من الأخبار الهامة ، فلا أكثر من ايراد الخبر بلا تفصيلات مع اسناد البطولة لأكابر المجرمين . وهنا نرى ابن حجر يكتب بكل صلافة وغطرسة وبغير مبالاة : ( وفي هذه السنة وجد قتيل بقرية فأمسك الوالي أهل تلك البلاد ) ، لم يذكر وقت الحادثة باليوم والشهر كما يحدث في تسجيل أخبار أكابر المجرمين ، ولم يذكر إسم القرية ولا إسم القتيل ولا عدد ولا أسماء الضحايا ، ومن منهم قطعوه نصفين ، ومن منهم قطعوا أنفه ، ومن منهم قطعوا يده . أى يتحدث المؤرخ القاضي ابن حجر كما لو كانوا حيوانات أو من بلاد الواق واق ، وليس قرية مصرية حظيت باهتمام السلطان نفسه .
2 ـ يقول في أخبار شهر شوال عام 841 : ( شوال : أوله الخميس .. وفشا الطاعون فزاد على المائة ، وصلينا فى الجامع الحاكمى بعد الجمعة على خمسة أنفس جملة . وكان أول ما إشتد فى نواحى الجامع الطولونى ، ثم فى الصليبة ، ثم فشا فى القاهرة ولله الأمر . ثم بلغ المائتين فى العشر الأول منه كل يوم ، ثم فى العشر الأوسط الى ثلثمائة. ) ( وفى النصف منه توجهت ليلى لزيارة أهلها بحلب ، فأكملت فى عصمتى خمس سنين سواء ، ووقعت الفرقة ، وعادت فى رجب ثم أعيدت الى العصمة. )
تعليق :
في حديثه عن الطاعون وقتها لم يذكر التفصيلات التي ذكرها المقريزى في ( السلوك ) في أحداث نفس الشهر . ولكنه فيما يخصُّ زوجته ( ليلى ) ذكر تفصيلات عن علاقاتهما المتقلبة بين زواج وطلاق فيما بين حلب والقاهرة . ولا ننسى أن المستضعفين الذىن أشار اليهم باختصار واستعلاء كانت لهم أزواج وذرية، لكنهم لم يكونوا من أكابر المجرمين .
إبن حجر يدافع عن فساده في تاريخه ( إنباء الغُمر )
تجلّى فساد القضاة الأربعة الكبار في دفع الرشوة لتولى المنصب ، وفى أخذ الرشوة في تولى القضاة التابعين لهم وفى تعيين أولادهم في المناصب بالواسطة ، ولكن أكبر فسادهم كان في تحكمهم في إدارة المؤسسات الدينية وأوقافها . وابن حجر باعتباره أكبر قضاة القضاة ، وأنه القاضي الشافعى المُقدّم على غيره فقد حاز على نظر أو إدارة الكثير من المؤسسات الوقفية وتحكم في إيراداتها . وبسبب فسادهم وسوء سُمعتهم فقد كان السلطان نفسه ( أكبر أكابر المجرمين وأفسد المفسدين ) يتدخل لإصلاح قضاة ( الشرع الشريف ) على حدّ قولهم . وبسبب شيوع هذا الفساد وتعرض المقريزى له مرارا في تاريخ ( السلوك ) فقد اضطر ابن حجر لأن يورد بعض ذلك من وجهة نظره ، يخفى الحقائق ويزيفها .
نعطى بعض النماذج :
في سرقته الأوقاف :
1 : قال ابن حجر في اخبار عام 833 : ( وفي جمادى الأولى أول يوم منه أمر السلطان القضاة بقراءة كتب الاوقاف بالمدارس الكبار والخوانق وأتباع شرط الواقفين فيها ، وشدّد في ذلك، فلما كان يوم الأربعاء رابعه، اجتمعوا بالشيخونية ( الخانقاة ) وقرئ كتاب الوقف ، فقال لهم الشافعي ( يقصد نفسه ): " يقام ناظر بشرط الواقف ليعمل بالشرط وينفذ تصرفه" . فانفصلوا على ذلك، ثم حضر المشايخ والطلبة يوم الثلاثاء حادي عشره عند السلطان، فقال لهم: ما فعلتم? فقالوا: الحال يتوقف على ناظر يتكلم. فقال للشيخ: أنت ناظر فقال: وكذلك كاتب السر، فأمر كاتب السر في الكلام معه، فحضروا يوم الأربعاء ، وقرئ شرط الواقف ، فتكلموا أولا في البيوت ، فوجدوا الشرط أن يسكنها العزاب، فوجد من المترددين نحو العشرين، فأمر أن يخرج من المتزوجين بعددهم ويسكن المترددون ، ووعدوا بأن يحضر لكتابة ذلك من يوثق له ، فلم يحضر أحد، وحضروا يوم العشرين بالصالحية ( الخانقاة ) فقرئ كتاب وقف الناصري، فترددوا فيمن يستحق النظر هل هو الشافعي أو المالكي . ونزل إلى الشيخونية جمدار ، فأخبر الشيخ وهو في الحضور أن السلطان رسم أن كل أحد على حاله ، فسُرّوا بذلك ، وقرؤا للسلطان، ثم تبين للسلطان أن الذي قام في ذلك كان فيه هوى وتعصب، وأشير عليه بترك الناس على حالهم، وأن الذي يصل إليهم من المعاليم هو من جملة أموال المسلمين وهم مستحقون ، إلى غير ذلك من الاعتذارات ، إلى أن أمر بترك ذلك . وخمدت الكائنة واستمر الامر على ما كان. )
تعليق
نلاحظ هنا أن ابن حجر دخل في متاهات من التفصيلات ، ودون توضيح لدوره في الموضوع أو للشروط ، والأشخاص . أي جعلها من المعميات .
2 ـ ولكن المقريزى ذكر الموضوع باختصار وبتوضيح أكثر فقال : ( وفي هذا الشهر‏ :‏ رسم أن يكشف عن شروط واقفي المدارس والخوانك ويعمل بها‏. وندب لذلك قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر الشافعي . فبدأ أولا بمدرسة الأمير صرغتمش بخط الصليبة وقرأ كتاب وقفها‏. وقد حضر معه رفقاؤه الثلاث قضاة القضاة ، فأجّل في الأمر ، فلم يعجب السلطان ذلك ، وأراد عزل جماعة من أرباب وظائفها ، فروجع في ذلك حتى أقرهم على ما هم عليه‏. وأبطل الكشف عما رسم به . فسر الناس بهذا ، لأنهم كانوا يتوقعون تغييرات كثيرة‏. ).
تعليق
1 ـ ابن حجر قاضى القضاة الشافعى كان المُقدّم على بقية القضاة بحكم كونه شافعيا أولا ، ثم لكونه أكثرهم شهرة . وقد عهد اليه برسباى بإصلاح أوقاف المدارس والخوانق وغيرها ، حيث كان الوقف الأهلى يستوجب تعيين مدرسين مختلفى التخصصات في الفقه والعلوم الشرعية في دينهم السُّنّى ، مع وظائف أخرى مساعدة ، ويتم تسجيل قواعد تعيينهم وصرف مرتباتهم ، من خلال مبلغ الوقف المخصص لذلك . ووثائق الوقف ـ وقد سبق لنا فحصها ودراستها ولا تزال محفوظة في دار الوثائق ـ كانت تفصّل هذا. ولكن التطبيق كان فسادا ، وشاعت أخباره ، فأراد السلطان برسباى ـ أكبر أكابر المجرمين ــ إصلاح الأمر ، وعهد لأكبر قاض بالمراجعة ، وهو (إبن حجر العسقلانى ) ومعه زملاؤه قُضاة القضاة الثلاثة . وطبيعى أن ينتهى الأمر الى لا شيء ، وفرح ( الناس ) بهذا على حدّ قول المقريزى، المقصود بالناس هنا هم المستفيدون من هذا الفساد .
2 ـ لم ينتقد المقريزى دور ابن حجر ، مع إن كلماته توحى بذلك ، فابن حجر قام بالتأجيل ، وهذا التأجيل لم يعجب برسباى : ( فأجّل في الأمر ، فلم يعجب السلطان ذلك ) . وتصرف السلطان بنفسه فأراد عزل الحرامية فتدخل أكابر المفسدين أصحاب الحظوة عند السلطان ، ومازالوا به حتى تراجع . ولم يصرح المقريزى بمن تدخل لدى السلطان ، وهذا مفهوم بين سطور الخبر .
3 ـ والمؤرخ أبو المحاسن ذكر نفس الموضوع في تاريخه ( النجوم الزاهرة ) فقال
3 / 1 : ( وفي هذا الشهر ندب السلطان قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر أن يكشف عن شروط واقفي المدارس والخوانك ويُعمل بها ، فسُرّ الناس بذلك غاية السرور ، وكثر الدعاء للسلطان بسبب ذلك . فبدأ أولًا بمدرسة الأمير صرغتمش بخط الصليبة ، وقرأ كتاب وقفها . وقد حضر معه القضاة الثلاثة ، فأجمل ابن حجر في الأمر ، فلم يعجب الناس ذلك ، لاستيلاء المباشرين على الأوقاف والتصرف فيها بعدم شرط الواقف وضياع مصالحها ، فتشدّد ( السلطان ) في ذلك ، وأراد عزل جماعة من أرباب وظائفها ، فروجع في ذلك ، وانفض المجلس ، وقد اجتهد الأكلة ( أي اللصوص آكلو المال الحرام ) في السعي بإبطال ذلك ، حتى أبطله السلطان‏.)
3 / 2 : وقال أبو المحاسن معلقا غاضبا : ( قلت‏:‏ ولو ندب السلطان لهذا الأمر أحد فقهاء الأمراء والأجناد الذين هم أهل الدين والصلاح لينظر في ذلك بالمعروف لكانت هذه الفعلة تقاوم فتحه لقبرس ، لضياع مصالح أوقاف الجوامع والمساجد بالديار المصرية والبلاد الشامية لاستيلاء الطمعة عليها ، وتقرير من لا يستحق في كثير من وظائفها بغير شرط الواقف ، ومنع من يستحق العطاء بشرط الواقف . ولهذا قررت الملوك السالفة وظيفة نظر الأوقاف لهذا المعنى وغيره ، فتُرك ذلك ، وصار الذي يلي نظر الأوقاف شريكًا لمن تقدم ذكره فيما يتناولونه من ريع الأوقاف، والكلام فيما يعود نفعه عليه من جهة حل وقف وبيعه أو لواحد استولى على جهة وقف وأكله بتمامه فيبعث خلفه ويبلصه في شيء له ولأعوانه ، ويترك الذي قررت هذه الوظيفة بسببه من قديم الزمان ، وهو ما تقدم ذكره من النظر في أمر الأوقاف والعمل فيما يعود نفعه على الوقف وعلى أرباب وظائفه من الفقهاء ).
تعليق
الخطورة في قول أبى المحاسن :
1 ـ ( ولو ندب السلطان لهذا الأمر أحد فقهاء الأمراء والأجناد الذين هم أهل الدين والصلاح لينظر في ذلك بالمعروف لكانت هذه الفعلة تقاوم فتحه لقبرس ) فأبو المحاسن يعتبر أمراء المماليك والعسكر ( الأجناد ) أكثر صلاحا من ابن حجر ورفاقه . وأن السلطان برسباى لو عهد اليهم إصلاح الأوقاف لكان هذا أكبر منقبة للسلطان مثل فتحه قبرص . وفتح قبرص كان أكبر مفخرة لبرسباى .
2 ـ إشارته الى فساد ابن حجر ورفاقه في سلب أموال الأوقاف ، فقال :
2 / 1 :( لضياع مصالح أوقاف الجوامع والمساجد بالديار المصرية والبلاد الشامية لاستيلاء الطمعة عليها ، وتقرير من لا يستحق في كثير من وظائفها بغير شرط الواقف، ومنع من يستحق العطاء بشرط الواقف.) .
2 / 2 : ( وصار الذي يلي نظر الأوقاف شريكًا لمن تقدم ذكره فيما يتناولونه من ريع الأوقاف، والكلام فيما يعود نفعه عليه من جهة حل وقف وبيعه أو لواحد استولى على جهة وقف وأكله بتمامه فيبعث خلفه ويبلصه في شيء له ولأعوانه . ) .
2 / 3 : قوله ( ويبلصه في شيء له ولأعوانه ) ( البلص ) في مصطلح العصر يعنى الاختلاس والسرقة . أي أن يختلس ناظر الوقف لنفسه واعوانه ممّن يعينه في هذه الوظيفة . باختصار كان ابن حجر ورفاقه قضاة القضاة رؤساء عصابات ، و ( مافيا للأوقاف )، وكثرة سرقاتهم أغاظت السلطان نفسه .
ابن حجر يستخدم نفوذه في الدفاع عن نفسه أمام السلطان الصغير ابن برسباى
قال ابن حجر في أخبار عام 841 ( ربيع الأول ) : ( وفي التاسع منه قرئ تقليد السلطان بالقصر ، وجرى كلام يتعلق بالقضاة ، فقال الشافعي: "عزلت نفسي،" فقال له - السلطان: " أعدتك "، فقبل ،وخُلع عليه وعلى رفقته، ورُسم بإعادة الأوقاف التي خرجت عن الشافعي، وهي وقف قراقوش في ولاية العراقي ووقف تنبغا التركماني في ولاية البلقيني ووقف الأسرى في ولايته، فأعيدت بتوقيع جديد. )
تعليق
1 ـ بلغ نفوذ ابن حجر ذروته في دوره في تولى الصبى يوسف بن برسباى السلطة بعد أبيه . وفى المجلس مع السلطان الصغير شكى بعضهم من فساد ابن حجر ، فأعلن أمام السلطان الصغير عزل نفسه من القضاء ، فارتعب السلطان الصغير ، وانتهى بعودة ابن حجر للقضاء ، بل و بإعادة بعض الأوقاف التي انتزعوها منه في عهد برسباى .
2 ـ ويلاحظ أسلوب التجهيل في صياغة ابن حجر للخبر . يقول ابن حجر : ( وجرى كلام يتعلق بالقضاة )، لم يذكر الاتهامات التي قيلت ومن قالها ، وأدلّتهم ، ولم يُصرّح بأن الاتهامات موجهة له . وواضح انه الأدلة كانت دامغة بحيث اضطر لأن يقول ( فقال الشافعي: "عزلت نفسي،"). وهو يقصد نفسه .
في مجلس السلطان الصغير : ابن حجر يستخدم نفوذه في الحصول على ما انتزعه منه غريمه البلقينى قاضى القضاة الشافعى
قال ابن حجر في ( إنباء الغُمر ) : ( جمادى الأولى - أوله الثلاثاء، حضرنا للتهنئة عند السلطان يوم الاثنين سلخ الشهر الماضي، فسألت السلطان أن يشهد على نفسه بما فوض لي من الولاية والأنظار وغيرها، فأشهد على نفسه بذلك بحضرة القضاة، وشكوت إليه بعد ذلك ما انتزعه مني الملك الأشرف ، ووهب بعضه أو أكثره للقاضي علم الدين صالح بن البلقيني، فرسم بعقد مجلس بذلك - بحضرته، فتوسط ناظر الجيوش بيني وبينه إلى أن أعاد النصف وتركت له النصف. )
تعليق
السلطان الصغير استجاب لطلب ابن حجر فأعلن المناصب التي فوّضها لابن حجر . وانتهز ابن حجر الفرصة فشكى للسلطان الصغير ما انتزعه منه السلطان الأشرف برسباى من مناصب وأعطاها للقاضى ابن البلقينى . وكانت العادة تداول منصب القضاء بين ابن حجر وابن البلقينى . واستجاب السلطان الصغير ، وتم عقد مجلس في حضوره ، وانتهى بتقاسم ابن حجر والبلقينى تلك المناصب . أي إتّفاق على تقاسم المسروقات .
موقف لابن حجر حين فقد نفوذه في سلطنة جقمق :
قال في ( إنباء الغمر ) في أحداث شهر محرم 843 : ( وفي الثالث منه أمر عبد الباسط ناظر الجيش دويداره بإحضار ما في منزله من الذهب، فكان ثلاثين ألف دينار ، فاستقلها السلطان، فاستأذنه ناظر الجيش المذكور في بيع موجوده فأذن له، وشرعوا في بيع جميع ما عنده من الحواصل، فوصلت مصادرته في اليوم العاشر إلى مائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار والطلب مستمر، وقيل إنه طلب منه ألف ألف دينار، وإن بعض الوسائط أنزلها إلى خمسمائة ألف دينار، ولم يثبت ذلك. وصودر كاتبه على عشرة آلاف دينار، ثم خفف عنه منها الخمس. )
تعليق
السلطان المملوكى يعرف أن أعوانه يسرقون ، وكان يبتزّهم بالعزل وإعادة التعيين ، وأحيانا يصادر أموالهم ، وقد قام السلطان جقمق بمصادرة أعمدة السلطة في عهد برسباى ، وصودر ناظر الجيش عبد الباسط ، كما صودر ابن حجر . كانت المصادرة عادة سارية في تعامل السلطان المملوكى مع أتباعه أكابر المجرمين .



المؤرخ أبو المحاسن (813 :874 ) الذى كان من أكابر المجرمين
الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى
الفصل الثانى :( مؤرخو عصر برسباى )
لمحة عن أبى المحاسن
1 ـ من أصل مملوكى ، كان ابوه من أكابر المجرمين ، وهو الامير تغري بردي. كان ( اتابك ) ، أي كان قائدا للجيش المملوكي ، ثم نائبا للسلطان علي الشام ، أي واليا للشام. ينتمى أبو المحاسن الى طبقة ( أولاد الناس ) ، وهم أبناء المماليك الذين وُلدوا أحرارا ، وتكونت بهم طبقة ارستقراطية متغطرسة ، وحتى الآن يقال في مصر ( فلان إبن ناس ) . الى هذه الطبقة ينتمى أيضا المؤرخ ابن إياس ، وإن كان إبن إياس معبرا عن ثقافة الشارع المصرى ، وليس مترفعا عنه مثل أبى المحاسن .
2 ـ إشتهر أبو المحاسن بكتابه : ( النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة ) بلغ به 16 جزءا ، وبدأه من الفتح العربى ، وسار بعده متخصصا فى التاريخ المصرى ، ينقل فيه شذرات عن السابقين ، وممّن نقل عنهم استاذه المقريزى ، وواصل كتابة التاريخ بعد عصر المقريزى من واقع المشاهدة الى قبيل موته بعام واحد ، أى أتم التأريخ لمصر في النجوم الزاهرة حتي 873 هـ ومات عام 874 في أوائل عصر السلطان قايتباى . ذكر في نهايته أنه ألفه من أجل صديقه الأمير محمد بن السلطان جقمق، أي نفاقا لابن السلطان ولى عهده . و كان أبو المحاسن يتوقع أن يصل صديقه إلى السلطنة فيختم الكتاب بعهده، إلا أن الأمير محمد وافته المنية قبل ذلك في عام 847 .
3 ـ كان أبو المحاسن تلميذا للمقريزى ، وتوقف المقريزى في تاريخه فى "السلوك" عند سنة 844هـ أى قبيل وفاته بعام واحد. وقام تلميذه أبو المحاسن بإكمال التأريخ لعصره ، فكتب أيضا : ( حوادث الدهور في الأيام والشهور ) ، وجعله ذيلاً لتاريخ المقريزى في السلوك. وصدر فى باريس ( منتخبات من حوادث الدهور)، حررها وليم بيبر عام 1930 . ولأبى المحاسن أيضا كتاب ( المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى ).فى خمسة أجزاء ، وقد قصره على التراجم المختصرة لشخصيات عصره . وكان أبو المحاسن كثيراً ما يعترف بفضل المقريزي ، وقد كان أقل مستوى من أستاذه ، ويبدو هذا فيما ينقله عن استاذه ، وفى فوضى تأليفه في ( النجوم الزاهرة ) فلم يستفد بالتنظيم والتأنُّق الذى سار عليه المقريزى في ( السلوك ) . المفترض أن يأتي اللاحق أفضل من السابق ، وليس العكس .
أبو المحاسن مؤرخا
أبو المحاسن يحتقر أحرار المصريين منحازا لأكابر المجرمين
كان أبو المحاسن يعيش في سعة كاملة بإعتباره من ( أولاد الناس ) ، أكثر من هذا تعلم الفروسية وبرع فيها، وأتقن العربية والتركية. وكان منحازا لأكابر المجرمين الذى ينتمى اليهم ومتعاليا على المصريين. ونعطى هذا المثل :.
قام السلطان الأشرف اينال بتزييف العُملة ، وقام أهل القاهرة بثورة ومظاهرات ، وصلت الى مقر الحكم في القلعة ، فعُقد لذلك مجلس سلطاني في صفر سنة 861 . قال أبو المحاسن في كتابه ( حوادث الدهور 2/ 294 : 296 ) يصف تلك المظاهرة :
( اضطرب الناس ، وأبطل السلطان موكب ربيع الأول من القصر ، وجلس بالحوش ، ودعا القضاة الأربعة والأمراء والأعيان ، ووقف العامة أجمعون في الشارع الأعظم من باب زويلة إلى داخل القلعة ، وأجتاز بهم قاضي القضاة علم الدين البلقيني وهو طالع إلى القلعة ، فسلّم على بعضهم بباب زويلة ، فلم يرد عليه أحد السلام ، بل انطلقت الألسن بالسب له وتوبيخه من كل جانب ، لكونه لا يتكلم في مصالح المسلمين ، واستمر على هذه الصورة إلى أن طلع إلى القلعة . وقد انفض المجلس بدون طائل ، ونودي في الناس بعدم معاملة " الزغل " ( أي بعدم التعامل بالنقود المغشوشة ) . فلم يسكن ما بالناس من الرهج ، ولهجوا بقولهم : " السلطان من عكسه أبطل نصفه " ( أي أن السلطان من شؤمه أبطل التعامل بالعملة التي أصدرها وهي النصف الإينالي ، والنصف اسم للعملة الفضية الاينالية ) وقالوا أيضا " إذا كان نصفك إينالي لا تقف على دكاني " ( أى إذا كانت العملة التى معك هى الدرهم الذى اصدره السلطان إينال فلا تقف على دكانى ) .وألفوا عبارات أخرى ، وأشياء أخرى من هذا من غير مراعاة وزن ولا قافية.! )
تعليق
1 ـ قاموا بتأليف شعارات بعضها موزون وله قافية والآخر بدون وزن وقافية . وهى نفس العادة المصرية المتمكنة فى فنّ تأليف الشعارات فى المظاهرات . وهذا الشّعر لم يحظ باعجاب المؤرخ أبى المحاسن ، كما لو كان ينتظر من الجماهير الساخطة أن تنطق شعرا فصيحا ، يمدح السلطان الغشّاش الذى يسرق أقوات المستضعفين في الأرض .!
2 ـ ونرجع للمؤرخ أبى المحاسن وهو يصف تلك المظاهرة الفريدة التى ثار فيها شعب القاهرة على السلطان الفاسد إينال و بطانته من أكابر المجرمين من الشيوخ والأمراء والأعيان حسب وصف أبى المحاسن . .
2 / 1 : يقول أبو المحاسن : ( وانطلقت الألسن بالوقيعة في السلطان وأرباب الدولة ) أى انطلقوا فى مظاهراتهم يلعنون السلطان وأعوانه من القُضاة وكبار الموظفين أرباب دولته فأضاعوا حرمته وانتهكوا مكانته . ووصل هجومهم الى أكبر قاض للقضاة وقتها ، يقول أبو المحاسن : ( وأجتاز بهم قاضي القضاة علم الدين البلقيني وهو طالع إلى القلعة ، فسلّم على بعضهم بباب زويلة ، فلم يرد عليه أحد السلام ، بل انطلقت الألسن بالسب له وتوبيخه من كل جانب ، لكونه لا يتكلم في مصالح المسلمين ، واستمر على هذه الصورة إلى أن طلع إلى القلعة.) ، أي إنهم أدركوا التحالف بين أكابر المجرمين من المماليك ورجال الدين .
2 / 2 : وخشى السلطان اينال من جرأة مماليكه عليه ، خصوصا المماليك الجلبان ، أى المماليك الذين كان يؤتى بهم كبارا وليس من مرحلة الطفولة ، أى كانوا يتطوعون بالوقوع فى الاسترقاق ليؤتى بهم الى مصر فيصيروا فيها مماليك متخصّصين في الشّغب والفتن ، خشى اينال أن يتحالف العوام مع المماليك الجلبان . يقول ابو المحاسن عن محنة السلطان اينال بعد أن أضاعت مظاهرات الحرافيش مكانته وحرمته وهيبته : ( وخاف السلطان من قيام المماليك الجلبان بالفتنة وأن تساعدهم العامة وجميع الناس ، فرجع عما كان قصده . ) أى كان يريد ان يستخدم المماليك الجلبان ضد المصريين الأحرار ، الذين يسميهم أبو المحاسن بالعوام ، فخاف ان يتحد ضده المصريون والجلبان، لأن غشّ العُملة يدفع ثمنه أولئك الجنود الجلبان وغيرهم .
2 / 3 : وبهذا تطورت المظاهرات ضد السلطان اينال . ووجد المتظاهرون فرصتهم الكاملة فى سبّ وتحقير أعوان السلطان ممن كان يقوم بالسلب والنهب والمصادرات باسم السلطان ، يقول ابو المحاسن : ( وقد أفحش العامة في سباب ناظر الخاص ، ورجموه ،وكادوا يقتلونه ،) ناظر الخاص هو المشرف على ثروة السلطان وأملاكه . وقد اضطر الى الفرار من أمامهم ومعه أعوانه وفرق حراسته.
2 / 4 : يقول ابو المحاسن باستعلاء وحقد يصف انتصار المصريين الأحرار : ( وعظُمت الغوغاء ، فأرسل إليهم ابن السلطان ، فسألهم عن غرضهم فقالوا : " النداء بأن كل شيء على حاله" ، فقال لهم : " غدا أكلم السلطان ويفعل قصدكم ."، فأبوا ، وصمموا على النداء في هذا اليوم . فأرسل لأبيه ، فتردد ، ثم أجاب . ) يقول أبو المحاسن معلّقا : ( وحصل بالنداء غاية الوهن في المملكة ، وطغى العامة وتجبروا .). واضح هنا أن المؤرخ الأرستقراطي المملوكي الأصل أبا المحاسن ينتمى الى أكابر المجرمين ، لم يكن من رجال الدين ، ولكن من الملأ المملوكى المحيط بالسلطان ، لذا لم يسترح إلى رضوخ السلطان إينال للمصريين ، وهم عند هذا المؤرخ ( غوغاء وعوام ) .!
أمثلة للخلاف بين أبى المحاسن ( الذى ينتمى لأكابر المجرمين ) وشيخه المقريزى ( الذى لم يكن من المجرمين )
المثال الأول
1 ـ يذكر المقريزى في ( السلوك ) في أحداث شهر شوال 841 : ( وفيه ركب السلطان من القلعة، وأقام يومه بخليج الزعفران خارج القاهرة. وعاد من آخره بعد أن فرق مالاً في الفقراء، فتكاثروا على متولى تفرقة ذلك، حتى سقط عن فرسه، فغضب السلطان من ذلك، وطلب سلطان الحرافيش، وشيخ الطوائف، وألزمهما بمنع الجعيدية أجمعين من السؤال في الطرقات، وإلزامهم بالتكسب، وأن من شحذ منهم يقبض الوالى عليه، وأُخرج ليعمل في الحفير. فامتنعوا من الشحاذة، وخلت الطرقات منهم، ولم يبق من السؤّال إلا العميان والزمناء وأرباب العاهات، ولم نسمع بمثل ذلك. فعم الضيق كل أحد، وانطلقت الألسنة بالدعاء على السلطان، وتمنى زواله، فأصبح في يوم الأربعاء سابعه مريضًا قد إنتكس، ولزم الفراش. ) .
تعليق
أكابر المجرمين من المماليك وأعوانهم نظروا بإحتقار الى فقراء القاهرة الذين لا يجدون ما ينفقون ، وكانوا طوائف أطلق عليهم أكابر المجرمين أوصافا تحقيرية ، مثل الحرافيش والعوام والجعيدية . هذا يذكرنا بالملأ من قوم نوح الذين قالوا له : ( أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111) الشعراء ) ( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ ) (27) هود ) . وبمزيد من التحقير والسخرية جعلوا للفقراء طوائف وسلاطين . تنوعت وتكاثرت أعداد الفقراء في القاهرة ، وتنافسوا في التسول . وكانت العادة أنه إذا وقف شخص يتبرع يتزاحمون عليه وقد يوقعونه من فوق فرسه . وحدث هذا مع الذى كان يفرّق صدقات برسباى ، فهددهم بالتسخير في الحفر ، واستثنى منهم المرضى والعميان والمشلولين ( الزمناء ) . كان هذا معتادا قبل برسباى ، ولكن لم يكن هذا العقاب مسبوقا ، فسخط الناس على السلطان ، ودعوا عليه فازداد مرضه حسبما يقول المقريزى ، فقال يعبّر عن مشاعره ومشاعر الناس الساخطة على برسباى : ( ولم نسمع بمثل ذلك. فعم الضيق كل أحد، وانطلقت الألسنة بالدعاء على السلطان، وتمنى زواله، فأصبح في يوم الأربعاء سابعه مريضًا قد إنتكس، ولزم الفراش. ). ولا ننسى أن برسباى ( المشهور بالبخل والجشع ) إضطر للتصدق حين إشتد عليه المرض . وهكذا شأن أكابر المجرمين عند المحنة . وما قاله المقريزى متّسق مع أخبار برسباى وإجرامه قبل الطاعون وبعده .
2 ـ ولكن أبا المحاسن ابن تغرى بردى نقل الحادثة في تاريخه ( النجوم الزاهرة ) . قال : ( وفيه ركب السلطان من قلعة الجبل ، ونزل إلى خليج الزعفران ، وأقام به يومه في مخيمه يتنزه ، ثم ركب وعاد إلى القلعة في آخر النهار بعد أن تصدق على الفقراء بمال كثير، فتكاثرت الفقراء على متولي الصدقة ، وجذبوه حتى أرموه عن فرسه ، فغضب السلطان من ذلك ، وطلب سلطان الحرافيش وشيخ الطوائف وألزمهما بمنع الجعيدية من السؤال في الطرقات وألزمهم بالتكسب ، وأن من يشحذ منهم قبض عليه وأخرج لعمل الحفير‏. فامتنعوا من الشحاذة ، وخلت الطرقات ، ولم يبق من السؤال إلا العميان والزمنى وأرباب العاهات‏. ) .
ويعلّق مدافعا عن السلطان برسباى مهاجما الفقراء ، فيقول : ( قلت‏:‏ وكان هذا من أكبر المصالح ، وعُدّ ذلك من حسن نظر الملك الأشرف في أحوال الرعية ، فإن هؤلاء الجعيدية غالبهم قوي سويّ صاحب صنعة في يده ، فيتركها ويشارك ذوي العاهات الذين لا كسب لهم إلا السؤال ، ولولا ذلك لماتوا جوعًا . وأيضا أن غالبهم يجلس بالشوارع ، ويتمنى ، ثم يقسم على الناس بالأنبياء والصلحاء ، وهو يتضجر من قسوة قلوب الناس ، ويقول‏:‏ لي مقدار كيت وكيت باقول في حب رسول الله أعطوني هذا النزر اليسير فلم يعطني أحد‏. ويجتاز به ــ وهو يقول‏‏ ذلك ــ اليهودي والنصراني فيسمعون لمقالته في هذا المعنى‏. وهذا من المنكرات التي لا ترتضيها الحكام . وكان من شأنهم أنهم إذا سمعوا هذا القول أخذوا القائل وأوجعوه بالضرب والحبس والمناداة على الفقراء بعدم التقسيم في سؤالهم والتحجر عليهم بسبب ذلك . فلم يلتفت أحد منهم إلى ذلك ، حتى ظهر للسلطان بعض ما هم عليه في هذه المرة فمنعهم ، فما كان أحسن هذا لو دام واستمر. انتهى‏. ) . أبو المحاسن يعرف شُهرة السلطان برسباى بالبُخل وتزييف للعملة وسلب ونهب الأموال واحتكار التجارة ، ولا يرى في ذلك بأسا . ويمدحه لأنه تصدّى للفقراء المتسولين ، ويراهم مستحقين للضرب والحبس .
المثال الثانى
1 ـ بعد سنوات من الصراع انتصر برسباى على خصمه جانبك الصوفى ، وسنعرض لذلك بالتفصيل حسب السنوات . وصلت رأس جانبك الصوفى الى برسباى في القلعة في 17 جمادى الأولى عام 841 . يقول المقريزى عن جانبك الصوفى ومهاجما السلطان برسباى : ( فقُطع رأسه، وحُمل إلى السلطان، فكاد يطير فرحًا، وظن أنه قد أمن، فأجرى اللّه على الألسنة أنه قد إنقضت أيامه، وزالت دولته. فكان كذلك كما سيأتى هذا. وقد قابل نعمة اللّه تعالى عليه في كفاية عدوه بأن تزايد عتوه وكثر ظلمه، وساءت سيرته، فأخذه اللّه أخذًا وبيلا، وعاجله بنقمته ولم يهنيه. ( يهنئه ))
2 ـ اعترض أبو المحاسن على هجوم المقريزى على السلطان برسباى . نقل أبو المحاسن ما كتبه المقريزى، فقال : ( قال المقريزي بعد أن ساق نحو ما حكيناه بالمعنى واللفظ مخالف‏:‏ وحملت إليه الرأس يعني عن الملك الأشرف فكاد يطير فرحًا ، وظن أنه قد أمن فأجرى الله على الألسنة أنه قد انقضت أيامه وزالت دولته فكان كذلك هذا‏. وقد قابل نعم الله عليه في كفاية عدوه بأن تزايد عتوه وكثر ظلمه وساءت سيرته، فأخذه الله أخذًا وبيلًا وعاجله بنقمته فلم يهنه. انتهى كلام المقريزي‏.) .
ويعلق أبو المحاسن منتقدا المقريزى ومدافعا عن برسباى : ( قلت‏:‏ وما عسى الملك الأشرف كان يظلم في تلك المدة القصيرة ؟ فإن خبر جانبك الصوفي ورد عليه في سابع عشر جمادى الأولى ، وابتدأ بالسلطان مرض موته من أوائل شعبان ولزم الفراش من اليوم المذكور وهو ينصل ثم ينتكس إلى أن مات في ذي الحجة‏. غير أن الشيخ تقي الدين المقريزي رحمه الله كان له انخراقات معروفة عنه ، وهو معذور في ذلك، فإنه أحد من أدركنا من أرباب الكمالات في فنه ومؤرخ زمانه لا يدانيه في ذلك أحد ، مع معرفتي بمن عاصره من مؤرخي العلماء . ومع هذا كله كان مبعودًا في الدولة ، لا يدنيه السلطان مع حسن محاضرته وحلوا منادمته‏. على أن الملك الظاهر برقوق كان قربه ونادمه وولاه حسبة القاهرة في أواخر دولته ، ومات الملك الظاهر فلم يمش حاله على من جاء بعده من الملوك ، وأبعدوه من غير إحسان ، فأخذ هو أيضًا في ضبط مساوئهم وقبائحهم فمن أساء لا يستوحش‏. على أنه كان ثقة في نفسه دينًا خيرًا وقد قيل لبعض الشعراء‏:‏ إلى متى تمدح وتهجو‏. فقال‏:‏ ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء. انتهى )
تعليق
1 ـ ينسى أبو المحاسن مظالم برسباى التي تضاعفت في أيامه الأخيرة ، ومنها أمره بتوسيط الطبيبين اللذين كانا يعالجانه ، وهو نفسه قد ذكر هذه الحادثة ، ولكن ليس بالتفصيل الذى ذكره المقريزى . وينسى أبو المحاسن ظلم برسباى وبُخله واحتكاره التجارة .
2 ـ يغالط أبو المحاسن إذ يجعل سبب انتقاد المقريزى للسلاطين أنهم أبعدوه ، هم لم يبعدوه ، كان مُتاحا لهم أن يشترى المناصب ، وهو الأكثر علما من غيره ، ولكنه فضّل أن يتفرغ للتأريخ ، فكتب ما لم يسبقه أحد ، وبكتابات تاريخية متنوعة ، كان في بعضها سابقا لغيره ، مع رؤية نقدية لأكابر المجرمين ، لم يصل لها سواه من قبله ومن بعده . مع هذا اضطر أبو المحاسن الى الإشادة بالمقريزى ، فقال : ( فإنه أحد من أدركنا من أرباب الكمالات في فنه ومؤرخ زمانه لا يدانيه في ذلك أحد ، مع معرفتي بمن عاصره من مؤرخي العلماء . ) ( على أنه كان ثقة في نفسه دينًا خيرًا وقد قيل لبعض الشعراء‏:‏ إلى متى تمدح وتهجو‏. فقال‏:‏ ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء. ) .
المثال الثالث
3 ـ في تاريخه ( النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة ) قال أبو المحاسن عن السلطان برسباى بعد وفاته :‏.‏
( .. وخلّف من الأموال‏ والتحف والخيول والجمال والسلاح شيئًا كثيرًا إلى الغاية‏. وكان سلطانًا جليلًا سيوسًا مدبرًا عاقلًا متجملًا في مماليكه وخيوله‏. ) ( وكانت صفته أشقر طويلًا نحيفًا رشيقا منور الشيبة بهي الشكل ، غير سبّاب ولا فحّاش في لفظه ، حسن الخلق، ليّن الجانب ، حريصًا على إقامة ناموس الملك ، يميل إلى الخير ، يحب سماع تلاوة القرآن العزيز ، حتى إنه رتب عدة أجواق ( فرقة انشاد للقرآن ) تقرأ عنده في ليالي المواكب بالقصر السلطاني دوامًا‏. وكان يكرم أرباب الصلاح ، ويُجلُّ مقامهم ، وكان يكثر من الصوم في الصيف والشتاء ، فإنه كان يصوم في الغالب يوم الثالث عشر من الشهر والرابع عشر والخامس عشر، يُديم على ذلك‏. وكان يصوم أيضًا أول يوم في الشهر وآخر يوم فيه ، مع المواظبة على صيام يومي الاثنين والخميس في الجمعة ، حتى إنه كان يتوجه في أيام صومه إلى الصيد، ويجلس على السماط وهو صائم ، ويطعم الأمراء والخاصكية بيده ، ثم يغسل يديه بعد رفع السماط كأنه واكل القوم‏. وكان لا يتعاطى المسكرات، ولا يحب من يفعل ذلك من مماليكه وحواشيه. ) ( وكان يحب الاستكثار من المماليك ، حتى إنه زادت عدة مماليكه المشتروات على ألفي مملوك ، لولا ما أفناهم طاعون سنة ثلاث وثلاثين، ثم طاعون سنة إحدى وأربعين هذا ، فمات فيهما من مماليكه خلائق‏.) ( وكان يميل إلى جنس الجراكسة على غيرهم في الباطن ، ويظهر ذلك منه في بعض الأحيان ، وكان لا يحب أن يشهر عنه ذلك ، لئلا تنفر الخواطر منه، فإن ذلك مما يعاب به على الملوك . ) ( وكان مماليكه أشبه الناس بمماليك الملك الظاهر برقوق في كثرتهم وأيضًا في تحصيل فنون الفروسية ، ولو لم يكن من مماليكه إلا الأمير إينال الأبو بكري الخازندار ثم المشد لكفاه فخرًا، لما اشتمل عليه من المحاسن ، ولم يكن في دورنا ( أي جيلنا ) من يدانيه فكيف يشابهه‏... وإلى الآن مماليكه هم معظم عسكر الإسلام‏. )( وكانت أيامه في غاية الأمن والرخاء ، من قلة الفتن وسفر التجاريد ( الحملات الحربية ) هذا مع طول مدته في السلطنة‏. )( وعمّر في أيامه غالب قرى مصر قبليها وبحريها، مما كان خرب في دولة الملك الناصر فرج ، ثم في دولة الملك المؤيد شيخ ، لكثرة الفتن في أيامهما ، وترادف الشرور والأسفار إلى البلاد الشامية وغيرها في كل سنة‏. )( وكان الأشرف يتصدى للأحكام بنفسه ، ويقتدي في غالب أموره بطريق الملك المؤيد شيخ ، غير أنه كان يعيب على المؤيد سفه لسانه ، إلا الملك الأشرف فإنه كان لا يسفه على أحد من مماليكه ولا خدمه جملة كافية ، فكان أعظم ما شتم به أحدًا أن يقول له‏:‏ حمار وكان ذلك في الغالب يكون مزحًا‏. ولقد داومت خدمته من أوائل سلطنته إلى أن مات ما سمعته أفحش في سب واحد بعينه كائن من كان‏. وفي الجملة كانت محاسنه أكثر من مساوئه‏. )
تعليق
1 ـ أكثر المؤرخ ( المملوكى ) أبو المحاسن من مدح الأشرف برسباى ، وليس هذا بمستغرب ، فقد كان من حاشيته ، وقد خدمه من أوائل سلطنته الى أن مات . ومدح أيضا المماليك الجلبان للسلطان برسباى ، بل قال عنهم وعن أحد قادتهم وهو الأمير اينال الأبوبكرى : ( ، ولو لم يكن من مماليكه إلا الأمير إينال الأبو بكري الخازندار ثم المشد لكفاه فخرًا، لما اشتمل عليه من المحاسن ، ولم يكن في دورنا ( أي جيلنا ) من يدانيه فكيف يشابهه‏... وإلى الآن مماليكه هم معظم عسكر الإسلام‏. ). وكل ما قاله أبو المحاسن في مدح برسباى هي أكاذيب ، خصوصا قوله : ( وعمّر في أيامه غالب قرى مصر قبليها وبحريها، ). وستأتى شهادة المقريزى على عصر برسباى .
2 ـ ولقد أحسّ أبو المحاسن بتناقض الأكاذيب التي صاغها في مدح برسباى مع ما قاله استاذه المقريزى في ( السلوك ). لذا قال بعد ذلك يدافع عن السلطان الأشرف برسباى دفاعا هزيلا : ( وأما ما ذكره عنه الشيخ تقي الدين المقريزي في تاريخ السلوك من المساوىء ، فلا أقول إنه مغرض في ذلك، بل أقول بقول القائل‏:‏
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها كفى المرء فخرًا أن تعد معايبه
وكان الأليق الإضراب عن تلك المقالة الشنعة في حقه من وجوه عديدة . غير أن الشيخ تقي الدين كان ينكر عليه أمورًا ، منها انقياده إلى مباشري دولته في مظالم العباد ، ومنها شدة حرصه على المال وشرهه في جمعه‏. وأنا أقول في حق الملك الأشرف ما قلته في حق الملك الظاهر برقوق فيما تقدم فهو بخيل بالنسبة لمن تقدمه من الملوك وكريم بالنسبة لمن جاء بعده إلى يومنا هذا. وما أظرف قول من قال‏:‏ ما إن وصلت إلى زمان آخر إلا بكيت على الزمان الأول
وأما قول المقريزي‏:‏ وانقياده لمباشريه يشير بذلك إلى الزيني عبد الباسط ، فإنه كان يخاف على ماله منه ، فلا يزال يحسن له القبائح في وجوه تحصيل المال ويهوّن عليه فعلها ، حتى يفعلها الأشرف ( برسباى ) وينقاد إليه بكليته ، وحسّن له أمورًا ، لو فعلها الأشرف لكان فيها زوال ملكه . ومال الأشرف إلى شيء منها ، لولا معارضة قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني له فيها عندما كان يسامره بقراءة التاريخ ، فإنه كان كثيرًا ما يقرأ عنده تواريخ الملوك السالفة ، وأفعالهم الجميلة ، ويذكر ما وقع لهم من الحروب والخطوب والأسفار والمحن ، ثم يفسر له ذلك باللغة التركية وينمقها بلفظه الفصيح ، ثم يأخذ في تحبيبه لفعل الخير والنظر في مصالح المسلمين ، ويرجعه عن كثير من المظالم حتى لقد تكرر من الأشرف قوله في الملأ‏:‏ "لولا القاضي العيني ما حسن إسلامنا ولا عرفنا كيف نسير في المملكة‏.").
المثال الرابع
ارتكب جنود برسباى مذبحة في مدينة ( الرها )، وقد ذكر المقريزى تفاصيل المذبحة ، ودليلا على صدقه نقل عنه المؤرخ أبو المحاسن ، وكان مما قاله : ( ثم ألقوا النار فيها فأحرقوها بعدما أخلوها من جميع ما كان فيها وقتلوا من كان بها وبالمدينة ثم أخربوا المدينة وألقوا النار فيها فاحترقت واحترق في الحريق جماعة من النسوة فإنهن اختفين في الأماكن من البلد خوفًا من العسكر فلما احترقت المدينة احترقن الجميع في النار التي أضرمت بسكك المدينة وخباياها واحترق أيضًا معهن عدة كبيرة من أولادهن‏. هذا بعد أن أسرفوا في القتل بحيث إنه كان الطريق قد ضاق من كثرة القتلى‏. وفي الجملة فقد فعلوا بمدينة الرها فعل التمرلنكيين ( جنود تيمورلنك ) وزيادة من القتل والأسر والإحراق والفجور بالنساء فما شاء الله كان‏. ثم رحلوا من الغد في يوم الاثنين ثالث عشرينه وأيديهم قد امتلأت من النهب والسبي فقطعت منهم عدة نساء من التعب فمتن عطشًا وبيعت منهن بحلب وغيرها عدة كبيرة‏. )
بعد هذا لم يعجبه تعليق المقريزى ، فنقل التعليق ودافع عن برسباى . قال أبو المحاسن : ( قال المقريزي‏:‏ وكانت هذه الكائنة من مصيبات الدهر‏:‏
وكنا نستطب إذا مرضنا فجاء الداء من قبل الطبيب
أفأما بالعهد من قدم لقد عهدنا ملك مصر إذا بلغه عن أحد من ملوك الأقطار قد فعل ما لا يجوز أو فعل ذلك رعيته بعث ينكر عليه ويهدمه، فصرنا نحن نأتي من الحرام بأشنعه ومن القبيح بأفظعه وإلى الله المشتكى . انتهى كلام المقريزي‏. ).
وقال أبو المحاسن معلقا : ( قلت‏:‏ لم يكن ما وقع من هؤلاء الغوغاء بإرادة الملك الأشرف ولا عن أمره ولا عن حضوره‏. وقد تقدم أن نواب البلاد الشامية وأكابر الأمراء منعوهم من دخول القلعة بالجملة فلم يقدروا على ذلك لكثرة من كان اجتمع بالعسكر من التركمان والعرب النهابة كما هي عادة العساكر‏. وإن كان كون الأشرف جهز العسكر إلى جهة الرها فهذا أمر وقع فيه كل أحد من ملوك الأقطار قديمًا وحديثًا ولا زالت الملوك على ذلك من مبدأ الزمان إلى آخره معروف ذلك عند كل أحد‏. انتهى‏. ).
ونقول : سنعرض لتفصيلات مذبحة الرها كما كتبها المقريزى في الباب الختامي
لهذا الكتاب . وما قاله المقريزى منتقدا هو أقل مما يجب قوله استنكارا لقتل المدنيين المستضعفين . أما دفاع أبى المحاسن عن برسباى فهو عار ، يليق بأكابر المجرمين من المؤرخين .



المقريزى : أعظم المؤرخين الذى لم يكن من أكابر المجرمين
الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى
الفصل الثانى :( مؤرخو عصر برسباى )
المقريزى مؤرخا
1 ـ المقريزى هو :( تقى الدين أحمد بن على (766- 845 ) ، تفرّغ معظم حياته للكتابة التاريخية. تعددت وتكاثرت مؤلفات المقريزى. كتب في معظم مراحل التاريخ حتى عصره ، وفى التاريخ العام والتاريخ العالمي بالإضافة إلى المؤلفات المتخصصة في شتى نواحى الحياة والحضارة المصرية والمعارف المصرية، نعرض لبعضها :
1 / 1 : في التاريخ العام : كتب المقريزى مؤلفاته الضخمة مثل (الخبر عن البشر)، (الدرر المضيئة في تاريخ الدولة الإسلامية)، (أمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأحوال والحفدة والمتاع).
1 / 2 : وفي التراجم ( تاريخ الأشخاص ) : وضع المقريزى كتابين للترجمة لرجال مصر، هما (المقفي الكبير) ويقع فى أربع مجلدات مخطوطة، وقد جمع فيه تراجم لكل من وفد على مصر منذ الفتح أو عاش فيها. وله أيضا ( درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة)، عن أعيان عصره ، وكان يكثر من الاشارة اليه فى كتبه الأخرى .
1 / 3 : تاريخ العمران المصرى : وضع موسوعته الكبيرة (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والأثار) وهى المعروفة بخطط المقريزى ، وفيه أرخ للمدن المصرية ومعالمها والحياة الاجتماعية فيها.
1 / 4 : في التاريخ المصري وضع ثلاثة كتب ضخمة هى:
1 / 4 / 1 : (تاريخ مدينة الفسطاط) الذى أرخ فيه لمصر منذ الفتح العربي إلى الفتح الفاطمي .
1 / 4 / 2 : فى تاريخ العصر الفاطمى كتب نقلا عن المسبّحى وغيره ( اتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا).
1 / 4 / 3 : ثم كتابه الأشهر : ( السلوك لمعرفة دول المملوك) وأرخ فيه لمصر في العصرين الأيوبي والمملوكى إلى قبيل وفاته سنة 845هـ . وكان ينقل عن المؤرخين السابقين باختصار وحرفية نادرة ، حتى إذا وصل الى عصره أصبح يؤرخ شاهدا على عصره متوسعا وشاملا فى الأجزاء الأخيرة من ( السلوك ) ، ومنها الجزء الرابع القسم الثانى ، وقد تعرض فيه لعصر السلطان برسباى ، وهو موضوعنا هنا حيث نتخذه شاهدا على التطبيق العملى للشريعة السنية وقتها.
1 / 5 : له رسائل وكتب صغيرة متخصصة وعظيمة الفائدة ، عن النقود والمجاعات وتاريخ الأعراب والاقتصاد والغناء والأحوال الدينية وآل البيت والنزاع بين الأمويين والهاشميين وبنيان الكعبة ومن حج من الملوك وحلّ لغز الماء.
2 ـ بالإضافة الى هذه الكثرة والتنوع فقد تميز المقريزى بالأسلوب العلمى التاريخى ، مع وقوفه ضد الظلم وشجاعته في نقد الظالمين وفق ثقافة عصره . ولا نعلم من هو أكثر شجاعة منه في نقد عصره في مؤرخى العصور الوسطى .
كتاب ( السلوك لمعرفة دول الملوك ) بين كتب الحوليات التاريخية
1 ـ كتب الحوليات التاريخية هي التي تسجل الأحداث بالحول ، أي بالعام سنة بعد سنة ، بما يشبه النشرة الإخبارية التي تتبع ما يحدث حول المؤرخ ، والعادة أن يتخذ المؤرخ نقطة ارتكاز له، وأن يبدأ تاريخه بالنبى محمد عليه السلام وعصره ينقل ما كتبه ابن إسحاق وابن هشام، ويسير بعدئذ مع تاريخ الخلفاء ينقل عن الواقدى وابن سعد كاتب الواقدى ومن بعدهم . ثم إذا وصل الى عصره أصبح يكتب من واقع المشاهدة والمعاصرة ، ويأتي من بعده ينقلون عنه الى عصرهم ، فتتواصل الحوليات التاريخية ترصد وتؤرّخ تاريخا يكمل اللاحق السابق .
2 ـ هكذا فعل الطبرى الذى عاش في العصر العباسى بين عامي ( 224 : 310 ) وهو صاحب أشهر الحوليات التاريخية: ( تاريخ الأمم والملوك )، وسار اللاحقون على منواله يكملون بعده التأريخ لعصرهم . إتّخذ الطبرى من بغداد والعراق مركزا لتسجيل ما يحدث في عصره ، حيث كانت الخلافة العباسية في بغداد هي مركز العالم ، ومنها نظر الطبرى الى بقية العالم المعروف لديه بتفصيلات أقل . وقد سار على منواله في التاريخ الحولى كثيرون ، كتبوا تاريخ الأعوام التالية ، وكان أشهرهم ابن الجوزى ( 510 : 597 ) في ( المنتظم في تاريخ الملوك والأمم )، ومثله فعل المؤرخ ابن الأثير ( عز الدين ) ( 555 : 630 ) في تاريخه ( الكامل ) ، ثم في بداية العصر المملوكى : ابن كثير الدمشقى ( 701 : 774 ) في تاريخه ( البداية والنهاية ). وتوالت الكتابات الحولية لتصل قمّتها فيما كتبه المقريزى في : ( السلوك لمعرفة دول الملوك ). ومن جاء بعد المقريزى من مؤرخى الحوليات لم يصل الى مستواه.
المقريزى في تاريخه ( السلوك )
1 ـ في التأريخ للسابقين توقف المقريزى مع انتهاء العصر الفاطمى بكتابه ( إتعاظ الحُنفا ) . وجعل الأجزاء الأولى من كتابه ( السلوك ) في التاريخ الأيوبى بدءا من صلاح الدين الأيوبى ، أي من ( سنة ثمان وستين وخمسمائة ) . يقول : ( فيها خرج السلطان صلاح الدين بعساكره يريد بلاد الكرك والشوبك، فإنه كان كلما بلغه عن قافلة أنها خرجت من الشام تريد مصر خرج إليها ليحميها من الفرنج، فأراد التوسيع في الطريق وتسهيلها، وسار إليها وحاصرها، فلم ينل منها قصدا وعاد. وفيها جهز صلاح الدين الهدية إلى السلطان نور الدين. ) . نقل المقريزى باختصار عن المؤرخين الذين عاصروا الدولة الأيوبية . ثم استمر في النقل ممّن سبقه من المؤرخين للعصر المملوكى بنفس الاختصار ، حتى إذا وصل الى عصره ( عصر السلطان برقوق ) أفاض في التسجيل التاريخى بتوسع ، عكس ما فعله أبو المحاسن في تاريخه ( النجوم الزاهرة ) . جدير بالذكر أن إبن إياس اتبع طريقة المقريزى في تاريخه ( بدائع الزهور ) حيث بدأ بالنقل عن السابقين ، ثم توسع في تسجيل أحداث عصره ، مع نبرة نقدية .
2 ـ لم يُعط المقريزى في ( السلوك ) معلومات عن أحواله الشخصية ، كما فعل ابن حجر وأبو المحاسن ، إلا إنه أحيانا كان يذكر حضوره شاهد عيان على بعض الأحداث ، نوعا من التوثيق التاريخى . وهناك خبر شخصى وحيد ذكره يستحق الوقوف عنده . قال في أحداث شهر رييع الأول عام 826 : ( وماتت ابنتي فاطمة يوم الأربعاء ثالث عشرين ربيع الأول ، وهي آخر من بقي من أولادي، عن سبع وعشرين سنة وستة أشهر. ) مات أبناؤه فلم يذكرهم في تاريخه ، ثم في النهاية ماتت إبنته فأصبح وحيدا وكان وقتها قد بلغ الستين من عمره ، فسجّل هذا ، وعاش بعدها حوالى عشرين عاما ،عازفا عن المناصب طيلة عمره ، متفرغا لكتاباته التاريخية .
3 ـ وأنهى كتاب السلوك ( سنة أربع في أربعين وثمانمائة ) التي قال في مقدمة أحداثها : ( أهلت هذه السنة، والخليفة المعتضد باللّه أبو الفتح داود بن المتوكل، وسلطان الإسلام الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق .). مات في العام التالى، ولا نعرف ما عاناه في عامه الأخير الى وفاته. رحمه الله جل وعلا.
ميزة الطبرى في ( السلوك ) في تسجيله للتاريخ المعاصر
1 ـ كان تسجيله عالميا ، يتجاوز الدولة المملوكية ( ما بين حدود العراق والأناضول الى الحجاز ومصر ) الى ما بين الهند والأندلس ، مرورا بأواسط آسيا وتركيا واليمن والحبشة وأواسط أفريقيا وتونس والمغرب ، هذا مع تركيزه على القاهرة وما يحدث فيها باعتبارها وقتها مركز العالم . كان له ( مراسلون ) يبعثون له بأخبار ما يحدث بعيدا عنه ، وكانت الأخبار تأتى الى المقريزى من الشام والعراق وأجوارها كما تأتى له من شمال أفريقيا واليمن ، فيسجلها في أحداث الحول أو العام ، وبالشهر وباليوم وأحيانا بالساعة . بما يشبه النشرة الإخبارية في صحف عصرنا ، مرتبة متتابعة بالشهور العربية من أول محرم الى نهاية ذي الحجة. وكانت خدمة البريد مستمرة ومستقرة تربط بين أطراف الدولة المملوكية وعاصمتها القاهرة ، ولم يكن البريد يحمل فقط الأوامر والشئون الرسمية بل أيضا الأخبار ، وحين تصل الأخبار اليه يسجلها وفقا لزمن وصولها اليه ، وقد يشير الى حدوثها قبل تسجيله لها ، وقد يقوم بتنقيحها وإعادة كتابتها ، ويتضح هذا لمن يدقق في سطور ( السلوك ) ، وقد يذكرها ضمن أحداث العام ، أو أحداث الشهر دون تحديد لليوم ، خصوصا إذا استمرت أحداثها متتابعة . ثم في نهاية كل عام يذكر لمحة تاريخية عمّن مات في هذه السُّنة .
2 ـ لا يعيب المقريزى تركيزه على أكابر المجرمين من السلاطين وأعوانهم ، فهو في مؤلفات أخرى كتب عن أحوال الناس الاقتصادية والاجتماعية والدينية . ثم إن هذا متسق مع عنوان كتابه ( السلوك لمعرفة دول الملوك )، أي يؤرّخ أساسا للملوك وليس للناس . ولكن العيب في نظرنا هو فيما كتبه ابن حجر في : ( إنباء الغُمر بأبناء العمر )، أي طبقا لعنوان الكتاب يجب أن يتكلم عن أحوال الناس الذين عاصرهم في عُمره، ولكنه طاف حول من ينتمى اليهم من أكابر المجرمين . ونفس الحال مع أبى المحاسن في تأريخه الحولى:( النجوم الزاهرة ) و( حوادث الدهور) . المؤرخ اللاحق المؤرخ القاضي الصيرفى عاصر السنوات الأخيرة من حياة أبى المحاسن ، وسجل عصر السلطان قايتياى في تاريخه ( إنباء الهصر )، وكان أكثر تعبيرا عن الشعب المصرى من أبى المحاسن ، وتلاه المؤرخ ابن اياس ( 852 : 930 )، والذى بدأ تاريخه الحولى ( بدائع الزهور ) بالسيرة النبوية والخلفاء الى أن وصل لعصره حيث عاصر نهاية العصر المملوكى والفتح العثمانى . وقد كان ينتمى مثل أبى المحاسن لطبقة ( أولاد الناس ) ومن أصل مملوكى ، وتفرّغ مثل المقريزى للكتابة التاريخية ، ومع ثقافته الرشيقة فقد كان صاحب رؤية نقدية وأكثر إهتماما بأحوال الناس من ابن حجر وأبى المحاسن . كان تلميذا متأثرا بالمقريزى مع الفارق الزمنى والثقافى بينهما .
ملاحظات حول تعليقات المقريزى الهجومية النقدية
مقدمة
1 ـ تأتى الوفيات بعد أحداث كل عام . ويُذكر فيها من مات ( أو قُتل ) من أكابر المجرمين . ولأن العصر كان فاسدا فإن نجوم هذا العصر الفاسد لا بد أن يكونوا من أكابر المجرمين ، من المماليك ورجال الدين ، فالتاريخ ينام في أحضانهم . والمؤرخ يذكر أخبارهم شهرا شهرا في العام ، ثم يختم العام بلمحة عن تاريخ من مات منهم في هذا العام . ولأن الفساد هو الأساس والعُملة السائدة فإن تقييم الأشخاص في الوفيات يكون نسبيا ، أي حسب درجته في الفساد . وقد يأتي مدح بعضهم بالصلاح في الدين الأرضى السُّنّى ، وهذا طبقا لما ساد في العصر من احتراف دينى يجعل ذلك المحترف شخصا هاما ومشهورا بحيث يذكره المؤرخون ، فيتكلمون في مناقبه ، بل أحيانا كانت توضع مؤلفات خاصة في مناقبهم ، وكان معتادا أن تتفرد كتب خاصة في ( الطبقات ) أي التأريخ للمشهورين من العلماء والفقهاء ، وتتنافس في مدح أو تقديس بعض الشخصيات . وتتشابه الروايات في التأريخ الحولى مع تلك المذكورة في المناقب والطبقات ، والشّكُّ فيها قائم ، بل إنه واجب حين تدور الروايات عن كرامات ومعجزات . انعكس مناخ التقريظ والتمجيد هذا على كتابة تاريخ موجز للمتوفى في نهاية كل عام في الحوليات التاريخية ، فكان الأغلب فيها هو المدح وتلمُّس الأعذار للمجرم الذى مات ، طبقا للقاعدة السُّنّية القائلة: ( أّذكروا محاسن موتاكم ).
2 ـ الميزة الكبرى للمقريزى هي جُرأته في نقد أكابر المجرمين في عصره في ثنايا تاريخه ( السلوك ) حيث كان كلامه في الأغلب عاما . إلا إنه في الوفيات تحدث عن اشخاص بعينهم ، انتقدهم وهاجمهم ، وكان فيها يُعبّر عن ثقافته الدينية وما شاع عنهم من مظالم . ولم يخلُ الأمر من نوازع شخصية بطبيعة الحال ، ولكن يمكن القول إن سيادة الفساد جعلت له درجات ، نتبينها فيما قاله المقريزى .
3 ـ ونختار بعض ما سجله عن بعض الشخصيات التي عاشت في عصر السلطان برسباى فقط ، موضوع هذا البحث . ونضع عليها بعض الملاحظات :
نقد المقريزى لأكابر المجرمين :
تنوع النقد :
1 ـ هجوم موجز مختصر لأكابر المجرمين المماليك : قال :
( وقتل الأمير طوغان أمير أخور في أيام المؤيد شيخ- ذبحا بقلعة المرقب، في ذي الحجة، 828 .. وهو كما قيل : لم أبك منه على دنيا ولا في دين ).
( ومات الأمير الكبير الأتابك سيف الدين قجق الشعباني .. في تاسع شهر رمضان، 829 وكان لا معنى له في دين ولا دنيا. ).
( الأمير قشتمر 830 الذي تولى نيابة الإسكندرية، ثم أخرج إلى حلب، فقتل في وقعة التركمان في المحرم، ومُستراح منه . ).
( ومات الأمير جانبك الحمزاوي. وقد ولي نيابة غزة، وتوجه إليها فأتته المنية في طريقه. عام 837 ومُستراح منه ومن أمثاله. ).
( ومات الأمير الطواشي خُشْقَدم زمام الدار، في يوم الخميس عاشر جمادى الأولى بالقاهرة، 839 ، وترك مالاً جماً، منه نقداً ستون ألف دينار ذهباً، إلى غير ذلك من الفضة والقماش والغلال والعقار، ما يتجاوز المائتي ألف دينار. وكان شحيحاً بذيء اللسان، فاحشاً ) .
( ومات الأمير أرغون شاه بدمشق، في حادى عشرين رجب. 840، وكان قد ولى الوزارة والأستادارية بديار مصر، ثم أخرج إلى الشام على إمرة، وباشر بها للسلطان. وكان ظلوما غشوما.) .
( ومات الأمير تمراز المؤيدى خنقا بالإسكندرية، في ثالث عشرين جمادى الآخرة، 841 .. ولم يكن مشكورا. ) .
( ومات بمكة شرفها اللّه الأمير جانبك الحاجب، المجرد على المماليك إلى مكة، في حادى عشر شعبان. 841 ومُستراح منه. ).
( ومات الأمير آق بردى نائب غزة، 841 فأراح اللّه بموته من جوره وطمعه. )
( سعد الدين إبراهيم بن كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة، المعروف بإبن كاتب جكم ناظر الخاص ابن ناظر الخاص، في يوم الخميس سابع عشر شهر ربيع الأول، ( 841 ) عن نحو ثلاثين سنة. وكان من المترفين، المنهمكين في اللذات المنغمسين في الشهوات. )
( الأمير يخشي بك، 842 .. وكان جبار ظالمًا شريرًا.).
( ومات 844 الأمير ناصر الدين محمد بن بوالي بدمشق في سابع عشره، وقد ولي أستاداراً في الأيام المؤيدية شيخ، ثم إستمر أستادارًا بدمشق، وهو معدود من الظلمة )
2 ـ هجوم بتفصيلات : قال :
( وقتل الأمير تغري بردي خنقاً بقلعة حلب في ربيع الأول، 828 فمُستراح منه، لا دين ولا عقل ولا مروءة، ما هو إلا الظلم والفسق . ).
( ومات الأمير سودن الأشقر- بدمشق في جمادى الأولى، 827 وهو أحد المماليك الذين أنشأهم الناصر فرج. وكان عيباً كله. لشدة بخله، وكثرة فسقه وظلمه. ).
( ومات الأمير سيف الدين أينال النوروزي أمير سلاح، في أول شهر ربيع الآخر،829 قد أناف على الثلاثين سنة، فوجد له من الذهب خمسون ألف دينار، وكان ظالماً فاسقاً، لا يوصف بشيء من الخير. ).
( ومات الأمير أزدمر شايه في سادس شهر ربيع الآخر 831 بحلب.. ولم يُشكر في دينه، ولا في أمر دنياه، بل كان من الظلم والشح والإعراض عن الله بمكان.).
( ومات الأمير تاج الدين التاج بن سيفا القازاني، ثم الشويكي الدمشقي في ليلة الجمعة حادي عشرين شهر ربيع الأول، بالقاهرة 839 . تولى ولاية القاهرة مدة أيامه... فسار فيها سيرة ما عفّ فيها عن حرام، ولا كفّ عن إثم، وأحدث من أخذ الأموال ما لم يُعهد قبله، ثم تمكن في الأيام الأشرفية ( السلطان الأشرف برسباى ) ، وارتفعت درجته، وصار جليساً نديماً للسلطان، وأضيفت له عدة وظائف، حتى مات من غير نكبة. ولقد كان عاراً على جميع بني أدم، لما اشتمل عليه من المخازي التي جمعت سائر القبائح، وأرست بشاعتها على جميع الفضائح. ).
( ومات الأمير قَصرَوه نائب الشام بدمشق، ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر، 839 وهو على نيابتها، وترك من النقد والخيول والسلاح والثياب والوبر وأنواع البضائع والمغلات ما يبلغ نحو ستمائة ألف دينار، وكان من أقبح الناس سيرة ، وأجمعهم لمال من حرام. ).
( ومات الأمير جانبك الصوفي في يوم الجمعة خامس عشر شهر ربيع الآخر،( 841)، وهو أحد المماليك الظاهرية برقوق. ترقى في الخدم، وصار من أمراء الألوف، وتنقلت به الأحوال حتى قبض عليه الأشرف برسباى، وسجنه، ففر من سجنه بالإسكندرية، وأعيا السلطان تطلبه، وإمتحن جماعة بسببه، إلى أن ظهر عند ابن دلغادر، وحاول ما لم يقدر عليه، فهلك دون بلوغ مراده. وحمل رأسه إلى السلطان، كما مر ذكره مشروحًا. وكان ظالمًا، عاتيًا، جبارًا، لم يُعرف بدين ولا كرم . ).
( ومات الأمير سودون بن عبد الرحمن وهو مسجون بثغر دمياط، في يوم السبت العشرين من ذى الحجة. ( 841 ) وهو من جملة المماليك الظاهرية برقوق. ترقي في الخدم حتى صار نائب الشام، ثم عزل، وسجن حتى مات، وكان مُصرًا على ما لا تبيحه الشريعة من شهواته الخسيسة، وأحدث في دمشق أيام نيابته بها عدة أماكن لبيع الخمر ووقوف البغايا والأحداث، وضمنها بمال في كل شهر، ( أي فرض عليها ضرائب ) فإستمرت من بعده. وإقتدى به في ذلك غير واحد، فعملوا في دمشق خمارات مضمنة بأموال، من غير أن ينكر عليه أحد ذلك . )
( ومات الأمير دولات خجا، أحد المماليك الظاهرية . ولى ولاية القاهرة ثم حسبتها. وكان عسوفًا جبارًا كثير الشر، يصفه من يعرفه بأنه ليس بمسلم، وأنه لا يخاف اللّه، وكان موته يوم السبت أول ذى القعدة 841. )
. ( ومات الأمير تغرى برمش، 842 ..وقتل بحلب في يوم الأحد سابع عشر ذي الحجة، بعد عقوبات شديدة، وقد أخرب في حروبه هذه حلب وما حولها، وأكثر من الفساد، وقتل العباد.. ).
( ومات الأمير طوخ مازي في ليلة السبت خامس شهر رجب، 843 ، نائب غزة، وأحد المماليك الناصرية فرج، ومُستراح منه، فقد كان من شرار خلق اللّه، فسقًا، وظلمًا، وطمعًا. )
وأخيرا :
. ( ومات السلطان الملك الأشرف برسباى الدقماقى الظاهرى في يوم السبت ثالث عاشر ذى الحجة، 841 وقد أناف على الستين... إلا أنه كان له في الشح والبخل والطمع، مع الجبن والجور وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب في الأمور وقلة الثبات ــ أخبار لم نسمع بمثلها، وشمل بلاد مصر والشام في أيامه الخراب، وقلة الأموال بها. وإفتقر الناس وساءت سير الحكام والولاة، مع بلوغه آماله ونيله أغراضه، وقهر أعدائه وقتلهم بيد غيره . لتعلموا أن اللّه على كل شىء قدير. ).
تعليق
تناقض هائل بين شهادة المقريزى على السلطان برسباى وبين دفاع أبى المحاسن عنه . وشهادة المقريزى ستأتى خلال تسجيله لأحداث عصر برسباى كل عام من 825 الى 841 .
بسبب تسيّد الفساد :
مدح يحمل نقدا ضمنيا للآخرين
قال :
( وقتل بدمشق الأمير تنبك البجاسي في أول ربيع الأول، 827 .. تولي نيابة حماة وحلب ودمشق، وشكرت سيرته، لتنزهه عن قاذورات المعاصي، كالخمر والزنا، مع إظهار العدل وفعل الخير.) .
( ومات الأمير الطواشي كافور الصرغتمشي، شبل الدولة، زمام الدار، وقد قارب الثمانين سنة، في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الآخر، 830 .. وكان قليل الشر. ) .
مدح وذمّ :
قال :
( ومات الأمير قرقماس الشعباني، ضربت عنقه بها في يوم الإثنين ثاني شهر جمادي الآخرة،( 842) وقد بلغ الخمسين أو تجاوزها وكان يوصف بعفة عن القاذورات المحرمة، وبمعرفة، وخبرة، وفروسية، وشجاعة، إلا أنه أفسد أمره بزهوه وتعاظمه، وفرط رقاعته، وشدة إعجابه بنفسه، وإحتقار الناس، والمبالغة في العقوبة، وقلة الرحمة، لا جرم أن اللّه تعالى عامله في محنته من جنس أعماله. )
عن أكابر المجرمين من المدنيين .
قال :
( ومات عام 830 نجم الدين عمر بن حجي بن موسى بن أحمد بن سعد السعدي الحسباني الدمشقي الشافعي، قاضي القضاة بدمشق، وكاتب السر بديار مصر، في ليلة الأحد مستهل ذي القعدة، عن ثلاث وستين سنة، وقد نقب عليه بستانه بالنيرب خارج دمشق، ودخل عليه وهو نائم عدة رجال فقتلوه، وخرجوا من غير أن يأخذوا له شيئاً فلم يرع زوجته إلا به وهو يضطرب... وكان يسير غير سيرة القضاة، ويرمي بعظائم، ولم يوصف بدين قط .).
تعليق
جاءت أخبار في ( السلوك ) عن هذا القاضي تجعل نهايته هذه مفهومة .
( ومات شمس الدين محمد بن يعقوب النحاس الدمشقي، في يوم الجمعة ثالث المحرم، 831 وهو من عامة دمشق، تشفع بي لما قدمت دمشق في سنة عشر وثمانمائة، أن يلي حسبة الصالحية، ثم قدم القاهرة في سنة اثني عشرة، وولي حسبة القاهرة ثم وزارة دمشق، فلم تحمد سيرته، ولا شكرت طريقته.).
تعليق
نلاحظ هنا أن المقريزى كان يعرف هذا الشخص ، وأنه توسّط له في دمشق عام 831 . هذا مع أن المقريزى لم يذكر في أحداث عام 810 أنه زار دمشق ، وقلنا إنه لا يزعج القارىء بأخباره الشخصية كما كان يفعل ابن حجر العسقلانى في تاريخه .
( ومات بدر الدين حسن بن أحمد بن محمد البرديني أحد خلفاء الحكم الشافعي في يوم الاثنين خامس عشرين شهر رجب، 831 وقد أنافس على الثمانين. وكانت فيه عصبية ومحبة لقضاء حوائج الناس. ولم يوصف بعلم ولا دين، صحبناه سنين، ومُستراح منه. ).
تعليق
صحبه المقريزى سنين ، وأوجز وصفه بأنه لم يوصف بعلم ولا دين وأنه مُستراح منه .!
( ومات قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن محمد بن الأموي المالكي بدمشق، في يوم الثلاثاء حادي عشر صفر. 837 وقد ولي قضاء القضاة المالكية بديار مصر في الأيام المؤيدية شيخ، ولم يشهر بعلم ولا دين.) . تعليق
قاضى القضاة هذا لم يكن مشهورا بعلم ولا دين . فماذا كانت مؤهلاته لأن يكون قاضى القضاة ؟ . قلنا إن تولى المناصب ومنها القضاء كان بالشراء والرشوة ، ليس مهما أن يكون عالما أو متدينا . المهم صلاحيته لأن يكون من أكابر المجرمين .
( ومات عام 844 قاضي القضاة محب الدين أبو الفضل أحمد ابن شيخنا جلال الدين نصر اللّه ابن أحمد بن محمد بن عمر... ولم يخلف في الحنابلة بعده مثله، ولا أعلم فيه ما يعاب به، لكثرة نسكه ومتابعته للسنة، إلا أنه ولي القضاء، فاللّه تعالى يرضى عنه أخصامه.).
تعليق
واضح وجود صلة بين المقريزى وهذا القاضي ، فأبوه كان شيخ المقريزى ، وقد أسبغ عليه مدحا ، قال بعده : ( إلا أنه ولي القضاء ) توحى بأن تولى القضاء رذيلة ، أو أن توليه القضاء أظهر ما بداخله من فساد . بعدها قال ( فاللّه تعالى يرضى عنه أخصامه.)، أي إنه حكم بالظلم في ولايته للقضاء . إلا إنه لم يقل إنّ متابعته للسُّنّة هي أساس ظلمه في أحكامه القضائية .
( ومات 844 القاضي شمس الدين محمد بن شعبان في حادي عشرين شوال عن نيف وستين سنة وولي حسبة القاهرة مرارًا عديدة، ولا فضل ولا فضيلة).
تعليق
هذا قاض تولى منصب الحسبة ، وهو أكثر المناصب استطالة على الناس وأكلا لأموالهم . لذا تولى المنصب مرات عديدة ، وكان مؤهلا له ، إذ لا فضل عنده ولا فضيلة .
( وتوفي تقي الدين محمد بن الزكي عبد الواحد بن العماد محمد ابن قاضي القضاة علم الدين أحمد الأخناي المالكي، أحد نواب الحكم بالقاهرة عن المالكية، وهو بمكة في ثالث ذي الحجة، 830 عن ثلاث وستين سنة. وكان بالنسبة إلى سواه مشكوراً ).
تعليق
يصفه بالظلم ، ولكنه كان أقل ظلما من غيره من القُضاة بحيث صار مشكورا بالنسبة لمن سواه .
عن تحيّز المقريزى ، مدحا أو ذمّا :
تحيّز المقريزى للأشراف ( زاعمى الانتساب للنبى محمد عليه السلام )
هل ينتمى المقريزى نسبا الى الفاطميين ؟
1 ـ قال ابن حجر في ترجمة المقريزى في كتابه ( إنباء الغُمر ): ( وقد رأيت بعض المكيين قرأ عليه شيئا من تصانيفه فكتب في أوله نسبه إلى تميم بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله القائم بالمغرب قبل الثلاثمائة، والمعز هو الذي بنيت له القاهرة وهو أول من ملك من العبيديين ( الفاطميين ) - فالله أعلم، ثم إنه كشط ما كتبه ذلك المكي من أول المجلد، وكان في تصانيفه لا يتجاوز في نسبه عبد الصمد بن تميم، ووقفت على ترجمة جده عبد القادر بخط الشيخ تقي الدين بن رافع وقد نسبه أنصاريا فذكرت ذلك له، فأنكر ذلك على ابن رافع وقال: من أين له ذلك ؟ وذكر لي ناصر الدين أخوه أنه بحث عن مستند أخيه تقي الدين في الانتساب إلى العبيديين ( الفاطميين )، ذكر له أنه دخل مع والده جامع الحاكم فقال له وهو معه في وسط الجامع: يا ولدي هذا جامع جدك.. ).
تعليق
هذه أقوال مرسلة . ولم يذكر المقريزى نسبته الى الفاطميين ، وقد تعرض لتاريخهم في كتابه ( إتّعاظ الحنفا ) ومواضع في ( الخطط ) .
2 ـ وقال أبو المحاسن في ترجمة المقريزى : ( وتوفي الشيخ الإمام العالم المحدث المفنن عمدة المؤرخين ورأس المحدثين تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تميم بن عبد الصمد البعلبكي الأصل المصري المولد والوفاة المقريزي الحنفي ثم الشافعي . ) ثم قال أبو المحاسن : ( هذا ما نقلناه من خطه. ) أي هذا ما كتبه المقريزى في نسبه . إلا إن أبا المحاسن يقول بعدها : ( وأملى عليّ نسبه الناصري محمد ابن أخيه بعد وفاته، إلى أن رفعه إلى علي بن أبي طالب من طريق الخلفاء الفاطميين وذكرناه في غير هذا المصنف - انتهى‏.). أي لم يزعم المقريزى الانتساب للفاطميين ، بل الذى زعم هذا هو ابن أخ المقريزى ، بعد وفاة المقريزى .
المقريزى لم يكن شيعيا ، كان فقط منحازا لمن يُطلق عليهم ( آل البيت )
1 ـ في كتابه ( الخطط ) ناقش نسب الفاطميين ، وعرض رأى من ينكر هذا النسب ومن يؤيده ، واختار تأييد نسب الفاطميين ، وكان هذا متابعا لأستاذه ابن خلدون .
2 ـ كان هوى المقريزى مع من يطلق عليهم ( آل البيت ) ، تجلى هذا صراحة فى كتابه الصغير (فضل آل البيت)، كما تجلى فى دفاعه بالحق والباطل عن الفاطميين بين سطور تأريخه لهم فى ( إتعاظ الحنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخلفا ) وتحيزه لهم واضح فى العنوان. وقد إنتقى المقريزى من تاريخ المؤرخ المصرى ( المسبحى ) ما يوافق هواه.
3 ـ ولكن لم يكن المقريزى شيعيا ، فقد جاء وصفه بمحبته لأهل الحديث . بل قال في ( الخطط المقريزية ) عن الفاطميين : تحت عنوان ( مذاهبهم في أول الشهور ) ( اعلم أن القوم كانوا شيعة ثم غلوا حتى عدوا من غُلاة أهل الرفض للشيعة . ). وتعبير ( الرفض ) و ( الرافضة ) هو الاصطلاح المُفضّل لدى السنيين في الهجوم على الشيعة . إلا إن المقريزى كان يؤمن بمكانة ( الأشراف ) طبقا للسائد في أديان التشيع والتصوف والسُنة . ولسنا في مجال التعمُّق في هذه الناحية ، ولكن نكتفى بما أورده في السلوك .
يقول :
1 ـ ( ومات ( عام 832 ) السيد الشريف عجلان بن نعير... مقتولا في ذي الحجة. وقد ولي إمرة المدينة النبوية مراراً، وقبض عليه في موسم سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وحمل في الحديد إلى القاهرة، فسجن ببرج في قلعة الجبل، ثم أفرج عنه وكان في الإفراج عنه ذكرى من كان له قلب. وهم أن عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي الحنبلي قاضي القضاة ببغداد ثم بدمشق رأى في منامه كأنه بمسجد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وإذا بالقبر قد فتح، وخرج منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجلس على شفيره، وعليه أكفانه، وأشار بيده الكريمة إلى عبد العزيز هذا فقام إليه حتى دنا منه، فقال له: قل للمؤيد يفرج عن عجلان، فانتبه وصعد إلى قلعة الجبل. وكان من جملة جلساء السلطان الملك المؤيد شيخ المحمودي، وجلس على عادته بمجلسه وحلف له بالأيمان الحرجة أنه ما رأى عجلان قط ولا بينه معرفة. ثم قصّ عليه رؤياه ، فسكت ، ثم خرج بنفسه بعد انقضاء المجلس إلى مرماة النشاب التي قد استجدها بطرف الدركاه، واستدعى بعجلان من سجنه بالبرج، وأفرج عنه، وأحسن إليه. وقد حدثني قاضي القضاة عز الدين بهذه الرؤيا غير مرة، وعنه كتبتها . وعندي مثل هذا الخبر في حق بني حسين عدة أخبار صحيحة، فإياك والوقيعة في أحد منهم فليست بدعة المبتدع منهم، أو تفريط المفرط منهم في شيء من العبادات، أو ارتكابه محرماً من المحرمات، بمخرجه من بنوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالولد ولد على حال، عقّ أو فجر ).
تعليق
هذا قاض يفترى رؤية منامية يجعل فيها النبى محمدا عليه السلام يتشفع في ( الشريف عجلان ) المقتول عام 832 . ويأتي هذا القاضي برؤياه هذه الى السلطان المؤيد شيخ ، فيصدّقه ، ويطلق سراح الشريف عجلان من السجن . وواضح أن عجلان هذا كان واليا فاسدا ، واستحق أن يؤتى به مكبلا بالأغلال من المدينة الى سجن القلعة بالقاهرة ، وظل فيه حتى زعم هذا القاضي تلك الرؤيا المنامية . كون هذا الوالى عجلان من أكابر المجرمين يظهر أيضا في موته مقتولا عام 832 ، وأيضا في إعتراف ضمنى من المقريزى في تحذيره من نقد الأشراف مهما أجرموا ، إذ قال يعبّر عن عقيدته فيهم وانحيازه اليهم : ( وعندي مثل هذا الخبر في حق بني حسين عدة أخبار صحيحة، فإياك والوقيعة في أحد منهم فليست بدعة المبتدع منهم، أو تفريط المفرط منهم في شيء من العبادات، أو ارتكابه محرماً من المحرمات، بمخرجه من بنوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالولد ولد على حال، عقّ أو فجر ). هذا أيضا يفسّر موقفه من الفاطميين في تشيعهم المتطرف ( المُغالى ) .
2 ـ على أي حال فالمقريزى كان متأثرا بثقافة عصره . فالطعن في الأشراف قد يوجب القتل . قال المقريزى عن الأمير يخشى بك : ( ومات الأمير يخشي بك، 842 .. ضرب عنقه في يوم الجمعة ثامن ذي الحجة، ( عام 842 ) بحكم بعض نواب قاضي المالكية بقتله ، من أجل أنه سب والديّ بعض الأشراف .). أمير مملوكى سبّ والدى أحد الأشراف فحكموا بقتله .!
3 ـ وسيأتى فيما بعد أن قافلة للحج هاجمتها عصابة تقطع الطريق ، يقودها ( الشريف زهير ) . ومات هذا اللص قاطع الطريق مقتولا ، فسجّل المقريزى هذا في وفيات عام 838 . قال : ( وقتل الشريف زهير بن سليمان بن زيان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني في محاربة أمير المدينة النبوية مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيحة في شهر رجب . وقتل معه عدة من بني حسين، منهم ولد عزيز بن هيازع بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة. ) ثم قال عن ( الشريف زهير ) : ( ، وكان زهير هذا فاتكاً، يسير في بلاد نجد، وبلاد العراق، وأرض الحجاز، في جمع كبير فيه نحو ثلاثمائة فرس، وعدة رماة بالسهام، فيأخذ القفول،( أى القوافل ) وخرج في سنة أربع وثلاثين وثمانمائة على ركب عُمَّار، توجهوا إلى مكة من القاهرة، وكنت فيهم، ونحن مُحرمون بعد رحيلنا من رابغ، فحاربنا، وقتل منا عدة رجال، ثم صالحناه بمال تجابيناه له، ( أي دفعناه جباية له ) حتى رحل عنا . ).
تعليق
1 ـ كان المقريزى في هذه القافلة التي هاجمها هذا ( الشريف ) ، وذكر تفصيلات هذا الهجوم في حينه ، ومع هذا فلم يقل فيه المقريزى ما يستحق لأن دينه السُّنّى يقدس ( الأشراف ).
2 ـ هذا يناقض الإسلام . فالله جل وعلا لم يخلق البشر نوعين : أشرافا وغير أشراف . إن مصطلح ( شرف / أشراف ) لم يرد مطلقا في القرآن الكريم مع كونه من المصطلحات العربية المتداولة والمشهورة .إن الله جل وعلا خلق البشر جميعا متساوين من أب واحد وأم واحدة مهما اختلفت ألوانهم وشعوبهم ، وجعل الأفضلية بينهم بالتقوى ، قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات ) ، والتقوى في القلوب لا يعلمها إلا رب العزة جل وعلا ، وسيكون هذا يوم القيامة ، حيث لا يدخل الجنة إلا المتقون، قال جل وعلا: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً (63) مريم )
تحيزه ضد الأقباط وأهل الكتاب
في كتابه ( الخطط )
1 ـ تفصيل هذا جاء في كتاب لنا عن ( ثقافة الفتوحات ) وهو قائم على كتابات المقريزى ، خصوصا في ( الخطط المقريزية ) .
2 ـ نكتفى بمثال واحد ، وهو الاضطهاد العام للأقباط في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون عام 682 ، وقد بدأ بالاحراق العام للكنائس المصرى كلها ما عدا الكنيسة المعلّقة ، رد الأقباط باحراق بعض المساجد فكانت ثورة شعبية عارمة عليهم ، أوقفها السلطان باضطهاد رسمي للأقباط . وقد ناقشنا هذا الموضوع في أول كتاب لنا صدر عام 1982 ، عن ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) وفيه أثبتنا أن من أحرق كل تلك الكنائس في مصر كلها وفى وقت واحد كان صوفيا من التنظيم السرى الذى أسّسه ( أحمد البدوى ) . يهمنا أمر السلطان بطرد كل العاملين الأقباط في الدواوين . نقل المقريزى في ( الخطط ) قول السلطان : ( "ما أريد في دولتي ديوانًا نصرانيًا"، فلم يزل به حتى سمح بأن من أسلم منهم يستقر في خدمته ومن امتنع ضربت عنقه. فأخرجهم إلى دار النيابة وقال لهم‏:‏ يا جماعة ما وصلت قدرتي مع السلطان في أمركم إلاّ على شرط وهو أن من اختار دينه قُتل ، ومن اختار الإسلام خُلع عليه وباشر) أى باشر وظيفته كالمعتاد، فأسلموا رسميا . ويقول المقريزى معلّقا:( فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزًا ، يبدي من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره.)أى أصبح أولئك المسلمون الجُدد أكثر نفوذا وأكثر جرأة فى ظلم المسلمين المحكومين. ويقول المقريزى ( وما هو إلا كما كتب به بعضهم إلى الأمير بيدرا النائب‏:‏
أسلمَ الكافرونَ بالسيفِ قهرًا وإذا ما خلوا فهُم مُجرمونا
سلِموا مِن رواحِ مال وروحٍ فهم سالِمون لا مُسلمونا .).
هذا تعليق المقريزى في ( الخطط ) ، وهو يعبر عن تعصبه ضد الأقباط المصريين . لقد ذكر بعض الاضطهاد الذى تعرضوا له، دون أن يتعاطف معهم .
في تاريخ ( السلوك )
ونفس الحال في تعرضه في تاريخ ( السلوك ) لبعض الشخصيات القبطية في عصر برسباى . فقد قال في أحداث عام 830 : ( وضرب عنق نصراني في يوم الاثنين سادس عشرين شهر ربيع الآخر، على أنه ساحر، وقد حكم بعض نواب الحكم المالكية بقتله، واتهم أنه قتله لغرض، ولله العلم ).
تعليق
هذا يعبّر عن التعصّب . القاضي المالكى حكم بقتله بتهمة السحر ، مع أن السائد وقتها الاعتقاد في جدوى السحر والاستعانة به حتى في قصور المماليك وفى الحريم المملوكى . أكثر من هذا ، فقد تخصص شيوخ التصوف بعمل السحر فيما كان معروفا بالكيمياء والسيماء ، والكشف عن ( المطالب ) أو الكنوز بالتعاويذ السحرية. وبينما كان أولئك الشيوخ المحتالون يتمتعون بالتصديق ويكسبون الأموال السُّحت إذ بهذا القاضي المالكى يحكم بقتل ( نصرانى ) لغرض في نفسه ، وهذا ما قاله المقريزى : ( واتهم أنه قتله لغرض، ولله العلم ). .! يعترف المقريزى بتعصب القاضي المالكى ، ولكن المقريزى نفسه لم ينج المقريزى من وباء التعصب هذا ، فتلوّنت نظرته بالتحامل على أهل الكتاب فيما ذكره في سرد بعض أخبارهم ، وسيأتى هذا في حينه .
ونعطى هنا نماذج مما ذكره في الوفيات في عصر برسباى .
1 ـ يقول فى وفيات عام 830 ، قال : ( وهلك بطرك النصارى اليعاقبة غبريال، في يوم الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول ، وكان أولاً من جملة الكتاب، ثم ترقى حتى ولي البطركية. وكانت أيامه شر أيام مرت بالنصارى. ولقي هو شدائد، وأهين مراراً، وصار يمشي في الطرقات على قدميه، وإذا دخل إلى مجلس السلطان أو الأمراء يقف، وقلّت ذات يده ( أي افتقر )، وخرج إلى القرى مراراً يستجدي النصارى، فلم يظفر منهم بطائل، لما نزل بهم من القلة والفاقة، وكانت للبطاركة عوائد على الحطي ملك الحبشة، يحمل إليهم منه الأموال العظيمة، فانقطعت في أيام غبريال هذا، لاحتقارهم له وقلة اكتراثهم به، وطعنهم فيه، بأنه كان كاتباً، وذمته مشغولة بمظالم العباد. وبالجملة فما أدركنا بطركاً أخمل منه حركة، ولا أقل منه بركة. ) .
تعليق
تعرض هذا البطرك لاضطهاد هائل سيأتى تفصيله مما ذكره المقريزى نفسه ، ونرى المقريزى هنا متحاملا عليه ، لم يشفق عليه ، بل تكلم عنه كأنه السبب فيما تعرض له من إهانة واحتقار وإجبار على التسول ليدفع الغرامات المفروضة عليه.
2 ـ وبعضهم أسلم وترقّى في الوظائف ، ولم يرحمه المقريزى ، فنراه أحيانا:
2 / 1 : يذكر محاسن هذا الذى أسلم مع الهجوم عليه كقوله عن كاتب السّر ابن الكويز الكركى فى وفيات عام 826 : ( ومات علم الدين داود بن زين عبد الرحمن بن الكويز الكركي، كاتب السر، في يوم الاثنين سلخه، ولم يبلغ الخمسين سنة.) وذكر المقريزى أنه أسلم ، واعترف بأنه : ( وكانت تؤثر عنه فضائل، منها أنه يلازم الصلاة، وصيام أيام البيض من كل شهر، ويتنزه عن القاذورات المحرمة كالخمر واللواط والزنا، ويتصدق كل يوم على الفقراء، ) ، ثم يسارع بالهجوم عليه قائلا : ( إلا أنه كان متعاظماً، صاحب حجاب وإعجاب، مع بُعد عن جميع العلوم. ولكنه في الألفاظ ذو شح زائد، وحفظت عليه ألفاظ تكلم بها سخر الناس منها زماناً، وهم يتناقلونها،) ثم يعود يمدحه فيقول : ( وكان مهاباً إلى الغاية متمكناً في الدولة، موثوقاً به فيها، بحيث مات ولا أحد أعلا رتبة منه ) .
تعليق
مآخذ المقريزى عليه هي وجهات نظر تتناقض مع ما ذكره من فضائله . ثم أين هو من أكابر المجرمين وقتها ؟
2 / 2 : يشّكك في إيمان بعضهم بالإسلام . فى وفيات عام 835 ، قال المقريزى : ( ومات الصاحب علم الدين يحيى أبو كم الأسلمي، في ليلة الخميس ثاني عشرين رمضان، وقد أناف على السبعين، فباشر نظر الأسواق، وتنقل حتى ولي الوزارة في الأيام الناصرية فرج، وكان يريد الانتفاء من النصرانية، فحج وجاور بمكة، وأكثر من زيارة الصالحين، والله أعلم بما كانوا عاملين. ) . العبارة الأخيرة فيها تشكيك واضح ، ودخول بما في الضمائر والسرائر . ماذا كان على هذا الرجل أن يفعل كى يقتنع المقريزى بصحة إسلامه ؟
2 / 3 : يهاجم صراحة ، ففى وفيات عام 831 ، قال : ( ومات نجم الدين حسين بن عبد الله السامري الأصل كاتب السر وناظر الجيش، بدمشق يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة ، وكان من سمرة دمشق، يعاني كتابة الديونة، وخدم عند الأمير بكتمر شلق، وقدم إلينا القاهرة معه في الأيام الناصرية، وهو بزي المسلمين، فلما كانت الأيام الأشرفية جمع له بين كتابة السر ونظر الجيش بدمشق، ولم يجتمعا لأحد قبله، وطالت أيامه وكثر ماله حتى أتاه حمامه، ولم يشهر بفضل ولا دين .).
تعليق
المقريزى يتكلم كما لو أن أكابر المجرمين أصحاب المناصب من المحمديين كانوا مشهورين بالفضل والدين .!
أخيرا
مع هذا التعصّب مع وضد يظل المقريزى أصدق من يعبر عن عصره . ولهذا فنحن نطمئن الى اتخاذه شاهدا على تطبيق الشريعة السُّنّية لأكابر المجرمين في عصر برسباى ، خصوصا وأنه مع كونه أعظم المؤرخين فلم يكن من أكابر المجرمين .








الفصل الثالث : لمحة عن الدولة المملوكية
الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى
أولا :
نوعية الدولة المملوكية : البحرية ثم البرجية
1 ـ الدولة المملوكية المصرية إمتدت من غرب العراق وجنوب تركيا شرقا الى حدود ليبيا غربا، وشملت الحجاز بما فيه من مكة والمدينة وسواحل البحر الأحمر . وكان يُطلق على الجزء الشرقى منها إسم ( الشام ) والحاكم المملوكى على الشام لقبه ( نأئب الشام ) أي نائب السلطان المملوكى في القاهرة على الشام ، وكان الشام يشمل حلب ودمشق والقدس وغيرها ، ولم يكن إسم فلسطين وقتها مستعملا . وكانت هناك إمارة حدودية شمال العراق مشمولة بحماية الدولة المملوكية وتقع فيها قلاقل . وقام السلطان برسباى بغزو قبرص وأسر ملكها وأصبحت ضمن الدولة المملوكية المصرية .
2 ـ إشتهرت الدولة المملوكية البحرية بشراء الرقيق الأطفال من أواسط آسيا وشرق واواسط أوربا حيث كان يتم فيها قنصهم وأسرهم وخطفهم ثم استحضارهم الى حلب التابعة للسلطنة المملوكية توطئة لبيعهم فى مصر. ثم تدريبهم عسكريا وتعليمهم ثقافيا في الجزيرة النيلية المُحاطة ب ( بحر النيل ) وهؤلاء هم المماليك البحرية ، وبعد مدة التدريب يتم عتق المملوك ويصبح حرا تابعا للأمير أو السلطان الذى إشتراه . يشق طريقه من جندي الى رتب أعلى في الجيش وسلك الأمراء حسب إمكاناته في فن المكر والفروسية ، قد يصل الى مرتبة الأتابك أي قائد الجيش ، أو السلطنة أو يفقد حياته . وبتوالى عشرات السنين أصبح معروفا فى تلك البلاد ( أواسط آسيا وأواسط وشرق أوربا ) أن أولئك المخطوفين من أبنائها ينتهى بهم الحال ليكونوا أمراء وسلاطين فى مصر ، لذا أصبح من الشائع فى تلك المناطق الآسيوية والأوربية وقوع الشباب الطموحين منها فى الاسترقاق طوعا وبإرادتهم ليؤتى بهم مماليك فى مصر المملوكية أملا فى مستقبل أفضل خيرا من المعاناة في أوطانهم .
3 ـ واكب هذا عصر التنازع بين الأمراء للسيطرة على السلطان الصغير من أبناء وأحفاد السلطان الناصر محمد آخر سلطان قوى من بنى قلاوون . هذا التنازع دفع الأمراء المتناحرين الى تقوية مراكزهم ب ( إستجلاب ) مماليك من تلك الأصقاع ، وكانت الأفضلية ليس للأطفال المحتاجين الى تدريب وتهذيب بل الى شباب مدرب جاهز. تغيّر المصطلح ، فلم يعد ( شراء) الأطفال ليصيروا مماليك متمصرين ، بل أصبح ( جلب ) شباب من الفتيان الذين لا إنتماء لهم إلا للمال وبأى طريق . فتكاثر ( جلب ) نوعبة من الرجال الطموحين للسلطة . وأولئك هم المماليك الأجلاب . وكان منهم برقوق مؤسس الدولة المملوكية البرجية ومعظم الأمراء. وكثر في عهد برقوق وبعده إستجلاب المماليك من كبار السّن . بل كان بعضهم بعد أن يتوطد أمره فى مصر يستقدم اهله ويضمهم الى الطبقة المملوكية ويعطيهم رتبة مملوكية، وهكذا فعل السلطان برقوق الذى استقدم أباه ، وكان هناك أولاد عمومة وأقارب من أمراء المماليك مما يدل على مجيئهم مماليك بإرادتهم .
4 ـ الذى تبقى من المماليك ( الجلبان ) في عصرنا هو وصف : ( شلبى / شلبية ) ، فالأصل ( جلبى / جلبية ) أي من أصل مملوكى من المماليك الجلبان ذوى البشرة البيضاء . ومنها جاء إسم ( شلبى / شلبية ) .
5 ـ في عصر المماليك البرجية لم يعد هناك فارق بين السلطان ( الجلبى ) والأمراء المماليك الجلبان ، والجنود الجلبان ، سواء من الجيش أو ( المماليك السلطانية ) المماليك المملوكين للسلطان نفسه . السلطان ( جلبى ) وكل المماليك ( جلبان ) .
6 وجميعهم كانوا الأسوأ :
6 / 1 : كانوا من الرعاع في أوطانهم . لا نتصور شخصا من أسرة طيبة عريقة يقبل أن يوقع نفسه بالرق ويصبر عليه . لا يقبل هذا إلا أرباب الجرائم ومن لديه إستعداد لأن يكون من بينهم . المماليك السابقون الذين جىء بهم أطفالا وقعوا في الرق رغم أنوفهم وجىء به الى مصر صفحة بيضاء ، فنشأوا على المعتاد ، ولم يكن كله سيئا . لذا كان المماليك البرجية أسوا من المماليك البحرية .
6 / 2 : كانوا أسوا من السلاطين المستبدين العاديين ( العلمانيين ) الذين لا يرفعون راية الشرع ولا يتمسحون بالإسلام . كان السلاطين الجلبان أوغادا حقيقيين متخصصين في السلب والنهب والفتن . كانوا أقرب الى قطاع الطرق وعصابات الإجرام . ومع هذا فكانت شرورهم تحمل راية الإسلام .
6 / 3 : ليس هناك أسوا منهم إلا العسكر المصرى الحالي الذى يحتل مصر من عام 1952 ، ووصل بمصر والمصريين الى الحضيض .
7 ـ وقد قام المقريزى بالتأريخ لهؤلاء السلاطين المماليك الجلبان في الأجزاء الأخيرة من كتاب ( السلوك ) وكان حاد النبرة في الهجوم عليهم .
8 ـ المماليك الجلبان ( الرعاع ) ورثوا نظام الكهنوت الدينى من السلطان بيبرس البدقدارى ، فهو الذى إستقدم شخصا من الأسرة العباسية وجعله خليفة في القاهرة يعطى شرعية ومصداقية دينية للسلطة المملوكية ، وهو أيضا ( الظاهر بيبرس ) الذى أدخل نظام القضاة الأربعة على المذاهب السنية ، وجعل قاضيا للقضاة لكل مذهب منها . هؤلاء المماليك الجلبان الفجرة إزداد إعتمادهم على الطائفة الأخرى من أكابر المجرمين من الجناح المدنى من أكابر المجرمين ، وهم الفقهاء ورجال الدين ، ليغطّوا على فسادهم ووحشيتهم . وكلما إزداد الفقية طاعة للسلطان المملوكى الجلبى إزدادت شهرته ، وهذا ما نراه من شهرة ابن حجر العسقلانى الساقط أخلاقيا مع شهرته حتى الآن بلقب ( أمير المؤمنين في الحديث ). ومن يقرأ ترجمة له يراها مرصعة بالمناقب والمحامد في تناقض مع تاريخه الحقيقى وخدمته لأكابر المجرمين . ولا يمكن أن يخدمهم إلا إذا مثلهم من أكابر المجرمين .
9 ـ وكما قلنا فإن الجناح المدنى من أكابر المجرمين إنقسم الى نوعين ، كلهم يتولى المنصب بالرشوة :
9 / 1 : ( وظائف دينية ) كالقضاة والفقهاء ومشيخة المؤسسات الدينية ، والأغلب أن يحمل صاحبها لقب القاضي حتى لو كان معزولا من القضاء . وكان شائعا التولية والعزل في المناصب .
9 / 2 : ( وظائف ديوانية ، يحمل صاحبها لقب الأمير ) مثل ناظر الخاص والاستادار وكاتب السّر .
9 / 3 :وفى كل الأحوال فكل منهم يخمل لقبا دينيا مثل ( شهاب الدين ) ( علم الدين ) ( عز الدين )..إلخ
ثانيا :
عرض سريع لتاريخ المماليك من خلال مكرهم ببعضهم أو تآمرهم ببعضهم للوصول الى الحكم .
1 ـ تاريخ المماليك يؤكد إعجاز القرآن الكريم في آيتين :
قال جل وعلا :
1 / 1 : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) النساء).
1 / 2 : ( اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) فاطر )
2 ـ يمكن تلخيص التاريخ المملوكى بكلمة واحدة : ( التآمر ) أو بالتعبير القرآنى ( المكر ).
2 / 1 : كان المماليك أنفسهم أبرز ضحايا هذا التآمر ، وكان من ضحايا التآمر أيضا الجناح المدنى من أكابر المجرمين ، وهم الفقهاء ورجال الدين. أصحاب المكر من أكابر المجرمين يحيق بهم مكرهم ، و دفع الثمن أيضا الشعب الخانع لهم . في أوقات الفتن المملوكية كان الشعب يدفع الثمن ، سلبا ونهبا وإغتصابا .
3 ـ ونعطى موجزا للدولة المملوكية من خلال التآمر والمكر .
أساس الداء
1 ـ مفتاح الشخصية المملوكية – كنظام سياسي – هو المساواة بينهم جميعا في الأصل والنشأة ، والتفاضل بينهم يكون بالمقدرة القتالية والمكر والتآمر . كلهم جيء به من بلاده الأصلية رقيقا لينخرط في سلك المماليك ثم ليتدرج بكفاءته السياسية والحربية حتى يصل إلى السلطنة ، ولا عبرة إلا بملكات المملوك وقدراته . لذا نجد بعض الغرائب فالظاهر بيبرس كان في الأصل مملوكا لأحد الأمراء ، وهو الأمير البندقداري ، ونسب اليه ، فقيل عنه ( بيبرس البندقداري) . واعتقه سيده ( البندقدارى ) وشق بيبرس طريقه فوصل بدهائه وقدرته إلى أن أصبح سلطانا وسيده السابق أصبح مجرد تابع صغير له في دولته . مهارة بيبرس تتجلى في قدرته الفائقة على المؤامرات والدهاء مع نشاطه الحربي ....
2 ـ وحين يصل مملوك ما بدهائه وحذقه في المؤامرات إلى السلطنة فإنه يواجه مؤامرات الآخرين إلى أن يموت نتيجة المؤامرة أو يتم عزله. وهكذا تدور السياسة المملوكية في حلقة لا تنتهي من الدسائس والمؤامرات و ( المكر )...
ملاحظات عن فنون المكر ( التآمر ) المملوكي :
1- معرفة المماليك بفن المؤامرات بدأت قبل قيام الدولة المملوكية رسميا، أي أن المماليك تعلموا فن المؤامرات على أيدى أكابر المجرمين في الدولة الأيوبية ، حيث برع الأيوبيون في حياكة المؤامرات ضد بعضهم البعض , وهذا ما فعله مماليك السلاطين الأيوبيين إذ كانوا عنصرا في تدبير المؤامرات بين سادتهم ملوك بنى أيوب . والمماليك البحرية شاركوا في مؤامرات سيدهم الصالح أيوب ثم تآمروا على إبنه توران شاه فقتلوه ، وقامت دولة المماليك البحرية. واستكثر السلطان قلاوون في شراء المماليك واسكنهم أبراج القلعة وهم ( المماليك البرجية ) وكثر المماليك البرجية ومارسوا لعبة المؤامرات في سلطنة أبناء وأحفاد سيدهم قلاوون , إلى أن قامت دولتهم وقد تمرسوا – أي البرجية – بفن المؤامرات خلال الدولة المملوكية البحرية إلى أن أقاموا دولتهم البرجية تماما كما فعل السلاطين البحرية أثناء دولتهم الأيوبية .
2- قد تنتهي المؤامرة بقتل السلطان – وحينئذ يتولى القاتل السلطنة طالما كان كفئا ، وبذلك يصبح قتل السلطان مسوغا شرعيا ـ ضمن المعلوم بالضرورة عندهم ــ لصلاحية القاتل كسلطان . ومعنى ذلك إن الأمراء لا يخضعون للسلطان إلا لأنه أقواهم ، فهو قرين لهم وند من حيث الأصل ، فإذا ما مات وتولى إبنه ( الذى لم يمسسه رقُّ ) ــ فحظ ابنه أن يكون مجرد فترة انتقالية ليظهر فيها الأقوى من الأمراء ليتغلب على السلطنة ويمسك بزمام الأمور ويعزل السلطان الصغير أو يقتله . ومن عجب إن أكثر السلاطين كان يخدع نفسه ويصدق نفاق أتباعه فيخيل إليه أنهم سيرعون حقه عليهم بعد موته في رعايتهم لابنه ، فيأخذ عليهم العهود والمواثيق ويمكّن لابنه في حياته ما استطاع ، ومع ذلك فإن أخلص ممن يقوم بأمر ابنه في حياته يكون هو نفسه الذي يعزله بعد فترة انتقالية معقولة ويتسلطن ، وينشيء أتباعا جددا من المماليك الذين يشتريهم ، ويُبعد عنه رفاقه السابقين في المؤامرات ، وبعد أن تقترب منيته يظن أن الأمور استتبت له فيأخذ العهد لابنه ويأتمن عليه أخلص أتباعه ، إلا أن القصة تتكرر بحذافيرها , ويعزل التابع ابن سيده السلطان السابق وتتكرر القصة وهكذا .
إستعراض سريع للدولة المملوكية وسلاطينها من خلال المكر أو التآمر
1- أثناء الدولة الأيوبية : إستكثر الأيوبيون من شراء المماليك . وقبل أن تقوم دولة المماليك شارك أمراء المماليك في حوادث الخلاف المستمرة بين أبناء البيت الأيوبي ؛ فالمماليك ( الصلاحية ) – الذين اشتراهم صلاح الدين – علا شأنهم على حساب المماليك ( الأسدية ) – أتباع أسد الدين شيركوه . وقد تذمر الأسدية أبان حكم صلاح الدين إلا أن شخصيته القوية لم تسمح بتطور الأمور. وبعد موت صلاح الدين استغل أخوه السلطان العادل (حاكم الشام ) استياء المماليك الأسدية من علو نفوذ الصلاحية فتحالف معهم حتى ضم بهم مصر ، وبه علا شأن الأسدية وضعفت المماليك الصلاحية . وكون العادل مماليك له عرفوا بالعادلية , وأولئك كان لهم دور بعد موت العادل ، فقد كرهوا تولى ابنه الكامل فاضطهدهم الكامل، وكوّن مماليك له عرفوا بالكاملية ، وبدورهم فقد كره المماليك الكاملية تولية العادل الثانى ابن سلطانهم الكامل ، فاعتقلوه وبعثوا لأخيه الأكبر الصالح أيوب فجاء إلى مصر وتسلطن . وعمل الصالح أيوب على الإكثار من شراء المماليك وأسكنهم في الجزيرة على بحر النيل ، فعرفوا ( بالبحرية). وأولئك المماليك البحرية كرهوا ابن سلطانهم الصالح أيوب – وهو توران شاه إذ كان على شيمة أسلافه يضطهد مماليك أبيه ويعول على إنشاء عصبة مملوكية جديدة تدين بالولاء له ، وعلى ذلك فلم يكافئهم على جميلهم حين هزموا لويس التاسع ، وحفظوا له ملكه . أظهر لهم العداء والتآمر فقتلوه , وانفردوا بالحكم من دونه ومن دون الأيوبيين جميعا . فالمماليك منذ بداية الدولة الأيوبية وهم الاعرف بفنون المؤامرات ، بالتآمر وصلوا الى السلطة ، وبالتآمر ساروا في دولتهم .
2- وبتولى المماليك السلطنة اتخذت مؤامراتهم طابعا محليا داخليا فيما بين المماليك أنفسهم للوصول للحكم أو للاحتفاظ به من أنياب الطامعين من بينهم .
2 / 1 : بعد قتل توران شاه بتدبير شجرة الدر وتنفيذ المماليك البحرية بزعامة أقطاي وبيبرس اتفقوا على تولية شجرة الدر أرملة الصالح أيوب ( أم ولده خليل ) , واحتج الخليفة العباسي على أن تتولى امرأة حكم المسلمين في مصر , فكان لابد لشجرة الدر أن تتزوج . وكان على رأس المماليك اثنان : أقطاي زعيم البحرية و أيبك كبير المماليك السلطانية في القلعة . ورأت شجرة الدر أن نفوذها يمكن أن يستمر مع زعيم البحرية ايبك دون اقطاي القاتل الخشن فتزوجت ايبك , وبذلك أصبح المماليك قسمين يتآمر كل منهما ضد الأخر . اقطاي أتبع أسلوب البدء بالهجوم فظل جنوده ينشرون الفساد ليثبت أن السلطان الجديد عاجز عن إقرار الأمن ، وفي نفس الوقت خطب إلى نفسه أميره أيوبية وطلب من شجرة الدر أن تترك لها مكانها في القلعة . وتآمرت شجرة الدر وايبك على قتل اقطاي ، وشارك في المؤامرة قطز الساعد الأيمن لايبك . وكان قطز صديقا لبيبرس التابع لأقطاى . أقنه قطز صديقه بيبرس بسلامة النية في دعوة اقطاي لمقابلة شجرة الدر , وحين دخل أقطاي القصر السلطاني حيل بينه وبين حرسه وقتل . وألقيت رأسه إلى أتباعه ففروا وهربوا من مصر وكان من بينهم بيبرس .
2 / 2 : وصفا الجو لأيبك وشجرة الدر , إلا أن الخلاف ما لبث أن اشتد بينهما إذ كانت شجرة الدر امرأة طموحا تنشد الاستقلال بالسلطة وترى في زوجها – الذي كان تابعا سابقا لها – مجرد أداه لتنفيذ مآربها , وايبك من ناحيته عزم على التحرر من قبضتها والاستئثار بالنفوذ ، وبدأ التآمر بينهما . أعلن أيبك انه سيخطب نفس الأميرة الأيوبية التي كان أقطاي يخطبها لنفسه سابقا ، وليزيد من إغاظة شجرة الدر رجع إلى زوجته السابقة ( أم علي ) , واستعملت شجرة الدر كل دهائها حتى أقنعت أيبك بالصلح معها , وحين جاء يقضى معها الليل كانت ليلته الأخيرة . وثارت المماليك على شجرة الدر ونصبوا عليا الطفل إبن أيبك سلطانا , وشفت أم علي غليلها من غريمتها شجرة الدر إذ أمرت الجواري أن يقتلنها ضربا بالقباقيب .
2 / 3 : وتولى قطز الوصاية على السلطان الطفل علي بن أيبك . وأقبل الزحف المغولي فعقد مجلسا أعلن فيه أن البلاد في خطر وان السلطان الجديد لا يستطيع النهوض بالأمر ، وعزله وتولى مكانه . ولتوحيد الجهود ضد المماليك فقد بعث السلطان قطز لصديقه السابق بيبرس وأمراء البحرية الفارين ليتعاونوا معه ضد الخطر المغولي ، فأتوا إليه من الشام .
2 / 4 : وبعد انتصار قطز على المغول تأمر عليه زعماء البحرية بقياده بيبرس انتقاما لمقتل سيدهم أقطاي ، وقتلوا قطز في طريق العودة . وتم تنصيب القاتل بيبرس سلطانا .
2 / 5 : قام بيبرس بتوطيد الدولة المملوكية ورفعة شأنها في الشام والعراق والحجاز . وحاول في أخريات حياته أن يوطد الأمر لابنه سعيد بركة ، فولاه العهد من بعده . وحتى يضمن ولاء المماليك له من بعده فقد زوّجه من ابنة كبير المماليك قلاوون الألفي ، وجعل قلاوون نائبا له ، وأخذ العهد لابنه في احتفال كبير أقسم فيه المماليك على الإخلاص ( لسعيد بركة بن الظاهر بيبرس ) حين يتولى العرش بعد أبيه .
2 / 6 : ولكن ذلك كله لم يجد نفعا . إذ تآمر قلاوون على (سعيد بركه ) وأرغم سعيد بركة على التنازل – سنة 678 وتولى مكانه .. وأقامت أسرة قلاوون في حكم مصر نحو قرن أو يزيد 678 – 784 ..
2 / 7 : متاعب قلاوون لم تنته باعتقال المماليك الظاهرية – أتباع – الظاهر بيبرس – وإحلال أنصاره محلهم ، وإنما ثار عليه – أقرانه من الأمراء كما فعل الأمير سنقر نائب الشام ، مما جعل قلاوون ينشيء لنفسه عصبة خاصة من المماليك ، فأكثر من شرائهم ، وأقام لهم أبراجا خاصة بجانبه بالقلعة فعرفوا( بالمماليك البرجية) . وأولئك هم الذين تآمروا على اغتصاب السلطة من أبناء وأحفاد سيدهم السلطان قلاوون ، ثم استطاع أحدهم في النهاية وهو برقوق إقامة الدولة المملوكية البرجية .
3- وأسهم المماليك البرجية في الفتن في دولة أبناء قلاوون – أو في نهاية الدولة المملوكية البحرية . وشاركوا في ذلك بقايا المماليك البحرية.
3 / 1 : تآمر بعض البحرية على قتل الاشرف (خليل بن قلاوون) الذي فتح عكا وأزال الوجود الصليبي نهائيا، فقتل بيدرا الاشرف خليل ، وأعلن نفسه سلطانا إلا أن أمره لم يتم فقد تمكن المماليك البرجية – إتباع البيت القلاوونى من قتل الأمير بيدرا .
3 / 2 : وبدأ الصراع بين المماليك البرجية حول تولية السلطان ، , وكالعادة اتفق على تولية الصبي (محمد بن قلاوون ) السلطة باسم الناصر محمد .
3 / 3 : وتحكم النائب كتبغا في الناصر محمد ، ثم عزله ونفاه إلى الكرك ، وأعلن نفسه (كتبغا) سلطانا سنة 694 .
3 / 4 : ثم تآمر على كتبغا حليفه الأمير لاجين (وكان لاجين احد قتلة الاشرف خليل بن قلاوون ) وقد اختفي ، ثم ظهر وتحالف مع كتبغا ، وبتأييده تولى كتبغا السلطنة وتمكن لاجين من الانتصار على كتبغا ، فآثر كتبغا السلامة ، وهرب متنازلا عن العرش ، فتولى لاجين السلطنة , حتى قتله بعض الطموحين من صغار الأمراء فتم قتلهما ، واتفق على أن يعود الناصر محمد بن قلاوون للسلطنة للمرة الثانية ( 698 – 708 ) .
3 / 5 : إلا أن الناصر محمد وقع للمرة الثانية في قبضة الأميرين المتحكمين فيه ( بيبرس وسلار ) ولما لم يستطع ممارسة نفوذه اضطر للفرار بنفسه إلى الكرك , فتسلطن بيبرس الجاشنكير. إلا أن أمره لم يتم ، فقد ثارت عليه العامة والجند ، وتمكن الناصر من الرجوع واسترداد عرشه ، وقتل بيبرس الجاشنكير وسلار ، وحكم مستبدا بالأمر حتى وفاته .
3 / 6 : وهكذا بدأ المماليك البرجية في المؤامرات أثناء – الدولة القلاوونية البحرية , وقد اتخذ تدخلهم في بداية الآمر مظهر الدفاع عن آل قلاوون بقتلهم بيدرا قاتل الاشرف خليل بن قلاوون ، ثم ما لبثوا أن تحكموا في أخيه الناصر محمد ، وتمتعوا بالامتيازات على حساب بقايا الأمراء المماليك البحرية . ثم تطور نفوذهم أخيرا فتولى احدهم – وهو بيبرس الجاشنكير – السلطة كأول سلطان برجي في الدولة البحرية . ومع تهاوي عرشه سريعا إلا أن ذلك كان إرهاصا بقيام الدولة البرجية ـ فيما بعدُ ـ على يد برقوق .
3 / 7 : ولقد انعكس نفوذ المماليك البرجية على مصير السلاطين من أبناء وأحفاد الناصر محمد بن قلاوون بعد وفاته ، فكثر توليهم وعزلهم تبعا لمؤامرات كبار الأمراء البرجية , حتى انه في العشرين سنة الأولى التي أعقبت وفاة الناصر محمد بن قلاوون تسلطن ثمانية من أولاده ( 741 – 762 ) وفي العشرين سنة التالية تسلطن أربعة من أحفاده , وبعضهم تسلطن وعمره عام واحد كالسلطان الكامل شعبان بن ناصر محمد ، وبعضهم لم يبق في الحكم إلا شهرين مثل الناصر أحمد بن الناصر محمد. وهذا الاضطراب وعدم الاستقرار أتاح لكبار المماليك البرجية الوصول للسلطنة ، بعد أن جربوا التحكم في صغار السلاطين من أبناء الناصر محمد بن قلاوون وتلاعبوا بهم ، وفي النهاية تولوا الحكم وساروا بنفس أسلوب المؤامرات .
4- وقد عمرت دولة المماليك البرجية أكثر من مائة وأربعة وثلاثين سنة (784 – 922 ) حكم فيها ثلاثة وعشرين سلطانا ، ومنهم تسعة حكموا مائة وثلاث سنوات ارتبط بهم تاريخ الدولة البرجية وهم برقوق مؤسس الدولة وابنه فرج و شيخ و صاحبنا ( برسباى ) وجقمق وإينال وخشقدم وقايتباى وقنصوة الغوري .
5 ـ وقد تمكن برقوق بسلسلة من الدسائس والمؤامرات أن يقيم الدولة البرجية وتغلب على مصاعب عديدة وصلت إلى درجة عزله من السلطنة إلا أنه عاد وانتصر .
5 / 1 : فلقد غدا أحفاد الناصر محمد بن قلاوون لعبة في أيدي الأمراء البرجية الذين تنافسوا على الوصول إلى درجة الاتابك أي القائد للجيش ، أو في درجة نائب السلطنة، للسلطان القلاوونى الصغير وإسمه (على ) . وتبلور النزاع أخيرا بين أميرين كبيرين هما بركة وبرقوق ، وانتهي الصراع بينهما بانتصار برقوق على منافسه ومن يتبعه، والتزم بركة أمام القضاة الأربعة ( الجناح المدنى من اكابر المجرمين ) بألا يتحدث في شيء من أمور الدولة ، وأن يترك ذلك لبرقوق بمفرده .
5 / 2 : وأصبح برقوق هو المرشح عن البرجية أو الجراكسة للتحكم في السلطان القلاووني الصغير , إلا أن برقوق طمع في المزيد فقد كان يريد أن يخلع السلطان المغلوب على أمره ويحكم هو فعلا ورسميا . ولذلك خشي منافسه القديم بركة فاعتقله في الإسكندرية وأوعز لواليها فقتل بركة في السجن . وثار أتباع بركة فأعلن لهم برقوق أن قتل بركة تم بدون علمه، وسلّم لهم والى الإسكندرية فقتلوه واسترضاهم بذلك .
5 / 3 : وتفرغ برقوق بعدئذ لخلع السلطان علي القلاوونى ، وكان الرأي العام يعطف على أبناء البيت القلاووني ولا يميل إلى خلعهم من السلطة رسميا ، وقد سبق أن الجنود والعامة ثاروا على بيبرس الجاشنكير حين خلع الناصر محمد بن قلاوون وتعاطف معه حين هرب إلى الكرك حتى رجع وانتصر على غريمه . وبرقوق يدرك ذلك جيدا ، لذا عمد إلى تخدير الرأي العام فاستضاف شيخا صوفيا ، معتقدا – أي يعتقد الناس ولايته – وهو الشيخ على الروبي . وقد أعلن الروبي أن برقوق سيلي السلطنة يوم الأربعاء تاسع عشر من رمضان 785 , وأن الطاعون – وكان وقتها ساريا – سيرتفع عن القاهرة ثم يموت الطفل على. ومعلوم أن الصوفي يحظى باعتقاد العامة في علمه للغيب . وإذ هيأ برقوق الأذهان لما سيحدث فقد قتل السلطان الصغير وأشاع موته ودفنه في يومه ، ثم عين بعده أخاه أمير حاج ، ثم عقد مجلسا بالخليفة العباسي و القضاة الأربعة والأمراء ، فعزلوا أمير حاج ، وبايعوا برقوق في التاسع عشر من رمضان سنة 784 أي في نفس الوقت الذي أعلنه الشيخ الروبي سابقا . وهنا تحالف أكابر المجرمين من المماليك مع أكابر المجرمين من رجال الدين ، وتمت ولادة الدولة المملوكية البرجية.
5 / 4 : ثم عمد برقوق للتخلص من أعوانه من أكابر المجرمين من الأمراء الذين ساعدوه فقضي عليهم بالقتل والنفي ، وممّن عاونه من رجال الدين ، فإعتقل الخليفة العباسي . وفي هذه الظروف مات الشيخ الروبي مما يعزر الشك في – أن لبرقوق يدا في موته . وبذلك ضمن برقوق لنفسه أن ينفرد بالأمر ، ولا يكون لأحد عليه فضل أو نفوذ باعتباره شريكا له في المؤامرة .
5 / 5 : إلا أن برقوق أخذ من مأمنه كما يقال ، فقد ثار الأمير يلبغا بالشام فوجه إليه برقوق مملوكه ( المخلص ) الأمير منطاش على رأس جيش لإخضاعه , إلا أن بلبغا اتفق مع منطاش على عزل برقوق . وبذلك جاء منطاش و بلبغا بجيشيهما إلى القاهرة لحرب برقوق . ولما لم يكن لبرقوق جيش يقابل به الأميرين فقد هرب إلى الكرك ، ودخل منطاش وبلبغا إلى القاهرة ، وأعيد السلطان أمير حاجي القلاوونى ، وكما كان متوقعا دب الخلاف بين منطاش ويلبغا ، وانتصر منطاش . وفي هذه الأثناء هرب برقوق من الكرك ، وأعد جيشا ، وأنضم إليه أنصاره ، والتقى مع مملوكه السابق منطاش في موقعة شقحب فانتصر عليه وعاد للسلطنة للمرة الثانية سنة 797 .
6 : ومات برقوق سنة 801 وتولى ابنه الناصر فرج , وقد اضطر فرج للاختفاء بسبب مؤامرة حتى أعاده الأمير يشبك , ثم ثار عليه الأميران ( شيخ ) و ( نوروز) فتنازل لهما .
7 ـ وثار النزاع بين الأميرين ( شيخ ) و ( نوروز) وانتهي بمصرع نوروز سلطنة المؤيد شيخ .
8 ـ بعد موت السلطان المؤيد شيخ تولى ابنه أحمد تحت وصاية الأمير ططر. إلا إن الأمير ططر سلبه السلطنة وتولى بعده .
9 ـ ومات ططر سريعا ، قبل موته أخذ العهد لابنه محمد بن ططر ، تحت وصاية ( صاحبنا ) برسباى ، إلا أن برسباى ما لبث أن عزل ابن السلطان ططر ، وتولى مكانه .
10 ـ , وتوفي الاشرف برسباى عام الطاعون 841 ، وقبل موته تنازل عن السلطنة لابنه يوسف، تحت وصاية الأمير جقمق . وقام جقمق بعزل يوسف ابن برسباى وتسلطن جقمق . وحين مات جقمق عهد لابنه عثمان بن جقمق بوصاية اينال فعزله أينال وتسلطن مكانه .
11 ـ وسادت ــ بعدها ــ فترة من الضعف في الدولة البرجية ، وتولى سلاطين ضعاف ، وكثر فيهم العزل والتولية ، حتى أن بعضهم كالسلطان خير بك لم يمكث سلطانا إلا ليلة واحدة سنة 872 . ثم انتعشت الدولة مؤقتا بتولي السلطان قايتباى الذي حكم تسعة وعشرين عاما متتالية ، تنازل في السنة الأخيرة لابنه محمد ابن قايتباى الذي دفع حياته ثمنا لمؤامرات الكبار . وتعاقب جملة من السلاطين الضعاف حتى تولى الغورى سنة 906 فأعاد الأمر إلى حين ، وانتهي أمره وأمر الدولة المملوكية في مرج دابق سنة 922
أخيرا
نتذكر قوله جل وعلا عن تآمر أكابر المجرمين :
1 / 1 : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) النساء).
1 / 2 : ( اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) فاطر )



الفصل الرابع : قبل عصر برسباى : السلطان المؤيد شيخ وتطبيق شريعته السُّنّية
الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى
المقريزى شاهدا على عصر السلطان المؤيد شيخ
السلطان المملوكى المتدين ( المؤيد شيخ ) الذى كان من أكابر المجرمين
مقدمة
1 ـ يعتبر عام 824 عاما غريبا في التاريخ المملوكى الممتد من عام 648 الى 923 هجرية . في عام 824 مات السلطان المؤيد شيخ يوم 9 محرم ، وعهد لابنه الطفل أحمد بولاية العهد وكان عمره سبعة عشر شهراً وخمسة أيام، وأقام مجموعة للحكم كان منهم الأمير ططر لرعاية السلطان الطفل .ثم خلع الأمير ططر السلطان الطفل أحمد بن المؤيد شيخ وتولى مكانه بلقب الظاهر ططر ، وهذا في يوم الجمعة 29 شعبان في نفس العام . وبعد مرض سريع مات السلطان ططر يوم في يوم الأحد 4 ذي الحجة في نفس العام 824 . وعهد الى إبنه محمد ، وعمره نحو العشر سنين، فأصبح سلطانا يوم موت أبيه ططر، وكان المتولى أمر السلطان الصغير هو الأمير الكبير برسباى. وعزل برسباى السلطان الصغير وتولى مكانه في يوم الأربعاء 8 ربيع الآخر عام 825 .
2 ـ أي من شهر محرم 824 الى شهر ذي الحجة عرفت الدولة المملوكية أربعة من السلاطين : المؤيد شيخ ثم إبنه أحمد، والظاهر ططر ثم إبنه محمد ، ثم في العام التالى 825 تولى برسباى .
3 ـ المؤيد شيخ إستمر حكمه ثماني سنوات وخمسة أشهر وثمانية أيام. بينما إستمر حكم برسباى حوالى 17 عاما إذ مات يوم السبت 10 ذي الحجة 841 .
4 ـ برسباى ــ الذى نتوقف معه في هذا البحث عن أكابر المجرمين ـــ لم يكن نسيج وحده، ورث نظاما فاسدا حتى النخاع ، وإستمر فيه سعيدا به مخلصا له.
5 ـ لا يؤثر في فساد العصر المملوكى أن يكون السلطان متدينا مثل المؤيد شيخ أو برسباى أو قايتباى . في الدولة المملوكية البرجية كان السلطان من أراذل الناس لأنه من المماليك الجلب المجلوبين من احطّ الطبقات من بلدانهم الأصلية ، لذا كانوا عريقين في الفساد السلوكى . وكان هذا متسقا مع أعوانهم من أكابر المجرمين من الجناح المدنى من القُضاة ، بل كان فساد القُضاة أحطُّ من فساد السلطان نفسه بحيث كان يتدخل بعض السلاطين لاصلاح القضاء أو يتصدى بنفسه للحكم بين الناس .
6 ـ في النهاية كان هذا الفساد متسقا مع الدين الأرضى الواقعى السائد ، وكان وقتها التصوف السنّى المعمول به من عهد صلاح الدين الأيوبى ، وإستمر هذا الدين سائدا حتى منتصف عصر السادات إذ حل محله الدين الوهابى الحنبلى السنى المتطرف، وهو اشد ضلالا وأحطُّ سبيلا .
7 ـ قبل أن نلج في عصر برسباى نتوقف مع المؤيد شيخ ، شخصا وعصرا .
أولا : شهادة المقريزى على تديّن السلطان المؤيد شيخ .
1 : يذكر المقريزى أن السلطان المؤيد شيخ هو الذى ابتدع ميعاد البخارى في شهر رمضان ، يقول عن أحداث شهر رمضان عام 841: ( وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه: ختمت قراءة صحيح البخارى بين يدى السلطان بقلعة الجبل، وقد حضر قضاة القضاة الأربع، وعدة من مشايخ العلم وجماعة من الطلبة، كما جرت العادة من الأيام المؤيدية شيخ ). أي إبتدعه المؤيد شيخ وظل عادة رمضانية بعده . وهذا يعطى دليلا على نوعية الدين الأرضى الذى يعتنقه المؤيد شيخ ، ففي الوقت الذى لم يكن فيه للقرآن الكريم إحتفال أقام هذا السلطان إحتفالا رسميا في مقر الحكم ( القلعة ) حمل إسم ( ميعاد البخارى ) ، وجعل موعده ( ميعاده ) في رمضان من كل عام ، كما لو كان رمضان هو الذى أُنزل فيه البخارى وليس القرآن الكريم .
2 ـ ننقل ما قاله المقريزى عن المؤيد شيخ ونعلّق عليه :
2 / 1 (.. وكان شجاعاً، مقداماً ).
تعليق
لكى يصل الأمير المملوكى للسلطنة لا بد أن يكون شجاعا مقداما خبيرا بالمؤامرات . هكذا كان السلاطين قبل وبعد المؤيد شيخ . العبرة هنا بتوظيف الشجاعة والإقدام ، هل في الحق والخير أم في القتل والقتال والسلب والنهب والتخريب .. الإجابة سنعرفها فيما بعد من كلام المقريزى نفسه.!
2 / 2 :( يحب أهل العلم، ويجالسهم،) .
تعليق
أهل العلم هم أكابر المجرمين من الجناح المدنى الذين يعطون شرعية سياسية للجبروت العسكرى المملوكى ، لذا كان يحبهم ويجالسهم .
2 / 3 : ( ويُجلُّ الشرع النبوي، ويذعن له،)
تعليق
كان يرى الأحاديث المفتراة شرعا، والمقريزى يؤمن بهذا أيضا فهو إبن عصره ، فيذكر ضمن مناقب هذا السلطان أنه كان يُجلُّ ( الشرع النبوى ) . كانوا يرون هذا هو الإسلام ، لذا كان قاضى القضاة الشافعى المشهور يحمل لقب ( شيخ الإسلام ) . مثل البلقينى وابن حجر العسقلانى. ولا تزال هذه عادة سيئة حتى الآن . مع أنه ليس في الإسلام ( شيخ ) فيه الرسول النبى وفقط . ومصطلح ( شيخ ) في القرآن يأتي تعبيرا عن مرحلة عُمرية في حياة الانسان . وقد جاء ثلاث مرات في القرآن الكريم بهذا المعنى : ( قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) هود ) ( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (78) يوسف ) ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) القصص ).
ونعود للمقريزى في وصفه للمؤيد شيخ :
2 / 4 : ( ولا ينكر على من طلبه منه إذا تحاكم إليه أن يمضي من بين يديه إلى قضاة الشرع، بل يعجبه ذلك. وينكر على أمرائه معارضة القضاة في أحكامهم.) .
تعليق
أي يرى هذا السلطان أن القضاة رموز الدين . هذا مع أن تعيين القضاة كان بالرشوة ، وقد كانوا أتباعا للسلطان يتنافسون في إرضائه ، فلا بأس أن يتظاهر بإكرامهم . المقريزى يرى هذا منقبة للمؤيد شيخ ، مع أن المقريزى نفسه أظهر فساد القضاة في عصره وهاجمهم .! بل وناقض نفسه حين تحدث بمرارة عن فساد القضاة وغيرهم في سلطنة المؤيد شيخ وغيره .
2 / 5 : ( وكان غير مائل إلى شيء من البدع. )
تعليق
فماذا عن إبتداعه لميعاد البخارى ؟ .!
2 / 6 : ( وله قيام في الليل إلى التهجد أحياناً. ) .
تعليق
يزعم المقريزى أن السلطان كان ( أحيانا ) يقوم الليل عابدا متهجدا ، أي يترك محظياته وجواريه ليتهجّد ويقوم الليل ..! . لا نتصور أن يدلف المقريزى الى مخدع السلطان في القلعة ليعرف ما يفعله في سكون الليل . نفهم أنه أُشيع عن السلطان ( المتدين ) أنه يفعل هذا ( أحيانا ) فكتب هذا مصدقا له . مع أنه يستحيل على سلطان من أكابر المجرمين أن يقوم الليل مثل أولئك الذين قال عنهم رب العزة جل وعلا : ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9) الزمر )
3 : يذكر المقريزى في التأريخ لعام 823 في أُخريات حياة المؤيد شيخ :
3 / 1 ( وفي ثامن عشره: توقف النيل عن الزيادة، وتمادى على ذلك أياماً. فارتفع سعر الغلال، وأمسك أربابها أيديهم عن بيعها، وكثر قلق الناس..)
تعليق
حين كان يتناقص النيل تلوح في الأفق المصرى نُذُر المجاعة ،ويبدأ التجار في تخزين العلال والحبوب ، وترتفع الأسعار . لذا كان مقياس النيل نشاطا رسميا . في هذا العام تناقص النيل فهرع الناس يستغيثون برب العالمين ، ويتوبون عن فعل المعاصى .
3 / 2 : (..ثم نودي فيهم أن يتركوا العمل بمعاصي الله، وأن يلتزموا الخير. ثم نودي في ثاني عشرينه أن يصوموا ثلاثة أيام، ويخرجوا إلى الصحراء، فأصبح كثير من الناس صائماً، وصام السلطان أيضاً. فنودي بزيادة إصبع مما نقصه، ثم نودي من يوم الأحد غده أن يخرجوا غداً إلى الجبل وهم صائمون، فبكّر في يوم الاثنين خامس عشرينه شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني، وسار من منزله راكباً بثياب جلوسه في طائفة، حتى جلس عند فم الوادي، قريباً من قبة النصر، وقد نصب هناك منبر، فقرأ سورة الأنعام، وأقبل الناس أفواجاً من كل جهة، حتى كثر الجمع،).
تعليق
أجبرهم نقصان النيل على التوبة والصيام والخروج للصحراء فجرا للدعاء .
3 / 3 : ( ومضى من شروق الشمس نحو ساعتين أقبل السلطان. بمفرده على فرس، وقد تزيا بزي أهل التصوف، فاعتم. بمئزر صوف لطيف، ولبس ثوب صوف أبيض، وعلى عنقه شملة صوف مُرخاة، وليس في سرجه- ولا شيء من قماش فرسه- ذهب ولا حرير، فأُنزل عن الفرس، وجلس على الأرض من غير بساط ولا سجادة، مما يلي يسار المنبر،)
تعليق
وشاركهم السلطان المؤيد شيخ . وحرص على أن يظهر كشيخ صوفى ، فلبس زى التصوف ، وتجرد من زُخرف السلطنة وتصرف كآحاد الناس .
3 / 4 : ( فصلّى قاضي القضاة جلال الدين ركعتين كهيئة صلاة العيد، والناس من ورائه يصلون بصلاته. ثم رقي المنبر، فخطب خطبتين، حث الناس فيهما على التوبة والاستغفار، وأعمال البر، وفعل الخير، وحذرهم، ونهاهم. وتحول فوق المنبر فاستقبل القبلة، ودعا فأطال الدعاء، والسلطان في ذلك يبكي وينتحب، وقد باشر في سجوده التراب بجهته. فلما انقضت الخطبة انفض الناس، وركب السلطان فرسه، وسار والعامة محيطة به من أربع جهاته، يدعون له، حتى صعد القلعة، فكان يوماً مشهوداً، وجمعًا موفورًا .) .
تعليق
بكى السلطان وتخاشع وسجد على التراب .!! ولا شك أنه كان مخلصا في هذا شأن البشر حين يتهدد الخطر حياتهم ، ثم عندما يزول يعودون الى ما كانوا عليه من عصيان . قال جل وعلا : ( وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) الزمر). وقال بعدها على من يزعم أن المؤيد شيخ كان يقوم الليل:( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9) الزمر )
3 / 5 : ( وفي مشاهدة جبار الأرض على ما وصفت، ما تخشع منه القلوب، ويرجى رحمة جبار السماء، سبحانه.) .
تعليق
هنا يأتي تعليق المقريزى كاشفا لحالة المؤيد شيخ ، فهو يصفه بأنه ( جبّار الأرض ) الذى يرجو رب العزة جل وعلا ( جبّار السماء سبحانه ) ويجعل في هذا عبرة : ( ما تخشع منه القلوب).
3 / 6 : ( ومن أحسن ما نقل عنه في هذا اليوم. أن بعض العامة دعا له، حالة الاستسقاء أن ينصره الله، فقال: اسألوا فإنما أنا واحد منكم، فلله دره، لو كان قد أيد بوزير أصدق وبطانة خير، لما قصر عن الأفعال الجميلة بل إنما اقترن به فاجر جريء، أو خبيث شقي. ).
تعليق
يتمنى المقريزى لو دامت حالة التوبة هذه. يتمنى لو كانت حاشية السلطان صالحة لتجعله مستمرا في الصلاح والإصلاح . وينسى المقريزى أن الحاشية إنعكاس للسلطان ، وكما قال عمر بن عبد العزيز : ( السلطان كالسوق ) يعنى سوق الذهب يذهب اليه من يشترى الذهب ، وسوق المواشى يرتاده مشترو المواشى ، وأيضا فالسلطان العادل يجتمع حوله الصالحون ، والسلطان الفاسد يحيط به أراذل الفاسدين .
ثانيا : شهادة المقريزى عن فساد المؤيد شيخ :
يناقض المقريزى نفسه فيقول عن أخلاق المؤيد شيخ :
1 : ( إلا أنه كان بخيلاً، مسيكاً يشح حتى بالأكل، ) . يعنى وصل به البخل الى الطعام .
2 : ( لجوجاً، غضوباً، نكداً،) سريع اللجاج سريع الخصومة ، سريع الغضب ، سريع النكد . يكون هذا خطيرا من الشخص العادى فكيف بسلطان يملك وفق شريعة العصر المملوكى أن يقتل من يشاء .
3 : ( حسوداً، معياناً،)، أي يحسد الناس، ( معيانا ) أي ذو عين حاسدة . والغريب أن يحسد السلطان المسيطر على الثروة والسلطة غيره .!
4 : ( يتظاهر بأنواع المنكرات،) يعنى يمارس الفجور علنا ( يمارس الفجور نهارا ويقوم الليل تهجدا ).!.
5 : ( فحاشاً، سباباً بذيا ) أي فاحشا بذيئا في كلامه، سبّابا للناس .
6 : ( شديد المهابة، حافظاً لأصحابه، غير مفرط فيهم، ولا مضيعاً لهم،). لذا هابه الناس خوف لسانه وخوف سلطته ، وكان يحافظ على أعوانه ، وطبعا فأعوانه على شاكلته . وسنعرض لهم ولفسادهم فيما بعدُ.
7 : ثم يلخّص المقريزى عصر المؤيد شيخ في كلمات قلائل ، يقول عنه: ( وهو أكثر أسباب خراب مصر والشام، لكثرة ما كان يثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق. ثم ما أفسده في أيام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد، وتسليط أتباعه على الناس، يسومونهم الذلة، ويأخذون ما قدروا عليه، بغير وازع من عقل، ولا ناه من دين ) .
تعليق
هو أكثر من خرّب مصر والشام سواء بالفتن والنزعات العسكرية حين كان حاكما للشام ثم بعد أن أصبح سلطانا ، في إمارته على الشام وفى سلطنته على مصر والشام أسرف في السلب والنهب عن طريق أتباعه الذين سلطهم على الناس بلا وازع من دين أو ضمير . وأتباعه المفسدون كانوا من الجناح العسكرى ( المماليك ) ومن الجناح المدنى ( القضاة )، وتوزع القضاة بين الوظائف الديوانية مثل كاتب السّر أي سكرتير السلطان ، وناظر الجيش والاستادار والوزير ، وبين المناصب الدينية كالقضاء ومشيخة المؤسسات الدينية والأوقاف. هؤلاء الذين ساعدوا المؤيد شيخ في تخريب مصر والشام وإذلال أهلها .
8 ـ ونقول إن المؤيد شيخ لم يكن لم يكن نسيج وحده ، ورث نظاما فاسدا حتى النخاع ، وإستمر فيه سعيدا به مخلصا له.
تطبيق الشريعة السُّنية في عصر السلطان المتدين ( المؤيد شيخ )
مقدمة
1 ـ بدأ التطبيق العملى للشريعة الشيطانية بالحديد والنار في خلافة أبى بكر في حرب الردة ضد من رفض دفع ( الزكاة اليه ) ثم في الفتوحات. وفوق أشلاء القتلى وفى بحور الدماء تأسست الخلافة الشيطانية بشريعتها ، ولا تزال بحارها الدموية حتى الآن في تطبيقات أكابر المجرمين في دول المحمديين .
2 ـ التدوين لهذه الشريعة الشيطانية بإختراع الأحاديث الشيطانية بدأ بهجص مالك في الموطأ وهجص الشافعى في ( الأم ) ومن جاء بعدهما فيما نسميه بالفقه النظرى ، الذى تشعب ، ولا يزال تدريسه مستمرا في الأزهر وغيره من المؤسسات الدينية الشيطانية في كوكب المحمديين .
3 ـ هناك تدوين آخر أسميناه ( الفقه الوعظى ) وهو كتابة المؤرخين الفقهاء في إنكار ما يحدث في الحياة الواقعية ، كما فعل الغزالى في (إحياء علوم الدين ) وإبن الجوزى في ( تلبيس إبليس ) وكما فعل إبن تيمية في بعض رسائله وإبن القيم في (إغاثة اللهفان ) وابن الحاج المغربى في ( المدخل ) . هنا يجد الباحث التاريخى كنزا من المعلومات التاريخية عن الحياة الاجتماعية والدينية ، لم يقصد كاتبها أن تكون تأريخا لعصره .
4 ـ يتميز المقريزى بنوعية جديدة يمكن أن نسميها بالتأريخ الوعظى ، وهى متناثرة في رسائله ، وفى ثنايا تاريخه ( السلوك ) ، وهى سطور يستنكر فيها ما يحدث منبها على الخطأ . ميزة المقريزى أنه مؤرخ صادق وأمين ليس فقط في نقل الأحداث ، ولكن أيضا في التعليق عليها بعقليته التي تنتمى الى عصره ، فقد كان سُنيا مخلصا مع شيء من التأثر بالتشيع الفاطمى . المقريزى يكتب من داخل ( الصندوق ) مخلصا لعصره متحريا الإصلاح في داخل دينه السُنّى ، لذا لم ينتبه الى أن دينه السنى وأربابه من أول أبى بكر وعمر وعثمان هم أساس الفساد .
5 ـ مئات السطور في الاحتجاج على عصره نثرها المقريزى في ( السلوك) ، نكتفى منها بلوحة تاريخية متكاملة نعتبرها أهم شهادة للمقريزى على فساد تطبيق الشريعة فى نظام الحكم في سلطنة المؤيد شيخ .
6 ـ في سنة 820 كان السلطان المؤيد شيخ غائبا عن مصر يقوم بجولة في الشام ، تاركا مصر يديرها أتباعه وفق الشريعة السائدة التي لا تتأثر بوجود أو غياب السلطان . وننقل من تاريخ ( السلوك لمعرفة دول الملوك : القسم الأول من الجزء الرابع ) شهادة المقريزى على عصر السلطان المؤيد شيخ الذى مدحه المقريزى نفسه .
7 ـ المقريزي بعد أن تحدث عن غيبة السلطان المؤيد شيخ في الشام وعن وصول مبعوث منه يبشر بدخوله حلب التابعة له أخذ يصف معاناة الناس من ظلم كبار الموظفين . يقول المقريزي في أحداث شهر ربيع الأخر 820 " فيه قدم قاصد السلطان – أي مبعوث السلطان – يبشر بقدومه حلب .. وأهلّ هذا الشهر – أي جاء هلال هذا الشهر وبدأ ـــ وفي جميع أرض مصر .. من أنواع الظلم ما لا يمكن وصفه بقلم ولا حكايته بقول من كثرته وشناعته. ) . ثم وصف الشنائع التي كان يقترفها أكابر المجرمين في مصر وقت غياب كبيرهم في الشام . ننقلها عنه ، ونعلق عليها .
أولا : المحتسبون وأعوانهم من أكابر المجرمين
1 ـ يقول عن المحتسب الذي يشرف على الأسواق : ( فالمحتسب بالقاهرة والمحتسب بمصر ، كل ما يكسبه الباعة مما تغش به البضائع وما تغبن ( تظلم ) فيه الناس يُجبى منهم بضرائب مقررة لمحتسبي القاهرة ومصر وأعوانهما ، فيصرفون ما يصير إليهم من هذا السحت في ملاذهم المنهي عنها ، ويؤديان منه ما استدانوه من المال الذي دفع رشوة عند ولايتهم . ويؤخرون منه بقية لمهاداة أتباع السلطان ليكونوا عونا لهم في بقائهم . )، وكان المحتسب في القاهرة وقتها هو القاضي شمس الدين محمد بن يعقوب الشامي .
2 ـ فالباعة يغشون البضائع ويظلمون الناس في البيع وبدلا من أن يقوم المحتسب بوظيفته الشرعية في الضرب على أيديهم فإنه يأخذ منهم الرشاوى ويكون شريكا لهم فيما يأكلونه من أموال الناس بالباطل ، وتلك الرشاوى التي أخذت اسم الضرائب كان المحتسب ينفقها في ثلاثة وجوه ، في المعاصي ، وفي تسديد الديون التي أخذها ليدفعها من قبل رشوة كي يحصل على ذلك المنصب ، ثم في تقديم رشاوى . أخرى لحاشية السلطان كي يظل في هذا المنصب.
ثانيا : قضاة الشرع أكابر المجرمين
1 ـ ويأتي المقريزي للقضاة ، وكان في الدولة المملوكية أربعة من قضاة القضاة يمثلون المذاهب الأربعة ولكل منهم نائب أي قاض في كل منطقة بالقاهرة وبالمقاطعات .. ويبلغ عدد أولئك القضاة المحليين – أو النواب – نحو المائتين. 2 ـ يقول المقريزي عنهم: ( وأما القضاة فإن نوابهم يبلغ عددهم نحو المائتين ، ما منهم إلا من لا يحتشم من أخذ الرشوة على الحكم ، مع ما يأتون – هم وكتابهم وأعوانهم – من المنكرات. ولا يغرم أحد الرشوة بمثله فيما سلف ، وينفقون ما يجمعونه من ذلك فيما تهوى أنفسهم ، ولا يغرم أحد منهم شيئا للسلطنة ، بل يتوافر عليهم ، فلا يتخولون في مال الله تعالى بغير حق" – أي لا يحسنون القيام بالحق على مال الله " – ويحسبون أنهم على شيء ، بل يصرحون بأنهم أهل الله تعالى وخاصته افتراء على الله سبحانه . )
3 ـ وهذه شهادة المقريزي على رفاقه الذين تولوا منصب القضاء ، وكان شيوخهم في هذا العام : قاضي القضاة الشافعية شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني ، وقاضي القضاة الحنفية ناصر الدين محمد بن عمر ابن العديم ، وقاضي القضاة المالكية جمال الدين عبد الله بن مقداد بن إسماعيل الأقفهسي‏،‏
وقاضي القضاة الحنبلى علاء الدين علي بن محمود بن أبي بكر بن مغلي الحمري. أسماء كبيرة مشهورة في عصرها ، وصفهم المقريزى بأخذ الرشوة – وبالتالي بالظلم في إصدار الحكم ، يعوّضون ما دفعوه من رشاوى لتولى منصب القضاء ، ثم ينفقون الفائض من ذلك المال الحرام في المعاصي التي لم تكن معهودة من قبل ، ثم يعتبرون أنفسهم أولياء الله وأحباءه.
4 ـ فإذا فسد قضاة الشرع فكيف كان رجل الشرطة ؟
ثالثا : الشرطة أكابر اللصوص
1 ــ والوالي في ذلك العصر كان يعني مدير الأمن فى العاصمة أو المقاطعات ، وكان هناك والى القاهرة وحدها ،أو القاهرة ومصر ، ثم ولاة الأقاليم 2 ـ يقول المقريزى : ( وأما والي القاهرة ووالي مصر وغيرهما من سائر ولاة النواحي ، فإن جميع ما يُسرق من الناس يأخذونه من السارق إذا ظفروا به ، فلا يأتون بسارق معه سرقة إلا أخذوها منه ، فإن لم تكن معه السرقة ألزموه مالا وتركوه لسبيله ، وقد تيقن أنه متي عثر صانع عن نفسه – أي دفع رشوة – وتخلص . ) إذن هو مفهوم جديدا في محاربة الجريمة ، أن يعاقب السارق بأن يسرق البوليس منه المسروقات ويطلق سراحه ، أى إن السارق الأكبر هو نظام الحكم ، والمسئولون فيه يسرقون من صغار (الحرامية ) . أو إن أكابر المجرمين يجعلون اصاغر المجرمين موظفين عندهم .
2 ـ وعن تطبيق عقوبة السرقة وهي قطع اليد، يقول المقريزى : ( وصار كل من يقطع من السراق يده إنما يقطع لأحد أمرين : إما لقوة جاه المسروق منه ، أو عجز السارق عن القيام للولاة بالمال. ) أي ينفذ قطع يد السارق في حالتين إذا سرق السارق من أحد أكابر المجرمين أو إذا عجز السارق عن تقديم رشوة لأكابر المجرمين . أي إن الحرامى الجوعان مصيره قطع يده .!!
3 : ـ أما حالة الولاة في الأقاليم والأرياف فكانت أسوأ . كانوا قطاع طرق بصريح العبارة، ولكن يرتدون الزى الرسمي للدولة وينهبون باسمها ، يقول عنهم المقريزي: ( ويزيد ولاة البر (أى الأقاليم ) على والى مصر والقاهرة بأخذ من وجدوا معه غنما أو أبلا أو رقيقا من الفلاحين أو العربان وغيرهم ، فإذا صار أحد ممن ذكرنا في أيديهم قتلوه واستهلكوا ماله ). أي لا يكتفي الوالي في الإقاليم والريف بنهب المال وإنما يقتل صاحب المال زيادة في الخير .! طبقا لشريعتهم .!
4 : وأعوان الوالي كانوا أكثر فسادا وإجراما منه ، يقول عنهم شيخنا: ( ومع هذا فلأعوان الولاة في أخذ مال الناس أخبار لم يسمع قط بمثل قبحها وشناعتها ، حتى إنه إذا أخذ شارب خمر غرم المال الكثير ، وكذلك من ساقه سوء القضاء إليهم من المتخاصمين، فيغرم الشاكي والمشكو المال الكثير بقدر جرمه ، بحيث تبلغ الغرامة آلافا كثيرة ) أي إذا حاول مظلوم الشكوى لهم دفع غرامة لهم .
5 : وأين تذهب هذه الأموال المنهوبة ، يقول شيخنا: ( وجميع ما تجمعه الولاة كلهم من هذه الوجوه لا يصرف إلا في أحد وجهين : إما للسلطنة مصانعة – أي رشوة – عن أقامتهم في ولاياتهم ، أو فيما تهواه أنفسهم من الكبائر والموبقات ، وينعم أعوانهم بما يجمعونه من ذلك ، ويتلفونه إسرافا وبدارا في سبيل الفساد ، ويتعرض الولاة لمقدميهم ويأخذون منهم المال حينا بعد حين . )
أى ينفقون ما يجمعون من المال السحت فى دفع رشاوى للكبار، وفى المجون .ويصادر اللص الكبير أموال اللص الاقل منه مكانة فى الوظيفة.
رابعا : فساد القضاء السياسي
1 ــ بالاضافة للقضاء العادى الذى يتخصص فى الحكم فى منازعات الأفراد كان هناك القضاء السياسى حيث جرى العرف فى الشريعة أن من حق السلطان ـ ومن ينوب عنه ـ قتل من يشاء . بدأ هذا في القرن الأول الهجرى ، وإشتهر به الخلفاء الأمويون والعباسيون ، وإستمر تشريعا واقعيا ، أنتج فيما بعد الفتوى القائلة بأن للإمام ( أي الحاكم في الشريعة ) أن يقتل ثلث الرعية لاصلاح الثلثين.
2 ـ في العصر المملوكى كان القتل لا يتوقف صراعا على السلطة وتأمينا للسلطان وأكابر المجرمين . المضحك أن بعضهم كان يحلو له إستخدام القضاة يحكمون لهم بقتل من يريد السلطان قتله تحت شعار (سيف الشرع ) .
3 ـ وفى شريعة العصر المملوكى كانت للسلطان إدارة أخرى للنهب تتبعه شخصيا يترأسها أمير مملوكى هو حاجب الحُجّاب وأعوانه من الحجاب . والويل لمن يكون مطلوبا عنده، أو أن يأتي به حظه السيئ إلى ديوانه . يقول المقريزي : ( وأما الحجاب فإنهم وأعوانهم قد انتصبوا لأخذ الأموال بغير حق من كل من يشكو إليهم وكل مشكو عليه ، فما من أحد من الحجاب إلا وفي بابه رجل يقال له " رأس نوبة " يضمن له في كل يوم قدرا معلوما من المال يقوم له به) أي أن الحاجب يفرض على رئيس مكتبه – بتعبير عصرنا – مقدار معينا من المال وعليه أن يدفعه له ، ويقسم رأس النوبة أو رئيس المكتب ذلك المبلغ المفروض على أعوانه – وهم النقباء ، وأولئك النقباء يأخذون تلك الأموال من الناس ، ويطلق على تلك الأموال لقب " الإطلاق "، ومن يأتي به حظه التعس إلى أبوابهم يقع فريسة في أيديهم يسلبون أمواله بتلك الغرامات المالية وإلا كان الهلاك نصيبه ظالما كان أم مظلوما. ونائب الغيبة – أو الذي يقوم عن السلطان أثناء غيابه – يفعل مثلما يفعل حاجب الحجاب .. ويسير بنفس طريقته. وصاحب الحجاب وقتها كان الأمير سودن قراصقل
خامسا : الاستادار من أكابر المجرمين
1 ـ الاستادار كان من الجناح المدنى من الفقهاء والقضاة ، وهو الذي يقوم على الشئون المالية للقصور السلطانية وما يدور فيها من إيرادات ومصروفات ولوازم للطعام وغيره ، وتحت تصرفه جيش من الموظفين ، يسلب بهم الأموال لينفق على قصور السلطان . وفى هذا العام 820 هجرية تجوّل الاستادار القاضي الأمير فخر الدين بن أبي الفرج فى الريف المصرى ينهب كيف شاء .
2 ـ يقول شيخنا عنه: ( وأما الاستادار، فإنه أمدهم باعا وأقواهم في الظلم ذراعا ، وأنفذهم في ضرر الناس أمرا ، وأشنعهم في الفساد ذكرا ، وذلك أنه خرج إلى الوجه البحري ففرض على جميع القرى فرائض ذهب ، قررها بحيث أن الجباية شملت أهل النواحي عن آخرهم ، ولم يعفُ عن أحد البتة . فما وصلت إليه مائه دينار إلا وأخذ أعوانه مائه دينار أخري ، ثم تتبع أرباب الأموال فصادرهم ، وأخذ لنفسه ولأعوانه مالا كثيرا ، ثم طرح على جميع النواحي بعد ذلك الجواميس التي نهبها ) أي الزمهم بشرائها، ( فقامت كل واحدة من الجواميس على الناس باثني عشر ألف درهم ) أي فرضها عليهم بسعر باهظ ، ( وأكثر ما تبلغ الجيدة منها إلى ألفي درهم !! فجبي من الوجه البحري على اسم الجاموس مالا جمّا) ( ثم أنه الزم الصيارفة ألا تأخذ الدرهم المؤيدى ) أي العملة المعدنية التي أصدرها السلطان المؤيد شيخ ( إلا من حساب سبعة دراهم ونصف وهو محسوب على الناس بثمانية دراهم) أي تلاعب بسعر العملة، ( والزمهم أيضا ألا يأخذوا الفلوس إلا من حساب خمسمائة وخمسين درهما القنطار وهو على الناس بستمائة درهم ) ( وألزمهم أيضا ألا يقبضوا الذهب الافرنتى ( أي الدينار الإفرنجي ) إلا من حساب مائتين وثلاثين الدينار وهو معدود على الناس بمائتين وستين ، وإذا صرف لأحد ذهبا يحسبه عليه بمائتين وستين.) أي تحكم في سعر العملة في الشراء والبيع كما يحلو له. ( ثم أنه كل قليل يلزم صيارفته ومقدميه ومباشريها وولاتها بمال يقرره عليهم في نظير ما يعلم أنهم أخذوه من الناس ، وكان كل مرة يصادر أموالهم ، وكان أولئك الأعوان على طريقته في سرقة الناس ، ومع كثرة مصادرته لهم كانوا يعيشون في ترف وينفقون الأموال في المعاصي. ).
3 ـ بعد أن نهب الوجه البحرى سافر ذلك الاستادار في حملة نهب أخرى على قبيلة لهاتة في الصعيد ، وعاد ومعه الأغنام والبقر والجمال والخيل ، والزم أهل الوجه البحري بشرائها بالسعر الغالي الذي يحدده ، وهى تجاروة مربحة ؛ يسرق من الصعيد ويبيع ما يسرقه لأهل الدلتا ، ثم يعود الى الصعيد يمص دم أبنائه ، يقول المقريزي : ( وهو الآن يفرض على جميع بلاد الصعيد الذهب كما فرضه على نواحي الوجه البحري. ) . واستمر ذلك الاستاراد في عمله ينهب الريف ويفرض ما ينهبه على الناس بأغلى الأسعار وشمل ذلك كافة البضائع من السكر والعسل والصابون والقمح ، ولا يكسب درهما إلا اكتسب أعوانه درهما أخر.
4 ـ ثم التفت الى أهل القاهرة ، فشرع في نوع أخر من الظلم هو أقامة بناء منطقة بين السورين فى القاهرة ، فأخذ مواد البناء من التجار بلا ثمن ، وسخّر الناس في العمل بلا اجر . وجميع ما يكسبه ينفقه في الشهوات وفي الرشوة لأعوان السلطان.
سادسا : ثم يقول شيخنا :
( وقد اختل إقليم مصر في هذه السنة خللا شنيعا يظهر أثره في القابلة – أي في السنوات القادمة – ومع ذلك ففي أرض مصر من عبث العربان ونهبهم وتخريبهم وقطعهم الطرقات على المسافرين وغيرهم شيء عظيم قبحه شنيع وصفه ، والسلطان بعساكره في البلاد الشامية يجول ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : " أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " . ويضاف إلى ما تقدم ذكره أن الطاعون فاش " أي منتشر " بدمياط والغربية والإسكندرية والإرجاف – أي الشائعات – بالإفرنج متزايد ، وأهل الإسكندرية على تخوف من هجومهم ، وقد استعدوا لذلك ، ولله عاقبة الأمور. )
أخيرا :
1 ـ في كل زمان ومكان فإن معظم المال السُّحت ينتهى الى جيب السلطان ، كبير أكابر المجرمين . الأموال المنهوبة في عصر السلطان المؤيد شيخ آلت اليه .
2 ـ عند موته وتغسيله لم يوجد له منشفة ولا ثوب يستر عورته . يقول المقريزى : ( واتفق في أمر المؤيد موعظة فيها أعظم عبرة، وهو أنه لما غسل لم يوجد له منشفة ينشف بها، فنُشّف بمنديل بعض من حضر غسله. ولا وجد له مئزر يستر به عورته، حتى آخذ له مئزر صوف صعيدي من فوق رأس بعض جواريه، فسُتر به ، ولا وُجد له حتى طاسة يصب عليه بها الماء وهو يُغسّل ، مع كثرة ما خلفه من أنواع الأموال. ) .
3 ـ ألا من يعتبر يا أكابر المجرمين ؟!!.



الفصل الخامس : ( برسباى ) من طفولته في القوقاز الى أن صار أكبر أكابر المجرمين الذين يتصدرون العناوين
الباب التمهيدى : عن الدولة المملوكية ومؤرخيها وما قبل السلطان برسباى

مقدمة
1 ـ قلنا إن منهج كتابة الحوليات التاريخية في العصر المملوكى أن يبدأ المؤرخ السنة بذكر أسماء ما نسميهم ب ( أكابر المجرمين )، وهم هنا الخليفة العباسى والسلطان وكبار الأمراء ونواب السلطان والقضاء الأربعة ، وحكام البلاد المجاورة ، ثم يبدأ بأحداث شهر المحرم وينتهى الى آخر العام شهر ذي الحجة . بعده يذكر من مات في هذا العام من أكابر المجرمين ، يمدح بعضهم ويذم البعض الآخر .
2 ـ وقلنا إن عام 824 كان فريدا، حكم فيه السلطان المؤيد شيخ ثم مات وخلفه إبنه أحمد ، ثم عزله ططر وتولى مكانه ثم مات ططر سريعا وخلفه إبنه محمد. أي أربعة سلاطين في عام واحد، وظل الطفل محمد بن ططر سلطانا إسميا الى أن عزله برسباى في العام التالى وأصبح سلطانا .
3 ـ ماذا قال المقريزى عن إفتتاح سنة 824 ؟ ننقل ما كتبه ، ونحلله .
أولا : يقول :
( سنة أربع وعشرين وثمانمائة : :
أُهلّت وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد. والسلطان بديار مصر والشام والحجاز الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، وهو مريض، ومعظم عسكر مصر بمدينة حلب صحبة الأمير الكبير ألطنبغا القرماشي أتابك العساكر، ومعه من الأمراء طوغان أمير أخور، وألطنبغا من عبد الواحد- المعروف بالصغير- رأس نوبة النوب، وألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب، وجرباش الكريمي رأس نوبة، وغيرهم. وعند السلطان من الأمراء قجقار القردمي أمير سلاح، و ططر أمير مجلس، وتنبك ميق العلاي، ومقبل الدوادار. والوزير يومئذ الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. ووظيفة نظر الخاص ليست بيد أحد، وإنما يتحدث فيها عن السلطان الطواشي مرجان الهندي الخازندار. وأستادار الأمير يشبك أينالي. وكاتب السر كمال الدين محمد بن محمد بن البارزي، وقاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني الشافعي. وقاضي القضاة الحنفية زين الدين عبد الرحمن التفهني. وقاضي القضاة المالكية بديار مصر شمس الدين محمد البساطي. وقاضي القضاة الحنابلة علاء الدين علي بن مغلي. ونائب الإسكندرية ناصر الدين محمد بن أحمد بن عمر بن العطار. ونائب غزة أركماس الجلباني. ونائب الشام جقمق الدوادار. ونائب حلب يشبك اليوسفي، ونائب قيصرية الروم محمد بك بن دلغادر التركماني. ونائب صفد قطلوبغا التنمي. ونائب طرابلس اسنبغا الزردكاش. ونائب حماة أق بلاط. وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان. وأمير المدينة النبوية الشريف عزير بن هيازع، ومتملك اليمن الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل. ومتملك بلاد الشرق شاه رخ بن تيمور كركان، ومتملك بلاد الروم سلطان محمد كرشجي بن خوندكار بايزيد بن مراد بن عثمان. ومحتسب القاهرة إبراهيم ابن الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام. ووالي القاهرة بكلمش ابن فري. وكاشف الوجه القبلي دمرداش. وكاشف الوجه البحري حسين الكردي ابن الشيخ عمر، وكان مشكور السيرة على تقوى، كما ذكر. )
ونحلل ما كتبه المقري . يقول :
1 ــ ( أُهلّت) اى بدأت بهلال محرم . تحديد الشهور بالتقويم القمرى، أي بالهلال.
2 ـ ( وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد.).
2 / 1 : بدأ المقريزى بأعلى رُتبة وهو الخليفة العباسى ، ووصفه ب( خليفة الوقت ) أي خليفة هذا الزمان للعالم .! هذا يحمل ليس فقط تعظيما للخليفة العباسى بل إعتبارا لمصر بأنها مركز العالم ، ففيها خليفة الزمان ، وبالتالي فمقرّه مركز العالم . وليس هذا مستغربا فقد كان بعض الملوك في الهند وغيرها يبعثون للخليفة العباسى أن يمنحهم تفويضا بحكم بلادهم .
2 / 2 : بدأ به المقريزى وغيره لأنه كان الذى يعطى السلطان المملوكى شرعية الحُكم، أو بالتفويض بالسلطنة لمن يصل من الأمراء الى السلطة بعد التغلب على منافسيه . ثم ( يصعد ) الى القلعة مع كبار الفقهاء والقضاء لتهنئة السلطان مع بدء كل شهر عربى . أي كان مجرد خادم تابع للسلطة العسكرية ، مع كونه رسميا رقم (1 ) في القائمة . وكان يحدث أن يغضب السلطان على الخليفة ويسجنه . كان الخليفة العباسى مجرد طرطور ، وظل هكذا الى أن سقطت الدولة المملوكية ودخل السلطان العثمانى سليم الأول مصر ، وعاد منها يحمل منها أشياء كثيرة من النفائس والأسلاب والمهرة من الحرفيين ، وحمل معه آخر خليفة عباسى فيها . وحمل السلطان العثمانى لقب ( خليفة ) ضمن ألقاب أخرى ، وظل السلطان العثمانى خليفة ( المسلمين ) الى أن سقطت الخلافة العثمانية عام 1923 .
3 ـ ( والسلطان بديار مصر والشام والحجاز الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري،).
3 / 1 : السلطان المملوكى كان يحكم مصر والشام والحجاز. هذه هي الأقاليم الرئيسة في الدولة المملوكية .
3 / 2 : جاء المقريزى باسم السلطان ( المؤيد شيخ ) تاليا للخليفة العباسى .
4 ــ ( وهو مريض، ومعظم عسكر مصر بمدينة حلب، صحبة الأمير الكبير ألطنبغا القرماشي أتابك العساكر، ومعه من الأمراء طوغان أمير أخور، وألطنبغا من عبد الواحد- المعروف بالصغير- رأس نوبة النوب، وألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب، وجرباش الكريمي رأس نوبة، وغيرهم. وعند السلطان من الأمراء قجقار القردمي أمير سلاح، و ططر أمير مجلس، وتنبك ميق العلاي، ومقبل الدوادار.) . وقت مرض السلطان كان كبار الأمراء المماليك في مطلع هذا العام قسمين : منهم من يقود معظم الجيش في حلب ، والباقون كانوا مع السلطان المريض . نلاحظ وجود الأمير ططر الى جانب السلطان المريض . وهو الذى تولى الحكم بعد الطفل ابن المؤيد شيخ .
5 ـ ( والوزير يومئذ الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. ووظيفة نظر الخاص ليست بيد أحد، وإنما يتحدث فيها عن السلطان الطواشي مرجان الهندي الخازندار. وأستادار الأمير يشبك أينالي. وكاتب السر كمال الدين محمد بن محمد بن البارزي )، هنا أكابر المجرمين من الجناح المدنى في الأجهزة الديواني.
6 ـ ( وقاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني الشافعي. وقاضي القضاة الحنفية زين الدين عبد الرحمن التفهني. وقاضي القضاة المالكية بديار مصر شمس الدين محمد البساطي. وقاضي القضاة الحنابلة علاء الدين علي بن مغلي.). ثم أكابر المجرمين في الناحية الدينية ( القضاة ) .
7 ـ ( ونائب الإسكندرية ناصر الدين محمد بن أحمد بن عمر بن العطار. ونائب غزة أركماس الجلباني. ونائب الشام جقمق الدوادار. ونائب حلب يشبك اليوسفي، ونائب قيصرية الروم محمد بك بن دلغادر التركماني. ونائب صفد قطلوبغا التنمي. ونائب طرابلس اسنبغا الزردكاش. ونائب حماة أق بلاط. وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان. وأمير المدينة النبوية الشريف عزير بن هيازع،).
7 / 1 : بعده القضاة الأربعة يأتي نُوّاب السلطان .
7 / 2 : قسّم المماليك دولتهم الى ما كان معروفا سابقا بالولايات ، في كل منها نائب للسلطان . والتقسيم كان طبقا لأهمية المدينة . مثلا جعلوا مدينة الإسكندرية ولاية يقوم عليها نائب للسلطان بسبب تعرضها للغارات البحرية الصليبية، وكذلك كانت ( غزة ) ( ولاية ) بنفسها لموقعها البحرى وقت الهجمات البحرية الصليبية. لم تكن دمشق ولاية . ثم هناك نواب للسلطان في حلب وقيصرية وصفد وطرابلس وحماة ، بالاضافة الى مكة والمدينة ويحكمها الأشراف تحت سلطة المماليك .
9 ـ ( ومتملك اليمن الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل. ومتملك بلاد الشرق شاه رخ بن تيمور كركان، ومتملك بلاد الروم سلطان محمد كرشجي بن خوندكار بايزيد بن مراد بن عثمان.) . ذكر ملك اليمن وملك الشرق في العراق ، والسلطان العثمانى ( بلاد الروم ). وكان وقتها محمد كرشجى الذى جاء في عصر تنازع على الحكم ، وقد تولى في 5 ربيع الآخر عام 816 ، وإستمر حتى حل محله مراد الثانى في 23 جمادى الثانى عام 824 . أي بعد عدة أشهر من محرم 824 .
10 ـ ( ومحتسب القاهرة إبراهيم ابن الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام. ووالي القاهرة بكلمش ابن فري. وكاشف الوجه القبلي دمرداش. وكاشف الوجه البحري حسين الكردي ابن الشيخ عمر، وكان مشكور السيرة على تقوى، كما ذكر.) . في النهاية يذكر محتسب القاهرة ووالى القاهرة ( مدير الأمن ) ، وكاشف الوجه القبلى ، أي حاكم الريف في الصعيد ، وحاكم الريف في الوجه البحرى .
ثانيا :
برسباى ليس مذكورا في القائمة :
برسباى الذى تولى السلطنة في العام التالى 825 لم يكن ضمن قادة الأمراء المماليك عام 824 . أين كان برسباى في عام 824 ؟
نتتبع أخباره في تفصيلات أحداث عام 824 .
1 ـ يقول المقريزى : ( شهر شعبان، أوله الجمعة: في يوم الاثنين حادي عشره.. وقدم الخبر بأن الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس- كان- بعثه الأمير ططر من حلب، ومعه القاضي بدر الدين محمد بن مزهر ناظر الاصطبل إلى صرخد، وأنه ما زال بالأمير جقمق حتى أذعن، وسار معه إلى دمشق، وصحبه الأمير طوغار أمير أخور. فلما قدموا دمشق قبض الأمير تنبك ميق النائب على جقمق وطوغان وسجنهما. وأن الأمير ططر برز من حلب بمن معه في حادي عشره، وأنه قدم بهم إلى دمشق في ثالث عشرينه، فقتل جقمق نائب الشام ونفى طوغان إلى القدس بطالا .. وعزم ( ططر ) على خلع المظفر( ابن المؤيد شيخ ) من السلطنة، وخلعه في تاسع عشرينه ( أي 29 شعبان ) فكانت مدته سبعه أشهر وعشرين يوماً ) .
وهو في سعيه للسلطنة كان ططر يتخلص من منافسيه ويستبدل بهم أنصاره. لذا عزل النائب اسنبغا الزردكاش وعيّن برسباى مكانه نائبا للسلطان في طرابلس. كان الأمير جقمق أقوى شخصية مملوكية في الشام ، وهو الذى سجن برسباى من قبل في قلعة دمشق ، ثم أخرجه من السجن الأمير الطنبغا بعد هزيمة جقمق بأوامر من ططر. خرج برسباى من السجن يحمل حقدا على الأمير جقمق. وجاء ططر قبل سلطنته فجعل برسباى نائبا له في طرابلس . ولا بد أن برسباى أوعز الى ططر بقتل جقمق بعد أن أذعن جقمق وسلّم نفسه وسلاحه ، وليس هذا معهودا في صراع المماليك على السلطة . بهذا تخلص برسباى من أكبر عدو له . هذا مؤشر على أن برسباى ــ وهو الأقل درجة من كبار الأمراءــ يمهد لنفسه مبكرا لأن يكون سلطانا ( أكبر أكابر المجرمين ) بأن يتقرب الى ططر ، ويساعده في تولى السلطنة ، ثم يتخلص منه فيما بعد . وهذا ما حدث .وهذا يفسر كيف مات السلطان ططر سريعا ، وقد عهد لبرسباى أن يكون خليفته على إبنه ولى عهده . وما لبث برسباى أن عزل السلطان الطفل وتولى مكانه في العام التالى .
2 : في رمضان الشهر التالى وقد أصبح ططر سلطانا بعد عزل السلطان الطفل إبن المؤيد شيخ نراه قد رقّى برسباى الى درجة كبرى : ( الداودار الكبير ) يقول المقريزى : ( يقول المقريزى : وفي يوم الاثنين ثالثه: .. وخلع على الأمير برسباي الدقماقي، واستقر به دواداراً كبيراً، عوضاً عن الأمير ألي بيه.). الداودار: هو الذى يبلغ الرسائل عن السلطان والذى يبلغه بالأمور والشكاوى، وهو صاحب الاستشارة والإشراف على البريد ، ويقدم للسلطان المكاتبات الرسمية . بهذا أصبح برسباى أقرب الى السلطان ططر .
3 ـ ثم يمرض السلطان ططر فجأة . يقول المقريزى في أحداث شهر ذي الحجة : ( أهل والسلطان مرضه متزايد، والإرجاف به كبيره وفي يوم الجمعة- ثانيه-: استدعى الخليفة والقضاة إلى القلعة، وقد اجتمع الأمراء والمباشرون والمماليك، وعهد السلطان لابنه الأمير محمد، وأن يكون القائم بدولته الأمير جانبك الصوفي، والأمير برسباي الدقماقي لالا، فحلف الأمراء على ذلك، كما حلفوا لابن الملك المؤيد. ) . أصبح برسباى ومعه الأمير جانبك الصوفى ( الأقدم من برسباى ) قائمين بدولة السلطان الطفل محمد بن ططر .
4 ـ يقول المقريزى عن تولية ابن السطان ططر : ( أقيم في السلطنة بعهد أبيه إليه، وعمره نحو العشر سنين، عقيب موت أبيه. في يوم الأحد رابع ذي الحجة، سنة أربع وعشرين وثمانمائة قد اجتمع الأمراء بالقلعة، إلا الأمير جانبك الصوفي فإنه لم يحضر، فما زالوا به حتى حضر، وأجلسوا السلطان، ولقبوه بالملك الصالح. ونودي في القاهرة أن يترحموا على الملك الظاهر، ويدعوا للملك الصالح وسكن الأمير جانبك الصوفي بالحراقة من باب السلسة، وانضم إليه معظم الأمراء والمماليك. وأقام الأمير برسباي الدقماقي بالقلعة، في عدة من الأمراء والمماليك، ... وباتوا بأجمعهم مستعدين. ) . تولى الطفل محمد بن ططر سلطانا شرعيا ــ فترة إنتقالية ـ الى ان ينحسم الصراع بين كبار المماليك . وكانوا فرقتين ؛ يتزعم الأولى برسباى المقيم في القلعة ، والأخرى جانبك الصوفى .
5 ـ إنتهى الصراع بفوز برسباى الذى خدع جانبك الصوفى . يقول المقريزى : ( وبينما هم في ذلك إذ رمى المماليك بالنشاب من أعلا القلعة على الأمير جانبك، وهو بالحراقة من باب السلسلة، فاضطرب الناس وللحال أغلق باب القلعة، ودقت الكوسات حربيا، فخرج الأمير طرباي من داره في عسكر كبير، وقد لبسوا جميعهم لامة الحرب. وطلع ومعه الأمير قجق إلى الأمير جانبك الصوفي بالحراقة، وأخذ يلومه على تأخره عن الطلوع لصلاة العيد، ومازال يخدعه حتى انخدع له، وركب معه ليشتروا في بيت الأمير بيبغا المظفري.... فما هو إلا أن صاروا في داخل بيت بيبغا المظفري إذا بباب الدار قد أغلق، وأحيط بجانبك الصوفي، ويشبك أمير أخور وقيدا، وأخذا أسيرين إلى القلعة. ). بهذا أصبح برسباى هو الوحيد المؤهل للسلطنة وعزل السلطان الطفل إبن ططر .
5 ـ يقول المقريزى في مطلع العام التالى عن أكابر المجرمين عام 825 :
( أهلت وسلطان مصر والشام الملك الصالح ناصر الدين محمد بن الظاهر ططر. والقائم بأمور الدولة الأمير الكبير نظام الملك برسباي الدقماقي. والأمير الكبير الأتابك طرباي...)
هنا تصدر برسباى العناوين ..!
6 ـ ويقول المقريزى في ( شهر ربيع الآخر، أوله الأربعاء: .. وفي سادسه: قدم الأمير تنبك العلاي ميق نائب الشام، بعد ما تلقاه عامة أهل الدولة، فخلع عليه واستقر على عادته في نيابة الشام. وتحدث معه في سلطنة الأمير برسباي، فوافق على ذلك . وخلع الملك الصالح في يوم الأربعاء ثامنه، فكانت مدته أربعة أشهر وثلاثة أيام . )
7 ـ ثم يقول عن السلطان برسباى : ( السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقمقاي ( نسبة للأمير المملوكى الذى إشتراه )الظاهري ( نسبة للظاهر برقوق الذى أعتقه ) الجركسي ( نسبة الى موطنه الأصلى ) . .. ومازال قائماً بتدبير أمر الدولة. ثم أحب أن يطلق عليه اسم السلطان، لما خلا له الجو، فأخذ طرباي وسجنه، تم بموافقة نائب الشام على ذلك، فاستدعى الخليفة والقضاة، وقد جمع الأمراء وأرباب الدولة، فبايعه الخليفة في يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة. ولقب بالملك الأشرف أبي العز، ونودي بذلك في القاهرة ومصر. )
8 ـ ويستخلص المقريزى العبرة ، فالمؤيد شيخ لكى يصل الى السلطة قرّب اليه ططر ، وهو من أقل الأمراء شأنا ، فجعله مقدما وعهد اليه بالقيام على ابنه ، فما لبث ططر أن عزل السلطان الطفل وتولى مكانه . وفى تقوية مركزه قام السلطان ططر بتقريب برسباى وهو من أقل الأمراء شأنا ، وعهد اليه بالقيام على إبنه ، ومرض ططر سريعا وترك إبنه في حماية برسباى والأتابك طرباى ( قائد الجيش ). وسجن برسباى الأتابك طرباى وخلع إبن ططر وتولى مكانه . يقول المقريزى : ( وكان في هذا موعظة وذكرى لأولي الألباب، فإن الملك المؤيد أنشأ ططر وآواه، بعد ما كان من أقل المماليك الناصرية الهاربين من الملك الناصر فرج. وما زال يرقية حتى صار من أكبر أمراء مصر، وائتمنه على ملكه. فقام بعد موت المؤيد بكفالة ولده أحمد المظفر. وما زال يحكم الأمر لنفسه إلى أن خلع ابن المؤيد، وتسلطن، وأودع ابن المؤيد وأمه ببعض دور القلعة في صورة معتقل. فلما أشفي ططر على الموت، عهد إلى ابنه محمد، واستأمن برسباي- لقرابة بينهما- على ولده، بعد ما كان برسباي مقيماً بدمشق من جملة أمرائها، وجُلّ مناه أن يبقى المؤيد عليه مهجته، فآواه ططر، وجعله من أكبر أمراء مصر، فقام بأمر ابنه الملك الصالح قليلاً، واقتدى بأخيه ططر في أخذ الملك لنفسه. فلما أخذ طرباي، كما قبض ططر على الأمراء بدمشق، ولم يبق من يخشاه إلا نائب الشام، بعث يخيره بين أن يكون الأمير الكبير بديار مصر مكان طرباي وبين أن يستمر على نيابة الشام، فرغب في السلامة، وأتى إلى بين يديه، فأمن برسباي عند ذلك، وتسلطن، وأودع الصالح محمد بن ططر وأمه في دار بالقلعة. من يعمل سوءاً يجز به. )
9 ـ وفى سنة ست وعشرين وثمانمائة يقول المقريزى ( أهلت وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي ... ) وصل برسباى الى درجة أكبر أكابر المجرمين .!
10 ـ ظل يحكم برسباى الى أن مات بعد مرض أليم عام 841 .
أخيرا :
1 ــ قال عنه المقريزى في وفيات عام 841 : ( ومات السلطان الملك الأشرف برسباى الدقماقى الظاهرى في يوم السبت ثالث عاشر ذى الحجة، وقد أناف على الستين‏. كان أبوه من أوضع أهل بلاده قدرًا وأشدهم فقرًا فأسلم إبنه هذا لحداد، فكان ينفخ عنده بالكير ثم مات فتزوجت إمرأته برجل فباع برسباى هذا وهو صغير من رحل يهودى إسمه صادق‏. فخدمه مدة وتلقن أخلاقه وتطبع بطباعه حتى جلبه إلى ديار مصر فإبتاعه الأمير دقماق‏.ثم بعث به في جملة تقدمه ( هدية ) لما إستقر في نيابة ملطية‏. فأنزله السلطان الملك الظاهر برقوق في جملة مماليك الطباق‏. ثم أخرج له قبل موته خيلًا وأنزله من الطباق وقد أعتقه‏. فلما كانت الأيام الناصرية فرج خرج فيمن خرج إلى الشام وإنتمى إلى الأمير نوروز ثم إلى الأمير شيخ فلما قدم الأمير شيخ بعد قتل الناصر إلى مصر كان فيمن قدم معه فرقاه وصار من جملة أمراء الألوف وعمل كشف التراب‏. ثم ولاه نيابة طرابلس وعزله وسجنه بقلعة المرقب‏. ثم أنعم عليه بإمرة في دمشق‏. فلما مات المؤيد شيخ قبض عليه الأمير جقمق نائب الشام وسجنه‏. ثم أفرج عنه الأمير ططر لما توجه بإبن المؤيد إلى الشام‏. ثم أنعم عليه بإمرة ألف وعمله دوادار السلطان لما تسلطن وقدم به إلى القاهرة ، فلما مات الظاهر ططر قام بأمر ولده ثم خلعه وتسلطن فدانت له البلاد وأهلها وخدمته السعود حتى مات‏. وكانت أيامه هدوء وسكون إلا أنه كان له في الشح والبخل والطمع مع الجبن والجور وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب في الأمور وقلة الثبات أخبار لم نسمع بمثلها وشمل بلاد مصر والشام في أيامه الخراب وقلة الأموال بها‏. وإفتقر الناس وساءت سير الحكام والولاة مع بلوغه آماله ونيله أغراضه وقهر أعدائه وقتلهم بيد غيره لتعلموا أن اللّه على كل شىء قدير‏. )
2 ـ نشأ برسباى في بلاد الجركس التي أتى منها معظم المماليك ( الأجلاب / الجلب ) لذا يطلق على المماليك البرجية لقب المماليك الجراكسة . ( جركس هي الآن القوقاز ) . لو ظل برسباى في بلده ما علم به أحد ، وما صار من أكابر المجرمين الذين يتصدرون العناوين .



























الباب الأساس : عن تطبيق الشريعة السنية لأكابر المجرمين في عصر السلطان برسباى
مقدمة
1 ـ هذا أساس الكتاب . يتضمن تطبيق الشريعة السنية واقعيا من خلال ما كتبه المقريزى ، واحوال الناس وقتها ، من بداية حكم السلطان برسباى عام 825 هجرية الى وفاته عام 841 ، وينقسم الى فصول ، كل عام يقع في فصل .
2 ـ لم نتعرض هنا لصراعات برسباى مع شاه رخ ابن تيمورلنك امبراطور المنطقة الشرقية في أواسط آسيا ، وقد كان خصما لبرسباى ، ولم نتعرض لفتح برسباى جزيرة قبرص وضمها لامبراطوريته ، إقتصرنا على الهجمات البحرية بين برسباى والصليبيين . خصصنا كتابا خاصا عن المقارنة بين العسكر المملوكى الظافر والعسكر المصرى الراهن الخائن الخاسر . نرجو أن ننتهى منه قريبا .
3 ـ اعتمدت في أبحاث سابقة على أجزاء كتاب ( السلوك ) للمقريزى بتحقيق د. محمد مصطفى زيادة ود. سعيد عبد الفتاح عاشور ، أشهر أساتذة التاريخ للعصور الوسطى . وكنت أنقل بخط اليد المعلومات قبل استعمال الكومبيوتر . ثم دخلنا عصر الكومبيوتر والمواقع التراثية ، وعثرت على موقع رائع هو ( نداء الإيمان ) فيه أهم كتب التراث بأنواعها ، ومنه كتب التاريخ . ووجدت فيه كتاب السلوك بكل أجزائه ، وكانت فرحتى هائلة ، لأنه يمكن أن أنسخ مباشرة من الموقع من كتاب ( السلوك ) دون عناء الكتابة باليد . ولكن ـ بواقع الخبرة ـ لاحظت أخطاء ، ونسيان للسطور. تزايد الأمر فإضطررت الى الرجوع لكتاب السلوك الأصلى المطبوع وهو عندى ، وقارنته بما هو منشور في موقع ( نداء الإيمان ) وتحققت أن من كتب كتاب السلوك لموقع ( نداء الإيمان ) كان عديم الضمير . ما نقله ملىء بأخطاء فاحشة تغير المعنى ، وسطور منسية ، بل هناك نسيان لأحداث شهرى رمضان وشوال في عام 825. سأضطر لمراجعة ما نقلته من هذا الموقع تحريا للأمانة العلمية التي ضاعت في عصرنا الردىء .! وهنا أنقل بعد التحقق من الكتاب الأصلى المطبوع المحقق .
4 ـ منهج كتابة الحوليات التاريخية في العصر المملوكى أن يبدأ المؤرخ غالبا أحداث السنة بذكر أسماء ما نسميهم ب ( أكابر المجرمين )، وهم هنا الخليفة العباسى والسلطان وكبار الأمراء ونواب السلطان والقضاء الأربعة ، وحكام البلاد المجاورة ، ثم يبدأ بأحداث شهر المحرم وينتهى الى آخر العام شهر ذي الحجة . بعده يذكر من مات في هذا العام من أكابر المجرمين ، يمدح بعضهم ويذم البعض الآخر .

الفصل الأول : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 825
ترتيب أكابر المجرمين
يقول المقريزى في إفتتاح هذه السنة ( شهر المحرم ) : ( 825 ) ( أهلت وسلطان مصر والشام الملك الصالح ناصر الدين محمد بن الظاهر ططر. والقائم بأمور الدولة الأمير الكبير نظام الملك برسباي الدقماقي. والأمير الكبير الأتابك طرباي. والدوادار الأمير سودن من عبد الرحمن. وأمير سلاح بيبغا المظفري. وأمير مجلس الأمير قجق. وأمير أخور الأمير قصروه. ورأس نوبة الأمير أزبك. والوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ. وكاتب السر علم الدين داود بن الكويز. وناظر الخاص بدر الدين حسن بن نصر الله. وأستادار الأمير أرغون شاه. وقاضي القضاة الشافعي ولي الدين أبو زرعة أحمد بن العراقي. وباقيهم كما تقدم في السنة الخالية. وكاشف الوجه القبلي الأمير أقجا ونائب الإسكندرية الأمير فارس. ونائب الشام الأمير تنبك العلاي ميق. ونائب حلب الأمير تغري بردي من قصروه، وقد أظهر الخلاف. ونائب طرابلس الأمير تنبك البجاسي ونائب حماه الأمير شارقطلوا. ونائب صفد الأمير أينال. وبلاد الصعيد قد عاث بها العربان، وكثر فسادهم ) .نلاحظ :
1 ـ تجاهل المقريزى البدء بالخليفة العباسى ، ربما إحتقارا له، لأنه في العام الماضى عقد شرعية السلطة على ثلاثة سلاطين ، الطفل ابن المؤيد شيخ ، ثم الظاهر ططر ، ثم الطفل الآخر ابن الظاهر ططر . وسيأتى لاحقا لعقد شرعية السلطة لبرسباى في هذا العام 824.
2 ـ هذا هو العام الذى إعتلى فيه برسباى السلطنة ، لذا سيحدث تغيير في هذه المناصب ، أبرزها الإطاحة بالأتابك طرباى ، وهو يشارك برسباى في لقب الأمير الكبير الذى يعنى القيام على السلطان الطفل إبن الظاهر ططر . أطاح به برسباى وبآخرين ضمن صراع أكابر المجرمين على العرش .
3 ـ تجاهل المقريزى أسماء ثلاثة من قضاة القضاة الذين استمروا في وظائفهم، وذكر الشافعى فقط وهو ولى الدين أبو زرعة العراقى ، لأنه تم تعيينه بعد موت سلفه قاضى القضاة الشافعى جلال الدين البلقينى ( شيخ الإسلام ) بزعمهم .
( شهر الله المحرم، أوله الجمعة)
أخبار الصراع على السلطة:
1 ـ ( في ثالث عشره: قدم الخبر بفرار الأمير تغري بردي نائب حلب منها، بعد وقعة كانت بينه وبين الأمير تنبك البجاسي نائب طرابلس. وقد كتب له باستقراره في نيابة حلب ومحاربة المذكور، فسار إليه وحاربه، فانهزم منه وتسلم تنبك حلب، فدقت البشائر بقلعة الجبل أياماً. ) تنبك كان متحالفا مع برسباى .
2 ـ ( وفي تاسع عشره: خلع على بلبان الجمالي، واستقر كاشف الوجه القبلي، بعد موت أقجا )
3 ـ ( وفي ثالث عشرينه: قد الركب الأول من الحجاج، وقدم المحمل ببقية الحاج في عده صحبة الأمير تمر بيه اليوسفي، أحد الأمراء الألوف. وقد كثر ثناء الحجاج عليه لحسن سيرته فيهم، فقبض عليه في ثامن عشرينه . ) . برسباى إعتقله خوفا منه وبسبب الثناء عليه .
4 ـ ( وفيه قبض على الأمير قرمش أحد الأمراء الألوف، وأخرج هو وتمر بيه إلى دمياط. وأنعم على يشبك الساقي الأعرج بإقطاع قرمش وإمرته. ). ( أمير ألف مقدم مائة ): أصحاب هذه الرتبة هم أمراء الجيش تحت قيادة الأتابك . في الصراع على السلطة تتم الإطاحة ببعضهم وترقية البعض الآخر. والمهزوم يفقد إقطاعه ( الأرض الزراعية التابعة له ) ودرجته العسكرية . وربما يفقد حياته . هو صراع أكابر المجرمين .!
أخبار نادرة :
1 ـ ( وفي هذا الشهر: دخل شخص يعرف بالشيخ سعد، لم يزل يعرف بالفقر، ويقبل من الناس صدقتهم، ويقرئ الأطفال بالأجرة، إلى الجامع الأزهر، وتصدق بمائتين وسبعين ديناراً إفرنتية، وبستة وعشرين ديناراً هرجة، وبأربعة آلاف وخمسمائة درهم مؤيدية ، فعُدّ هذا من نوادر الزمان . ). ليس معهودا أن يأتي شيخ صوفى متسول ليتصدّق على الطلبة في الجامع الأزهر . وقتها كان طلبة الجامع الأزهر يتعيشون من الأوقاف الخيرية التطوعية وليس من الأوقاف الأهلية التي يوقفها الأمراء والسلاطين لمنفعتهم . في الأوقاف الأهلية يعيّن الواقف مدرسين وموظفين وطلبة وينفق عليه من بعض ريع الوقف.
2 ـ ( وفيه وقع برد بناحية قصر عفرا من بلاد حوران بالشام، فكان فيه شبه خنافس وعقارب وضفادع. )

( شهر صفر، أوله الأحد )
أخبار الصراع على السلطة
1 ـ ( في ثانيه. قبص على الأمير أيتمش الخضري، ونفي بطالا إلى القدس)
2 ـ ( وفيه تنكر الحال بين الأمير طرباي والأمير نظام الملك برسباي. وخرج طرباي إلى بر الجيزة في هيئة متنزه، والإرجاف يقوى حتى انسلخ الشهر.). ترك طرباى القلعة وذهب الى الجيزة زاعما التنزه ، وهو يريد حشد أنصاره .
أخبار الفساد والخراب
1 ـ ( وفي يوم الأربعاء ثامن عشره: جمعت الصيارف بالاصطبل للنظر في الدراهم المؤيدية، فإنه كثر هرش الجيد منها. ومعنى الهرش أن يبرد من الدرهم حتى يجف وزنه، ويصير نحو ربع درهم. فاستقرت المعاملة بها وزناً لا عدداً. ورسم أن يكون كل درهم وزناً بعشرين درهماً فلوساً. وأن يكون الدينار الإفرنتي بمائتين وعشرين فلوسا، وبأحد عشر درهما فضة، وازنة عنها من المؤيدية اثنان وعشرون عدداً، زنة كل مؤيدي نصف درهم، فنزل بالناس من ذلك شدة لخسارتهم. وذلك أن المؤيدي الذي كان بسبعة دراهم فلوساً صار بخمسة دراهم، وفيها ما لا يبلغ الخمسة. وكثر مع ذلك الاختلاف في أسعار المبيعات، وقيم الأعمال، أجر المستأجرات، فذهب معظم مال الناس . ) . الدولة تمارس التلاعب بالعُملة لتسلب أموال الناس
2 ـ ـ ( وفي هدا الشهر: عز وجود لحم الضان في الأسواق، لقلة الأغنام . ) ـ
3 ـ ( وفيه كثر فساد لهانة وهوارة ببلاد الصعيد، وقطعهم الطرقات على المسافرين، وشنهم الغارات على البلاد، وإحراقهم عدة نواحي بما فيها. هذا مع ما ببلاد الصعيد من قلة وجود القمح عندهم، بحيث صار يحمل إليهم من القاهرة، وذلك لخراب بلاد الصعيد ودثور أكثر بلادها، بحيث العشرة أيام ببلاد الصعيد لا يوجد فيها أحد، ولا تزع أراضيها، فقلت الأغنام عندهم. وصار أهلها إلى فقر وبؤس، حتى أن غالب قوت أهلها إنما هو الذرة. ومع ذلك كله، فجور الولاة فيهم لا يمكن وصفه. ولعل هذا إن تمادى أن تهلك بلاد الصعيد كلها.)
تصارع المماليك والأعراب على نهب الفلاحين في قرى مصر شمالها وجنوبها ، نتج عنه خراب الصعيد بالذات لبُعده عن القاهرة ، وهجرة أعراب هوارة وغيرهم اليه .

( شهر ربيع الأول، أوله الاثنين)
أخبار الصراع على السلطة :
1 ـ ( في ثانيه: قدم الأمير طرباي من بر الجيزة . ) ـ أعطى برسباى عهودا لغريمه طرباى ليأتى الى القلعة ، وصدقه طرباى . هذا بينما إعتقل برسباى أنصار طرباى في القلعة ، واستعد للإطاحة بطرباى .
2 ـ ( وفي ثالثه: قبض الأمير برسباي على الأمير سودن الحموي، أحد أمراء الألوف، وعلى الأمير قانصوه أحد أمراء الطبلخاناة، وكانا من أصحاب الأمير طرباي، فكثرت القالة، وبات طرباي ليلة الخميس وجماعته يحذرونه الطلوع إلى القلعة، وهو لا يصغي لقولهم، وفي ظنه أن الأمير برسباي لا يفاجئه بسوء، لأنه في ابتداء الأمر كان طرباي متميزاً عليه منذ مات الظاهر برقوق، وفي أخر الأمر كان هو استمال المماليك للأمير برسباي، وفخذهم عن جانبك الصوفي، ثم خدع جانبك حتى نزل من الاصطبل ثم قبض عليه، فكان يرى أنه هو الذي أقام الأمير برسباي فيما هو فيه، وأصبح يوم الخميس فركب طرباي إلى الخدمة بالقلعة، فما هو إلا أن استقر جلوسه، أشار الأمير برسباي بالقبض عليه، فجذب سيفه ليدفع عن نفسه، وقام، فبدره الجماعة وعاقوه عن النهوض، وغافصه الأمير برسباي بالسيف ، وضربه ضربة جاءت في يده كادت أن تبينها. وأخذ إلى السجن، وقد تضمخ بدمه، فوقعت هرجة بالقصر، ثم سكنت من ساعتها. ولم يتحرك أحد لنصرة طرباي. ونودي بالأمان والبيع والشراء، وأن لا يتحدث أحد فيما لا يعنيه. وأخرج من الغد بطرباي مقيداً إلى الإسكندرية ليسجن بها.).
2 / 1 : كان برسباى أقل درجة من طرباى ، وكان صاحب فضل على برسباى ، وقد إستخفّ ببرسباى ، بينما كان برسباى حريصا على الإطاحة بكل من كان أعلى منه درجة ، وأن يقرّب اليه من هم أدنى منه . إستخفاف طرباى ببرسباى جعله يدخل القلعة معتقدا أن أنصاره فيها سينصرونه على برسباى ، ولكن برسباى ( غافصه ) أي فاجأه بضربة سيف كادت تقطع يده . وانتهى أمره سجينا في قلعة الإسكندرية .
2 / 2 : ويستخلص المقريزى العبرة فيقول : ( فكان في هذا عبرة لأولي الأبصار، وهو أن طرباي مكر بجانبك الصوفي، وخدعه حتى أنزله من الحراقة بباب السلسله، وقبض عليه بحيلة دبرها، وحمله مقيدا إلى الإسكندرية، حتى سجن بها ، وظن أنه قدم صفا له الوقت، فأتاه الله من حيث لم يحتسب، وخدعه الأمير برسباي حتى صعد إليه، بعد ما امتنع ببر الجيزه أياماً، والإرجاف قوي بوقوع الحرب، إلى أن مشى لحتفه بقدميه، حتى قبض عليه، وسجن بالإسكندرية لتجزي كل نفس ما كسبت .)
3 ـ ( وفيه أخرج الأمير سودن الحموي منفياً إلى دمياط، وتوجه الأمير ناصر الدين محمد ابن منجك إلى دمشق ليحضر بالأمير تنبك ميق من الشام وقد تحدث بأمر سيظهر بمجيء نائب الشام. ورسم بإحضار أيتمش الخضري من القدس . ) . تخلص برسباى من سودون الحموى بالنفى . وطلب حضور نائب الشام ليتفق معه على خلع السلطان الصغير ابن ططر ويتولى مكانه .
4 ـ ( وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير أيتمش الخضري من القدس، فلزم داره .)
أخبار الفساد
1 ـ ( وفي خامس عشره: قبض على الطواشي مرجان الهندي زمام الدار، وسلم للأمير أرغون شاه، أستادار، ليستخلص منه مالاً .). زمام الدار هو خصىّ من الخصيان مختص بشئون حريم القصر ، من الخوندات ( الخوند هي جارية السلطان التي ولدت له ) وبقية الجوارى ، ومنهم المعتقات ، وهو المستشار في تزويجهن . القصد هو مصادرة أمواله ولو بالتعذيب . وتولية آخر يدفع الرشوة .
2 ـ( وفي ثاني عشرينه: خلع على الطواشي كافور الشلبي، واستقر زمام الدار على عادته).

( شهر ربيع الآخر، أوله الأربعاء)
أخبار الصراع على السلطة
1 ـ ( وفي سادسه: قدم الأمير تنبك العلاي ميق نائب الشام، بعد ما تلقاه عامة أهل الدولة، فخلع عليه واستقر على عادته في نيابة الشام. وتحدث معه في سلطنة الأمير برسباي، فوافق على ذلك . ) . هنا قدوم نائب الشام واتفاقه مع برسباى على خلع السلطان الطفل ابن ططر وتولية برسباى مكانه ، وهذا مقابل إحتفاظ تنبك العلاى ميق بوظيفته نائبا للسلطان في الشام. بعدها بيومين :
2 ـ ( وخلع الملك الصالح في يوم الأربعاء ثامنه، فكانت مدته أربعة أشهر وثلاثة أيام ). في اليوم التالى تغيير في المناصب الكبرى بعد الإطاحة بخصوم برسباى .:
3 ـ ( وفي يوم الخميس تاسعه خلع على الأمير بيبعا المظفري أمير سلاح، واستقر الأمير الكبير الأتابك، عوضاً عن طرباي. وخلع على الأمير قجق أمير مجلس واستقر أمير سلاح عوضاً عن بيبغا المظفري. وخلع على الأمير أقبغا التمرازي من مقدمي الألوف، واستقر أمير مجلس، عوضاً عن قجق. وخلع على حسن الكردي، واستقر نائب الوجه البحري على عادته. وأفرج عن جماعه كانوا مسجونين بالقلعة من أمراء العشرات قبض عليهم فيما تقدم.). ( خلع على ) أي ألبسه تشريفة المنصب .
4 ـ ( وفي يوم الثلاثاء رابع عشره: خلع على الأمير تنبك ميق نائب الشام قباء السفر، وتوجه إلى دمشق، فخرج عظماء الدولة لوداعه، بعد ما قدموا له عدة تقادم، ما بين خيول وقماش وغير ذلك ). بعد أن قام بمهمته وتسلطن برسباى كان توديع نائب الشام باحتفالات و تقديم الهدايا ( تقدمات ).
أخبار نادرة قام بها برسباى بعد أن تسلطن
1 ـ ( وكان أول ما بدأ به السلطان أن منع الناس كافة من تقبيل الأرض له، فامتنعوا. وجرت العادة عند ملوك مصر، منذ قدم أمير المؤمنين الإمام المعز لدين الله أبو تميم معد الفاطمي إلى مصر، أن كل من تمثل بين يدي الخليفة ثم بين يدي السلطان أن يخر وهو قائم حتى يقبل الأرض. فلم يعف من ذلك أمير، ولو بلغ الغاية، ولا مملوك، ولا وزير ولا صاحب قلم، ولا رسول ملك من ملوك الأقطار، إذا قدم برسالة، ولا أحد من سائر الناس على اختلافهم، إلا قضاة الشرع، وجميع أهل العلم وأهل الصلاح وأشراف الحجاز من بني حسن وبني حسين، فإن هؤلاء أدركناهم ولا يقبل أحد منهم الأرض، إجلالاً لهم عن ذلك. وكذلك إذا ورد مرسوم السلطان على نائب مملكة أو والي عمل، فإنه يقوم عند وروده عليه، ويقبل الأرض. فأبطل السلطان برسباي ذلك كله، وجعل بدله إما تقبيل يده لمن عظم قدره، أو يقف فقط. فكان هذا حسناً لو دام، لكنه بطل عن قليل، وعاد الأمر كما تقدم ذكره. ). أحدثت الدولة الفاطمية الكهنوتية تأليها صريحا للخليفة بالسجود أمامه مع تقبيل الأرض . إستمر هذا بعدها ، بل كان السجود أيضا لرسالة من السلطان . ألغى برسباى هذا ، ثم ما لبث أن أعاد هذا التقليد الوثنى .
أخبار الفساد والخراب
1 ـ ( في ثانيه: أفرج عن الطواشي مرجان الهندي بعد ما أخذ منه عشرون ألف دينار، وضمنه جماعة في عشرة آلاف دينار أخرى . ) . إفراج بثمن .
2 ـ ( وفي يوم السبت خامس عشرينه: توجه الأمير سودن الحاجب، ومعه مال برسم حفر خليج سكندريه فما أجدي شيئاً . ). يعنى لم ينجز المهمة . الذى يتم إنجازه بنجاح ساحق هو الفساد والخراب.
3 ـ ( وفي هذا الشهر: أجدبت أراضي بلاد حوران والكرك والقدس والرملة وغزة، لعدم نزول المطر في أوانه، ونزح كثير من سكان هذه البلاد عن أوطانهم، وقلت المياه عندهم. ومع هذا ففي بلاد حلب وحماة ودمشق وبلاد الساحل كلها رخاء من كثرة الأمطار التي عندهم، فسبحان الفعال لما يريد. )
4 ـ ( وفيه عظم الخطب، واشتد البلاء ببلاد الصعيد، من كثرة الفتن، ونهب البلاد) ـ
5 ـ ( وفيه قُتل والى قوص، وتعذر أخذ الخراج. ) . هجوم على والى قوص المملوكى وتعذر تحصيل الخراج . واضح أن الأعراب هم الفاعلون .
6 ـ ( وفيه عمل المارستان المؤيدي الذي بالصوة تحت القلعة جامعاً، تقام به الجمعة والجماعة، ورتب له إمام وخطيب ومؤذنون وبواب وقومة. وجعل جهة مصرف ذلك من وقف الجامع المؤيدي. وكان المؤيد قد جعل هذا الموضع مارستان، ونزل به المرضى. فلما مات لم يوجد في كتاب الوقف المؤيدي له جهة تصرف، فأخرجت المرضى منه، وأغلق، وصار منزلا للرسل الواردين من ملوك الشرق، فبقي حانة خمار برسم شرب المسكرات، وضرب الطنابير، وعمل الفواحش. ومع ذلك تربط به الخيول. فكان هذا منذ مات المؤيد إلى هذا الوقت، فطهره الله من تلك الأرجاس، وجعله محل عبادة . ) . هنا ملمح من ملامح فساد الأوقاف في دولة أكابر المجرمين . مستشفى ( مارستان ) خيرى يتم طرد المرضى منه، ويتحول الى حانة ووكر للبغاء بعد موت صاحب الوقف السلطان المؤيد شيخ . برسباى جعله مسجدا . كثيرا ما كان يحدث أن يتحول مسجد الى حانة وتتحول حانة الى مسجد . ذكرنا هذا في أجزاء موسوعة التصوف المملوكى .
7 ـ ( وفيه وقع الشروع في هدم المنظرة التي استجدها المؤيد فوق الخمس الوجوه. ثم انتقض ذلك، فبقي بناؤها مشعثاً، وسكنها بعض فقراء العجم . ). مات السلطان المؤيد شيخ ، فخربوا ما تركه ، وطردوا أولاده من القلعة .. ( فقراء العجم ) هم الصوفية الوافدون من الشرق الى مصر وقتها .
شهر جمادى الأول، أوله الأربعاء:
أخبار الفساد والفتن والخراب والهلاك
1 ـ ( في سابعه: سارت تجريدة إلى بلاد الصعيد.).بعد قتل والى قوص، وتعذر أخذ الخراج من الصعيد كان إرسال حملة حربية لقمع الأعراب من هوارة وغيرهم .
2 ـ ( وفيه قدم الخبر بكثرة الوباء ببلاد حلب وحماة وحمص، فهلكت خلائق . ) . أخبار المناطق البعيدة من الدولة المملوكية تصل الى المقريزى عبر البريد فيسجلها ، وقد كان البريد في الدولة المملوكية نظاما مستقرا مستمرا .
أخبار التعصب ضد أهل الكتاب
(وفي ثامنه: نودي أن لا يخدم أحد من اليهود والنصارى في ديوان من دواوين السلطان والأمراء، فلم يتم ذلك. ) . كان هذا التعصب ظاهرة مؤقتة في العصر المملوكى ، يهبُّ فجأة ويتم نسيانه حسب الظروف .
أخبار المؤسسات الدينية لأكابر المجرمين
1 ـ ( وفي يوم الجمعة تاسعه: جددت خطبة بمدرسة شمس الدين شاكر بن البقري بالجوانية، جددها علم الدين داود بن الكويز كاتب السر، لقربها من داره التي يسكنها . )
1 / 1 : ابن الكويز كاتب السّر ( سكرتير برسباى ) قام بتجديد مدرسة قريبة من داره ، وجعل فيها صلاة الجمعة .
1 / 2 : في هذا العصر كانت الصلاة تُقام في سائر المؤسسات الدينية تبعا للدين الأرضى السائد وهو التصوف السُّنّى . أهمها : المدارس والخوانق والأربطة والزوايا والمساجد والأضرحة ، ولكن ليس في كل منها تُقام صلاة الجمعة .
2 ـ ( وفيه أقيمت الجمعة بالمارستان المؤيدي، يوم الجمعة سلخه.(أي نهايته ). قبله في شهر ربيع الآخر كان تحويل المارستان المؤيدي الى جامع . في هذا الشهر أقيمت فيه صلاة الجمعة .
أخبار دعوات لإصلاح فساد ولم تتم
( وفيه رسم أن لا تباع الثياب التي تجلب من بغداد أو الموصل وبلاد الشام والإسكندرية إلا بالنقد. وكانت العادة إذا ورد التاجر بشيء من القماش، تسلمته السماسرة وباعته على التجار إلى أجل، ثم جبت الثمن في مدة أشهر، فمن أجل بيعها نسيئة يزداد ثمنها عما تباع في النداء الحراج زيادة كبيرة، فإذا باعها التاجر أخذ ربحاً آخر، فتغبن الناس دائماً فيما يشتروه من التجار، سيما إذا باعوا ذلك في النداء فإنه ربما ثلث الثمن. فامتنع التجار مدة من الشراء نسيئة، ثم عادوا لما نهوا عنه . ). هذا مرسوم لكبح جماح جشع التجار ، وكالعادة لم يستمر العمل به .
( شهر جمادى الآخرة، أوله السبت )
أخبار الصراع السياسى بين أكابر المجرمين
( في تاسعه: توجه السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن علاء الدين علي بن البرهان إبراهيم بن عدنان الحسيني كاتب السر بدمشق ونقيب الأشراف إلى بلده. وكان قد طُلب من دمشق، فقدم القاهرة في ثالث عشر جمادى الأولى، وسُجن في بعض المدارس، وألزم بحمل عشرين ألف دينار. وكُتب باستقرار بعض مسالمة السمرة- ويقال له حسين عوضه ــ في كتابة السر بدمشق. وكان حسين هذا قد قدم إلى القاهرة في الأيام الناصرية فرج، وخدم من جملة كُتّاب الأمير بكتمر شلق، ثم عاد إلى دمشق. واتفق أنه تزوج مملوك يقال له أزبك بابنة امرأة حسين. وكان أزبك هذا ممن أنشأه ططر، وصار أمير مائة مقدم ألف، فتحدث لحسين هذا في استقراره ناظر الجيش بدمشق، فأجيب إلى ذلك. واستقر حسين في نظر الجيش، عوضاً عن قاضي القضاة الحنفية شهاب الدين أحمد بن الكشك. ثم أضيف إليه كتابة السر، مع نظر الجيش ولم يتفق مثل ذلك في هذه الدول. وما زال السيد محبوساً حتى تقرر عليه عشرة آلاف دينار، فخلع عليه في رابع جمادى الآخرة، هذا وتوجه إلى بلده لحمل ما ألزم به. وسبب ذلك تنكر السلطان عليه لأمور بدت منه في حقه، وهو أمير بدمشق والسيد كاتب السر)
تعليق
1 ـ كان برسباى حقودا ، انتقم من خصومه بعد وصوله للسلطة . حين كان برسباى أميرا في دمشق كان هناك عداء بينه وبين نقيب الأشراف فيها وهو أيضا كاتب السّر . عندما تسلطن برسباى إستدعاه الى القاهرة ، وسجنه وفرض عليه غرامة. وعيّن مكانه كاتبا للسّر في دمشق أحد اليهود من طائفة السمرة ، كانت له صلة بالأمير أزبك فتوسّط له عند السلطان الظاهر ططر ، فجعله ناظر الجيش عن قاضى القضاة الحنفية ابن الكشك ، ثم أضاف اليه برسباى وظيفة كاتب السّر في دمشق .
2 ـ نلاحظ التناقض هنا : إذ صدر مرسوم في الشهر السابق بعدم توظيف أهل الكتاب ، أي طرد الموظفين منهم ، بعدها يطرد برسباى إثنين من الأعلام ، أحدهما نقيب الأشراف والآخر قاض للقضاة ، ويولى مكانهما يهوديا سامريا .
أخبار الحج
1 ـ ( وفي رابع عشره: نودي بسفر الناس في رجب إلى مكة، فكثرت المسرات بذلك، لبُعد العهد بسفر الرجبية. ثم انتقض ذلك . )، هذا عن عُمرة رجب .
2 ــ ( ونودي في سابع عشرينه لا يسافر أحد الرجبية . ) ـ
أخبار الغلاء والفتن
1 ـ ( وفى هذا الشهر قدم الخبر بغلاء مدينة توريز ، وأن المطر تأخر نزوله ببلاد أفريقية ). الأخبار تأتى للمقريزى من فارس ومن شمال أفريقيا .
2 ـ ( وفيه عزم تغري بردي الجكمي- الذي قتل ابن كبك- على الفتك بالأمير تنبك ميق نائب الشام، ففطن به وقتله . )
أخبار فساد القضاة والفقهاء
1 ـ ( وفي يوم الاثنين حادي عشره: قدم قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي من القدس) . كان الهروى أشهر القضاة الفاسدين وتولى منصب قاضى القضاة كثيرا بالرشوة.
2 ـ ( وفيه جلس السلطان للحكم بين الناس، كما كان المؤيد ومن قبله، وصار يحكم يومي الثلاثاء والسبت بالمقعد من الاصطبل السلطاني . ).
تعليق
2 / 1 : نظرا لأن القضاة فقدوا إعتبارهم واشتهر فسادهم اضطر السلطان المؤيد شيخ ثم بعده برسباى لأن يتصدر كل منهما بنفسه للحكم بين الناس . وتكرر هذا في عصر قايتباى فيما بعد .
2 / 2 : المستفاد أن أكابر المجرمين من القضاة والفقهاء كانوا ــ أحيانا ـ أكثر فسادا من السلطان المملوكى نفسه ، فيتدخل السلطان ببعض إصلاحات ، كانت لا تّجدى ولا تستمر ، لأن الفساد وصل الى النُّخاع ، ولا تنفع فيه عمليات التجميل والترقيع . ( لا زلنا نعيش العصر المملوكى بفساده وغبائه وإستبداده وظلمة ).

شهر رجب، أوله الأحد
أخبار النيل
( فيه نودي على النيل ثلاثة أصابع. وقد جاء القاع خمسة أذرع وسبعة أصابع. واستمر يزيد في كل يوم عدة أصابع، بحيث نودي عليه في يوم خمسة عشر إصبعاً. وقل ما عهد مثل هذا فى شهر أبيب . ).
تعليق
المعتاد لدى المقريزى بالذات تتبع أخبار النيل زيادة ونقصا لأن الحياة المصرية كانت تقوم عليه ولا تزال. وكان التقويم القبطى هو المعتمد في قياس فيضان النيل ومدى نقصانه .ّ.
أخبار الحج
1 ـ ( وفيه زينت القاهرة ومصر لإدارة محمل الحاج على العادة، فمنع صدر الدين أحمد بن العجمي المحتسب النساء من الجلوس على حوانيت الباعة، وتشدد في ذلك، فامتنعن. وكانت العادة أن تجلس النساء صدراً من النهار، ويبتن بالحوانيت حتى ينظرن المحمل من الغد فيختلطن بالرجال في مده يومين وليلة، وتقع أمور غير مرضية، فعُدّ منعهن من جميل ما صُنع، لكنه لم يتم، وعُدن فيما بعد كما كُن لإهمال أمرهن. ).
تعليق
1 / 1 ـ كانت هناك مناسبات دينية وأماكن دينية للانحلال الخلقى ، في الموالد وفى الترب والمقابر والمؤسسات الصوفية ، وفى الاحتفال بخروج محمل الحجاج بكسوة الكعبة . وتفصيل هذا في كتابنا عن التصوف والانحلال الخلقى في مصر المملوكية ، ومقالاته منشورة هنا . والكتاب كاملا في موقعنا .
1 / 2 ـ الثقافة الذكورية المتخلفة جعلت المرأة هي المسئولة وحدها عن الانحلال كما لو كانت هي التي تزنى بنفسها ، لذا كانت تصدر الأوامر بمنع النساء من الخروج ، مع إن الانحلال الخلقى كان يشمل الشذوذ بالصبيان .
1 / 3 : وكالعادة يتم تناسى هذه الأوامر لأن العصر كان يتنفس الفواحش .
2 ـ ( وفي يوم الاثنين سادس عشره: أدير محمل الحاج بالقاهرة ومصر على ما جرت به العادة. وقد كثر الاعتناء بأمره، وعملت كسوة الكعبة في غاية الحسن، بحيث لم يعمل مثلها فيما أدركناه. وولي عملها شرف الدين أبو الطيب محمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله ناظر الكسوة، لحسن مباشرته وعفته . )
تعليق
المماليك هم الذين ابتدعوا تقليد سفر المحمل منذ أول عهدهم بالحكم حيث تتزين القاهرة لدوران المحمل. واحتفال دوران المحمل يتكون من فريق من الرمّاحة ( حاملى الرماح ) يرتدون الزى الأحمر ويلعبون بالرمح ، ويتقدمهم رئيسهم ، ولقبه المعلم ، ورتبته أمير مائة مقدم ألف، ومعه أربعة معاونون ورتبة كل واحد منهم أمير طبلخانه، ومعهم أربعون فارساً، يلعبون بالرمح أمام السلطان، ثم ينزلون ليقبلوا الأرض بين يدى السلطان، والعادة أن يعقد السلطان هذا الحفل في شهر رجب.
أخبار الصراع السياسى والفتن بين أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي هذا الشهر: نزل الأمير تنبك البجاسي نائب حلب بعساكرها على مدينة بهسني . وحضر الأمير تغري بردي بن قصروه )
2 ـ ( وفيه خرج الأمير أينال الظاهري نائب صفد عن الطاعة، وذلك أنه كان من جملة مماليك الظاهر ططر، رباه صغيراً، ثم ولاه نيابة قلعة صفد، لما خرج بالمظفر إلى دمشق لحفظ ذخيرة حملها إلى القلعة صفد. فلما قام السلطان برسباي بالأمر بعد ططر، ولي أينال نيابة صفد، فشقّ عليه خلع ابن أستاذه من السلطة، وأخذ في تدبير أمره، حتى أظهر ذلك، وأخرج من كان مسجوناً بقلعة صفد، وهم الأمير يشبك أينالي استادار، والأمير أينال الجكمي نائب حلب، والأمير جلبان أمير أخور. وقبض على من خالفه من أمراء صفد وأعيانها. فكتب السلطان إلى الأمير مقبل الحسامي المؤيدي حاجب دمشق باستقراره في نيابة صفد، وأن يستمر إقطاع الحجوبية بيده، حتى يتسلم صفد، وكتب إلى الأمير تنبك ميق نائب الشام أن يخرج بالعسكر إلى قتال أينال بصفد . ).
تعليق
ثار إينال الظاهرى نائب صفد بحجة قيامه بحق السلطان الطفل المعزول ابن ططر ، واخرج الأمراء المحبوسين وإعتقل من خالفه ، فأمر برسباى حاجب دمشق ان يتولى صفد مع إحتفاظه بمنصبه حاجبا على دمشق ، على ان يحارب إينال الظاهرى والى صفد المعزول ، وأمر والى الشام أيضا بحرب إينال . هو صراع أكابر المجرمين على السلطة .
3 ـ حركة تنقلات بين الأمراء أكابر المجرمين. ( وفي خامس عشرينه: قدم كتاب نائب الشام بمجيء أينال الجكمي ويشبك أينالي وجلبان من صفد إلى دمشق طائعين، فدقت البشائر بقلعة الجبل . )
4 ـ ( وفي سابع عشرينه: قدم الأمير فارس نائب الإسكندرية باستدعاء، فخلع عليه، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألفاً. وخلع على الأمير أسندمر النوري أحد مقدمي الألوف، واستقر في نيابة الإسكندرية.).
أخبار فتن الأعراب :
1 ـ ( وفيه كانت وقعة بين الأمير يونس نائب غزة وبين عرب جرم، هزموه فيها، وقتلوا عدة من عسكره .)
2 ـ ( وفيه كثرت الحروب والفتن والغارات والنهب والتخريب ببلاد الصعيد من عربانها. )
أخبار فساد القضاة
1 ـ ( وفي خامس عشره: توجه الهروي عائداً إلى القدس، بعد ما أهدى للسلطان هدية بنحو خمسمائة دينار، سوى ما أهداه للأمراء. وكاد أن يلي القضاء على أنه يقوم في كل سنة بثمانين ألف دينار. ويثبت في جهة جلال الدين بن البلقيني زيادة على ثمانين ألف دينار. ويحمل معجلاً خمسة آلاف دينار، فألزم أن يكتب خطة بذلك كله، فأنكر أن يكون قال شيئاً من ذلك، فانحل أمره، ورده الله خائباً، ولله الحمد . ). لم يفلح الهروى في العودة لمنصب قاضى القضاة برغم الرشوة الضخمة التي عرضها ، لأنه رفض أن يكتب إقرارا بما وعد . ( شُغل نصب وحرامية مع بعضهم ).!!
2 ـ ( وفي سلخه: نودي من كانت له ظلامة فعليه بالاصطبل. وكان السلطان قد ترك جلوسه للحكم منذ قدم خبر صفد، فعاد للجلوس للنظر في محاكمات المتخاصمين، على عادته.). إلغاء للقضاء والقضاة بسبب فسادهم.! .

شهر شعبان، أوله الاثنين.
أخبار فساد القضاة والفقهاء
1 ـ ( فيه تكرر النداء بجلوس السلطان للحكم . ). إلغاء للقضاء والقضاة بسبب فسادهم.! .
2 ـ ( وفي ثانيه: جلس للحكم، واستدعى مدرسي المدرسة القمحية بمصر، وأوقفهم بين يديه، وألزمهم بعمل حساب أوقافها وعمارتها، مما تناولوه من ريعها فيما سلف، وأخرج وقفها- وهو ضيعتان بالفيوم يقال لهما الأعلام والحنبوشية- لمملوكين من مماليكه، ليأكلوها إقطاعاً بينهما. وندب الأمير أزبك رأس نوبة للكشف عن المدرسة، فوجد الخراب قد أحاط بها من جوانبها، وصار ما هنالك كيمان تراب، وهي قائمة بمفردها ليس بجانبها عامر ولا بها ساكن، سوى رجل يحرسها، فطلب السلطان مدرسيها الخمسة، وأوقفهم بين يديه بالاصطبل، وألزمهم بعمل حسابها، والقيام بما استأدوه من العلوم، فخرجوا في الترسيم . )، أي قبض عليهم .
تعليق
كان الفقهاء ومنهم القضاة هم الذين يديرون الأوقاف المرصدة على المؤسسات الدينية والتعليمية ، وكان الإنفاق عليها من ضياع موقوفة على هذه المؤسسات . وبسبب فسادهم تحولت بعض تلك المؤسسات الى خرائب ، بينما يأكل القائمون عليها الريع القادم اليها . قام برسباى بالتحقيق مع الفقهاء القائمين على المدرسة القمحية ، وكانت من قبل من أشهر المؤسسات التعليمية الدينية ، وعرض لها المقريزى في كتابه ( الخطط ) ، ولكن تحولت الى خرابة في عهد برسباى . لذا صادر برسباى الضيعتين التابعتين لها ، وأعطاهما لاثنين من مماليكه إقطاعا ، وألزم الفقهاء الحرامية بتأدية ما سرقوه من ريعها، وحبسهم حتى يدفعوا ما نهبوه .
3 ـ ( وفيه نظر السلطان في أمر جامع عمرو بن العاص. ) , نفس الحال مع الأوقاف المُرصدة لجامع عمرو بن العاص .
4 ـ ( وأخذ الناس في تتبع عورات القضاة والفقهاء لميل ولاة الشوكة إلى معرفة ذلك، فإن الأحدوثة عنهم قبحت، والقالة فيهم شنعت :


وكنا نستطب إذا مرضنا ** فجاء الداء من قبل الطبيب )
تعليق
بسبب هذا أخذ الناس في تتبع فساد الفقهاء والقضاة ، بتشجيع المماليك . والمقريزى يستشهد ببيت شعر يعبّر عن حسرته .!
أخبار النيل
( وفي يوم الخميس رابعه- الموافق له تاسع عشرين أبيب-: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً. وهذا من النوادر، مع أن زيادته في هذا العام كانت مما يتعجب له، وذلك أن العادة التي عهدت أن زيادة النيل في شهر أبيب تكون قليلة، حتى أنه ليقال قديما: " في أبيب، يدب الماء دبيب ". وأما مسرى فأيام الزيادة الكثيرة، ويقال لها عرس النيل وهي مظنة الوفاء حتى يقال: " إذا لم يوف النيل في مسرى فانتظره في السنة الأخرى." هذه عادة الله التي أجراها بين خلقه في أمر نيل مصر، وربما وقع الأمر في النيل بخلاف ذلك، فيعد نادراً. واتفق في هذه السنة أنه منذ ابتدأت الزيادة لم تزل زيادته كبيرة بحيث نودي عليه في يوم بزيادة خمسين إصبعاً، فكثر تعجب الناس لذلك، ثم ازدادوا تعجباً لوفائه قبل مسرى، ولله الحمد. وتولى تخليق المقياس وفتح الخليج الأمير الكبير بيبغا المظفري )
ضحايا الصراع بين أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: أخرج بالمظفر أحمد بن المؤيد شيخ وأخيه من قلعة الجبل نهارا ، وحُملا في النيل الى الإسكندرية ، فكانت هذه موعظة . فإن المؤيد أخرج أولاد أستاذه الملك الناصر فرج الى الإسكندرية ، فعومل مثل ذلك ، وأخرج الله ابنيه الى الإسكندرية ، كما يدين الفتى يدان ). الطفل الذى كان سلطانا ثم عزلوه يطردونه من القلعة . هذا تقليد في صراع أكابر المجرمين .
حركة تنقلات بين أكابر المجرمين لأخذ الرشوة :
( وفى ثانى عشرينه خلع على بدر الدين محمود العينتابى ، وأعيد الى حسبة القاهرة عوضا عن صدر الدين أحمد بن العجمى . )
أخبار الحروب الصليبية البحرية
( وفى هذا الشهر كثر عبث الفرنج بالسواحل ، وهجم في الليل غرابان ( سفينتان حربيتان ) ، فيهما طائفة من الفرنج على ميناء الإسكندرية ، فوجدوا فيها مركبا للتجار ، فيه بضائع بنحو مائة ألف دينار ، فاقتتلوا معهم عامة الليل ، فخرج الناس من المدينة ، فلم يقدروا على الوصول اليهم لعدم المراكب الحربية عندهم . ولا وصلت سهامهم الى الفرنج ، بل كانت تسقط في البحر ، فلما طال الحرب بين الفرنج والتجار المسلمين واحترقت مراكب التجار ، نجوا في القوارب الى البر ، فأتت نار الفرنج على سائر ما في المركب من بضائع حتى تلفت باجمعها ، ومضى الفرنج نحو برقة ، فأخذوا ما قدروا عليه . ثم عادوا الى الإسكندرية ، ومضوا الى نحو الشام . ).
هنا غارة بحرية على الإسكندرية حيث مراكب التجار المحملة بالبضائع الشرقية من الهند . والتجار هم الذين واجهوا الهجوم بسفن عادية ، وفشلوا . واتجه الفرنج الى برقة غربا ثم عادوا الى الإسكندرية ، ثم الى الشام . أتى أولئك الفرنجة من قبرص ، حيث كان فيها جزء يسيطر عليه الأوربيون الصليبيون . وتكرار هذه الهجوم جعل السلطان برسباى يفتح قبرص ، ويجعلها تابعة له ..ونتعرض لهذا في كتاب قادم .
شهر رمضان : أوله الأربعاء :
أخبار المؤسسات الدينية
( في تاسعه أعيد الأذان بمئذنتى مدرسة السلطان حسن ، بسوق الخيل . )
( وفيه فُتح باب مدرسة السلطان حسن الذى سده الظاهر برقوق ، وهدم درجه . )
لا يزال مسجد السلطان حسن تحفة معمارية تحظى بإعجاب الأثريين الغربيين. وقد تعرض لاعتداء من السلطان الظاهر برقوق الذى أنهى دولة بنى قلاوون التي ينتمى اليها السلطان حسن من ذرية أخر سلطان بارز وهو الناصر محمد بن قلاوون . وقد أحسن السلطان برسباى أن أعاد الأذان بالصلاة الى مئذنتى مسجد السلطان حسن ، وأعاد فتح بابه .
أخبار الفساد
( وفى حادى عشره كان نوروز القبط بمصر ، والنيل قد بلغ تسع عشرة ذراعا وست أصابع ، فعمّ به النفع عامة أراضى مصر ، إلا أن الجسور لم يعتن بها لسوء سيرة متوليها ، فقطع ماء النيل منها عدة مقاطع ، أفسدت أكثر الزراعات الصيفية كالسمسم والبطيخ ونحوه ، فكان بلوغ النيل هذا القدر في النيروز عجبا آخر . ).
بينما ينشط أكابر المجرمين في الفساد ومصادرة أموال العباد يهملون الجسور التي بها يتفرع النيل الى ترع تتفرع لتصل الى الأراضى الزراعية في القرى. كان فرعون موسى فخورا بانجازاته في تحويل نهر النيل الى أنهار ، فقال في مؤتمر عقده بين قومه : ( يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ). فرعون موسى كانت عاصمته في الصعيد ( الوجه القبلى )، وقد تحول الوجه القبلى الى خراب في عصر الفرعون برسباى .
أخبار الأسعار
1 ـ ( وفيه إتضع ( أي إنخفض ) سعر الغلال ، حتى أبيع الأردب القمح بمائة وخمسن درهما من الفلوس ، وعنها ( أي يساوى ) يومئذ سبعة دراهم ونصف فضة أشرفية ، وأبيع الشعير بخمسة وثمانين درهما الأردب ، عنها أربعة دراهم وربع فضة ، وأبيع الفول بثمانين درهما الأردب ، عنها أربعة دراهم فضة . )
2 ـ ( وفيه ارتفع سعر السيرج ( هو زيت السمسم )، حتى أُبيع الرطل بثمانية عشر درهما من الفلوس ، ولم يعهد مثل ذلك . وسببه غرق السمسم ، فقلّ وجوده . )

أخبار أكبر أكابر المجرمين
( وفى يوم الاثنين عشرينه جلس السلطان بدار العدل ، وعمل به الخدمة ، وأحضرت رسل الفرنج الفرنسيس بهدية ، وهذا أول جلوس جلسه السلطان بدار العدل ). أول جلوس للسلطان برسباى في دار العدل بالقلعة ، وفيه عقد المقابلات وقابل رسل الفرنج .
أخبار التنقلات بين أكابر المجرمين
1 ـ ( وفى حادى عشرينه خلع على الأمير أيتمش الخضرى، واستقر استادارا عوضا عن الأمير أرغون شاه.)
2 ـ ( وفى ثالث عشرينه خُلع على صدر الدين أحمد بن العجمى ، واستقر في نظر الجوالى . )
3 ـ ( وفيه خُلع على الأمير أرغون شاه أحد أمراء دمشق ، واستقر كاشف الوجه القبلى ، عوضا عن بلبان الجمالى . ). السلطان برسباى هو المستفيد من هذه التنقلات: سياسيا حيث لا يريد أن يستمر أحدهم في وظيفة فيتحول الى مركز قوة ، وماليا : بأخذ الرشوة .
أخبار فساد الفقهاء والقضاة
( وفى سابع عشرينه أن السلطان رسم أن لا ينزل أحد من الفقهاء عن وظيفته في وقف من الأوقاف ، وهدّد من نزل منهم عن وظيفته ، فامتنعوا عن النزول ، ثم عادوا كما كانوا ، ينزل هذا عن وظيفته من الطلب في الدروس أو التصوف في الخوانق ، أو القراءة ، أو المباشرة ، بالمال ، فيلى الوظائف غير أهلها ، ويُحرم مستحقوها ، فإن الوظائف المذكورة صارت بأيدى من هي بيده ، ينزلها منزلة الأموال المملوكة ، فيبيعها إذا شاء ، ويسمى بيعها نزولا عنها ، ويرثها من بعده صغار ولده . وسرى ذلك حتى في التداريس الجليلة والأنظار المعتبرة ، وفى ولاية القضاء بالأعمال ، يليه الصغير من بعد موت أبيه ويُستناب عنه كما يُستناب في تدريس الفقه والحديث النبوى ، وفى نظر الجوامع ومشيخة التصوف .
فيا نفس جدى إن دهرك هازل .!!).
تعليق
1 ـ هذا من عظمة المقريزى مؤرخا . كان مستقلا مع كونه فقيها . إستقلاله عن أكابر المجرمين جعله ينتقدهم ، ويفضح أوجه الفساد المعتادة التي تجاهلها المؤرخون من أكابر المجرمين من أمثال بدر الدين العينى وابن حجر وأبى المحاسن وابن الصيرفى والسخاوى .
2 ـ كان من الفساد الذى أصبح عُرفا بيع الوظائف وتوارثها . الذى يحصل على وظيفة بالرشوة تصبح ملكا له يبيعها لمن يدفع له أكثر ، ويرثها إبنه ، وليس مهما إن كان يصلح أو لا يصلح لهذه الوظيفة . هي بالطبع وظائف تستلزم مؤهلات من الخبرة والعلم ، ولكن ضاع كل هذا ، وكان هذا من أسباب ضياع العدل وتأخر العلم وفشل التعليم .
3 ـ رائع أن يعقّب المقريزى قائلا يهاجم عصره : ( فيا نفس جدى إن دهرك هازل .!!). يدعو نفسه بالتمسك بالجد في عصر ساده الهزل .
أخبار التعصب ضد أهل الكتاب
( وفيه أُغلقت كنيسة قمامة بالقدس عن أمر السلطان .)
أخبار الانحلال الخلقى
( وفى سلخه نودى بمنع النساء من الخروج الى الترب في أيام العيد ، وهددن بعقوبة إن خرجن ، فامتنع كثير منهن عن الخروج اليها. ) .
تعليق
1 ـ إمتنع كثير منهن . والعادة أن يتم تناسى المنع .
2 ـ على أن هناك سببا في هذا المنع للنساء . فالدولة المملوكية تبيح شريعتها البغاء ، وتجعل ضريبة عليه تدفعه ضامنة المغانى . وحتى تكثر الجباية لا بد من منع الانحلال الشخصى ليتوجه الزُّناة الى دور البغاء . وهنا نفهم أن المنع كان على النساء وليس على الرجال ، حتى يتوجه الرجال الى شراء المتعة الحرام بدلا من الحصول عليها مجانا .

شهر شوال . أوله الجمعة
أخبار أكبر أكابر المجرمين
( فيه صلى السلطان صلاة العيد بجامع القلعة . ).
تعليق
الحرص على الصلاة من سمات أكابر المجرمين ، هو نفاق وتدين سطحى يشجع على المزيد من الاجرام طبقا للقاعدة الأساس في الأديان الأرضية في ضمان الجنة بتأدية عبادات لا تنهى النفس عن الفحشاء والمنكر . والعادة أن أكابر المجرمين من الفقهاء والقضاة يحوطون بالسلطان المجرم . كان هذا من عصور الخلافة واستمر حتى الآن .
أخبار فساد القٌضاة
1 ـ ( وفى رابعة رُفعت يد قاضى القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهنى الحنفى عن وقف الطُرحاء ، ثم أعيد اليه بعد أيام ، وكان لما رُفعت يده عنه نودى : " من مات له ميت وعجز عن كفنه فعليه بمصلى المؤمنى تحت القلعة . ) .
تعليق
كان هناك وقف خيرى ( من أفراد ) لتكفين الموتى الفقراء . وكان قاضى القضاة الحنفى زين الدين التفهنى هو المشرف عليه . ظهر فساده فعزله السلطان ، دفع التفهنى مالا للسلطان فأعاده بعد أيام ، ولكن مع كف يده عن السرقة بإعلان أن مصلى المؤمنى في القلعة تفتح أبوابها لتكفين الموتى الفقراء .
2 : ( وفيه رُفعت يد قاضى القضاة ولى الدين أبو زرعة العراقى الشافعى عن وقف قراقوش ، وفوّض السلطان أمره الى التاج الشوبكى والى القاهرة ، واستمر كذلك فلم يعد الى القضاة . فكان هذا مما يُستشنع . وكثرت الشناعات بمقت السلطان للقضاة والفقهاء ، وأنه يريد الكشف عما بأيديهم من الأوقاف . )
تعليق
2 / 1 ـ قاضى القضاة الشافعى لم يتخلف عن سباق الفساد ، خصوصا وهو رقم (1 ) في القضاة الأربعة ، وهو الذى يستحوذ على إدارة الكثير من الأوقاف والوظائف . الأوقاف الأهلية التي مات أصحابها كانت مرتعا رائعا للسرقة . ومنها وقف الأمير بهاء الدين قراقوش الذى بنى القلعة في حياة السلطان الناصر صلاح الدين . أدمن قاضى القضاة الشافعى سرقته فحسده برسباى ، وأخذه منه وعهد به الى والى القاهرة ( مدير الأمن فيها ) وظل بعدها وقف قراقوش بعيدا عن تحكم القضاة جميعا بسبب شهرتهم بالسرقة .
2 / 2 ـ شهرة القضاة بالسرقة واختلاس أموال الوقف الذى كان منوطا بهم حمايته جعلت أكبر أكابر المجرمين برسباى يظهر مُصلحا ، خصوصا وقد تكاثرت الأقاويل بفضائح القضاة وسرقاتهم ، فتشجع الناس على كشفهم خصوصا في سرقات أموال الأوقاف .
2 / 3 ـ تعبير المقريزى رائع ، وهو يقول : ( . فكان هذا مما يُستشنع ).!
3 ـ ( وفى هذه الأيام أُبتدىء بعمل الخربة ـ التي بخطّ الركن المخلّق من القاهرة ، وكالة . وفى هذه الخربة موضعها الآن داخل الدرب الأصفر ، حيث كان يُعرف قديما بالمنحر . وبابها من وسط سوق الركن المخلق ، عملته خوند بركة أم السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون ، أعوام بضع وسبعين وسبعمائة ليكون داخله قاعة ، بجوار القيسارية التي أنشأتها . وعُملت برسم بيع الجلود ، فماتت قبل عمارتها ، وقد فرغت واجهة الباب فقط ، فتعطلت دهرا الى أن أخذ الأمير جمال الدين يوسف الأستادار ، القيسارية المذكورة من وقف أم السلطان على مدرستها ، بخط التبّانة ، من قلعة الجبل ، وصيّرها من جُملة أوقافه على مدرسته التي أنشأها بخط رحبة باب العيد ، وضع يده أيضا على هذه الخربة . ومات قبل أن يعمل فيها شيئا ، فلم تزل معطلة حتى وقع اختيار السلطان في هذا الوقت على عملها وكالة ، فابتدىء بعملها . ).
تعليق
عملت خوند بركة أم السلطان الأشرف شعبان القلاوونى قاعة لبيع الجلود بجانب قيساريتها ، والقيسارية هي وكالة كبرى تضم محلات ودكاكين . ماتت السيدة قبل أن تكتمل عمارتها فاصبحت خرابا . ثم إستولى أحد أكابر المجرمين السابقين ( جمال الدين الاستادار ) على القيسارية وأوقاف خوند بركة ، وضمّها مع الخرابة المذكورة الى أوقافه على مدرسته ، ومات ، فظلت على نفس الحال الى هذا العام . قرر برسباى الاستيلاء عليها وعملها وكالة . وطبعا يحتاج الى تمويل . جاء التمويل في الخبر التالى :
4 ـ ( وفى يوم السبت تاسع هذا الشهر رسم بإعادة مكس دار التفاح الذى أبطله الملك المؤيد شيخ ، فأُعيد بسفارة الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ ، وطول سعيه فيه ، عامله الله بعدله ، فانه جدّد مظلمة يتلف من أموال الناس بنهب الظلمة الفُسّاق ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقليون.! )
تعليق
4 / 1 : المكس هو ما يعرف الآن بالجمارك . ومكس دار التفاح يعنى مركز جمارك داخلية على التجار الذين يمرون ببضائعهم . كان ظلما أبطله السلطان المؤيد شيخ ، ثم أعاده برسباى بعد أن ظل الوزير تاج الدين يقنع السلطان برسباى بإعادته ، فأعاده لأنه إحتاج الى تعمير الوكالة التجارية المشار اليها سابقا.
4 / 2 ـ المقريزى هو في احتجاجه الغاضب قال عن الوزير: ( عامله الله بعدله ، فانه جدّد مظلمة يتلف من أموال الناس بنهب الظلمة الفُسّاق ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقليون. ) . كان ينبغي على المقريزى أن يوجّه نقده الى السلطان وليس الوزير فقط .
أخبار الصراع بين أكابر المجرمين
( وفي سابع عشرينه: قدم من صفد ثلاثون رجلاً، ممن أسر من أصحاب الأمير أينال، فقطعت أيدي الجميع إلا واحداً، فإنه وسط بالسيف نصفين، وأخرج الذين قطعت أيديهم من يومهم إلى بلاد الشام، فمات عدة منهم بالرمل. وكان من خبر صفد، أن الأمير مقبل لم يزل على حصارها إلى يوم الاثنين رابع شوال هذا، فنزل إليه أينال بمن معه، فتسلم أعوان السلطان القلعة، وعندما نزل أينال أمر أن تفاض عليه خلعة السلطان ليتوجه أميراً بطرابلس، وكان قد وعد بذلك، وترددت الرسل بينه وبينهم مراراً، حتى استقر الأمر على أن يكون من جملة أمراء طرابلس، وكتب له السلطان أماناً ونسخة يمين، فانخدع البائس ونزل من القلعة، فما هو إلا أن قام ليلبس الخلعة، وإذا هم أحاطوا به وقيدوه وعاقبوه أشد عقوبة. ثم قتلوه، وقتلوا معه مائة رجل ممن كان معه بالقلعة، وعلقوهم بأعلاها . ).
تعليق
برسباى أكبر أكابر المجرمين يعطى أمانا ثم ينقضه ، خدع خصمه الثائر في صفد ، وعندما سلّم نفسه قتلوه بعد تعذيب شديد ، وأسرفوا في التنكيل في أتباعه ، أعدموا أحدهم بقطعه نصفين ، وقطعوا أيادى الباقين .
( وفي هذا الشهر: تسلم الأمير تغري بردي بن قصروه قلعة بهسني، ونزل بأمان، فقيد وسجن بقلعة حلب، فأمن السلطان بعد تخوفه من جهة صفد وتغري بردي. ) .
أخبار الحج
( وفي يوم الاثنين رابع عشره: برز محمل الحاج بكسوة الكعبة صحبة الطواشي افتخار الدين ياقوت- مقدم المماليك السلطانية- ونزل خارج القاهرة، ثم توجه إلى بركة الحاج على العادة . )
أخبار النيل
( وفيه انتهت زيادة ماء النيل الى عشرين ذراعا ونصف ذراع ، وابتدأ نقصه من الغد ، وهو رابع عشرين توت . )

شهر ذي القعدة، أوله الأحد:
أخبار السلطان أكبر أكابر المجرمين
1 ـ ( في ثانيه: ركب السلطان من القلعة إلى مطعم الطير تجاه الريدانية خارج القاهرة، وألبس الأمراء الأقبية الصوف لملابس الشتاء كما كان المؤيد يفعل، ثم عبر القاهرة من باب النصر، ودخل عمارتها بخط الركن المخلق، وخرج من باب زويلة إلى القلعة، ونثر عليه الدنانير والدراهم، وهذه أول ركبة ركبها في سلطته . )
2 ـ ( وفي سابعه: ركب السلطان إلى جهة بركة الحجاج، وعاد )
أخبار الفساد
( في رابعه: اختفي الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ، فخلع على الأمير أرغون شاه، وأضيفت إليه الوزارة، فصار وزيراً أستادار، وذلك في يوم الاثنين ثامنه، فظهر ابن كاتب المناخ في عاشره، وصعد إلى القلعة فعفي عنه، ولزم بيته بطالاً على حمل مال قام ببعضه .)
تعليق
الوزير الذى أقنع برسباى بإعادة الجمارك اختفى ، ربما لأن سرقاته في الجمارك أزعجت السلطان ، فأعطى السلطان منصب الوزارة لأرغون الاستادار . جمع الوزير مالا وأعطاه للسلطان فرضى عنه .
( وفي خامسه: عزل الأمير أيتمش الخضري، وأعيد الأمير أرغون شاه أستادارا، ولم تشكر سيرة أيتمش لعتوه وشدة ظلمه، مع عجزه عن القيام بما وليه . ) .

شهر ذي الحجة، أوله الاثنين
أخبار فساد القضاة
( وفي يوم السبت سادسه: خلع على علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، وفوض إليه قضاء القضاة، عوضاً عن ولي الدين أبو زرعة أحمد بن العراقي، بمال كثير . )
تعليق
ابن ( شيخ الإسلام ) يدفع رشوة كبيرة ليتولى منصب أبيه ( شيخ الإسلام السابق ) .
أخبار الصراع بين أكابر المجرمين في ينبع
( وفي سابع عشرينه: نزل الحاج بينبع، وقد استعد من فيهم من المماليك السلطانية مع الأمير جانبك الخازندار أحد أمراء العشرات لحرب الشريف مقبل متولي ينبع، وقد قدم عقيل بن وبير الحسني من القاهرة صحبتهم، بعد ما خلع عليه بها، في شوال، واستقر أمير ينبع، شريكاً لعمه مقبل، بمال التزم به للدولة، فلما علم مقبل بذلك، نزح عن ينبع إلى واد بالقرب منها. ودخل الحاج إلى ينبع في ذي القعدة، فبعث أمراء الحاج الثلاثة، وهم افتخار الدين ياقوت أمير المحمل، وأسندمر الأسعردي من أمراء العشرات أمير الركب الأول، وجانبك أمير الركب الثاني، إلى الشريف مقبل حتى يحضر إليهم، فجرت أمور آخرها، أن يستقر عقيل شريكاً له كما كان أبوه وبير، وأن يكاتب السلطان بذلك. ومهما ورد المرسوم به اعتمده. ورحل الحاج من ينبع إلى مكة، وقد وجهوا نجّابا إلى السلطان بكتبهم، وتركوا عقيلاً بينبع، فاقتتل هو وعمه، فظفر به عمه، وقيده، وأقام بينبع حتى عاد الحاج إليها، فاستعد الأمير جانبك- كما قلنا- وركب في جمع من المماليك وغيرهم، ليلة الأحد ثامن عشرين ذي الحجة هذا، وطرق مقبل على حين غفلة، فكانت بينه وبين مقبل وقعة قتل فيها جماعة من الأشراف بني حسن، وجرح كثير من العربان والعبيد، وانهزم مقبل، فمدت المماليك أيديها، وانتهبت ما قدرت عليه، وسلبت النساء الشريفات ما عليهن، وساقوا خمسمائة وخمسين جملا ، وثلاثين فرساً، وأمتعة كثيرة، ومالا جزيلا، وعادوا من يومهم إلى ينبع، ومعهم عقيل قد خلصوه من الأسر ورحلوا، وقد أقام عقيل بينبع أميراً، فلم يكن إلا ليال حتى عاد مقبل، واحترب مع عقيل، فانهزم مقبل، وقتل بينهما جماعة، كل ذلك بسوء الطبع والطمع في القليل ).
تعليق
1 / 1 ـ ( ينبع ) على البحر الأحمر كانت الميناء الأهم للحجاز المملوكى ، سكنها مصريون من الصعيد ، وأصبحت المحطة البرية والبحرية للحجاج، والتجار من الشام ومصر ، وسوقاً مزدهرة للبيع والشراء . هذا يفسر الصراع بين الشريف عقيل الذى عيّنه برسباى مكان أبيه وبين وعمّه مقبل . وهو صراع (غير شريف ) بين الأشراف . المقريزى المتعاطف مع الأشراف قال عبارة شديدة الدلالة : ( كل ذلك بسوء الطبع والطمع في القليل ).
1 / 2 : وقد كان أشراف الحجاز في مكة والمدينة وينبع من أسوأ أكابر المجرمين يقتتلون فيما بينهم ولا يتورعون عن قتل الحجاج وسلبهم ، امتدّ تاريخهم الأسود هذا من العصر العباسى الثانى حتى العصر الحديث . كانوا لا يحترمون الحرم ولا الأشهر الحرم. وفى الخبر السابق عن القتال نلاحظ أنه كان في شهر ذي الحجة .
أخبار الحج .
( وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الحجاج.) قبل وصول الحجاج كان يصل مبشرون بقرب قدومهم بالسلامة ..أو بغيرها .
أخبار المستضعفين في الأرض
( وفي هذا الشهر: اتفقت نادرة فيها عبرة لذوي النهي والأبصار، وهو أن رجلاً من فقراء الناس الذين لا يكادون يجدون القوت، له امرأة وبنات منها، يسكنون بخرابات الحسينية، ظاهر القاهرة، فلما كان يوم عيد النحر، ذبح أرباب اليسار ضحاياهم واشتووا لحومها، فهاجت شهوات بنات هذا الرجل لأكل اللحم، وطلبن منه فلم يجد سبيلاً إلى قضاء شهواتهن، وأخذ يعللهن، وهن يتصايحن وينتحبن بالبكاء، وقلبه يتقطع عليهن حسرات طول نهار العيد حتى جنة الليل، ورقدن. فكان يسمع في الليل حركة تتوالى طول ليلته، وهو وأم أولاده لشدة الحزن قد ذهب نومهما، حتى أصبحا فإذا كوم كبير من اللحم في دارهم قد باتت العرس تنقله طول ليلها، لا يدرون من أين أتت به، فسرا بذلك سروراً كبيراً، وأيقظ بناته فاشتووا من ذلك اللحم، فأكلوا حتى شبعوا، وطبخوا منه وقد درا باقيه، فكفاهم عدة أيام. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب .! ) . لأنه من المستضعفين في الأرض فلم نعرف إسمه مع شيوع حكايته .
أخبار الحروب بين أكابر المجرمين في آسيا الصغرى
1 ـ ( وفيها كانت حروب ببلاد الروم بين أهل حصنين بالقرب من مدينة برصا ، في أحدهما طائفة من الروم المسلمين ، وفى الآخرى طائفة من النصارى ، فامتدت الحرب أياما ، حتى كان بعض الليالى إذا هم بصيحة من حصن النصارى ، كادت تنخلع منها قلوب المسلمين ، فلما اصبحوا إذا بجميع من في الحصن من النصارى قد هلكوا ، هم ودوابهم ، فتسلموا ما في الحصن بلا مانع . ). هنا صراع بين العثمانيين والمسيحيين في آسيا الصغرى ( تركيا الآن ) ، وكانت معرفة ببلاد الروم .
2 ـ ثم هنا صراع داخلى في البيت العثمانى بين السلطان مراد وأخيه مصطفى ، قال عنه المقريزى : ( وفيها سار مراد بن محمد قرشجى بن عثمان في شهر رجب من برصة الى اصطنبول ـ وهى قسطنطينية ـ ونزل عليها أول شعبان ، وقطع عامة أشجارها ، ومنع عنها الميرة ، حتى فرغ شهر رمضان من غير حرب ، سوى مرة واحدة في يوم الجمعة ثالث رمضان ، فانه زحف على المدينة فكان بينه وبين أهلها حرب شديدة ، فتخلى عنه عسكره ، وبينما هو في ذلك جاءه أخوه مصطفى ، وكان في مملكة محمد باك بن قرمان ، فتفرق عن مراد عسكره ، وكانوا نحو مائة وخمسين ألفا، حتى بقى في زهاء عشرين ألفا وإلتجأ مصطفى الى اصطانبول ، وواقف مراد نحو شهر ، وقد عجز عنه مراد لمخالفة عسكره عليه .)
أخبار المناخ والأوبئة والنيل والأسعار في هذه السنة موجز
( وفي هذه السنة: كثرت الأمطار بأرض الحجاز وبلاد الشام، وسقط بقرية تسمى حداثا من جبال صفد برد لم يعهدوا مثله، بلغ وزن بردة واحدة سبعة أرطال ونصف بالدمشقي، عنها ثلاثون رطلاً مصرية، ووجدت بردة على باب دار قدر الثور. وكان سقوط هذا البرد ليلة السبت سادس ذي الحجة هذا .) ( وفيها فشت الأمراض بالقاهرة والوجه البحري، عند انحطاط ماء النيل في فصل الخريف وفيها انحل سعر الغلال، ورخت رخاءاً زائداً.). هذا الخبر ختام أخبار السنة كلها .
أخيرا
نلاحظ أن المقريزى لم يذكر خبرا هاما في هذا العام ؛ وهو إستجلاب برسباى مماليك ( جلبان ) من أرذل الناس في القوقاز، أثاروا القلاقل والفتن وسلبوا الأموال وهتكوا الأعراض.!









الفصل الثانى : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 826
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى عن سنة 826 :
المقدمة
1 ـ ( أهلت وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي، والأمير الكبير الأتابك بيبغا المظفري، والدوادار الكبير الأمير سودن بن عبد الرحمن، وأمير سلاح الأمير قجق، وأمير مجلس الأمير أقبغا التمرازي، وأمير أخور الأمير قصروه، نوبة النوب الأمير أزبك، والوزير أستادار الأمير أرغون شاه، وكاتب السر علم الدين داود بن عبد الرحمن بن الكويز، وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله وقاضي القضاة الشافعي علم الدين صالح بن البلقيني، ونائب الشام الأمير تنبك العلاي ميق، ونائب حلب الأمير تنبك البجاسي، ونائب طرابلس الأمير أينال النورزي ونائب صفد الأمير مقبل الدوادار ونائب، حماة شار قطلوا .) ( وأسعار الغلال رخيصة . والأمراض في الناس فاشية.).
تعليق :
هذه لمحة سريعة عن أكابر المجرمين في هذا العام ، وأهمهم من حيث الظلم الاستادار أرغون الذى خصّصه السلطان لسلب ونهب الفلاحين في الدلتا والصعيد، وكالعادة يحتفظ بجزء منها لنفسه .وكالعادة ـ وطبقا للشريعة السنية العملية ــ يعزله السلطان ويفرض عليه غرامة ، ويولى غيره . وهكذا . والعادة أن العسكر ( المملوكى في العصور الوسطى ، والعسكر الحاكم الآن في مصر ) ـ لا يجيدون سوى الجباية . والتفصيلات عن ارغون في أخبار هذه السنة 826 .
نتابع تفصيلات هذا العام في ثلاثة مقالات. هذا أولها :
1 ـ ( شهر الله الحرام، أوله الأربعاء.
في ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج وقدم المحمل ببقية الحاج من الغد .
وكانت سنة مشقة إلى الغاية، توالت فيها الأمطار الخارجة عن الحد، زيادة على أربعين يوماً، وأتت سيول مهولة مع غلاء الأسعار بمكة، فأبيع الحمل الدقيق بخمسة وثلاثين ديناراً، وأبيعت ويبة شعير في الأزلم ( أي السيقان ) بخمسين مؤيديا ( أي بالدرهم التي سكّها وضربها السلطان المؤيد شيخ ) ، فيكون الأردب الشعير على ذلك بألفين ومائة درهم من نقد القاهرة، وكثر موت الجمال، ومشت النساء والصغار عدة مراحل، ومات كثير من الناس، واشتد الحر، ثم اشتد البرد، ومع هذا كله كثرة الخوف .) . سوء المناخ ، غلاء أسعار في مكة ، ووباء و خوف وموت في الناس والابل .
2 ـ تنقلات بين أكابر المجرمين :
( وفي ثامن عشرينه: أعيد زين قاسم بن البلقيني إلى نظر الجوالي، عوضاً عن صدر الدين أحمد بن العجمي على مال التزم به . ). أي شراء الوظيفة بدفع رشوة، وكان هذا تشريعا سُنيّا ، يطبقه السلطان والقضاة .
( وفيه أنعم على الأمير جانبك الخازندار بإمرة طبلخاناه من جملة إقطاع الأمير فارس نائب الإسكندرية، كان ) . أي نائب الإسكندرية السابق الذى كان.
( شهر صفر، أوله الخميس:
في ثامن عشره: جمع السلطان الأمراء والقضاة ومباشريه، وأحضر جماعة من التجار، وأنكر حال الفلوس، وذلك أنها كما تقدم غير مرة أنها هي النقد الرائج بأرض مصر، فينسب إليها أثمان المبيعات وقيم الأعمال، ثم لما ضرب الملك المؤيد شيخ الدراهم المؤيدية رسم أن تنسب قيم الأعمال وأثمان المبيعات إليها، فعمل بذلك مدة من أيامه حتى مات، فعادت قيم الأعمال وأثمان المبيعات تنسب إلى الفلوس، كما كانت قبل المؤيدية، وحدث في الفلوس مع ذلك ما لم يكن يعهد منذ ضربت، وهو أنه خلط فيها قطع الحديد وقطع النحاس وقطع الرصاص، من أجل أنها تؤخذ وزناً لا عدداً، وتغافل الحكام عن إنكار ذلك فتمادى الحال على هذا من بعد موت المؤيد، حتى صارت القفة من الفلوس التي وزنها مائة رطل لا يكاد يوجد فيها قدر عشرين رطلاً من الفلوس، وإنها هي- كما قدم- ذكره ما بين نحاس وحديد ورصاص وانفتح للصيارفة ونحوهم من ذلك باب ربح، وهو أنهم صاروا ينقون الفلوس ويبيعونها لمن يحملها إلى الحجاز واليمن وبلاد المغرب، كل قنطار بسبعمائة درهم، فلما بلغ السلطان ذاك أراد أن يضرب فلوساً، فاختلفوا عليه في مقدار وزنها، فأشار بعضهم أن يكون كل ستين فلساً بدرهم أشرفي، وأشار أخرون أن تكون أوزانها مختلفة، فيها ما زنته مثقال، وفيها ما زنته غير ذلك، فجمع الناس كما تقدم ليقوي عزمه على ما يمضيه، فما زالوا به حتى رجع عن تغيير المعاملة بالفلوس التي بأيدي الناس، خوفاً من وقوف أحوال الأسواق، لعنت العامة، فاستقر الرأي على أن نودي بأن يكون سعر الفلوس المنقاة من الحديد والرصاص والنحاس، بسبعه دراهم كل رطل، ويكون سعر هذه القطع بخمسة دراهم الرطل، فامتثل الناس ذلك، وصارت الفلوس صنفين بسعرين مختلفين، ومشى الحال على هذا ) .
التعليق
الفلوس هي العملة الأقل من الدرهم المسكوك من الفضة والدينار المسكوك من الذهب. وكان يتم سكُّ الفلوس من معادن أقل قيمة كالحديد والنحاس والرصاص. وبسبب فقر الأغلبية فقد راج أمرها على حساب الدرهم المؤيدى الفضى الذى سكّه السلطان المؤيد شيخ ، وحدث فيها غشُّ فانهارت قيمتها ، واستفاد من ذلك الصيارفة ، وأراد السلطان برسباى إلغاء التعامل بها ، ثم عدل عن ذلك بتحديد سعرين لها بالنسبة للدرهم المؤيدى . كان الغش في العملات الفضية ( الدرهم ) والذهبية ( الدينار ) و النحاسية ( الفلوس ) أمرا شائعا ، وأحيانا كان يشارك فيه أهل الدولة ، ومن أسف أن الدينار الافرنتى ( الايطالى ) كان مطلوبا في اوقات كثيرة لأن نسبة الذهب فيه كانت أعلى والغش فيه أقلّ. .
( وفيه أبيع الرغيف بنصف درهم فلوساً، بعد ما كان بدرهم لرخاء الأسعار ) تخفيض في سعر الرغيف بعد ضبط سعر الفلوس .
تنقلات بين أكابر المجرمين
( وفي سادس عشرينه: قدم الأمير أينال النوروزي نائب طرابلس باستدعاء، فأكرمه السلطان، وأنزله بدار، ثم طلب الأمير قصروه أمير أخور، وخلع عليه بنيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير أينال المذكور، وأنعم على أينال هذا بإقطاع قصروه ).
تعليق
يحرص أكبر أكابر المجرمين ( السلطان ) على ألّا يبقى أحدهم في منصبه طويلا حتى لا يكون خطرا عليه ، ثم إن السلطان مستفيد من بيع المناصب .
انخفاض سعر الحبوب وأسبابه
( في هذا الشهر: اتضع سعر الغلال، حتى أبيع القمح كل خمسة أرادب بدينار، ولهذا أسباب: أحدها النيل في وقت زيادته، حتى شمل الري عامة أراضي مصر. ثانيها غزارة الأمطار في فصل الشتاء وتواليها أياماً فأخصبت الزروع والمراعي. ثالثها رخاء الأسعار ببلاد الشام وأرض الحجاز فاستغنت العربان عن شراء الغلال، وترك التجار حملها الى الحجاز، فتوفرت بديار مصر. رابعها أن الأمير الوزير شمس الدين أرغون شاه أستادار خرج إلى نواحي الغربية والبحيرة وعسف المزارعين والمتدركين، حتى ألجأتهم الضرورة إلى أن يبيعوا غلالهم ويقوموا له. مما ألزموا به من المال، فلذلك كثرت الغلال، فاتضعت ولله الحمد. ومع هذا فقد ساس ( أي تسوس وانتشر فيه السوس ) كثير من الغلال بالوجه البحري، فتسارع خزانها إلى بيعها خوفاً عليها من التلف، ولله عاقبة الأمور .).
التعليق
1 ـ ضمن أسباب إنخفاض أسعار الحبوب أن الاستادار أرغون أنزل ضرائب بفلاحى الغربية والبحيرة ــ في جولة نهب له هناك ــ فإضطرهم الى بيع غلالهم .
2 ـ المقريزى يذكر الضحايا من المزارعين وأصحاب الدرك ( المتدركين ) القائمين بالاشراف على الفلاحين . دون ذكر أسمائهم ، هو مجرد وصف ، أما المجرم في القصة فهو مذكور بالاسم والوظيفة : ( الأمير الوزير شمس الدين أرغون شاه أستادار ).
3 ـ ولا جديد تحت شمس مصر ، فالعسكر الحاكم الآن يقهر ملايين المصريين بالسجون وبالضرائب والتعقيدات البيروقراطية ، ويأتي الحديث عن هذا بعموم الوصف ، أما أفعال وأقوال أكابر المجرمين فهى تتصدر العناوين في الإعلام مهما بلغت تفاهتها .
شهر ربيع الأول، أوله السبت:
1 ـ ( وفي ثانيه: قدم الأمير الوزير أرغون شاه من الوجه البحري، بما جمعه من الأموال التي جباها.) جاء الاستادار الى السلطان برسباى بالمال السُّحت الذى سلبه من الفلاحين .
2 ـ ( وفي ليلة الجمعة سابعه: عمل المولد السلطاني على العادة، في كل سنة وحضر الأمراء وقضاة القضاة الأربع ومشايخ العلم وجمع كبير من القراء والمنشدين، فاستدعى قاضي القضاة ولي الدين أحمد بن العراقي ليحضر، فامتنع من الحضور، فتكرر استدعاؤه حتى جاء فأجلس عن يسار السلطان حيث كان قاضي القضاة زين الدين التفهني جالساً، وقام التفهني فجلس عن يمين السلطان، فيما يلي قاضي القضاة علم الدين صالح ابن البلقيني . )
التعليق
كان ـ ولا يزال ــ من شعائر الدين السُّنى الاحتفال بالمولد النبوى ، وكان له ترتيب في العصر المملوكى ، إذ يتم عمله بالقلعة مقر السلطان ، ويحضره أكابر المجرمين؛ السلطان والأمراء والقضاة الأربعة وشيوخ الدين السُنّى ، والمنشدون ، ولكل منهم موقع للجلوس . وحدث تغيير إستدعى أن يسجله المقريزى هنا على أنه من أهم الأحداث ، وذكر أسماء ولى الدين العراقى والتفهنى والبلقينى من كبار المجرمين ، هذا مع أن ملايين المظلومين لا ذكر لهم ، ولا يشار اليهم إلا عند وقوع المصائب بهم .
.3 ــ ( وفي هذه الأيام وُجدت ورقة بالقصر، فيها شناعات علي علم الدين بن الكويز كاتب السر، منها أنه يريد إقامة ابن الملك المؤيد شيخ في السلطنة، فعُرف من ألقاها، فدلّ على الذي كتبها، وهو رجل من الفقراء ( أي الصوفية ) يقال له حسن العليمي، يخدم قبر الشيخ علي بن عليم بالساحل، فاعترف أنه كتبها نصيحة للسلطان، فبعث به السلطان إلى ابن الكويز، فثبت على قوله وفاجأه بما لا يحب، فنفاه إلى بلاد الصعيد . ) .
التعليق
إنتشرت القبور المقدسة ، وبعضها تناساه الناس مثل صاحب القبر المُشار اليه في الخبر : ( قبر الشيخ علي بن عليم بالساحل) . وخادم هذا القبر المقدس شارك في فنون التآمر السائدة وقتها .
4 ـ ( وفي خامس عشره: سار الأمير أرغون شاه إلى بلاد الصعيد ليجبي أهلها، كما جبى الوجه البحري ) كما سلب فلاحى الدلتا جاء الدور على الصعيد . منهى الإخلاص في تطبيق الشريعة السنية التي يقوم عليها فقهاء وقُضاة الشرع الشريف ، ومنهم ابن حجر العسقلانى في هذا الوقت.
5 ـ ( وفي يوم الثلاثاء خامس عشرينه: ثارت ريح مريسية طول النهار، فلما كان قبل الغروب بنحو ساعة، ظهر في السماء صفرة من قبل مغرب الشمس، كست الجدران والأرض بالصفرة، ثم أظلم الجو حتى صار النهار مثل وقت العتمة، فكنت أمد يدي فلا أراها لشدة الظلام، فما بقي أحد بمصر إلا واشتد فزعه، فلما كان بعد ساعة وقت الغروب أخذ الظلام ينجلي قليلاً قليلاً، وعقبه ريح عاصف كادت المباني تتساقط وتمادي طول ليلة الأربعاء، فرأى الناس أمراً مهولاً من شدة هبوب رياح عاصفة، وظلمة في النهار والليل لم يعهد مثلها، بحيث كان جماعة في هذه الليلة مسافرين وسائرين خارج القاهرة فتاهوا من شدة الظلام طول ليلتهم حتى طلع الفجر، وعمت هذه الظلمة أرض مصر حتى وصلت دمياط والإسكندرية وجميع الوجه البحري وبعض بلاد الصعيد، ورأى بعض من يظن به الخير في منامه كان قائلاً يقول ما معناه: لو لا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مصر لأهلكت هذه الريح الناس، لكنه شفع فيهم، فحصل اللطف ).
التعليق :
مناخ من العواصف وظلمات بعضها فوق بعض شهدها المقريزى بنفسه : ( فكنت أمد يدي فلا أراها لشدة الظلام )، وكالعادة إنتهت وانقشعت ، ولكن الثقافة السُّنّية تسند إنهاءها الى شفاعة النبى ، التي يؤمن بها أكابر المجرمين وصغارهم والمستضعفون أيضا. وبهذه الشفاعة المزعومة يرتكبون الجرائم وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا .
6 ـ ( وفي هذا الشهر: كثر الوباء بدمشق ) . كان الوباء يتنقّل في أمن وأمان ، وهو في طريقه غربا نحو ( الكرك / الأردن ) ثم مصر ).
7 ـ ( وفيه أضيفت ولاية مصر وحسبتها إلى الأمير تاج الدين الشويكي وإلى القاهرة ). والى القاهرة أي مدير الأمن . وتاج الدين الشوبكى اصبح مدير الأمن والمحتسب أيضا . المحتسب يراقب الأسواق والأسعار، وهو الذى يقبض على من يراهم متهمين وهو الذى يقرر العقوبة وهو الذى ينفذها . صاحبنا كان أيضا مدير الأمن .
8 ـ ( وفيه رسم بمصادرة نجم الدين عمر بن حجي قاضي القضاة الشافعي بدمشق، وشهاب الدين أحمد بن محمود بن الكشك قاضي القضاة الحنفي بها، وعدة من تجارها، فصودروا . ) . قاضى القضاة الشافعى وقاضى القضاة الحنفى في دمشق صودرت أموالهما مع بعض التجار الدمشقيين . واضح وجود صلة فساد بين القضاة والتجار ، لا يخبرنا بها المقريزى . المفهوم أن السلطان لا يولّى إلا من كان فاسدا يستطيع دفع ثمن المنصب ، ثم يسترد أضعاف ما دفع في الوصول اليه. فإذا تطرف في السرقة صادر السلطان أمواله ، وربما عزله . لم يرد هنا أن السلطان عزلهما .
9 ـ ( وفيه رسم بإيقاع الحوطة على خيول أهل الوجه البحري من الغربية والبحيرة ونحوها فأخذت ) . أي مصادرة خيول الأعراب في تلك المناطق التي تقع على حواف الدلتا . كان هناك صراع بين المماليك والأعراب ، وكلاهما له قوى عسكرية تتسلط على الفلاحين . وكانت الغلبة للمماليك ، الأكثر قوة وتنظيما . لم تكن هناك مصادرة لخيول الفلاحين لأنه لم تكن هناك خيول للفلاحين .
10 ـ ( وفيه قدم إلى المدينة النبوية جراد عظيم أتلف عامة زروعها وأشجارها، حتى أكل الأسابيط من فوق النخل فأمحلت ، ونزح كثير من أهلها، فمات معظم الفقراء النازحين جوعاً وعطشاً، ولا قوة إلا بالله.)
( شهر ربيع الآخر، أوله الأحد:
1 ـ ( في ثانيه: عدى السلطان إلى بر الجيزة، وأقام بناحية وسيم في أمرائه ومماليكه يتنزه، ثم عاد ). التاريخ يلاحق السلطان حتى وهو يتنزّه . وهو نفس ما يقوم به إعلام المستبد الآن . أخباره التافهة تحتل العناوين ، حتى لو قال أو فعل ما يستوجب السخرية .
2 ـ ( وفي سادس عشرينه: قدم الأمير تنبك البجاسي نائب حلب، فخلع عليه، ورتب له ما يليق به، وقدم له الأمراء على مقدارهم ). المؤرخ يلهث خلف أكابر المجرمين في نزهاتهم وقدومهم ، وحفلاتهم ، أما المستضعفون في الأرض فلا بواكى لهم.!
3 ـ ( وفي هذا الشهر: كثر الوباء بدمشق) ، ومن دمشق سيزحف ( واثق الخطوة يمشى ملكا ) الى مصر .
4 ـ ( وفيه قدم الخبر أن مدينة الكرك تلاشى أمرها، وخربت قراها وتشتت أهلها، وأنها آيلة إلى الدثور ). هذه أخبار عامة عن هلاك آلاف المستضعفين بالوباء، بلا تحديد لليوم أو لعدد الضحايا أو أسمائهم . لم يأت إسم ( الأردن ). كانت المنطقة معروفة بالكرك ، وتابعة لمصر ضمن الشام .
5 ـ ( وفيه عدّى مصطفى بن عثمان من اسطنبول إلى أزنيك وملكها بعد ما حاصرها مدة، فسار إليه أخوه مراد بعساكره وقاتله، فظفر به وقتله، وعاد إلى برصا، وقد صفا له الجو ) أخبار خارجية عن أكابر المجرمين فى الدولة العثمانية وجيرانها .
( شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء:
1 ـ ( في ثالثه: توجه الأمير تنبك البجاسي إلى حلب على نيابته ) . حلب كانت ولاية تابعة للعسكر المملوكي ، ما رأيكم في خيبة العسكر المصرى الحالي وقد جعل مصر تابعة للإمارات ، وربما تتبع غدا موزمبيق .!!
2 ـ ( وفي رابع عشره: خلع على الأمير جقمق، واستقر أمير أخور، عوضاً عن قصروه نائب طرابلس، وكانت في هذه المدة شاغرة ). بداية ظهور جقمق الذى أصبح فيما بعد سلطانا .
3 ـ ( وفيه أبيع الخبز كل ثلاثة أرغفة بدرهم من الفلوس، وأبيع الأردب القمح بثمانين درهماً، فيكون كل ثلاثة أرادب بمثقال ذهب، وكل أردب بأربعة دراهم فضة، وكل ستين رغيفاً بدرهم فضة، ولم يعهد مثل هذا الرخاء في هذه الأزمنة، ومع ذلك فالرخاء عام بالشام والحجاز، فالله يحسن العاقبة .). اخبار رخاء وقتى في الأسعار ، والمقريزى يتخوّف من إستمراره فيقول: ( فالله يحسن العاقبة .)
4 ـ أخبار المناخ :
4 / 1 :( وفي يوم السبت تاسع عشر: أمطرت السماء مطراً كثيراً من أول يوم الجمعة أمسه، حتى مضى السبت، وكانت عامة في معظم أرض مصر قبليها وبحريها، فسألت الأودية، وظهرت في النيل زيادة نحو ذراع، ودثرت مقابر كثرة وسقط ببلاد البحرة برد كبار جداً، يتعجب من كبرها ، وكان الزمان ربيعاً )
4 / 2 : ( وفي شهر بشنس، وفي نصف نهار السبت هذا: هبت رياح قوية ألقت مباني عديدة ، وعمّ هبوبها في أكثر أرض مصر، فسقط في ناحية أبيار ألف ومائتا نخلة، وسقط كثير من شجر السنط والسدر والجميز ، وكانت الشجرة تقتلع من أصلها ، وسقط كثير من طير السماء، واحتملت الريح أشياء ثقيلة من أماكنها وألقتها ببعد ، وشملت مضرة هذا المطر وهذه الريح أشياء عديدة) .
5 ـ طيور وجراد :
5 / 1 : ( وفي هذا الشهر: انتشر ببلاد الصعيد من الطير التي يقال لها الزرازير أمة لا يحصى عددها إلا الله خالقها سبحانه، فأهلكها هذا الريح، حتى صار منها عدة كيمان يمر الفارس فيها بفرسه مدة ثلاثة أيام، ولولا هلكت لرعت الزروع ).
5 / 2 :( وفيه جاء من ناحية الحجاز جراد يخرج عن الحد في الكثرة، فلما وافى الطور يريد دخول أرض مصر كان هذا المطر، فهلك عن آخره، كفايه من الله .)
6 ـ كوارث :
( وفيه تلفت زروع عدة بلاد من نواحي أرض مصر لكثرة المطر والبرد ، بحيث وجد في البرد ما وزن الواحدة منه عدة أواقي، وتلفت أشجار كثيرة ونخيل كثير بالقرى من الريح، وسقط من طير السماء فيما بين الإسكندرية وبرقة شيء كثير جداً من قوة الريح )
تعليق :
في كل ذلك لا وجود للسلطة المملوكية . يقتصر عملها على الجباية . مصر مجرد بقرة يحلبونها بلا شفقة ، ثم لا يهتمون برعايتها ولا علاجها . ما أشبه اليوم بالبارحة .!!
( شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء:
1 ـ الوباء : ( في هذا الشهر: عظم الوباء بدمشق، وفشا في البلاد إلى غزة .) واصل تقدمه من دمشق ( واثق الخطوة يمشى ملكا ) حتى وصل غزة .
2 ـ ( وفيه تحرك سعر الغلال بأرض مصر، فارتفع الأردب القمح من مائة إلى مائة وأربعين، والشعير من سبعين درهماً الأردب إلى مائة درهم . ) مع إقتراب الوباء وتقلبات المناخ ارتفعت أسعار الغلال .
3 ـ ( وفي سابع عشره: قدم الأمير أرغون شاه من بلاد الصعيد، وقد وصل إلى مدينة هو، فجبى الأموال، وما عفّ ولا كفّ، وأحضر معه من الأغنام والأبقار والخيول ومن القند والسكر والعسل شيء كثير، فخرب في حركتيه المذكورتين إقليم مصر، أعلاه وأسفله، ثم شرع في رمى ما أحضره على الناس بأغلى الأثمان والعسف في الطلب ).
تعليق :
هذه هي الجباية المملوكية بالسلب والنهب ، معتمدة على شريعة الدين السُّنّى العملية ، بدون الحاجة الى فتاوى ، لأنها عندهم من ( المعلوم بالضرورة ) . الاستادار أرغون شاه يقوم بتخريب الصعيد ، يجبى الأموال ويصادر الحبوب والمواد الغذائية والمواشى ، ويأتي بها الى القاهرة ، فيفرض بيعها على التجار بالسعر الذى يحدده . ونلاحظ تعبيرات المقريزى ( فجبى الأموال، وما عفّ ولا كفّ .) ( فخرب في حركتيه المذكورتين إقليم مصر ) ( بأغلى الأثمان والعسف في الطلب ). اين شيخ السُّنّة إبن حجر العسقلانى ، المُلقّب بأمير المؤمنين في الحديث ؟. ألا يذكّرنا هذا بشيخ الأزهر السّاكت عن جرائم السيسى بسبب إنشغاله بتكفير أهل القرآن ؟
شهر رجب، أوله الخميس:
1 ـ ( فيه كملت الوكالة وعلوها بخط الركن المخلق على يد عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش، ولم يعسف العمال فيها، ولا بخسوا شيئاً من أجرهم، فجاءت من أحسن المواضع وكثر النفع بها. ). زين الدين عبد الباسط شذّ هنا عن تطبيق الشريعة السُنيّة ، إذ لم يظلم العمال فلم يستخدمهم سُخرة ، ولم يضربهم ، بل وأعطاهم أجورهم .
2 ـ ( وفيه ابتدئ بهدم الحوانيت والفنادق، التي فيما بين المدرسة السيوفية وسوق العنبريين لعمل موضعها مدرسة للسلطان، وكانت موقوفة على المدرسة القطبية وغيرها، فاستبدل بها أملاك أخر من غير إجبار المستحقين. وجعل الاختبار لهم فيما يستبدل به حتى تراضوا، ولم يشق عليهم. وتولى ذلك زين الدين عبد الباسط . ) .
التعليق :
زين الدين عبد الباسط تولى عملية الاستبدال في الأوقاف الخاصة بالمدرسة القطبية . كانت هناك حوانيت وفنادق ، ومن إيرادها يتم الإنفاق على تشغيل المدرسة القطبية ، وفيها كان يتم تدريس علوم الشريعة السُّنيّة . كان الاستبدال حيلة شرعية للتحايل على الاستيلاء على الأوقاف ، بأن يتم إستبدال الأوقاف في الأماكن غالية الثمن بمساحة في أماكن أخرى ، ويكون البيع صوريا . وهذا بضغط السلطان القائم في الحكم . برسباى أراد تأسيس مؤسسة دينية له تحمل إسمه ، ويوقفها وقفا أهليا لنفسه وذريته ، ويستثمر في هذا أمواله ويحصنها من المصادرة . والعادة أن يتم التحايل على هذا بالاستبدال . إستولى برسباى على المكان وهدم ما فيه من المباني من دكاكين وفنادق ( في وسط البلد ) ليؤسس أوقافه الخاصّة .
3 ـ ( وفيه انحل سعر الغلال وقد أبيعت الغلال الجديدة ) أي رخصت الأسعار بعد ارتفاع .
4 ـ ( وفيه قدم عدة من الفرنج الكيتلان، لزيارة القدس مستخفين، فعثر على نحو المائة منهم، وسجنوا . ) . كان ممنوعا على الاوربيين الحج الى القدس بعد أن إستأصل المماليك شأفة الوجود الصليبى في الشام .
5 ـ ( وفي ثاني عشره: ابتدأت المناداة بزيادة النيل، وقد جاءت القاعدة ثمانية أذرع وعشر أصابع. وهذا مما يندر مثله . )
6 ـ ( وفيه أدير محمل الحاج على العادة ).
7 ـ ( وفيه كتب بعزل قاضي القضاة الشافعي بدمشق، نجم الدين عمر بن حجي وسجنه، والكشف عنه، واستقرار شمس الدين محمد بن زيد قاضي بعلبك عوضه في قضاء دمشق. وسبب ذلك تنكر الأمير تنبك ميق نائب الشام عليه، وتغير كاتب السر علم الدين داود بن الكويز وزين الدين عبد الباسط ناظر الجيش وبدر الدين محمد بن مزهر ناظر الاصطبل ونائب كاتب السر، فإنه أطرح جانبهم، وصار يبلغهم عنه ما يوغر صدورهم، من استخفافه بهم لمعرفته إياهم قبل ارتفاعهم في الأيام المؤيدية. واغتر بكثرة من يساعده من الأمراء لما له عليهم من الأفضال المستمر، فأخذ الجماعة في مكايدته، حتى أوقعوا بينه وبين السلطان، فلم يفده مساعدة الأمراء له . ). أكابر المجرمين يتآمر بعضهم على بعض ، والخاسر يلقى مصيره ، سواء كان سلطانا أو اميرا أو فقيها قاضيا .
8 ـ ( وفي يوم السبت سابع عشره: اتفقت حادثة فيها موعظة، وهي أن الأمير أرغون شاه جمع الجزارين لأخذ شيء من الأبقار التي أحضرها، ورسم على كل منهم رسولا من الأعوان الظلمة، حتى يمضي إلى بر منبابة حيث الأبقار، ويأخذ منهم ما ألزم به منها، فوافوا ساحل بولاق بكره، ونزلوا في مركب، ونزل معهم أناس آخرون ، وأخذوا يدعون الله على أنفسهم أن يغرقهم ولا يحييهم حتى يأخذوا هذه الأبقار ليستريحوا مما هم فيه من الغرامات والخسارات وتحكم الظلمة فيهم بالضرب والسب والإهانة. وقرأ واحد منهم فاتحة الكتاب، ودعا بذلك، وهم يؤمنون على دعائه، فما هو إلا أن توسطوا النيل وتجاوزوه حتى كادوا أن يصلوا إلى بر منبابة. وإذا بمركبهم انقلبت، فغرقوا بأجمعهم، إلا قليلا منهم، فإنهم نجوا. وكانت عدة الغرقى عشرين رجلاً وأربع نسوة، فارتجت القاهرة بعويل أهاليهن عليهن، وكثرت الشناعة على الأمير أرغون شاه، وذهب الغرقى بلا قاتل ولا قود . ).
تعليق :
الاستادار إعتقل الجزارين ليجبرهم على شراء الأبقار التي صادرها ، وعانوا في الطريق من الضرب والاهانات الى درجة أنهم وهم في المركب متوجهين الى إمبابة أخذوا يدعون الله جل وعلا أن يميتهم ، فانقلبت بهم المركب ، وغرق معظمهم ، وكان فيهم نساء وأطفال . وارتجت القاهرة عويلا عليهم ، ولم يتحرك واحد من فقهاء وقضاة الشرع السنى إحتجاجا ، لأن ما يفعله أرغون الاستادار هو التطبيق الأمين لشريعتهم السُنّية ، بالضبط كما يسكت الآن شيخ الأزهر وفقهاء السُّنّة عن جرائم السيسى .
9 ـ ( وفي ثالث عشرينه: رسم السلطان أن لا يكون لقاضي القضاة الشافعي إلا عشرة نواب، وأن يكون للحنفي ثمانية نواب وللمالكي ستة وللحنبلي أربعة. فعمل ذلك مديدة، ثم أعيد من عزل منهم بزيادة. وقد ساءت قالة العامة فيهم، وأكثروا من التشنيع بما يغرمه المتداعيان في أبوابهم، حتى اتضعت نواب القضاة في أعين الكافة، وانحطت أقداراهم عند أهل الدولة، وجهروا بالسوء من القول فيهم . ).
تعليق :
هذا الخبر متصل بما قبله . قاضى القضاة يعين ( نائبين / نوابا ) أي قضاة كثيرين تابعين له يدفعون له الأموال ليعينهم ، وهم يجمعون له ولهم الأموال من الخصوم في المحكمة ، وأكبر أكابر المجرمين وهو السلطان برسباى رأى القضاة أكثر منه فسادا ، ورأى أن الناس يحتقرونهم ، فقام بتحديد عدد من القضاة لكل من قضاة القضاة الأربعة . والعادة أن كل محاولات إصلاح القضاة لم تُفلح ، لأن الأصل فاسد وهو الشريعة السنية ، ولأن رأس الدولة فاسد وهو السلطان . والأهم من هذا كله إن الله جل وعلا لا يصلح عمل المفسدين .
10 ـ عن المناخ : ( واتفق في هذه السنة ما لم نعهده وهو انتشار الحمرة عند طلوع الفجر إلى شروق الشمس في جميع الجهة الشمالية، التي يسميها المصريون وجه بحري؛ وانتشار الحمرة في الجهة الشمالية أيضاً بعد غروب الشمس حتى يمضي من الليل ساعة، وتصير الأرض والجدران وغير ذلك في هذين الوقتين كأنها صبغت بالحمرة. وتمادى هذا الحال أربعة أشهر، وانقضى شهر رجب هذا والأمر على ذلك . )
11 ـ ( وفيه تناقص الوباء ببلاد الشام، بعد ما عم كورة دمشق وفلسطين والساحل. وبلغت عدة من مات بصالحية دمشق زيادة على خمسة عشر ألف إنسان. وأحصي من ورد ديوان دمشق من الموتى فكانوا نحو الثمانين ألفاً، وكان يموت من غزة في كل يوم مائة إنسان وأزيد، وكان معظم من مات الصغار والخدم والنساء، فخلت الدور منهم إلا قليلاً وفيه وقع الوباء ببلاد الخليل عليه السلام . ). تناقص الوباء في الشام فقد رحل عنها الى مصر ( واثق الخطوة يمشى ملكا ).!
2 ـ ( وقدم الخبر بوقوع الوباء بدمياط ). وصل الوباء الى دمياط ميناء مصر وقتها ( واثق الخطوة...الخ ).
3 ـ تنقلات بين أكابر المجرمين
3 / 1 : ( وفي يوم الخميس عشرينه: خلع على الأمير جرباش قاشق، واستقر حاجب الحجاب. وكانت شاغرة منذ انتقل جقمق عنها، وصار أمير أخور. )
3 / 2 : ( وفيه كتب باستقرار الأمير تنبك البجاسي نائب حلب، في نيابة الشام، بعد موت تنبك ميق. واستقر شارقطلوا نائب حماة في نيابة حلب، عوضاً عن تنبك البجاسي، واستقر جلبان- أمير أخور الملك المؤيد شيخ- في نيابة حماة. وقد كان من جملة أمراء دمشق. وتوجه الأمير جانبك الخازندار في ثامن عشرينه بتقاليد المذكورين وتشاريفهم. وفيه رسم بإعادة نجم الدين عمر بن حجي إلى قضاء القضاة بدمشق، وحمل تقليده وتشريفه. )
4 ـ إصلاحات ( وفيه جرى الماء في خليج الإسكندرية، وعبرت فيه السفن، وذلك أنه غلب الرمل على أشتوم بحيرة الإسكندرية حتى جف ماؤها، وصارت الريح تسفي الرمال على الخليج، إلى أن علت أرضه، وجف ماؤه من بعد سنة سبعين وسبعمائة، وصار الماء لا يدخل إليه إلا أيام الزيادة، فإذا نقص ماء النيل جف الخليج. ولذلك خرجت أكثر بساتين الإسكندرية وضياعها التي على الخليج. وصار شرب أهلها من الماء المخزون بالصهاريج. وحاول السلاطين حفر هذا الخليج مراراً، فلم ينجح عملهم، لقلة المعرفة بأمره، ثم إن السلطان ندب الأمير جرباش قاشق- أحد مقدمي الأولوف- لعمل هذا الخليج، فجمع من النواحي ثمانمائة، وخمسة وسبعين رجلاً، وابتدأ في حفره من حادي عشر جمادى الأولى من حنى فم النيل. وصار كلما حفر منه شيئاً أرسل الماء عليه من الفم، حتى انتهى حفره في حادي عشر شعبان هذا لتمام تسعين يوماً، وعبر الماء في اليوم المذكور إلى الإسكندرية، وقد خرج الناس لرؤيته، وسروا به سروراً كبيراً. وكانت كلفة الحفر مما جبى من النواحي التي تسقى من الخليج، ومن بساتين الإسكندرية. ).
تعليق :
أدّى الإهمال الى طمر الترعة ( الخليج ) التي تصل الى الإسكندرية من عام 770 ، وخربت البساتين التي كانت ترتوى من هذه الترعة ( الخليج ). وضاعت جباية الأموال ، وفشل السلاطين في إصلاح الترعة . ونجح برسباى فيما فشل فيه السابقون ، وتحمل تكلفة الحفر أصحاب المزارع ، وتم تسخير 875 رجلا في الحفر . وكالعادة لا نعرف أسماءهم ، و حاز الفخر من قام بتسخيرهم وهو الأمير جرباش قاشق . ( صفقوا للأمير جرباش قاشق ).!
شهر رمضان، أوله الأحد:
1 ـ ( في ثانيه- الموافق له سادس مسرى-: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، فنزل الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان، حتى خلق عمود المقياس، وفتح الخليج على العادة. ). السلطان يبدأ ب ( تلميع ) إبنه ناصر الدين ( السُّنّى ) ليجهزه لولاية العرش . توريث السلطة في النظم العسكرية كانت عادة سيئة في العسكر المملوكى ، ثم ظهرت في ( جمهوريات ) العسكر المصرية.
2 ـ ( وفيه قبض على الأمير سودن الأشقر أحد مقدمي الألوف، ونفي بطالاً إلى القدس. ثم أنعم عليه بإمرة في دمشق، فتوجه إليها . ). إعتقال ثم نفى ثم تولية ..
4 ـ ( وفيه خرج عدة من الأمراء إلى الإسكندرية ودمياط ورشيد، وقد ورد الخبر بحركة الفرنج، فتكامل توجههم في سابعه . ) جاءت أخبار بغارة بحرية فاستعد لها السلطان .
5 ـ ( وفي ثامن عشرينه: جمع السلطان التجار والصيارف بسبب الفلوس، فإنها من حين نودي عليها في صفر أن تكون المضروبة بسبعة دراهم الرطل، والقطع بخمسة الرطل، قلت حتى لم تكد توجد. وسبب ذلك أن التجار كثرت تجارتهم فيها، وشدوا أحمالاً كثيرة من الفلوس المنقاة، وقد بلغ القنطار منها ثمانمائة درهم، وبعثوا منها إلى الحجاز واليمن والهند وبلاد المغرب بشيء لا يدخل تحت حصر، لما لهم فيها من الفوائد. وضرب آخرون منها الأواني النحاس كالقدور ونحوها، وباعوها بثلاثين درهماً الرطل. وتصدى جماعة لقطع الحديد والنحاس والرصاص والقصدير، فأفرزوا كل صنف على حدة، واستعملوه فيما يصلح له، فربحوا فيها كثيراً. ومع ذلك فمن عنده شيء منها شح بإخراجه في المعاملة. وتصدت جماعة لجمعها، فعزت حتى لم يقدر عليها. وتوقفت أحوال الناس في معايشهم، لفقدها. فلما اجتمع الناس عند السلطان، استقر الرأي على أن تكون الفلوس المنقاة بتسعة دراهم الرطل، وأن لا يتعامل أحد بشيء من القطع النحاس والحديد والرصاص والقصدير، ونودي بذلك، وهدد من خالف وسافر بشيء منها إلى البلاد . ).
مشكلة ( الفلوس ) تعود . قيمة الفلوس الشرائية أقل من قيمة المعادن الموجودة في كل ( فلس ) ، لذا كان يُعاد صهرها وفصلها ( حديدا ونحاسا ورصاصا وقصديرا ) . بالتالى قلّ وجودها في السوق فتوقفت أحوال المعاش ، فتدخل برسباى بقرارات جديدة في تسعيرها .
شهر شوال، أوله الثلاثاء:
1 ـ ( في سادسه: ابتدأ الهدم في الحوانيت والرباع التي علوها فيما بين الصنادقيين ورأس الخراطين، لتبنى وكالة وربعا، تجاه العمارة الأشرفية . )
2 ـ ( وفي سابعه: قدم قاضي القضاة الحنفية بدمشق، شهاب الدين أحمد بن محمود بن الكشك، باستدعاء . ). صودر قاضى القضاة هذا في شهر ربيع هذا العام ، واستدعوه هذا الشهر ( شوال ) . واضح إنه عريق في الاجرام .
3 ـ ( وفي يوم الخميس عاشره: خلع على جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي، واستقر كاتب السر بعد موت علم الدين داود بن الكويز، فأذكرتني ولايته بعد ابن الكويز قول أبي القاسم خلف بن فرج الألبيري- المعروف بالسميسر- وقد هلك وزير يهودي لباديس بن حبوس الحميدي أمير غرناطة من بلاد الأندلس، فاستوزر بعد اليهودي وزيراً نصرانيا :
كل يوم إلى ورا ** بدل البول بالخرا
فزمانا تهودا ** وزماناً تنصرا
وسيصبو إلى المجوس إذا الشيخ عمّرا
وقد كان أبو الجمال هذا من نصارى الكرك، وتظاهر بالإسلام في واقعة كانت للنصارى، هو وأبو العلم داود بن الكويز، وخدم كاتباً عند قاضي الكرك عماد الدين أحمد المقيري. فلما قدم إلى القاهرة. وصل في خدمته وأقام ببابه، حتى مات وهو بائس فقير، لم يزل دنس الثياب، مقتم الشكل، وابنه هذا معه في مثل حاله. ثم خدم عند التاجر برهان الدين إبراهيم المحلى كاتباً لدخله وخرجه، فحسنت حاله، وركب الحمار. ثم سار بعد المحلى إلى بلاد الشام، وخدم بالكتابة هناك، حتى كانت أيام الملك المؤيد شيخ، ولاه ابن الكويز نظر الجيش بطرابلس، فكثر ماله بها. ثم قدم في أخر أيام ابن الكويز إلى القاهرة، فلما مات وعد بمال كثير حتى ولى كتابة السر، فكانت ولايته أقبح حادثة رأيناها . ).
تعليق :
الطموحون من الكتبة من أهل الكتاب كانوا يعلنون (إسلامهم ) في مجتمع ينضح بالتعصب الدينى ضد أهل الكتاب . ومؤرخ مثل المقريزى ــ واسع الأُفُق ـ لم ينجُ من هذا التعصب . جمال الدين الكركى كان نصرانيا فاسلم في واقعة تعصب ضد نصارى الكرك ( الأردن الآن )، وأسلم معه ابن الكويز . وصل ابن الكويز الى منصب ( كاتب السّر ) أي سكرتير السلطان . بينما تقلّب الكركى في خدمة هذا وذاك حتى ولاه رفيقه ابن الكويز منصب ناظر الجيش في طرابلس في سلطنة المؤيد شيخ ، فتكاثرت أموال الكركى ، ثم جاء الى القاهرة في أواخر أيام ابن الكويز ، ولما مات رفيقه ابن الكويز إشترى منصبه ، وأصبح ( كاتب السّر ) لبرسباى بعد ابن الكويز . والمقريزى ناقم على هذا ، وعبّر عن رأيه بقوله ( فكانت ولايته أقبح حادثة رأيناها ). هذا ليس لانعدام كفاءة الكركى أو إنعدام أمانته ، فحيث تُباع المناصب بالرشوة فلا عبرة إلا بالثمن . والمقريزى يعرف هذا جيدا . سخط المقريزى نابع من تعصبه ضد أهل الكتاب ، ولهذا إستشهد بشعر رائع ، و ( كريه الرائحة .).
4 ـ ( وفي رابع عشره: قدم الأمير أسندمر نائب الإسكندرية باستدعاء، فقبض عليه، ونفي إلى دمياط بطالاً. واستقر الأمير أقبغا التمرازي أمير مجلس عوضه في نيابة الإسكندرية . ). تقلبات في أحوال أكابر المجرمين من المماليك ، إعتقال ونفى ، وحلول هذا محلّ ذاك .
5 ـ ( وفي سادس عشره- الموافق له رابع عشرين توت-: انتهت زيادة النيل إلى تسعة عشر ذراعاً، تنقص إصبعاً واحداً، وابتدأ نقصه من الغد . ). أخبار النيل زيادة ونقصانا من أهم الأنباء .
6 ـ ( وفي تاسع عشره: خرج محمل الحاج صحبة الطواشي افتخار الدين مثقال مقدم المماليك، ورحل من بركة الحاج في ثالث عشرينه، وقد تقدمه الركب الأول صحبة الأمير أينال الششماني أحد أمراء العشرات. ). أيضا أخبار محمل الحج . ( الطواشى ) لقب للخصيان .
7 ـ ( وفي رابع عشرينه: خلع علي نقيب الأشراف، السيد الشريف بدر الدين حسن بن الشريف النقيب علي، وأضيف إليه نظر وقف الأشراف، عوضاً عن شرف الدين محمد ابن عبد الوهاب بن نصر الله. وكان قد باشر وقف الأشراف بعفة ونهضة، وأنفق للأشراف في كل سنة أزيد مما كانت عادتهم . ). ليس في الإسلام تقسيم الناس الى أشراف وغير أشراف ، لأن أكرم الناس عند الله جل وعلا هو أتقاهم ، وهو جل وعلا الأعلم بمن إتقى ، وسيكون ذلك معلوما يوم القيامة حيث سيدخل المتقون الجنة . في أديان المحمديين الأرضية يوجد من يزعم الانتساب الى النبى محمد ، ويكون ( شريفا ). ولهم مكانة عليا خصوصا في الدين الشيعي . وإنتشر إنتحال هذا النسب ، وتأسّست عليه دول وطموحات سياسية وانتشرت على جوانب هذا وذاك أنهار من الدماء. وغير ذلك جرى إنتحال هذا النسب للحصول على مكانة إجتماعية ومالية ، وظهرت نقابات الأشراف في العصور الوسطى ، وكان لنقبائها بيع النسب بالرشوة ، ( شجرة النسب ) متاحة بالثمن . هذه هي الخلفية لفهم هذا الخبر .
8 ـ ( وفي سادس عشرينه: نزل السلطان إلى عمارته . ). كان السلطان ( الأشرف ) برسباى يبنى جامعه الذى عُرف بلقبه ( الأشرفى ) ونزل يتفقد بناءه ، ولهث خلفه المقريزى يسجل هذا ، أما المستضعفون العاملون في البناء فلا ذكر لهم ولا أهمية لهم ، مع أنهم ـ بالتأكيد ــ بشر شأن السلطان .!
9 ـ ( وفيه خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، واستقر في نظر الكسوة، عوضاً عن شرف الدين المذكور، وفي نظر الجوالي عوضاً عن قاسم بن البلقيني وخلع على الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين بن أبي الفرج، واستقر كاشف الشرقية. وكان الكشف بيد الأمير أرغون شاه أستادار . ). في تنقلات للمناصب بين أكابر المجرمين أصبح زين الدين ابن أبى الفرج كاشفا ( أي مديرا أو محافظا ) للشرقية ، وعُزل عن هذا المنصب الأمير أرغون شاه الاستادار . وهذه بداية محنة ( أرغون شاه الاستادار ).
10 ـ ( وفي سابع عشرينه: قبض على أرغون شاه المذكور لعجزه- مع ظلمه وعسفه- عن جامكية المماليك، فإن مصروف الديوان المفرد عظم، وصارت البلاد المفردة له- مع مظالم العباد- لا تفي به . ).
تعليق :
أدّى هذا الاستادار مهمته في سلب الناس ونهبهم لصالح السلطان ؛ أكبر أكابر المجرمين . وحاقت به اللعنات بدلا من السلطان ، هي ( ثقافة العبيد ) التي ترى أن المستبد ( رجل طيب ) وأن العيب في حاشيته وليس فيه . ما سلبه أرغون لم يكف نفقات البلاط السلطانى ، ولأن عين السلطان على أموال هذا الاستادار وأيضا على أموال من يطمح الى منصبه فقد إعتقل السلطان هذا الاستادار ، وبدأت محنته ، وكما قال الشاعر
ما طار طائر وارتفع إلّا كما طار وقع
وهو قول يصدق على دول الاستبداد والفساد . وانظر حولك في كوكب المحمديين .
11 ـ ( وفي ثامن عشرينه: خلع على ناصر الدين محمد بن شمس الدين محمد بن موسى المرداوي، المعروف بابن أبي والي، واستقر أستادارا، عوضاً عن أرغون شاه. وعوقب أرغون شاه بين يدي السلطان. ومن خبر ابن أبي والي هذا أن أباه من تجار القدس، وتزيا هو بزي الأجناد، وخدم أستادار الأمير جقمق الدوادار في أيام المؤيد بديار مصر مدة، ثم صادره وصرفه، فخدم أستادار نائب الشام مدة. وكثر ماله، فأحضر من دمشق إلى القاهرة في هذا الشهر، وألزم بحمل عشرين ألف دينار، فوعد أن يحمل في هذا اليوم ثلاثة آلاف دينار. فلما قبض على أرغون شاه، سولت له نفسه وزين له شيطانه أن يكون أستادارا، ويسد المبلغ الذي ألزم به منها، فاستقر . ).
تعليق :
تولى إبن أبى والى المرداوى الاستادارية محل أرغون شاه . وأمر السلطان بتعذيب أرغون أمامه ليستخلص منه الأموال ، وهذا من المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة . ولا يزال سائدا في كوكب المحمديين . إلا إن العجيب هو تقلب أكابر المجرمين من الجناح المدنى بين التولية والعزل والضرب والتعذيب ، والمصادرة ، وربما يعود أحدهم بعد العزل والتعذيب والمصادرة الى شراء وظيفة وتتكرر معه القصة ، فهى دائرة جهنمية تعلو بهم وتهبط . الاستادار الجديد ( إبن أبى والى المرداوى ) ذاق هذا ، وتحمل، ووصل بماله الى تولى الاستادارية ، ثم سيلقى نفس المصير .
12 ـ ( وفيه خلع أيضاً على كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ، واستقر في الوزارة، عوضاً عن أرغون شاه. ). تولى إبن كاتب المناخ الاستادارية ، بعد أن تولى كاشفا للشرقية .
13 ـ ( وفي تاسع عشرينه: سلم أرغون شاه إلى الأمير ناصر الدين محمد بن أبي والي أستادار ليستخلص منه ستين ألف دينار، فنزل من القلعة مع أعوان الوالي حتى دخل داره التي كان يسكنها أرغون شاه وقد سكنها ابن أبي والي، فعندما دخلها بكى، وكان في بلائه هذا أعظم عبرة. وذلك أن ابن والي في ابتداء حاله كان من جملة أجناد أرغون شاه الذين يخدمونه أيام عمله وهو أستادار نوروز الحافظي، فدارت الدوائر حتى صار ابن أبي والي أستادار عوضاً عن أرغون شاه، وسكن في داره بالقاهرة التي كان بالأمس يتردد إليه فيها. ويجلس حتى يستأذن له عليه. ثم أخذ ليعلقه في هذه الدار، يحضره من كان يخدمه بها. أعاذنا الله تعالى من سوء العاقبة وزوال نعمه، ورزقنا العافية بمنه وكرمه .).
تعليق :
هنا دراما أغرب من الخيال . الاستادار الجديد ( إبن أبى والى ) كان في السابق خادما للاستادار السابق أرغون شاه . ثم تولى محلّه ، وسكن قصره . وجىء بالاستادار المعزول من القلعة الى قصره الذى كان ، وحيث يقيم فيه الاستادار الجديد ، كى يقوم الاستادار الجديد بتعذيب الاستادار القديم ليستخلص منه الأموال المخبأة . دخل أرغون شاه الى قصره مكبلا بالأغلال فتذكر أيام جبروته وعزّه فبكى . وفى هذه الدار تم تعليقه وتعذيبه ، حيث يراه خدم القصر. ويرى المقريزى في هذا عبرة ..ولكن من يعتبر ؟ لم يعتبروا في الماضى ، ولا يعتبرون في الحاضر ، ولن يعتبروا في المستقبل ، هذا مع أنهم يقرأون في القرآن الكريم : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) النساء ).
14 ـ ( وفيه خلع على الأمير إينال النوروزي الذي كان نائباً بطرابلس، واستقر أمير مجلس، عوضاً عن أقبغا التمرازي نائب الإسكندرية . )
شهر ذي القعدة، أوله يوم الخميس:
1 ـ ( فيه قدم للسلطان إخوان من بلاد الجركس في ستين من الجراكسة، فخرج الأمراء إلى لقائهم . ). بعد أن إستتبّت أمور السلطنة لبرسباى إستقدم أخوين مع ستين آخرين من اسرته وقريته . جاءوا له من موطنه الأصلى ( القوقاز ) أو بلاد الجركس كما كان يُطلق عليها وقتها . وأُقيم لهم إستقبال ، وكانت المناصب في إنتظارهم . وهذا كان يحدث كثيرا .
2 ـ ( وفيه توجه الأمير قجق أمير سلاح، والأمير أركماس الظاهري أحد مقدمي الألوف، والقاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش إلى مكة، على الرواحل حاجّين . ). قاموا بالحج فأصبح هذا خبرا في التاريخ . ماذا عن بقية الحجاج المغمورين ؟
3 ـ ( وفي رابعه: تقرر على أرغون شاه عشرة آلاف دينار حالة يقوم بها، ويمهل في مبلغ عشرين ألف دينار مدة، فأفرج عنه . ) .
تعليق :
بعد التعليق والتعذيب وافق أرغون شاه على دفع عشرة آلاف دينار ، واطلقوا سراحه على أن يدفع ضعفها .
4 ـ ( وفي سادسه: وصلت هدية الأمير قصروه نائب طرابلس، وهي مائة وخمسون فرساً، وكثير من القماش والفروز ). رشوة من والى طرابلس للسلطان كى يستمر واليا.
5 ـ ( وفي هذه الأيام: هبط ماء النيل سريعاً مع فساد جسور النواحي، من سوء سيرة ولاة عملها، فانقطعت منها مقاطع كثيرة، شرق بسببها عدة أراضي بالوجه القبلي وبالوجه البحري وبالجيزة، فنسأل الله اللطف. هذا، والغلال رخيصة، فالقمح بمائة وأربعين درهماً من الفلوس كل أردب، والشعير والفول بسبعين درهماً الأردب. ). العسكر في حكمهم المدنى لا يجيدون سوى الجباية ، أما رعاية الأرض والجسور والترع فليست من إهتماماتهم .
6 ـ أخبار المناخ :( وفي يوم الأربعاء خامس عشره- الموافق له ثاني عشرين بابه-: والشمس في الدرجة الخامسة من برج العقرب، حدث في السماء راعد شديد وبرق، ثم مطر كثير جداً، لم تعهد مثله في مثل هذا الزمان. ومع ذلك فالحر موجود، فسبحان الفعال لما يريده. ).
7 ـ تنقلات بين أكابر المجرمين : ( وفي سادس عشره: قدم الأمير جانبك الخازندار من الشام، وقد قلد النواب، فخلع عليه، واستقر دوادارا ثانياً، عوضاً عن الأمير قرقماس المتوجه إلى الحجاز، بحكم انتقاله إلى تقدمة ألف. وجانبك هذا رباه السلطان صغيراً، فحفظ حق التربية، بحيث أن جقمق نائب الشام لما ثار بعد موت المؤيد وقبض على السلطان، وهو يومئذ من أمراء دمشق، وسجنه، بذل الرغائب لجانبك هذا، فلم تستمله الدنيا، وثبت على خدمة أستاذه حتى خلصه الله، فوفى السلطان له بذلك، وأنعم عليه بإمرة عشرة، ثم إمرة طبلخاناة، وبعثه لتقليد نواب الشام فأثرى. ولما قدم، صار دواداراً. وفي الحقيقة هو صاحب التدبير في الدولة نقضاً وإبراماً، لكثرة اختصاصه بالسلطان، ومزيد قربه منه. ). العبرة ليست بالكفاءة بل بالثقة . هذا أساس في حكم العسكر ، كان ولا يزال .!
7 ـ ( وفي سادس عشرينه: ثارت المماليك بأستادار لعجزه عن تكملة النفقة، وضربوه، ففر حتى التجأ إلى بيت بعض الأمراء . ), الاستادار الجديد ( إبن أبى والى ) لم يستمتع كثيرا بمنصبه ، إذ عجز عن تدبير نفقات العسكر فضربوه فهرب منهم وإلتجأ الى بيت بعض الأمراء . لم يحمه جاهه ومنصبه من أن يضربه العسكر ( الجنود المماليك ), إذا كانوا يفعلون هذا بالاستادار ، فكيف بعموم الشعب المصرى ؟ هذا يذكرنا بما يحدث الآن في مصر تحت حكم العسكر ، الذى قسّم المصريين الى أغلبية ساحقة مقهورة ( عبيد ) وأقلية غاية في الضآلة ، هم الأسياد . الفرد المصرى الذى ليس من الأسياد ( جيش شرطة ، قضاة نيابة ..الخ ) هو ( مواطن عادى ) . يتعرض للإهانة وعليه أن يتحملها لأنه ( مواطن عادى ) بلا ثمن .!!
8 ـ ( وفي ثامن عشرينه: ختم على مطابخ السكر، وألزم من يدولب طبخ السكر ألا يتعرض أحد منهم لعمله، ومنعت باعة السكر وباعة الحلوى من شراء السكر إلا من سكر السلطان. وعمل لذلك ديوان، وأقيم له جماعة ليدولبوا السكر، فامتنع كل أحد من بيع السكر، إلا السلطان، ومن شراه إلا من سكر السلطان، فضاق الناس ذرعاً بذلك، وتضرر به جماعة عديدة . ).
تعليق :
إشتهر برسباى بالجشع ، إحتكر التجارة الشرقية ، وهنا نراه قد إحتكر صناعة السكر ، وألزم الناس بشراء السكر من عنده فقط . العسكر ( الجيش ) المصرى الحاكم الآن يطبق نفس الشريعة السُّنيّة ، فلا جديد تحت الشمس المصرية .
شهر ذي الحجة، أوله الجمعة:
1 ـ ( في ثالثه: ركب الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان للسرحة في عدة من الأمراء حتى اصطاد، ودخل القاهرة من باب النصر، وصعد القلعة من باب زويلة. ومولده في سنة تسع عشرة. وركب أيضاً في سادسه . ). برسباى يجهّز ابنه الطفل للحكم . العسكر المصرى الحاكم الآن يطبق نفس الشريعة السُّنيّة ، فلا جديد تحت الشمس المصرية .
2 ـ ( وفيها تحرك سعر الغلال، وفشت الأمراض في الناس من الحميات ) . وباء وغلاء .
3 ـ ( وفي ليلة السبت سادس عشره: زلزلت القاهرة زلزلة كلمح البصر، ثم زلزلت كذلك في ليلة الأحد )... ثم زلزال .
4 ـ ( وفي حادي عشرينه: ألزم الناس أن لا يتعاملوا بالذهب الإفرنتي المشخص، إلا من حساب كل دينار بمائتين وعشرين فلوساً، وكان آخر ما استقر عليه الحال أن الدينار بمائتين وخمسة وعشرين، فلم يتغير صرفه عن ذلك مدة إلى أثناء هذه السنة، زادت العامة في صرفه حتى بلغ مائتين وثلاثين، فأنكر السلطان ذلك عندما بلغه، ورسم أن ينقص كل دينار عشرة دراهم، حتى يبقي بمائتين وعشرين درهماً، فخسر الناس مالاً كثيراً . ).
تعليق :
1 ـ كان الناس يثقون بالدينار الايطالى ( الافرنتى ) لأنه ليس فيه غشُّ مثل نقود ومسكوكات الدولة المملوكية التي تطبّق شريعتها في حق السلطان في أن يفعل ما يشاء لأنه الذى يملك ( الرعيّة ) ، وقد أفتوا له بأن ( من حق الإمام أن يقتل ثُلث الرعية لاصلاح الثلثين ) . الأسهل أن ينهب السلطان أموال الناس ، ويتركهم أحياء يمتصُّ عرقهم . هذه هي الخلفية التي جعلت برسباى يحتكر ويتحكّم في الحياة الاقتصادية ، ويتدخل في سعر العُملة الأجنبية .
2 ـ ألا يتكرر هذا في مصر الآن ؟ . طبعا مع فارق مؤلم . في العصر المملوكى لم يكن هناك تهريب للبلايين الى البنوك في الخارج و ( الأوف شور ). إضطر العسكر المملوكى الى تحصين سرقاتهم بالوقف ، وبناء مؤسسات دينية يحصّنون بها أموالهم ، وتقدم خدمات للناس ، بعضها جيد ، لا تزال تلك المؤسسات حتى الآن أهم الآثار في القاهرة . أما عسكر مصر الآن فهم الذين يثبتون أن مصر أغنى دولة في العالم ، بدليل أنه برغم أنّ ما سلبوه من مصر وهربوه الى الخارج يقترب من تيريليون دولار ..ولا تزال مصر مع ذلك باقية تتنفّس .! ربما لأنها ( مصر المحروسة بالحرامية ).!!
6 ـ ( وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا برخاء الأسعار، وكثرة الأمطار، وأن الشريف حسن بن عجلان لم يقابل أمير الحاج ونزح عن مكة، لما بلغه من الإرجاف بمسكه، فنودي من يومه بعرض الأجناد البطالين، ليجهزوا إلى التجريدة بعد النفقة عليهم لغزو مكة، فاستشنع ذلك . ). كان الحجاز ضمن ممتلكات الدولة المملوكية ، ووالى مكة خشى من القبض عليه ز وامر برسباى بتجنيد الأجناد البطّالين ( أي الجنود الاحتياط ) لتأديب والى مكة . وستأتى أخبار عن هذا في العام التالى .
7 ـ ( وفي هذه السنة: اشتد غضب متملك الحبشة وهو أبرم- ويقال له إسحاق بن داود بن سيف أرعد- بسبب غلق كنيسة قمامة بالقدس، وقتل عامة من في بلاده من الرجال المسلمين، واسترق نساءهم وأولادهم، وعذبهم عذاباً شديداً، وهدم ما في مملكته من المساجد، وركب إلى بلاد جبرت فقاتلهم وقتل عامة من فيها، وسبى نساءهم وذراريهم، وهدم مساجدهم، فكانت في المسلمين ملحمة عظيمة جداً لا يحصى عدد من قتل فيها. ).
ملك الحبشة كان يعتبر نفسه حامى الأقباط في مصر لأنه يتبع الكنيسة المصرية . وكان يتخذ من المسلمين عنده رهائن ، يعاقبهم إذا تعرض الأقباط لاضطهاد . وهو ما حدث في واقعة الاحراق العام للكنائس المصرية في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون عام 721 هجرية ، وقد عرضنا لملابساتها في أول كتاب صدر لنا عام 1982 ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ). أما في هذا العام 826 فقد غضب ملك الحبشة بسبب غلق برسباى كنيسة القدس ، فأوقع ظلما فظيعا بالمسلمين عنده . ثم تم فتح هذه الكنيسة في العام التالى .
8ـ ( وفي هذه السنة: حدث أمر الناس في غفلة عنه معرضون، وهو أنه أخبرني من لا أتهم في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. أن الأرضة التي من طبعها إفساد الكتب والثياب الصوف، أكلت له بناحية مرج الزيات- ظاهر القاهرة- ألفا وخمسمائة قتة دريس وهذا الدريس يحمله خمسة عشر جملاً وأكثر. فكثر تعجبي من ذلك، وما زلت أفحص عنه على عادتي في الفحص عن أحوال العالم حتى وقفت على أن ضرر الأرضة تعدى بناحية مرج الزيات، فأتلفت الأخشاب والثياب عندهم، وقوى ضررها حتى شاهدت تلك الأعوام حوائط البساتين التي بناحية المطرية وقد جددت الأرضية فيها أخاديد طوالاً. ثم لما كان بعد سنة عشرين وثمانمائة كثر عبث الأرضة بالحسينية خارج القاهرة، حتى صارت أخشاب سقوف الدور ترى مجوفة من داخلها، فشرع أربابها في الهدم حتى أتوا على معظم تلك الديار، والأرضة ضررها يفحش، إلى أن وصلت الدور التي بباب النصر. وقد كثر ضررها أيضاً بالمدينة النبوية. وحدثت في هذه الأعوام بمكة أيضاً، وفي سقف الكعبة. ولقد مر بي قديماً في كتب الحدثان مما أنذر بوقوعه في هذا الزمان، أن يسلط على الناس الحيوان الرديء، فكنت أفكر في ذلك زماناً وأقول كيف يسلط الحيوان على الناس وأحسب ذلك من جملة ما رمزوه، حتى كان من أمر الأرضة ما كان، فعلمت أنها هي الحيوان المعني، ولعمري هذا أمر له ما بعده. )
التعليق
1 ـ ( الأرضة ) حشرة كالنمل تأكل الخشب والقماش والورق ونحوه ، وتنتشر في مستعمرات ، ومثل الوباء تنقلت هذه الحشرة من شمال مصر الى القاهرة ثم الى الحجاز ، تأكل المساكن. ولا شك أنها كانت تتنقل في الأمتعة ومع الحجاج .
2 ـ نتعرف هنا على :
2 / 1 : حرص المقريزى على تتبع الأخبار والتحقق من صحتها ، وهو يقول : ( وهو أنه أخبرني من لا أتهم في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. ) ( وما زلت أفحص عنه على عادتي في الفحص عن أحوال العالم حتى وقفت على أن ضرر الأرضة تعدى بناحية مرج الزيات، فأتلفت الأخشاب والثياب عندهم، وقوى ضررها حتى شاهدت تلك الأعوام حوائط البساتين التي بناحية المطرية )
2 / 2 : هنا عقلية المقريزى التي تؤمن بالتراث ، يقول : ( ولقد مر بي قديماً في كتب الحدثان مما أنذر بوقوعه في هذا الزمان، أن يسلط على الناس الحيوان الرديء، فكنت أفكر في ذلك زماناً وأقول كيف يسلط الحيوان على الناس وأحسب ذلك من جملة ما رمزوه، حتى كان من أمر الأرضة ما كان، فعلمت أنها هي الحيوان المعني، ولعمري هذا أمر له ما بعده. ).
ملاحظة
نتتبع الأحداث التي يذكرها المقريزى حسب تسلسلها الزمنى خلال كل شهر . نبدأ من الفصل القادم تتبعها موضوعيا خلال كل شهر.











الفصل الثالث : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 827
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى عن سنة 827 :
( سنة سبع وعشرين وثمانمائة :
( أهلت هذه السنة وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف أبو العز برسباي والأمير الكبير الأتابك بيبغا المظفري. والدوادار الكبير سودن بن عبد الرحمن. وأمير سلاح قجق. وأمير مجلس أينال النوروزي. وأمير أخور جقمق. ورأس نوبة أزبك. وحاجب الحجاب جرباش قاشق. والوزير كريم الدين عبد الكريم بن عبد الرزاق بن محمد ابن كاتب المناخ. وناظر الخاص بدر الدين حسن بن نصر الله. وكاتب السر جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي. وأستادار ناصر الدين محمد بن محمد بن أبي والي القدسي. ونائب الشام تنبك البجاسي. ونائب حلب شارقطلوا. ونائب حماة جلبان ونائب طرابلس قصروه. ونائب صفد مقبل. ونائب الإسكندرية أقبغا التمرازي. )
هذا معتاد ، البدء بأكابر المجرمين ، ثم قد يأتي بالأحوال العامة للسنة.
1 ـ ( ومع ذلك فالناس في ضيق من الحجر على السكر، والامتناع من بيعه إلا للسلطان بأربعة آلاف درهم القنطار، ولا يشتريه أحد إلا من الحوانيت التي يباع منها سكر السلطان. ). برسباى مستمر في إحتكار السكر ، هو وحده الذى يشتريه ، وهو وحده الذى يبيعه ، وبالتالي فهو وحده الذى يحدد السعر . قاع الفساد حين يعمل المستبد بالتجارة ويتحكم في الاقتصاد . جيش العسكر الحاكم في مصر الآن يسير في نفس الطريق .
2 ـ بدءا من هذا الفصل نتتبع الأحداث حسب موضوعها في نفس الشهر ، ونقوم بتجميعها تحت عنوان واحد، وما لا يتكرر منها نجعل لها ضمن الأحداث المتفرقة. ( شهر الله المحرم، أوله الأحد:
وظائف أكابر المجرمين :
1 ـ ( في ثانيه: قدم الأمير مقبل نائب صفد باستدعاء، فأكرمه السلطان، وخلع عليه خلعة الاستمرار. ). إستدعاه السلطان ليتأكّد من ولائه ، وكان من يستدعيه السلطان يأتي للسلطان بالرشاوى أو كما كانوا يسمونها ب ( التقادم ) ، أي ما يقدمه للسلطان من أموال وذهب وخيول ينهبها من الناس. ويرجع مرضيا عنه .
2 ـ ( وفي ثامنه: قدم الأمير قجق، والأمير أركماس، والقاضي زين الدين عبد الباسط من الحجاز على الرواحل، فخلع عليهم. وقدم معهم الشريف مقبل أمير ينبع، راغباً في الطاعة، فخلع عليه.).
3 ـ ( وفي رابع عشره: توجه الأمير مقبل عائدا إلى صفد، على عادته .)
4 ـ ( وفي ثامن عشرينه: خلع على الشيخ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر، مفتي دار العدل، واستقر في قضاء القضاة بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة علم الدين صالح بن البلقيني . ).
تعليق
تعيين ابن حجر العسقلانى قاضيا للقضاة الشافعية مكان ابن البلقينى . قاضى القضاة الشافعية هو الأعلى مقاما من الحنفى والمالكى والحنبلى . تعيين ابن حجر كان بالرشوة وشراء المنصب، وفقا للمعتاد في تطبيق الشريعة السُنّية. إبن حجر ــ المشهور عند السنيين بأنه أمير المؤمنين في الحديث والمشهور كتابه في شرح البخارى ــ كان خادما وضيعا للسلطان المجرم برسباى .
صراعات أكابر المجرمين :
1 ـ ( وفي حادي عشرينه: قدم الركب الأولى من الحجاج. وقدم من الغد المحمل ببقية الحاج. وتأخر الأمير قرقماس الدوادار في ينبع، وطلب عسكرًا ليقاتل به الشريف حسن بن عجلان، ويستقر عوضه في إمارة مكة، فأجيب إلى! ذلك. ونودي في الأجناد البطالين بالعرض، كما تقدم. وعين منهم ومن المماليك السلطانية جماعة ليسافروا صحبة حسين الكردي الكاشف. ) .
تعليق
بدء رجوع الحجاج ، وأخبار الحج والمحمل والنيل والمناخ من أهم ما يحرص على تسجيله المقريزى . ولكن هنا إضافة عن تمرد ابن عجلان شريف مكة ، ورآها فرصة أمير مملوكى طموح هو قرقماس الداودار فطلب عسكرا يحارب به ابن عجلان ليكون واليا على مكة بدلا منه . وستتوالى أخبار الصراعات في الحجاز.
2 ـ ( وفي ثالث عشرينه: خلع على الأمير سودن بن عبد الرحمن الدوادار، واستقر نائب الشام، عوضاً عن تنبك البجاسي، ونزل من القلعة سائراً إلى دمشق، من غير أن يدخل داره، في عدة من مماليكه على خيولهم بغير أثقال. وكان قد تحدث منذ أيام بمخامرة تنبك . ). وصلت وشاية الى برسباى بأن تنبك البجاسى والى الشام ( نائب السلطان في الشام ) يريد التمرد على السلطان ، فأسرع برسباى بعزل تنبك البجاسى وتولية سودون الداودار بدلا منه .
3 ـ ( وفيه خلع على الشريف علي بن عنان بن مغامس، واستقر في إمارة مكة شريكاً للأمير قرقماس ). تعيين ابن مغامس واليا على مكة مع الأمير قرقماس .
( الجامع الأشرفى ) مسجد أكبر أكابر المجرمين :
( وفي رابعه: ركب السلطان في طائفة يسيرة، وعبر من باب زويلة، حتى شاهد عمارته. ومضى عائدا إلى القلعة من باب النصر، وهو بثياب جلوسه، كآحاد الأجناد، من غير شعار المملكة . ).
تعليق
برسباى حريص ـ ليس على الشعب ـ ولكن على مسجده :( الجامع الأشرفى ) الذى يستثمر فيه المال السُّحت الذى ينهبه من الناس . بناء المعابد على إختلاف مسمياتها كانت ــ ولا تزال ـ أهم ملامح التدين في الأديان الأرضية ، يتم بناؤها بالسخرة والظلم والمال الحرام ، ثم هي التي تستر عورة الفساد ، وتبرّره ، وتشجّع عليه بأساطير الشفاعات . ألا يذكّركم هذا ببناء مسجد ( الفتاح العليم ) الذى يبنيه ( السلطان ) عبد الفتاح السيسى من المال السُّحت ؟
أخبار المناخ :
( وفي هذا الشهر: كثرت الأمطار بالقاهرة والوجه البحري كثرة زائدة. واشتد البرد إلى غاية لم نعهد مثلها، حتى جمد الماء في بعض الأواني، وتجلد الطل في الأسحار على الأرض وعلى الزروع. وهلكت دواب كثيرة بالأرياف من البرد، وسقطت دور كثيرة بها من الأمطار، ورؤى الثلج على جبل المقطم. ) .
أخبار متفرقة :
العثمانيون والمماليك
( وفي سادس عشرينه: قدمت رسل مراد بن عثمان صاحب برصا بهدية ). في هذا الوقت كانت الدولة العثمانية تتقرب الى الدولة المملوكية بالهدايا و ( النوافل ). فيما بعد بحوالي قرن دمّرت الدولة العثمانية الدولة المملوكية .
شهر صفر، أوله الثلاثاء:
وظائف أكابر المجرمين :
1 ـ جاهل يسعى الى منصب قاضى القضاة : ( في عاشره: قدم شمس الدين محمد الهروي من القدس، متعرضاً بعودة إلى القضاء وغير ذلك من المناصب . ) . الهروى إشتهر بالجهل والغطرسة والدأب في الحصول على المناصب . هذا ما تردد في سيرته في تاريخ هذا الوقت .
2 ـ ( وفي تاسع عشره: خلع على نور الدين السفطي- أحد مباشري دواوين الأمراء- واستقر في وكالة بيت المال، بعد موت شرف الدين يعقوب بن الجلال التباني . )
3 ـ ( وفي رابع عشرينه: خلع على الشيخ سراج الدين عمر بن علي بن فارس الخلاطي المعروف بقارئ الهداية. واستقر في مشيخة خانقاه شيخو، عوضاً عن شرف الدين يعقوب بن التباني . ) .
صراعات أكابر المجرمين :
1 ـ ( وفي رابع عشره: قدم الخبر بخروج تنبك البجاسي عن الطاعة ومحاربته أمراء دمشق. وسبب ذلك أنه لما ولي سودن بن عبد الرحمن نيابة الشام، تقدمت الملطفات السلطانية إلى أمراء دمشق، بالقبض على تنبك البجاسي، فأتوا دار السعادة في ليلة الجعة رابعه، واستدعوه ليقرأ عليه كتاب السلطان، فارتاب من ذلك، وخرج من باب السر، وقد لبس السلاح في جمع من مماليكه. فثار إليه الأمراء واقتتلوا معه حتى مضى صدر نهار الجمعة، فانهزموا منه، وتحصن طائفة منهم بالقلعة، ومضى آخرون إلى سودن بن عبد الرحمن، وقد نزل على صفد. ). حين علم تنبك البجاسى بقدوم سودون ليحل محله وليعتقله هرب ، وأعلن العصيان .
2 ـ ( وقدم الخبر بأن الأمير سودن بن عبد الرحمن لما نزل على صفد تلقاه الأمير مقبل نائبها، ونزل معه على جسر يعقوب. خرج تنبك البجاسي من دمشق بعدما تقدم ذكره من محاربة الأمراء حتى نزل على الجسر في يوم الجمعة حادي عشره، وقد قطع سودن بن عبد الرحمن الجسر فباتوا يتحارسون، وأصبحوا يوم السبت ثاني عشره يترامون نهارهم كله حتى حجز الليل بينهم، فباتوا ليلة الأحد على تعبيتهم. وأصبح تنبك يوم الأحد ثالث عشره راحلاً إلى جهة الصبيبة، في انتظار ابن بشارة أن يأتيه تقوية له، فكتب سودن بذلك إلى السلطان، وركب بمن معه على جرائد الخيل، وترك الأثقال في مواضعها مع نائب القدس. وساق حتى دخل دمشق في يوم الأربعاء سادس عشره، فتمكن من القلعة. فللحال أدركهم تنبك، وقد بلغه مسيرهم، فلقوه عند باب الجابية، وقاتلوه، فثبت لهم مع كثرتهم، وقاتلهم أشد قتال، والرمي ينزل عليه من القلعة، فتقنطر عن فرسه لضربة أصابت كتفه، حتى خلته فتكاثروا عليه، وجروه إلى القلعة ومعه نحو عشرين من أصحابه. وكتب بذلك للسلطان، فقدم الكتاب الأول من جسر يعقوب في يوم الأحد عشرينه، فاضطرب الناس، ووقع الشروع في السفر، وأحضرت خيول كثيرة من مرابطها بالربيع، فقدم الخبر الثاني بأخذ تنبك البجاسي بدمشق، فدقت البشائر، وكتب بقتل تنبك، وحمل رأسه إلي مصر، وتتبع من كان معه. وبطلت حركة السفر. ) .
تعليق
أكابر المجرمين يعيشون في خوف هائل من بعضهم ، لا يثق بعضهم ببعض ، والتآمر هو العُملة السائدة في تعاملهم مع بعضهم ، وأتباعهم عند الشدائد يفكرون بأقدامهم هربا بأنفسهم . هنا إضطرب مماليك برسباى خوفا من نجاح ثورة تنبك البجاسى واستعدوا للهرب ، ثم عدلوا عن رأيهم حين جاءهم نبأ قتل تنبك. ولذا جىء برأسه الى مصر ( وبطلت حركة السفر ) أو الهرب .
إلغاء إحتكار السُّكر :
( وفي ثاني عشرينه: نودي بأن يمكن الناس من طبخ السكر وبيعه وشرائه، وارتفع تحريكه، وتضمين بيعه، فسُرّ الناس بذلك . ). ولن يدوم سرورهم لأن السلطان برسباى كان أُعجوبة في الجشع والطمع . لم يتفوّق عليه إلا السلطان الحالي ( السى سى ).
أخبار متفرقة :
( وفيه أُبتدئ بهدم المأذنة التي أنشأها الملك المؤيد شيخ على باب الجامع الأزهر، من أجل أنها مالت حتى قرب سقوطها. ) . ستكون هذه بداية لترميم وإصلاح في جامع الأزهر ، الذى كان وقتها أقل شهرة من عشرات المعابد التي أنشأها المماليك من أمراء وسلاطين .
( شهر ربيع الأول، أوله الخميس:)
وظائف أكابر المجرمين :
1 ـ ( فيه خلع على ولي الدين محمد السفطي الشافعي، واستقر في إفتاء دار العدل، لا عن أحد. )
2 ـ ( وفي يوم الثلاثاء عشرينه: خلع على شمس الدين محمد بن عبد الدايم البرماوي، واستقر في تدريس الفقه للشافعية بالجامع المؤيدي، وكان بيد قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر. )
3 ـ ( وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير أزبك رأس نوبة، واستقر دواداراً كبيراً، عوضاً عن الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام، وكانت شاغرة هذه المدة. وخلع على الأمير تغري بردي المحمودي واستقر رأس نوبة، عوضاً عن الأمير أزبك . )
صراعات أكابر المجرمين :
1 ـ ( وفي ثانيه: نودي بالخروج إلى حرب مكة، فاستشنع ذلك. وكان قد بطل أمر التجويده إلى مكة، شغلاً بخبر تنبك البجاسي. فلما تفرغ قلب السلطان اشتغل بأمر مكة . ) . إستشنعوا وإستنكروا إرسال جيش ينتهك حُرمة مكة .
2 ـ ( وفي رابعه: أنفق في المجردين مبلغ أربعين ديناراً، لكل واحد . ) النفقة على الجنود الذين خرجوا في التجريدة الحربية، وهم ( المجردون ).
3 ـ ( وفي حادي عشره: قدم رأس تنبك البجاسي وعُلّق على باب النصر . ).
4 ـ( وفي ثامن عشره: خرجت التجريدة إلى مكة، صحبة الشريف علي بن عنان.)
( الجامع الأشرفى ) مسجد أكبر أكابر المجرمين :
( وفي سابع عشره: ركب السلطان حتى عبر من باب زويلة وشاهد عمارته ومضى من باب النصر إلى القلعة، وهو بثياب جلوسه، من غير شارة الملك . )
أخبار متفرقة :
( وفي يوم الخميس خامس عشره: رسم بفتح كنيسة قمامة بالقدس، ففتحت .)
( شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: )
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( في ثانيه: خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر، وأعيد إلى تدريس الجامع المؤيدي. وخلع على البرماوي واستقر نائباً عن حفيد قاضي القضاة ولي الدين أبي زرعة بن العراقي فيما باسمه من وظائف جده، حتى يتأهل لمباشرتها . ).
تعليق
كان توريث الوظائف العليا ( كالقضاء ) لأكابر المجرمين من معالم الشريعة السنية ، حيث يحصل أحدهم على الوظيفة بالرشوة ، أي يشتريها ، وإذا مات يرثها إبنه . إن كان الابن صغيرا تم تعيين من يقوم بالوظيفة عن الابن الى أن يكبر الابن .
2 ـ ( وفي تاسعه: خلع على قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي، واستقر في كتابة السر، عوضاً عن الجمال يوسف بن الصفي. ونزل في موكب جليل ومعه عدة من الأمراء والأعيان . ). حصل الهروى على مراده .
أخبار متفرقة :
1 ـ أخبار الغلاء : ( وفي هذا الشهر: تحرك سعر الغلال، وأبيع القمح بمائتي درهم الأردب، بعد مائة وأربعين. وقلّ وجوده . )
2 ـ حفل ( أو : مُهم ) لختان ابن السلطان : ( وفي سابع عشره: ختن السلطان ولده الأمير ناصر الدين محمد، وعمل لختانه مُهمّا حضره الأمراء، ثم خلع عليهم، وأركبهم خيولاً بقماش ذهب، وما منهم إلا من نقط عند الختان بمبلغ ذهب، فجمع النقوط وصرف للمزين ( الحلاق ) منه مائة دينار، وحمل البقية إلى الخزانة . ). جمع السلطان ( النقوط ) من الحاضرين، واستولى على معظمه. !!
3 ـ ( وفي هذه الأيام: عثر بعض الناس بجماعة قد خزنوا من رمم بني أدم شيئاً كثيراً، فحملوا إلى الوالي، فما زال بهم حتى أقروا أنهم ينبشون الأموات من قبورهم، ثم يغلون الميت في الماء بنار شديدة، حتى ينهري لحمه، ويجمعون ما يعلو الماء من الدهن، ثم يبيعونه للفرنج بخمسة وعشرين دينار القنطار، فحبسوا، ونسي خبرهم بعد ما شاهد الناس رمم الموتى عندهم والأواني التي بها الدهن، وحملت إلى السلطان حتى رآها وشق بها القاهرة . )
هؤلاء أصاغر المجرمين . لا يقتلون الأحياء ولا يسلبون أموالهم . هم فقط مثل الدود الذى يلتهم الجثث قبل أن تتحول الى تراب .!
(شهر جمادى الأول، أوله السبت . )
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( في ثالثه: خلع على زين الدين عبد الرحيم الحموي الواعظ، واستقر خطيباً بالجامع الأشرفي . )
2 ـ ( وفي ثامن عشره: خلع على الأمير ناصر الدين محمد بن العطار الحموي الذي كان نائب الإسكندرية، واستقر ناظر القدس والخليل عليه السلام، عوضاً عن الأمير حسام الدين حسن نائب القدس . )
صراعات أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي خامس عشره: قدم قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي من دمشقي، وقد طب الحضور . )
2 ـ ( وفي هذا الشهر: صودر أعيان دمشق، وهي ثالث مصادرة .), الأعيان هم الفقهاء والقضاة والتجار ..
3 ـ ( وفي تاسع عشرينه: قبض على الأمير ناصر الدين محمد بن أبي والي أستادار، وعلى ناظر الديوان المفرد كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب حكم، وعُوّقاً بالقلعة . ) ، أي تم إعتقالهما بالقلعة . هذا مثلما يفعل العسكر المصرى الآن بالمنع من السفر .!
فساد أكابر المجرمين من الفقهاء
( وفي رابعه: نودي من نزل عن وظيفة تصوف بخانكاة أو غير تصوف ضرب بالمقارع. وسبب ذلك أن جماعة ممن له تصوف بخانكاة سعيد السعداء، وخانكاة بيبرس والظاهرية المستجدة بين القصرين، وبخانكاة شيخو، وبالجامع المؤيدي، أخذوا في النزول عما باسمهم من التصوف بمال حتى يتشفعوا بمن له جاه، ويستقروا في عمارة السلطان من جملة صوفيتها، كما فعل جماعة عند ما أنشأ الملك المؤيد شيخ الجامع بجوار باب زويلة، وجعل فيه صوفية، فوشى بذلك للسلطان، فمنع من ذلك ليستقر في جامعه من ليس له وظيفة من فقراء أهل العلم. ) .
تعليق
كان يتم توظيف الفقهاء والصوفية في المعابد الدينية مثل ( الخوانق ، الأربطة والزوايا والجوامع والمساجد ) ، ويرتزقون من الوقف المُرصد لها . عندما إفتتح السلطان برسباى جامعه أسرع كثيرون يتنازلون عن وظائفهم بالبيع ليتم تعيينهم في جامع السلطان ( الأشرف برسباى ) : ( الجامع الأشرفى ). فهدّد برسباى من يفعل ذلك بالضرب بالمقارع . إحتقار برسباى للشيوخ الفقهاء يتضح في تهديدهم بالضرب بالمقارع .
( الجامع الأشرفى ) مسجد أكبر أكابر المجرمين :
( وفي يوم الجمعة سابعه: أقيمت الخطبة بالجامع الأشرفي، ولم يكمل منه سوى الإيوان القبلي . ). أُقيمت فيه صلاة الجمعة قبل إكتمال بنائه .
(شهر جمادى الآخرة، أوله الأحد:)
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( في ثانيه: خلع على الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وأعيد أستاداراً عوضاً عن ابن أبي والي، وأضيف إليه كشف الوجه البحري، فنزل في موكب جليل، ومعه أكثر الأمراء الأكابر، وعامة الأعيان . ). دفع المعلوم وأُعيد الى وظيفة الاستادار ، وأضيف اليه أن يكون كاشف الوجه البحرى ، أي سلطة السلب والنهب في الدلتا ، والصعيد .
2 ـ ( وفي ثاني عشره: خلع على الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، وأضيف إليه نظر الديوان المفرد، رفيقاً للأمير صلاح الدين أستادار، عوضاً عن كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب جكم واستقر ابن كاتب جكم على ما بيده من أستادار ابن السلطان. ). بعد تعويقهما في القلعة دفعا المعلوم ونالا الوظائف .
3 ـ ( وفي تاسع عشره: توجه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك عائداً إلى دمشق على قضاء الحنفية بها، بعد ما أخذ منه نحو عشرة آلاف دينار . ). فضيلته دفع رشوة ليكون قاضى قضاة الأحناف في دمشق .!
4 ـ عزل الهروى بعد أن تبين جهله وتولية ابن حجى مكانه : ( وفي يوم السبت المبارك حادي عشرينه: خلع على قاضي القضاة نجم الدين عمر ابن حجي، واستقر كاتب السر، عوضاً عن شمس الدين محمد الهروي. ونزل على فرس بسرج ذهب وكنبوش زركش، في موكب جليل إلى الغاية، فكان يوماً مشهوداً. وقد ظهر نقص الهروي وعجزه، فإنه باشر بتعاظم زائد، مع طمع شديد وجهل. مما وُسّد إليه، حيث كان لا يحسن قراءة القصص ولا الكتب الواردة فتولى قراءة ذلك بدر الدين محمد بن مزهر نائب كاتب السر وصار يحضر الخدمة، ويقف على قدميه، وابن مزهر هو الذي يتولى القراءة على السلطان. ). مع هذا تولى منصب كاتب السّر للسلطان ، وهو لا يعرف القراءة ولا الكتابة ، ولكن مؤهله هو قدرته على دفع الرشوة .
5 ـ ( وفيه قدم الشريف شهاب الدين أحمد بن علاء الدين علي بن برهان الدين إبراهيم، نقيب الأشراف بدمشق، وقد طلب الحضور. )
6 ـ ( وفي سلخه ( أي نهايته ): خلع على الشريف شهاب الدين أحمد نقيب الأشراف بدمشق، واستقر قاضي القضاة بدمشق، عوضاً عن القاضي نجم الدين عمر بن حجي كاتب السر، على مال كبير. )، دفع رشوة كبيرة .!!
صراعات أكابر المجرمين
1 ـ ( وفيه قدم الخبر بوصول الشريف علي بن عنان إلى ينبع بمن معه من المماليك المجردين. وتوجه الأمير قرقماس معه إلى مكة، فدخلوها يوم الخميس سادس جمادى الأولى، بغير حرب. وأن الشريف حسن بن عجلان سار إلى حلي بنى يعقوب من بلاد اليمن.) ( .. وأن الخطبة أعيدت بمكة لصاحب اليمن في سابع جمادى الأولى، بعد ما ترك اسمه والدعاء له من أيام الموسم . )
أخبار متفرقة :
وباء وسيول في مكة :
( وأن الوباء. بمكة ابتدأ من نصف ذي الحجة، واستمر إلى آخر شهر ربيع الآخر، فمات بها نحو ثلاثة آلاف نفس. وأنه كان يموت في اليوم خمسون إنساناً عدة أيام، وأن الوباء تناقص من أوائل جمادى الأولى. وأنه جاء في ثالث جمادى الأولى سيل عظيم، حتى صار المسجد الحرام بحراً، ووصل الماء إلى قريب من الحجر الأسود، وصار في المسجد أوساخ، وخرق كثيرة، جاء بها السيل. ) . الوباء سار الى مكة مع الحجاج ( واثق الخطوة يمشى ملكا..) !.
جشع السلطان برسباى
السلطان يطمع في جمع الزكاة من الناس لنفسه بدلا من الفقراء والمساكين ، ويستفتى الفقهاء فيرفضون :
( وفي يوم الأربعاء رابعه: جمع القضاة وأهل العلم، وقد رسم بأخذ زكوات أموال الناس للسلطان، فاتفقوا على أنه ليس له أخذها في هذا الزمان، فإن النقود من الذهب والفضة، والناس مأمونون فيها على إخراج زكاتها. وأما العروض من القماش ونحوه مما هو بأيدي التجار، فإن المكوس أخذت منهم في الأصل على أنها زكاة، ثم تضاعفت المكوس المأخوذة منهم، حتى جرى فيها ما جرى. وأما البهائم من الإبل والغنم، فإن أرض مصر لا ترعى فيها سائماً، وإنما هي تعلف بالمال، فلا زكاة فيها. وأما الخضروات والزروع، فإن الفلاحين في حال من المغارم معروفة. وانفضوا على ذلك، فبطل ما كانوا يعملون . ).
تعليق
موقف للفقهاء يستحق الإشادة ، هذا مع العلم بأنهم لو وافقوا برسباى تعين عليهم أن يدفعوا له زكاتهم أيضا . لكن جاء الاعتراف هنا بالظلم الواقع على الفلاحين ، وهم الذين يكدُّون في انتاج الخير .. للغير .!
عبرة لمن يتعظ :
السلطان السابق ( محمد بن ططر ) يخدم إبن السلطان الحالي ( محمد بن برسباى ) :
( وفيه اتفقت نادرة، وهي أن زوجة السلطان لما ماتت، عمل لها ختم عند قبرها في الجامع الأشرفي، ونزل ابنها الأمير ناصر الدين محمد من القلعة لحضور الختم، وقد ركب في خدمته الملك الصالح محمد بن ططر، فشق القاهرة من باب زويلة وهو في خدمة ابن السلطان، بعد ما كان في الأمس سلطاناً، وصار جالساً بجانبه في ذلك الجامع، وقائماً في خدمته إذا قام، فكان في ذلك موعظة لمن اتعظ ) . ولا أحد يتعظ .!!
السلطان يستولى على وقف قديم ظُلما وعُدوانا :
( وفي رابع عشرينه: ابتدئ بهدم ربع الحلزون تجاه قبو الخرنفش. وكان وقفاً على فكاك الأسرى ببلاد الفرنج، وعلى الحرمين. وقد خلق من قدم السنين، فعوض بدله مسمط تجاه مصبغة الأزرق، وصار من جُملة الأملاك السلطانية. ).
(شهر رجب، أوله الاثنين: )
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( في رابعه: خلع على شخص قدم من بلاد الروم عن قرب، يقال له علاء الدين علي، واستقر في مشيخة التصوف، وتدريس الفقه، على مذهب الحنفية بالجامع الأشرفي. ). بدأ العمل في جامع برسباى ( الجامع الأشرفى ) بتعيين شيخ صوفى وافد في مشيخة التصوف فيه . وظيفته أن يقيم حفلات الرقص والانشاد والدعاء للسلطان .
زيارات لأكابر المجرمين
1 ـ ( وفي عشرينه: توجه قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري- شيخ المؤيدية لزيارة القدس . )
2 ـ ( وفيه قدم الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن الجزري الدمشقي، وقد غاب عن مصر والشام نحوا من ثلاثين سنة، فإنه فر من ضائقة نزلت به إلى مدينة برصا، فأكرمه أبو يزيد بن عثمان ونوه به، حتى حاربه تيمورلنك وأسره، فتحول ابن الجزري من بلاد الروم إلى سمرقند في خدمة تيمور، وأقام ببلادهم حتى قدم في هذه الأيام . ). قضى هذا الشيخ ثلاثين عاما يخدم السلاطين من أكابر المجرمين ، العثمانيين وتيمورلنك ثم المماليك .
( الجامع الأشرفى ) مسجد أكبر أكابر المجرمين :
( وفي يوم الأحد حادي عشرينه: نزل السلطان إلى الجامع الذي أنشأه، وجلس به قليلا. ثم ركب عائداً إلى القلعة . )
النيل
5 ـ ( وفي رابع عشرينه: نودي على النيل، وقد جاءت القاعدة ستة أذرع وعشرين إصبعاً).
الصراع البحرى مع الصليبيين
( وقدم الخبر بأخذ الفرنج مركبين قريباً من دمياط، فيها بضائع كثيرة، وعدة أناس، يزيدون على مائة رجل، فكتب بإيقاع الحوطة على أموال التجار التي ببلاد الشام والإسكندرية ودمياط، والختم عليها، وتعويقهم عن السفر إلى بلادهم . ).
تعليق
أصبح الصراع بحريا بين المماليك والصليبيين ، وتحول الى عمليات قرصنة متبادلة ، وجعل الصليبيون قبرص نقطة ارتكاز لهم ، واسفر في النهاية عن قيام برسباى باحتلال قبرص . وسنعرض لهذا بالتفاصيل في حينه ، ولكن هذا الخبر يدل على ناحية من ثقافة التعصب ، إذ عاقب برسباى التجار الأوربيين في مصر والشام ردّا على عدوان الصليبيين . الشريعة السنية لا تعترف بالقاعدة الإسلامية أنه لا تزر وازرة وزر أخرى .
(شهر شعبان، أوله الأربعاء: )
أخبار متفرقة ـ
1 ـ ( فيه تتبعت البغايا وألزمن بالزواج، وأن لا يزاد في مهورهن على أربعمائة درهم من الفلوس، تعجل منها مائتان وتؤجل مائتان. ونودي بذلك، فلم يتم منه شيء . ).
تعليق
البغاء كان مُباحا وفق الشريعة السنية السائدة ، وكانت البغايا لهنّ شيخة ( ضامنة ) تدفع الضرائب للدولة. وكان يحدث خروج عن هذه العادة ، نوعا من الإستثناء ، يعقبه العودة للأصل ، الاستثناء هو تزويج البغايا مع تحديد مهور لهن . ونادى المنادى بذلك ، ثم كالعادة نسى الناس . ومصر بلد ( كل شيء فيه يُنسى بعد حين . ).
2 ـ حفل تلاوة البخارى : ( وفيه ابتدئ بقراءة صحيح البخاري بين يدي السلطان، وحضرة القضاة، ومشايخ العلم، والهروي، وابن الجزري، وكاتب السر نجم الدين بن حجي، ونائبه بدر الدين محمد بن مزهر، وزين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، والفقهاء الذين رتبهم المؤيد. فاستجد في هذه السنة حضور كاتب السر ونائبه وحضور ناظر الجيش. وكانت العادة من أيام الأشرف شعبان بن حسين أن يبدأ بقراءة البخاري أول يوم من شهر رمضان، ويحضر قاضي القضاة الشافعي، والشيخ سراج الدين عمر البلقيني، وطائفة قليلة العدد لسماع الحديث فقط. ويختم في سابع عشرينه، ويخلع على قاضي القضاة، ويركب بغلة رائعة بزناري تخرج له من الاصطبل السلطاني ولم يزل الأمر على هذا حتى تسلطن المؤيد شيخ، فابتدأ القراءة من أول شهر شعبان إلى سابع عشرين شهر رمضان. وطلب قضاة القضاة الأربع ومشايخ العلم، وقرر عدة من الطلبة يحضرون أيضاً، فكانت تقع بينهم بحوث يسيء بعضهم على بعض فيها إساءات منكرة، فجرى السلطان الأشرف برسباي على هذا، واستجد كما ذكرنا حضور المباشرين، وكثر الجمع. وصار المجلس جميعه صياحاً ومخاصمات، يسخر منها الأمراء وأتباعهم . ).
تعليق
هنا حضور السلطان وكبار الأمراء والقضاة والفقهاء ، والطلبة ، وأشار المقريزى الى البداية في عصر الأشرف شعبان في دولة المماليك البحرية ، والتغيير الذى أحدثه السلطان المؤيد شيخ قبل برسباى . وتحول مجلس تلاوة البخارى الى شجار بين الفقهاء ، جعل الأمراء المماليك يسخرون منهم، أي كان الشيوخ أحقر من المماليك .
الوباء : ( وفي هذا الشهر: كثر الوباء بدمياط، فمات عدد كثير. )
( شهر رمضان، أوله الخميس : )
صراع أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي رابعه: أخرج الأمير أرغون شاه أستادار والأمير ناصر الدين محمد بن أبي والي، من القاهرة إلى دمشق، بطالين . ). انتهى ارغون الاستادار وسلفه ابن أبى والى الاستادار الى النفى لدمشق ، بدون عمل . ( بطّال ) أي بلا عمل . والمثل المصرى يقول ( نهاية خدمة الغّزّ علقة ) ، أي مكافأة نهاية الخدمة للغُزاة علقة . ربما جاء هذا المثل من ثقافة العصر المملوكى .
النيل :
( وفي يوم الجمعة سادس عشره: نودي على النيل بزيادة إصبعين لتتمة خمسة عشر ذراعاً وأربعة عشر لإصبعاً ، ثم نقص من آخر النهار نحو أربعة أصابع ، فأصبح الناس في قلق، وطلبوا القمح ليشتروه، فأمسك من عنده شيء منه يده عن البيع، وضنّ به فاشتد طلبه، إلا أن الله فرج، وزاد في آخر يوم الأحد. ونودي عليه يوم الاثنين تاسع عشره برد ما نقص، وزيادة إصبع. واستمرت الزيادة حتى كان الوفاء في يوم الأربعاء المبارك حادي عشرينه، وهو ثالث عشر من مسرى، ففتح الخليج على العادة . ). عند انخفاض النيل تبدو نُذر المجاعة ، ويقوم التجار بتخزين القمح .. لذا كانت أهمية مقياس النيل .
الصراع البحرى مع الصليبيين
1 ـ ( وفي تاسعه: سار غرابان ( الغراب نوع من السفن الحربية ) من ساحل بولاق خارج القاهرة، وقد قدما منذ أيام، أحدهما من الإسكندرية، والآخر من دمياط، وأشحنا بالمقاتلة والأسلحة. وأنزل فيهما ثمانون مملوكاً، وأمروا أن يسيروا في بحر الملح ( البحر المالح / البحر المتوسط ) من جهة طرابلس ( طرابلس الغرب ) ، ويأخذوا من سواحل الشام عدة أغربة، عسى أن يجدوا من يتجرم في البحر من الفرنج . ). إرسال عدة سفن حربية من ترسانة بولاق على نيل القاهرة الى البحر المتوسط ومعها سفن أخرى من السواحل الشامية لمطاردة السفن الصليبية التي ( تتجرّم ) أي تتقرصن ( من القرصنة ).
2 ـ ( وفي هذا الشهر: سار مائة مقاتل في بحر القلزم ( البحر الأحمر ) إلى مكة المشرفة . ).
تعليق
كان البحر الأحمر تحت السيطرة المصرية حماية للحجاز ومكة والمدينة . وحرص الصليبيون على التسلل للبحر الأحمر للوصول الى الحبشة والتحالف معها ، وكان حرص الأيوبيين والمماليك على منع هذا .
أين العسكر المصرى الفاشل الخائب من استراتيجية البحر الأحمر الآن ؟
( شهر شوال، أوله السبت: )
صراع أكابر المجرمين
( وفي يوم السبت تاسع عشرينه: حضر الأمراء الخدمة السلطانية على العادة، ونزلوا إلى دورهم، فاستدعى السلطان جماعة منهم لطعام عمله، منهم الأمير الكبير بيبغا المظفري فلما صار بالقلعة قبض عليه وقُيّد، وأنزل في النيل، حتى سجن بالإسكندرية. وقد كانت الإشاعة منذ أيام، بتنكر ما بينه وبين السلطان وأنه صار له حزب . ). خاف السلطان من الأمير الكبير بيبغا المظفرى فاحتال للإيقاع به بهذه الطريقة .
النيل
3 ـ ( وانتهت زيادة النيل إلى سبعة عشر ذراعاً واثني عشر إصبعاً. ووقفت الزيادة خامسه، ونقص إلى يوم الأحد تاسعه، زاد إلى يوم الأربعاء ثاني عشره، فبلغ سبعة عشر إصبعاً من ثمانية عشر إصبعاً من ثمانية عشر ذراعاً. ونقص في يوم الخميس ثالث عشره . وكان قد تأخر فتح سد بحر أبي المنجا عن عادته، هو وغيره مما يفتح في يوم النوروز، لتأخر وفاء النيل. فلما فتحت نقص الماء، وقلق الناس من ذلك، وطلبوا القمح ليشتروه ، فزاد سعر الأردب عشرة دراهم .)
المحمل
( وفي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى جهة بركة الحجاج، صحبة الأمير قرا سنقر كاشف الجيزة. ورحل الركب الأول في ثاني عشرينه، وتبعه المحمل ببقية الحجاج في ثالث عشرينه . )
أخبار من خارج الدولة المملوكية
2 ـ ( وفيه قدم الخير بأن أبا فارس عبد العزيز بن أبي العباس أحمد- صاحب تونس وبلاد إفريقية- جهز ابنه المعتمد أبا عبد الله محمداً، من بجاية في عسكر إلى مدينة تلمسان، فحارب ملكها أبا عبد الله عبد الواحد بن أبي محمد عبد الله بن أبي حمو موسى حروباً كثيرة، حتى ملكها في جمادى الآخرة، وخطب لنفسه ولأبيه، فزالت دولة بني عبد الواد من تلمسان بعد ما ملكت مائة وثمانين سنة . )
استيلاء على الأوقاف
4 ـ ( وفي خامس عشره: ابتدئ بهدم الربع المعروف بوقف الشهباني، تجاه الجامع الأشرفي، برأس الخراطين، وقد استبدل به لتشعث بنائه، وخوف سقوطه. ) استولى برسباى على وقف مجاور لمسجده ( الجامع الأشرفى )
اخبار متفرقة
1 ـ ( في رابعه: ابتدئ بحفر صهريج بوسط الجامع الأزهر، فوجدت فيه أثار فسقية قديمة، فلما أزيلت، وجد- بعد ما حفر- عدة أموات . )
2 ـ ( وفي هذا الشهر: كان أوان جذاذ النخل، فلم يثمر كبير شيء وأمحل النخل أيضاً ببلاد الصعيد، حتى عز وجود التمر هناك. وتلف الموز في هذه السنة بدمياط، وقل وجوده بأسواق القاهرة، أو فُقد . )
( شهر ذي القعدة، أوله الاثنين: )
وظائف اكابر المجرمين
1 ـ ( في رابعه: خلع الأمير قجق أمير سلاح. واستقر أميراً كبيراً، عوضاً عن بيبغا المظفري. وخلع على الأمير إينال النوروزي أمير مجلس، واستقر أمير سلاح عوضاً عن قجق. وأنعم بإقطاع بيبغا المظفري- ومتحصله في السنة مبلغ ستين ألف دينار- على تغري برمش نائب القلعة وعلى أينال الجكمي وهو بطال بالقدس، وكتب بإحضاره. وتغري برمش هذا من جملة تركمان بهسني، اسمه حسين، خدم بحلب في الأيام الظاهرية برقوق، بباب نائبها الأمير تغري برمش. وتنقل في الخدم حتى صار في الأيام المؤيدية شيخ دوادار الأمير جقمق الدوادار. فلما تسلطن الملك الأشرف برسباي اختص به، وجعله من جملة الأمراء . ).
تعليق
قسّم المماليك الأرض المصرية المزروعة ( قطعا ) ، ووزعوها ( إقطاعات )على السلطان فمن دونه من الأمراء ، الأمير المملوكى يعهد لمن يقوم عنه بالاشراف على الفلاحين ، مقابل أن يدفع للأمير مبلغا معلوما في العام ، ويتعامل مع الفلاحين كيف شاء. والأمير المملوكى الذى يُطاح به يفقد وظيفته وربما حياته ، ويفقد إقطاعه. وهذا ما حدث للأمير بيبغا المظفرى الذى فقد إقطاعا كان يدرُّ عليه ستين ألف دينار سنويا .
العسكر المصرى الحاكم الآن بدأ يدخل في هذا بسيطرة الجيش على كل شيء .!
.2 ـ ( وفي يوم الاثنين: قدم الأمير إينال الجكمي من القدس، فخلع عليه واستقر أمير مجلس، عوضاً عن أينال النوروزي. وهذا الجكمي من جملة مماليك الأمير جكم، وانتقل إلى الأمير سودن بقجة. ثم صار إلى الأمير شيخ المحمودي. فلما تسلطن، عمله من جملة المماليك الخاصكية. ثم غضب عليه ونفاه، ثم أعاده من النفي لبراءته مما رمى به، فرقاه ططر حتى صار من الأمراء المقدمين. ثم قبض عليه، ونفي حتى أعاده السلطان في يوم تاريخه إلى الإمرة . ).
تعليق
سيرة حياة الأمير إينال الجكمى تعطى لمحة عن وصول المملوك الى درجة الامارة . يؤتى به عبدا مملوكا يشتريه أمير مملوكى ، هكذا جىء بالولد إينال الذى إشتراه الأمير بجكم ، وأعتقه ورقّاه فصار تابعا له وحمل لقب ( إينال الجُكمى ) ، بعدها أصبح تابعا للأمير سودون بُقجة ، ثم للأمير شيخ المحمودى ، ولما أصبح الأمير ( شيخ ) سلطانا رقّاه، ثم غضب عليه ونفاه ، ثم عفى عنه ، ثم رقاه السلطان ططر ، ثم غضب عليه ونفاه ، وتولى برسباى فأعاده ورقّاه وجعله أمير مجلس ، وهو ما يعادل الآن عضو المجلس الأعلى للعسكر .
3 ـ ( وفي يوم الاثنين ثامنه: خلع على شمس الدين محمد الهروي، واستقر قاضي القضاة، عوضاً عن الشيخ الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، فغير زيه. وهذه المرة الرابعة في تغيير زيه، فإنه كان أولاً يتزيا بزي العجم، فيلبس عمامة عوجاء بعذبة عن يساره. فلما ولي قضاء القضاة لبس الجبة، وجعل العمامة كبيرة، وأرخى العذبة من بين كتفيه. فلما ولي كتابة السر تزيا بزي الكتاب، وترك زي القضاة، فضيق كمه، وجعل عمامته صغيرة مدورة، ذات أضلاع، وترك العذبة، وصار على عنقه طوق، ولبس الذهب والحرير، ولم يخش الله، ولا استخفى من الناس. فلما أعيد إلى القضاء ثانياً خلع زي الكتاب، وتزيا- بزي القضاة ، وكان ضخماً، بطيناً، ألحي، فأشبه في حالاته هذه الصفاعتة من المخايلين، الذين يضحكون أهل المجانة والهزؤ، وماذا بمصر من المضحكات .!! ).
تعليق
الهروى كان اُعجوبة في الجهل ، ومع ذلك تقلّب في المناصب لأنه كان أُعجوبة في الفساد ، أي كان الشخص المناسب لعصره. وبسبب تقلبه في مختلف المناصب فقد كان يغيّر زيّه الرسمي حسب كل منصب يتولاه . وبسبب كثرة مناصبه كثر تغييره للزىّ ، وتندّر المقريزى عليه ، فقال : ( وكان ضخماً، بطيناً، ألحي، فأشبه في حالاته هذه الصفاعتة من المخايلين، الذين يضحكون أهل المجانة والهزؤ، وماذا بمصر من المضحكات .!! ). قوله :( الصفاعتة المخايلين ) يشير الى فن ( خيال الظل ) أو( الأراجوز) أو ( فن العرايس ) الذى كان يتبادل فيه الأراجوز صفع رفيقه ليُضحك الناس . وكان من عباقرة هذا الفن في العصر المملوكى ( إبن دانيال ) ، وله مايمكن إعتباره مسرحيات أو( بابات) وقد ضمنها في كتابه ( طيف الخيال ). وقال عنه المقريزى في وفيات عام 710 : ( ومات الأديب البارع شمس الدين محمد بن دانيال بن يوسف بن معتوق الخزاعي الموصلي في ثامن عشرى جمادى الآخرة، ومولده بالموصل سنة سبع وأربعين وستمائة، وكان كثير المجون والشعر البديع، وله كتاب طيف الخيال، لم يصنف مثله في معناه ).
صراعات أكابر المجرمين ( المماليك والأعراب )
1 ـ ( وفيه كثرت الفتن، وتعددت بالوجه القبلي والبحري ) .
تعليق
طالما يتحدث عن الريف المصرى فالمقصود بالفتن هنا الصراع بين المماليك والأعراب ، وكانت أطراف الريف مسرح هذا الصراع ، وكان الفلاحون ضحاياه ، لذا كانوا يهربون الى القاهرة من سوء الأحوال ، يقول الخبر التالى :
2 ـ ( وفي تاسع عشرينه: نودي بخروج أهل الريف من القاهرة ومصر إلى بلادهم فلم يُعمل بذلك . ). ينادى المُنادى ..ولا حياة لمن تُنادى . مصر بلد ( كل شيء فيه يُنسى بعد حين ).!
الصراع البحرى مع الصليبيين
( وفي يوم السبت عشرينه: وصل الغرابان بالأسرى والغنيمة. وذلك أنهما لما مرا بدمياط، تبعهما قوم من المطوعة في سلورة( سفينة حربية ) ، حتى مروا بطرابلس سار معهم غرابان إلي الماغوصة، فأضافهم متملكها، فلم يتعرضوا لبلاده، ومضوا عنه إلى بلاد يقال لها اللمسون من جزيرة قبرس، وقد استعد أهلها وأبعدوا عيالهم، وخرجوا في سبعين فارساً وثلاثمائة راجل، فقاتلهم المسلمون، وهزموهم وقتلوا منهم فارساً واحداً وعدة رجال، وحرقوا ثلاثة أغربة، وغرقوا ثلاثة أغربة، وعاثوا فيما وجدوه من ظروف العسل والسمن وغير ذلك. وأسروا ثلاثة وعشرين رجلاً، وغنموا جوخاً كثيراً، رفع للسلطان منه مائة وثلاث قطع، طرحت على التجار ولم يعط المجاهدون منها شيئاً . ).
تعليق
1 ـ كان في قبرص وقتها مملكتان ، إحداهما صليبية تهاجم الدولة المملوكية بحرا ، وعاصمتها ( اللمسون / ليماسول الآن ) ، والأخرى مسالمة وهى ( الماغوصة / فاماجوستا الآن ) . قبرص الآن مقسمة ، قبرص اليونانية وقبرص التركية.
2 ـ حرم برسباى المجاهدين المصريين من الغنائم. وهذا تطبيقه للشريعة السنية التي يؤمن بها القضاة والفقهاء .
النيل
( وفي هذا الشهر: هبط ماء النيل، وشرق أكثر النواحي بالصعيد والوجه البحري. ومع ذلك فالأسعار رخيصة، القمح بمائة وثمانين درهماً الأردب، والشعير بخمسة وثمانين الأردب، والفول بثمانين درهماً الأردب )
أخبار متفرقة :
( وفيه فتحت كنيسة قمامة بالقدس، وكان قد تأخر فتحها بعد ما رسم به . )
( شهر ذي الحجة، أوله الثلاثاء:)
وظائف أكابر المجرمين :
وراثة المنصب : ( وفي ثامن عشره: خلع على سعد الدين سعد ابن قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري، واستقر في مشيخة الجامع المؤيدي، بعد موت أبيه بالقدس . ).
صراعات أكابر المجرمين
1 ـ ( في يوم النحر رمى بعض المماليك من أعلا الطباق بالحجارة، والسلطان يذبح الأضاحي، والمماليك تنهب لحومها، بخلاف العادة، فأصيب بعض الأمراء بحجر. ودخل السلطان داخل الدور، وكثر الكلام. وسبب ذلك أنه لم يفرق الأضاحي في المماليك، وأعطى كل واحد منهم ديناراً، فلم يرضهم هذا، ولم يكن منهم سوى ما ذكر. وسكن أمرهم . ). هنا إرهاص بالفتن التي سيقوم بها المماليك الجُلبان ، أي الذين يؤتى بهم كبارا ، فيكونون متمرسين على إرتكاب الجرائم .
2 ـ( وفي ثالث عشره: قبض على الأمير كمشبغا الفيسي، أحد أمراء الناصر فرج . )





























الفصل الرابع : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 828
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى عن سنة 828 :
( سنة ثمان وعشرين وثمانمائة )
( أهلت وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داو بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد وليس له من الخلافة إلا مجرد الاسم بلا زيادة. وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي. والأمير الكبير الأتابك قجق. والدوادار الكبير أزبك- وهو اسم- معناه الأمير جانبك، فهو صاحب الأمر والنهي في الدوادارية، بل في سائر أمور الدولة. وأمير سلاح أينال النوروزي. وأمير مجلس أينال الجكمي. وأمير أخور جقمق ، ورأس نوبة تغري بردي المحمودي. وحاجب الحجاب جرباش قاشق. و إستادار صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ. وكاتب السر نجم الدين عمر بن حجي الدمشقي ، وناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل. وليس لأحد في الدولة تصرف غيره، والأمير جانبك الدوادار. وقاضي القضاة الشافعي شمس الدين محمد الهروي. وقاضي الحنفي زين الدين عبد الرحمن التفهني. وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي وقاضي الحنبلي علاء الدين علي بن مغلي. ونائب الشام سودن من عبد الرحمن. ونائب حلب شار قطلوا. ونائب حماة جلبان أمير أخور. ونائب طرابلس قصروه ، ونائب صفد مقبل الدوادار. ونائب الإسكندرية أقبغا التمرازي. وبمكة الشريف علي بن عنان والأمير قرقماس.)
تعليق :
1 ـ يذكر في مقدمة المناصب الخليفة العباسى ، رمزا دينيا للدولة المملوكية ، مع التأكيد على إنعدام نفوذه . ويذكر سلطة كبرى لناظر الجيش عبد الباسط ( وقد كان الأقل فسادا )، والأمير جانبك الداودار، كما يذكر رجلا وإبنه في منصبين، وهما :( إستادار صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. ). (الصاحب) كان لقبا للوزير، أو من تولى الوزارة. وسيحدث تغيير في المناصب حسب الصراعات الدائرة بين أكابر المجرمين ، وأهمها عن ابن حجّى كاتب السّر الذى تناقصت صلاحياته ، وانتهى به الأمر الى العزل التام والعقاب .
2 ـ الملاحظ أنه في الدولة الدينية يسود لقب ( كذا الدين : محب الدين ، علاء الدين ، صدر الدين ، بدر الدين ، زين الدين ، كريم الدين ..الخ ) .
3 ـ أشار المقريزى الى الأحوال العامة التي تسبب فيها أكابر المجرمين ، وهى : ـ 3 / 1 : الظلم والكساد والخراب والفقر وانعدام الأمن ، وإهمال العناية بالكباري والجسور ورعاية الترع إذ تفرّغ الكُشّاف الى الجباية والسرقة ، كما أن القضاة وصل فسادهم الى تشنيع العوام عليهم ، هذا مع شيوع الشّح والطمع بين الناس ، وضياع الدين بمعنى الأخلاق ، وعموم الشكوى . المقريزى يرسم هنا لوحة تاريخية رائعة ، يقول : ( وأسواق القاهرة ومصر ودمشق في كساد. وظلم ولاة الأمر من الكشاف والولاة فاش. ونواب القضاة قد شنعت قالة العامة فيهم من تهافتهم. وأرض مصر أكثرها بغير زراعة، لقصور مد النيل في أوانه، وقلة العناية يعمل الجسور، فإن كشافها، إنما دأبهم إذا خرجوا لعملها أن يجمعوا مال النواحي لأنفسهم وأعوانهم. والطرقات بمصر والشام مخوفة من كثرة عبث العربان والعشير. والناس على اختلاف طبقاتهم قد غلب عليهم الفقر. واستولى عليهم الشح والطمع، فلا تكاد تجد إلا شاكياَ مهتماً لدنياه وأصبح الدين غريباً لا ناصر له. )، والمقريزى يكرر ـ تقريبا ـ هذا الوصف ، أو تلك الشكوى في كل عام ، دليلا على فساد حكم أكابر المجرمين وشريعتهم السُّنّية . وهو شاهدنا على عصره ، كما إننا شهود على عصرنا الردىء الذى يكرر ـ بكل غباء ـ مظالم العسكر المملوكى ، مع أن العسكر المملوكى كان متّسقا مع ثقافة العصور الوسطى ووصل بمصر الى الصدارة متزعما دول المحمديين يواجه الأوربيين الغربيين ، أما العسكر المصرى الفاشل الخائب الذى يحتل مصر الآن ووصل بها الى الحضيض ـ فهو لا يتّسق مع ثقافة عصرنا ، وهى الحرية وحقوق الانسان.
3 / 2 : ثم يتحدث المقريزى عن أسعار المواد الغذائية والعُملة : ( وسعر القمح بمائتي درهم الأردب . والشعير بمائة وعشرة. والفول بنحو ذلك. ولحم الضأن السليخ كل رطل بسبعة دراهم ونصف، ولحم البقر كل رطل بخمسة دراهم. والفلوس كل رطل بتسعة دراهم، وهي النقد الذي ينسب إليه ثمن ما يباع، وقيمة ما يعمل. والفضة كل درهم وزنا بعشرين درهماً من الفلوس والذهب الإفرنجي، المشخص بمائتي وخمسة وعشرين درهماً . )
4 ـ بعدها يأتي بتفصيلات الأحداث حسب الشهور :
( شهر المحرم، أوله الخميس: )
وظائف أكابر المجرمين
:( وفيه صرف صدر الدين أحمد بن العجمى عن نظر الجوالي، وأضيف نظرها إلى القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش. وكانت الجوالي قد كثر المرتب عليها للناس من أهل العلم وغيرهم، حتى لم تف بمالهم . ). عزل ابن العجمى عن نظر الجوالى التي يُصرف منها مرتبات الفقهاء، وتولاها عبد الباسط ناظر الجيوش.
صراعات أكابر المجرمين:
في مكة :
1 ـ ( وفي رابع عشرينه: قدم الركب الأول. ثم قدم من الغد المحمل ببقية الحاج، ومعهم الشريف رميثة بن محمد بن عجلان في الحديد، وقد قبض عليه الأمير قرقماس بمكة . )
2 ـ( وفي هذه الأيام: رسم بتجهيز عسكر يتوجه إلى مكة، ونودي بذلك في القاهرة. ) ـ
الحج
(في ثانيه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامتهم، ورخاء الأسعار. بمكة، وأنه لم يقدم من العراق حاج . )
زيارات السلطان لجامعه ( الجامع الأشرفى) وللأولياء الصوفية
( وفي تاسع عشرينه: نزل السلطان إلى جامعه، وكشف عمائره، ودخل الجامع الأزهر لرؤية الصهريج ، وزار به الشيخ خليفة والشيخ سعيد، وهما من المغاربة، لهما بالجامع الأزهر عدة سنين، و اشتهرا بالخير. ثم خرج من الجامع إلى دار رجل يعرف بالشيخ محمد بن سلطان، فزاره، وعاد إلى القلعة.). أكبر أكابر المجرمين يزور الأولياء الصوفية ليشفعوا له حسب خرافات دين التصوف السُنّى.

( شهر صفر، أوله السبت:)
وظائف أكابر المجرمين :
1 ـ ( وفي يوم الاثنين رابع عشرينه: خلع على الشيخ محب الدين أحمد بن الشيخ جلال الدين نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر التستري البغدادي الحنبلي. واستقر قاضي القضاة الحنابلة بعد موت علاء الدين علي بن مغلي. ومحب الدين هذا قدم من بغداد بعد سنة ثمانين وسبعمائة، فسمع الحديث، وقرأ بنفسه على مشايخ الوقت، ولازم الاشتغال حتى برع في الفقه وغيره. وقدم أبوه من بغداد باستدعائه، فنزله الظاهر برقوق في تدريس الحنابلة. بمدرسته بين القصرين. ثم نزل ابنه محب الدين هذا يدرس الحديث فيها ثم انتقل إلى تدريس الفقه بعد أبيه، وكتب على الفتوى وناب في الحكم عن ابن مغلي. وصار ممن يحضر من الفقهاء مجلس المؤيد في كل أسبوع . ). أكابر المجرمين من الفقهاء كانوا يتجولون في الدول ، ويجدون الوظائف في إنتظارهم ، لأن أكابر المجرمين من السلاطين يحتاجون اليهم .
2 ـ عزل ابن العجمى عن نظر صناعة كسوة الكعبة ونقلها لعبد الباسط :
( وفيه صرف صدر الدين أحمد بن العجمي عن نظرة الكسوة، وأضيفت أيضاً إلى القاضي زين الدين عبد الباسط، فعنى بها، حتى لم ندرك كسوة عملت للكعبة مثلها . )
زيارات السلطان
( في حادي عشرينه: ركب السلطان في طائفة يسيرة بثياب جلوسه، كما قد صارت عادته. وكشف الطريدة الحربية التي تعمل بساحل بولاق وسار ، وقد تلاحق به بعض أهل الدولة حتى مر على جزيرة الفيل إلى التاج. ونزل بالمنظرة التي أنشأها المؤيد شيخ فوق الخمس وجوه. ثم سار في أرض الخندق إلى خليج الزعفران، وتوجه إلى القلعة . ). هذا مرتبط بالاستعدادات الحربية البحرية ضد الصليبيين .
جرائم أصاغر المجرمين
( وفي ليلة الأربعاء سادس عشرينه: غرقت امرأة لها ولزوجها شهرة، لقالة سيئة عنها. ) . الانحلال الخلقى في العصر المملوكى كانت تتبعه جرائم قتل . ساعد عليه تنقُّب النساء ( لبسهن النقاب ) طبقا للشريعة السُنّيّة .
( شهر ربيع الأول، أوله الاثنين:)
صراعات أكابر المجرمين
في مكة : ( وفي سابعه: سار الأمير أرم بغا- أحد أمراء العشرات- تجريدة إلى مكة، ومعه مائة مملوك )
مكوس ( جمارك ) التجارة الشرقية من الهند الى البحر الأحمر
( وتوجه سعد الدين إبراهيم بن المرة- أحد الكتاب- لأخذ مكوس المراكب الواصلة من الهند إلى جدة. وجرت العادة من القديم أن مراكب تجار الهند ترد إلى عدن ولم يعرف قط أنها تعدت بندر عدن. فلما كان سنة خمس وعشرين، خرج من مدينة كاليكوت ( في الهند ) ناخذاه( أي "ربّان سفينة" ) اسمه إبراهيم. فلما مر على باب المندب جور ( أي أبحر ) إلى جدة بطراده، حنقًا من صاحب اليمن؛ لسوء معاملته للتجار، فاستولى الشريف حسن بن عجلان ما معه من البضائع، وطرحها على التجار بمكة. فقدم إبراهيم المذكور في سنة ست وعشرين على المندب، ولم يعبر عدن، وتعدى جدة وأرسى بمدينة سواكن ثم بجزيرة دهلك ( مقابل السودان )، فعامله صاحباها أسوأ معاملة. فعاد في سنة سبع وعشرين وجور عن عدن، ومر بجدة يريد ينبع. وكان بمكة الأمير قرقماس، فمازال يتلطف لإبراهيم حتى أرسى على جده. بمركبين، فجامله أحسن مجاملة، حتى قويت رغبته، ومضى شاكراً ثانياً. وعاد في سنة ثمان وعشرين، ومعه أربعة عشر مركباً موسوقة بضائع. وقد بلغ السلطان خبره، فأحب أخذ مكوسها لنفسه، وبعث ابن المرة لذلك، فصارت جدة من حينئذ بندرًا عظيماً إلى الغاية وبطل بندر عدن إلا قليلا. ولم تكن جدة مرسي إلا من سنة ست وعشرين من الهجرة، فإن عثمان رضي الله عنه اعتمر فيها، فكلمه مواليه أن يحول الساحل إلى جدة، وكان في الشعيبة ( ميناء للحجاز ) في الجاهلية فحوله إلى جدة، ومن كان وراء قديد يحملون من الجار والأبواء ( ميناء على البحر الأحمر ) ، وكان ما يحمل إلى هذه المواضع قوت أهل الحرمين وعيشهم . )
كانت التجارة الشرقية ترد من الهند الى اليمن ، ثم الى جدّة ، ثم إحتكرها السلطان برسباى المسيطر على الحجاز ومعظم البحر الأحمر ، وشرهت نفس برسباى الى إحتكارها كما سيأتى فيما بعد .
مولد النبي يعمله السلطان
( في ليلة الجمعة خامسه: عمل المولد السلطاني، كما هي العادة في عمله كل سنة . ). كانت هناك موالد شعبية باسم النبى يقيمها الأولياء الصوفية ، بجانب المولد الرسمي السنوي الذى يقيمه السلطان. هذا بالإضافة الى موالد الأولياء . ودارت الحياة الدينية والاجتماعية حول الموالد .
زيارات السلطان
( وفي تاسعه: عدي السلطان النيل في الحرّاقه ( معدية نهرية )، ونزل بناحية وسيم،( هي الآن أوسيم في الجيزة ) ، وعاد إلى القلعة في سادس عشره. ). استغرق في هذه الزيارة حوالى أسبوع ، لا ريب أن كانت عبئا على الفلاحين هناك. المقريزى يذكر زيارات السلطان ولا يأبه بآثارها الجانبية السيئة على الناس لأن الكُشّاف كانوا يرهقون الفلاحين بسلب ما لديهم من أنعام وألبان ومنتجات زراعية لتقديمها هدايا للموكب السلطانى .
مشروعات معمارية
1 ـ ( وفي هذا الشهر: كمل الصهريج الذي عمله السلطان بصحن الجامع الأزهر، وبنيت بأعلاه مصطبة، فوقها قبة برسم تسبيل الماء، وغرس بصحن الجامع أربع شجرات نارنج فلم تفلح، وهلكت من الذباب .). المصطبة بناء لتعليم الصبيان وفوقها سبيل الماء. لم يكن للأزهر وقف أهلى مثلما كان للمعابد الأخرى التي أنشأها المماليك . كان يتم الانفاق عليه من الأوقاف الخيرية . أما ( الوقف الأهلى ) فيديره صاحبه لصالحه يحمى به أمواله من المُصادرة ، كما فعل برسباى في بناء مسجده ( الجامع الأشرفى ) .( الوقف الخيرى ) هو لأعمال البر والخير .
2 ـ ( وفيه أيضاً كملت الزيادة التي تولى عمارتها الأمير تاج الدين الشويكي. بميضات الجامع الأزهر، فعظم النفع بها . )
( شهر ربيع الآخر، أوله الثلاثاء: )
وظائف أكابر المجرمين
( في سابع عشره: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام فخلع عليه وجاءته تقادم ( أي هدايا ) الأمراء، وتوجه إلى نيابته في سادس عشرينه. )
الصراع المملوكى الصليبى
1 ـ ( وفي هذا الشهر: الشهر ابتدئ بعمل طريدتين حربيتين، لتتمة أربع طرائد، وأنشئت بساحل بولاق فيما انحسر ماء النيل عنه تجاه جامع الخطيري، وأخذت لها أخشاب كثيرة من قصور سرياقوس التي كان ينزل بها السلاطين أيام السرحة بسرياقوس ).
تعليق :
( سرياقوس ) هي المعروفة الآن باسم ( الخانكة ) لأن الناصر محمد بن قلاوون أسّس فيها ( خانقاه ) عظيمة عندما تحالف مع الصوفية ضد صديقه القديم إبن تيمية ، وبسبب موقعها قبيل القاهرة كانت محطة سفر للقادمين للقاهرة المملوكية ، وصارت مدينة مملوكية عامرة .
2 ـ ( وفيه كملت عمارة برج حربي ( قلعة ) بالقرب من (ميناء) الطينة على بحر الملح ( البحر المتوسط ) ، فجاء مربع الشكل، مساحة كل ربع منه ثلاثون ذراعًا، وشحن بالأسلحة، وأقيم فيه خمسة وعشرون مقاتلاً فيهم عشرة فرسان. وأنزل حوله جماعة من عرب الطينة فانتفع الناس به. وذلك أن الفرنج كانت تقبل في مراكبها إلى بر الطينة، وتتخطف الناس من هناك في مرورهم من قطيا إلى جهة العريش. وتولى عمارة هذا البرج الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغنى بن أبي الفرج. وأخذ الآجر الذي بناه به من خراب مدينة الفرما وأحرق حجارة الجير مما أخذه من الفرما، فسبحان محيل الأحوال . ). كانت هناك ـ قبل حفر قناة السويس ـ موانىء هامة ومناطق استراتيجية على سواحل سيناء على البحر المتوسط .
مشروعات معمارية
1 ـ ( وفيه أيضًا كمل بناء الحوانيت والربع فوقها، والتربيعة التي زيدت في الوراقين. وفتح لها باب كبير من آخر سوق المهامزيين. وقام بعمارة ذلك الأمير جانبك، فجاء من أحسن العمائر. وكمل أيضًا بناء الحوانيت وعلوها تجاه باب المدرسة الصالحية بجوار الصاغة وهي من العمائر السلطانية . ) أي التابعة للسلطان برسباى .
2 ـ ( وفيه وقع الهدم في قصر الأمير صرغتمش المجاور لبير الوطاويط بالصليبة، ( حىّ السيدة زينب الآن ) ، خارج القاهرة .). الأمير صرغتمش ( ت 759 ) كان من مماليك السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، وإشتهر في سلطنة الصالح صالح القلاوونى في دولة المماليك البحرية . ولا تزال مدرسته باقية حتى اليوم ، وكانت تتخصص في الفقه الحنفى الذى كان يتبعه الأمير صرغتمش . أما قصره فقد هدمه برسباى . هذا طبعا لمصلحة السلطان برسباى .
( شهر جمادى الأولى، أوله الخميس )
وظائف أكابر المجرمين : السلطان يُجرى حركة تنقلات ليستفيد .
1 ـ( في عاشره: خلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، واستقر أستاداراً، عوضاً عن ولده الأمير صلاح الدين محمد . وخلع في ثاني عشره على كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب حكم، واستقر في نظر الخاص، عوضاً عن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. وخلع على أمين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم واستقر في نظر الدولة، عوضًا عن ابن كاتب جكم . ).
2 ـ ( وفي ثالث عشره: خلع على زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج، واستقر شاد الخاص، وأستادار الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان . )
الصراع المملوكى الصليبى
1 ـ ( وفي هذه الأيام: كثرت الإشاعات بحركة الفرنج، فخرج عدة من الأمراء والمماليك لحراسة الثغور )
2 ـ ( وفيه قدمت طائفة من الفرنج إلى صور من معاملة صفد ( كانت مدينة صور تابعة لمدينة صفد )، فحاربهم المسلمون، وقتلوا كثيراً منهم، واستشهد من المسلمين نحو الخمسين رجلاً . )
كوارث
1 ـ ( وفيه كان بدمياط حريق شنيع، ابتدأ يوم الجمعة تاسعه، ذهبت فيه بيوت عديدة، وهلكت جماعة من الناس . )
2 ـ ( وفي هذا الشهر: أصيبت عامة فواكه بلاد الشام بأسرها- من دمشق إلى حلب- في ليلة واحدة من شدة البرد، وكانت الشمس حينئذ في برج الحمل، فتلفت الأعناب ونحوها . )
(شهر جمادى الآخرة، أوله الخميس: )
صراعات أكابر المجرمين
1 ـ ( في عاشره: قبض على نجم الدين عمر بن حجي، كاتب السر، وسلم إلى الأمير جانبك الدوادار، فسجنه في برج بالقلعة، وأحيط بداره، وسبب ذلك أنه التزم عن ولايته كتابة السر، حتى وليها بعشرة آلاف دينار، ثم تسلم ما كان جارياً في إقطاع ابن السلطان من حمايات علم الدين داود إبن الكويز ، ومستأجراته ، على أن يقوم بديوان ابن السلطان في كل سنة بألف وخمسمائة دينار ، فحمل في مدة ولايته كتابة السر الى الخزانة خمسة آلاف دينار، في دفعات . فلما كانت هذه الأيام طُلب منه حمل ما تأخر عليه، وهو ستة آلاف دينار وخمسمائة دينار،فسأل السلطان مشافهة أن ينعم عليه بالألف وخمسمائة دينار المقررة على الحمايات والمستأجرات ، وتشكّى من قلة متحصلها معه ، فلم يجب سؤاله . ونزل الى داره فكتب ورقة الى السلطان ( تتضمن ) أنه غُرم من حين وُلّى كتابة السّر إثنى عشر ألف دينار ، منها الحمل الى الخزانة خمسة آلاف دينار ، ولمن لم يُسمّ مبلغ ألفى دينار ، وللأمراء أربعة آلاف دينار ، وذكر بقية تفصيلها . فلما قرأت على السلطان أنه أراد بمن لا يُسمّى الأمير جانبك . وأخذ يسأل من جانبك ـ عندما حضر هو والأمراء ـ عما وصل اليه واليهم ، من إبن حجّى ، فأجابوه بما لا يليق في حق ابن حجّى ، وحنق منه جانبك ، فما هو إلا أن إجتمعا بالقلعة جرت بينهما مفاحشات ، آخرها أنه قُبض عليه وسجن . )
تعليق
( مفاحشات تعنى السّب والشتم بالفاحش من القول ). إشترى ابن حجى منصب كاتب السّر ، والتزم بالدفع على أقساط حسب سرقاته ، وكان عليه أيضا تقديم رشاوى الى كبار الأمراء ، وأهمهم الأمير جانبك صاحب النفوذ الأكبر . عجز عن الوفاء ورفض برسباى التنازل عن بقية المبالغ ، وتطورت الأمور الى عزله وسجنه .
2 ـ ( وفى ليلة الثلاثاء ثالث عشره ، أُخرج نجم الدين عمر بن حجّى من البرج في الحديد ، وحُمل الى دمشق ، حتى يُكشف عن سيرته بها ، ويؤخذ ماله هناك ، وكُتب في حقه الى النائب والقُضاة بعظام مستشنعة . ). أخرجوه من سجن القلعة مكبلا بالحديد الى دمشق ( بلده الأصلى ) للكشف عن أمواله وممتلكاته فيها ومصادرتها.
3 ـ ( وفيه كتب بالإفراج عن نجم الدين عمر بن حجي وإطلاقه من الحديد، وإقامته بدمشق، على أن يحمل مبلغاً ذكر له.) . في النهاية أفرجوا عنه مقابل مال يدفعه.
4 ـ ( وفي ثامن عشرينه: قبض على السيد الشريف مقبل أمير ينبع، وسجن . )
5 ـ( وفيه خرج الأمير قرقماس من مكة بمن معه في طلب الشريف حسن بن عجلان حتى بلغ حلي من أطراف اليمن، فلم يقابله ابن عجلان مع قوته وكثرة من معه، بل تركه وتوجه نحو نجد تنزهاً عن الشر، وكراهة الفتنة، فعاد قرقماس وقدم مكة في العشرين منه . )
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفى يوم الاثنين ثامن عشره خُلع على بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر الدمشقى ، واستقر في كتابة السّر ، عوضا عن نجم الدين عمر بن حجى ، وابن مزهر هذا ، كان أبوه كاتب السّر بدمشق ، ولهم أصالة قديمة ، رأس عدة من آبائه ، تضمن ذكرهم التواريخ ، وولد هو بدمشق ونشأ بها ، وكتب بديوان الانشاء ، وتعلق بخدمة الأمير شيخ المحمودى ، وقدم معه مصر ، فولاه نظر الاسطبل ، حتى مات . فلما وُلّى علم الدين بن الكويز باشر معه نيابة كتابة السر، وقام بأمر ديوان الإنشاء، لبُعد ابن الكويز عن ذلك. فتمشت به الأحوال. ولم يزل قائماً بأمور كتابة السر، لعجز من وليها في هذه المدد، من الجمال يوسف بن الصفي ومن الهروي وغيره، حتى ولي كتابة السر، فكان أنسب الموجودين . )
2 ـ ( وفيه خلع على تاج الدين عبد الوهاب المعروف بالخطير، واستقر في نظر الاصطبل. وهذا الخطير- من سنين قريبة- أسلم،( أي كان مسيحيا واسلم )، وكان يباشر بديوان السلطان وهو أمير، فرقاه في سلطنته إلى هنا . ).
مشروعات معمارية
( وفى هذه الأيام كملت عمارة المأذنة التي فوق الباب المجاور للمنبر بجامع الحاكم ، وأنشأها بعض الباعة . )
الصراع المملوكى الصليبى
1 ـ ( وقدم الخبر بوقعة كانت بين المسلمين وبين الفرنج ، فيما بين جبلة وطرابلس ، قُتل فيها جماعة من الفرنج ، وانهزم باقيهم . )
2 ـ ( وحُمل غرابان مما أُنشىء بساحل بولاق خارج القاهرة ، وهما قطعا ـ على الجمال الى السويس، ليُركّبا ويُطرحا في بحر السويس ، لأجل حمل الغلال ونحوها الى مكة، مددا للمجردين، وعُملا بمجاديف لتمر سريعا ، وأن تُمسك عنها الريح ).
3 ـ ( وفي هذا الشهر: عرض السلطان المماليك الذين عينهم لغزو الفرنج في البحر. وتقدم إلى كل من الأمراء الألوف بتجهيز عشرة مماليك من مماليكه . )
( شهر رجب، أوله السبت: )
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( في ثالثه: خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر وأعيد إلى قضاء القضاة عوضاً عن محمد الهروي، لسوء سيرته، وقبح سريرته، وفساد طويته، وبعده عن كل خير، واشتماله على جملة الشر . ). كان من المعتاد تولية ابن حجر القضاء وعزله ، حسب الرشوة .
2 ـ ( وفي حادي عشره: توجه الهروي عائداً إلى القدس على وظيفة التدريس بالصالحية . )
صراع أكابر المجرمين
( وفي رابعه: حمل الشريف مقبل أمير ينبع والشريف رميثة بن محمد بن عجلان في الحديد إلى الإسكندرية، وسجنا بها. )
غلاء
( وفي هذه الأيام: ارتفع سعر الفول من تسعين درهماً الأردب إلى مائة وخمسين. وارتفعت أسعار الغلال بدمشق . )
الصراع المملوكى الصليبى
1 ـ ( وفيها وقع الاجتهاد في عمل الأغربة. ولم تحسن سيرة من ولي عملها فإنه أخذ الأخشاب ظلماً، وقطع من أشجار الجميز والحور بغير رضاء أربابها، وسخر الناس في حملها وعملها، فأشبه هذا الغزو، من صلى لغير القبلة بغير وضوء عمداً . ). حتى فيما يعتبرونه جهادا لم يتورعوا عن الظلم من النهب والسُّخرة.!
2 ـ ( وفي ثالث عشره: أنفق في الغزاة، وهم ستمائة رجل، مبلغ عشرين ديناراً لكل واحد، وجهز الأمراء ثلاثمائة رجل. ونودي من أراد الجهاد فليحضر لأخذ النفقة . )
3 ـ( وفي عشرينه: سارت الخيول في البر إلى طرابلس. وعدتها ثلاثمائة فرس، لتحمل صحبه الغزاة من طرابلس في البحر . )
4 ـ ( وفي هذا الشهر: خرج مركب من اللاذقية، قد شحن بمجاديف، حتى يحضرها إلى مصر برسم الأغربة التي أنشئت صحبة الريس فاضل. فلما حاذت جزيرة أرواد خرج طائفة من الفرنج يريدون أخذها، فقاتلهم المسلمون حتى قتلوا عن آخرهم وعدتهم خمسون رجلاً. وأفلت منهم رجل واحد. وأخذ الفرنج المجاديف وغيرها، وحرقوا المركب. وفاضل هذا من أهل مدينة أياس، فقدم إلى السلطان في السنة الخالية ( أي الماضية )، وحسّن له غزو الفرنج، ووعده بغنيمة أموال عظيمة، حتى كان من غزوة اللمسون ما كان، فأخذ في التعبئة لغزوهم ثانياً، أيده الله تعالى بنصره عليهم . ). الجهاد في سبيل المال ، سواء الفرنجة أو المماليك . مع رفعهم الشعار الدينى ، وكل منهما يصف غريمه بالكفر .
5 ـ ( وفي يوم الجمعة ثاني عشره: ركب السلطان بعد صلاة الجمعة بثياب جلوسه كما هي عادته، حتى شاهد الأغربة بساحل بولاق، وعاد . )
6 ـ ( وفي ثالث عشرينه: ركب الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان والأمير جانبك، حتى شاهد توجه الأغربة. وقد أقام في دار القاضي زين الدين عبد الباسط المطلة على النيل، فانحدر في النيل أربعة أغربة بكل غراب أمير، ومقدم الجميع الأمير جرباش حاجب الحجاب، فكان يوماً مشهوداً، حُشر فيه الناس من كل جهة لمشاهدة ذلك. ثم انحدر في يوم الاثنين غراب واحد، وانحدر في يوم الثلاثاء غرابان، وفي يوم الخميس سادس عشرينه غراب . )
الحج : المحمل وكسوة الكعبة
( وفي عاشره: أدير محمل الحاج على العادة، وعرضت كسوة الكعبة على السلطان. وقد اجتهد القاضي زين الدين عبد الباسط في تأنقها، حتى جاءت في غاية من الحسن، بحيث لم يعمل فيما أدركناه مثلها. )
العجز عن دفع المرتبات ، والظلم هو السبب :
1 ـ ( وفيها توقفت أحوال الديوان المفرد، وتأخرت نفقة المماليك. )
2 ـ ( وفيه اعتبر متحصل الديوان المفرد ومصروفه، فعجز في كل سنة مائة ألف وعشرين ألف دينار، يجبيها أستادار من النواحي بعد ما عليها من المستقر والحادث، ويتنوع في مظالم العباد، ويبالغ في العسف، حتى يسدها. ويأخذ المباشرون وأعوانه نحواً منها. فلذلك خرب إقليم مصر، وآلت أحوال الناس إلى التلاشي . ). مع السرقة والتخريب كان هناك عجز في ايراد الديوان .
3 ـ ( وفي هذا الشهر: قطع السلطان جرايات المباشرين من القمح، وهي خمسة آلاف أردب، فتوفرت للسلطان . ). السلطان برسباى يأكل مرتبات الموظفين أو ( المباشرين ) إعتمادا على أنهم يسرقون الناس . كلهم حرامية .!
كوارث
1 ـ( وفي هذا الشهر: كان قطاف عسل النحل، فلم يوجد منه كبير شيء، فارتفع سعره، وبلغ سعر الفول مائتي درهم الأردب )
2 ـ ( وفيه شنع الوباء بدمياط وفارسكور، وكان ابتداؤه عندهم من جمادى الأولى. ). وصل الوباء الى شمال الدلتا ( واثق الخطوة يمشى ملكا ).!
( شهر شعبان، أوله الاثنين: )
صراعات أكابر المجرمين
( وفي آخر هذا الشهر: أفرج عن الأمير طرباي من سجن الإسكندرية، ونقل إلى القدس ليقيم به غير مضيق عليه، وأنعم عليه بألف دينار .) . تخصّص سجن الإسكندرية للمغضوب عليهم من أمراء المماليك ، قد يموت فيه أحدهم أو يُطلق سراحه ، وقد يعود للخدمة ، أو يكون ( بطّالا ) خارج الخدمة .
الصراع المملوكى الصليبى
( في ثالثه: أنحدر غراب ثامن. )
النيل
( وفيه جاء قاع النيل خمسة أذرع وعشر أصابع، ونودي عليه من الغد خمسة أصابع. وهي ابتداء النداء على النيل . )
كوارث
1 ـ ( وفي يوم السبت سادسه: حدث عند شروق الشمس زلزلة قدر ما يقرأ الإنسان سورة الإخلاص، ثم زلزلت ثانياً مثل ذلك، ثم زلزلت مرة ثالثة، فلو لا أن الله لطف بسكونها، لسقطت الدور، فإن الأرض مادت، وتحركت المباني وغيرها حركة مرعبة، بحيث شاهدت حائطا خرج عن مكانه ثم عاد. وأخبرني من لا أتهم أنه كان وقت الزلزلة راكباً فرسه فخرج عن السرج حتى كاد يسقط . ) . المقريزى يسجل من واقع المشاهدة ، مع التوثيق ممّن يثق في صدقه .
2 ـ ( وفي غده: نودي- عن أمر السلطان- بصوم الناس ثلاثة أيام من أجل الزلزلة، فما أنابوا ولا سمعوا .). هل صام السلطان ؟ هل تاب عن الاجرام ؟
3 ـ ( وفي ليلة الخميس ثامن عشره: وقع الحريق بثلاثة أماكن فما طفئ إلا بعد جهد . )
إحتكار السلطان للسكر
( وفي ثامنه: نودي بأن لا يباع السكر إلا للسلطان ولا يشترى إلا منه، فعاد الأمر كما كان )
غلاء
( وفي هذا الشهر: بلغ الفول ديناراً لكل أردب، بعد ما كان كل ثلاثة أرادب ونصف بدينار. وتجاوز القمح المائتين بعد مائة وخمسين. وقل وجود الغلال، وطلبها الناس، فشحّت أنفس أربابها وخزنتها، هذا مع توالي زيادة النيل . )
حادثتان غريبتان :
( وفي هذا الشهر: اتفقت حادثتان غريبتان.
( إحداهما أن رجلاً مر في سفره ببلاد الغربية على أتان له، وتحته خرح فيه قماش، فخرج عليه بعض قطاع الطريق ، وأخذه وما معه فحاد به عن الطريق الى شاطئ النيل ، وكتفه والقاه إلى الأرض ليذبحه، فقال له: بالله اسقني شربة ماء قبل أن تذبحني فألقى الله تعالى في قلبه عليه رحمة، لما يريده به. وفتح خرج الرجل وتناول منه إناء وعبر في الماء حتى يغترف في الإناء منه، فاختطفه تمساح، وذهب في الماء فكسره، وأكله، والرجل يراه وهو مكتوف، وأتانه واقف مع فرس قاطع الطريق، قائمان قريباً منه. فأقام كذلك حتى مر به أناس عن بعد، فصاح بهم إلى أن أتوه، فأعلمهم بما جرى له، وما كان من هلاك عدوه، فحلوا أكتافه وأتوا به وبالفرس والأتان، والخرج، إلى الوالي، فقص عليه قصته فأخذ الفرس وخلاه لسبيله. فمضى بأتانه وخرجه، فكان في هذا موعظة لمن اتعظ وكفي بالله نصيراً . )
التعليق:
لنا بحث غير منشور عن ( أثر التصوف في بعث المعتقدات الفرعونية في مصر المملوكية ) . في أحد الغارات من أمن الدولة على بيتى في المطرية صادروا بعض مقالات كانت في دور الاعداد من هذا البحث . أهم مظهر بعثه التصوف من العقائد الفرعونية هو تقديس الحيوانات كالقط والتمساح والبقرة والعجل ، ثم أضيف اليها ـــ بسبب إحتلال العرب لمصرـــ تقديس الجمل ، وكان ضمن الكرامات أن الولى الصوفى ( يتطوّر ) أي يتشكل في شكل قط أو جمل ، وكانت تنتشر أقاصيص عن كرامات للجمال والتماسيح والقطط والبقر. التمساح كان أشهر الحيوانات المقدسة في مصر القديمة ، وحملت بعض البلاد المصرية حتى الآن إسم التمساح ( سوبك / شوبك ) . من القصص التي شاعت في الحوليات التاريخية عن التمساح هذه القصة التي ينقلها المقريزى مُصدّقا لها . ولقد روى قصصا مماثلة عن كرامات الجمل . وتنتهى كل تلك الأساطير بعدم العثور على بطل القصة ، وهو الحيوان ، سواء كان ( جملا ) أو ( قطّا ) أو ( تمساحا ) أو ( بقرة ) تنطق وعظا للناس .
نرجع للمقريزى في حكايته الأخرى :
( والثانية: أن متولي الحرب بتلك النواحي وسّط سبعة رجالة من قطاع الطريق وعلقهم على ممر المسافرين، كما هي عادتهم في ذلك. وأكد على الخفراء أرباب الدرك في حراستهم طول الليل، خوفاً من مجيء أهاليهم وأخذهم إياهم، وحلف بأيمانه لئن فقد أحد منهم ليوسطن الجميع فباتوا يحرسونهم حتى كاد الليل يذهب، أخذهم النوم ثم إنتبهوا في السحر، فإذا بعدة الموسطين قد نقصت واحد. فمن شدة خوفهم أن يطلع النهار ويبلغ الوالي أن الموسطين قد أخذ منهم واحد فيوسطهم بدله، مروا في الدرب المسلوك ليأخذوا من انفرد من المسافرين، يوسطوه ويعلقوه بدل الذي نقص من العدة فإذا هم برجل على حمار وتحته قفتين، فأخذوه، ووسطوه، وعلقوه مع الموسطين. فلما طلع النهار جاءهم مقدم الوالي لكشف حال الموسطين، فإذا عدتهم قد زادت واحداً فأنكر على الخفراء وأحضرهم إلى الوالي، وأعلمه الخبر ، فلم يجدوا بداً من الصدق وأخبروه أنهم ناموا آخر الليل، وانتبهوا سحراً فرأوا العدة قد نقصوا واحداً فما شكوا في أنه أخذه أهله، فأخذوا رجلاً على حمار من المارة ووسطوه وعلقوه مكان الذي نقص. وحلفوا أيماناً عديدة أنهم ما رأوهم إلا ناقصين واحداً. فأمر بفتح القفتين اللتين كانتا على حمار المقتول، فإذا في كل قفة نصف امرأة قد نقشت، فعلم الوالي ومن حضره أنه كان قد قتل هذه المرأة وسرى بها سحراً حتى يواريها، فقتله الله بها. وكان في هذه تذكرة لمن وعي أن الجزاء واقع . ).
تعليق
هذه الرواية ليس فيها تحديد المكان ولا تحديد الأشخاص ، ولكنها تحفل بثقافة عصرها ، فمتولى الحرب الذى لا نعرف إسمه يستطيع أن يوسّط من يشاء من المجرمين ، والتوسيط هو قطع الشخص نصفين منفصلين ، وكانت العادة صلب الجثة إرهابا للناس . الحبكة في القصة هنا أن الخفراء غلطوا في العدد ، وظنوا أنه ناقص واحد ، فقاموا بتوسيط أحد المسافرين وصلبوه ، فزاد العدد واحدا ، ثم إكتشفوا أنه قتل امرأة . هذه الحبكة ترجّح انها قصة مصنوعة للوعظ .

( شهر رمضان، أوله الثلاثاء: )
صراعات وحركة وظائف لأكابر المجرمين
1 ـ ( وفي يوم الثلاثاء ثامنه: قبض على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله أستادار، وعلى ولده الأمير صلاح الدين محمد، وعُوّقا بالقلعة . )
2 ـ ( وفي يوم الخميس عاشره: خلع على الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج. واستقر أستادارا عوضاً عن الصاحب بدر الدين حسن ابن نصر الله. )
3 ـ ( وفي ثاني عشره: أفرج عن الصاحب بدر الدين، ونزل إلى داره، وقد ألزم بحمل نفقة الشهر وعليقه، وذلك نحو ثلاثين ألف دينار. وترك ابنه الأمير صلاح الدين بالقلعة رهينة على المال، فأخذ في بيع أملاكه وخيوله وثيابه وأثاثه . ). إذا عُرف السبب بطُل العجب . العزل والتعويق في القلعة هو لارغامهما على دفع المعلوم .
4 ـ ( وفي رابع عشره: خلع على جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي، واستقر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن بدر الدين حسن ). التولية أيضا بمال رشوة حسب الشريعة السنية المملوكية .
الأسعار
( أهل هذا الشهر وقد انحل سعر الغلال، ( أي رخُص ) وكثرت في العراص ( مخازن الغلال ) والساحل ، من غير سبب يظهر في ارتفاعها أولا، ثم في انحطاطها، إن الله على كل شيء قدير، وبالناس لرءوف رحيم. )
( وفي هذا الشهر: عز وجود اللحم بالأسواق . )
النيل
1 ـ ( وفي يوم الثلاثاء ثاني عشرينه- الموافق له رابع عشر مسرى-: أوفي النيل ستة عشر ذراعاً. ونزل الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان ففتح الخليج على العادة بعد تخليق المقياس، وركب في خدمته الصالح بن ططر . ).
تعليق
الأمير الصغير ( محمد ) ابن برسباى يتصدر المناسبات ، ويخدمه ( محمد ) ابن السلطان ططر الذى كان سلطانا قبل ذلك ثم عزله برسباى . والآن يقوم برسباى بتجهيز ابنه لخلافته . وسيحدث لابن برسباى ما حدث من قبل لابن ططر ، وقد تزوج برسباى من قبل خوند فاطمة بنت الظاهر ططر .
2 ـ ( وفي يوم الأربعاء- صبيحة الوفاء-: نودي على النيل بزيادة عشر أصابع. ونودي في يوم الخميس بزيادة عشر أصابع. وهذا من نوادر زيادات النيل. )
( شهر شوال، أوله الأربعاء : )
صراع أكابر المجرمين
( وفي ثالث عشره: أفرج عن الأمير بيبغا المظفري، ونقل من سجن الإسكندرية إلى دمياط، وجهز إليه فرس ليركبه هناك . )
النيل
( وفي يوم الأربعاء خامس عشره: كان نوروز القبط بمصر، وماء النيل على ثمانية عشر ذراعاً وثمانية إصبعا. وهذا مما يستعظم قدره في هذا الوقت . )
أسعار
( وفي هذا الشهر: تعذر وجود اللحم بالأسواق أياماً، وإن وجد فإنه قليل جداً، وغلت أسعار أكثر الأقوات إلا القمح . )
مشروعات معمارية
( وفيه أنشأ زين الدين عبد الباسط، بناحية بركة الحاج بستاناً وساقية ماء، وعمر فسقية كبيرة تملأ بالماء ليردها الحجاج، فعظم الانتفاع بها . )
( شهر ذي القعدة، أوله الجمعة:
النيل
1 ـ ( ويوافقه عيد الصليب. كان ماء النيل على عشرين ذراعاً، تنقص إصبعاً واحداً، وقل ما عهد مثل هذا . )
2 ـ ( وفي هذا الشهر: انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً سواء. )
جرائم أصاغر المجرمين
( وفي يوم الاثنين رابعه: اتفق بالقاهرة حادثة شنعاء لم ندرك مثلها، وهي أن رجلاً من العشير ( أي من العشائر العربية ) بيبروت من سواحل الشام- يقال له شعث بن أبي بكر بن الحمراء- قدم ليسعى في بعض تعلقاته، فخرج سحر هذا اليوم من داره على فرسه، ومعه غلامه، وقد سايره رجل من أهل بلاده، وأخذ يحادثه حتى وصلا بين القصرين عند شروق الشمس، فأخرج الرجل خنجراً وضرب به ابن الحمراء ضربة وأتبعها بأخرى فسقط عن فرسه. وساق الرجل فرسه فلم يتبعه أحد. وبقي ابن الحمراء طريحاً عدة ساعات، ثم دفن. وبلغ الخبر السلطان، فطلب القاتل فلم يقدر عليه. وكان سبب هذا أن ابن الحمراء قتل والد هذا الرجل من سنين عديدة، وابنه هذا صبي، فتحول إلى القاهرة، وربي بها، وصار من جملة الأجناد بخدمة الأمراء. فلما قدم ابن الحمراء في هذه الأيام الى القاهرة، تردد إليه هذا الرجل من أجل أنه من أهل بلاده، فأنس به وغفل عما كان منه، إلى أن جاءه الرجل في هذا اليوم على عادته، وركب معه، فوجد الفرصة قد أمكنته من عدوه، ففعل ما فعل، وأخذ بثأره. ).
التعليق
هذه حادثة قابلة للتصديق ، فهى محددة بالزمان وبالمكان وبالأشخاص . وليس فيها غرائب . هذا يشبه الفيلم الأمريكي ( عصابات نيويورك ) إخراج مارتن سكورسيزى ، وبطولة :دانييل داى لويس ، لينارديو دى كابريو ، و كاميرون دياز نيام نيسون . و
غلاء الأسعار
( وفيه ارتفع سعر القمح حتى تجاوز الأردب مائتي درهم من الفلوس. )
أسعار العُملة
( وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه: نودي على الفلوس أن يتعامل الناس بها من حساب اثني عشر درهماً الرطل. وكانت قد قلت وعزّ وجودها لشح الناس بإخراجها، فربح من كان عنده منها شيء، وخسر من له مطالبات، فإنه صار درهمه نصفاً. )
هدم مساكن الفقراء
( وفيه هدم السلطان خرائب الططر بقلعة الجبل، وكانت خطاً كبيراً يشتمل عل مساكن عديدة، فسوى بها جميعها الأرض ).
تعليق
السلطان يبنى لنفسه بكل إجتهاد ، ويهدم بيوت الفقراء ــ أيضا ــ بكل إجتهاد .. منذ شهور بدأ السى سى ، سلطان مصر الحالي في هدم بيوت الفقراء ، وهاج الناس ، فأوقف الهدم ، ثم هو الآن يقوم بالجباية بإلزام الناس بتسجيل بيوتهم ودفع رسوم لا يقدرون عليها ، وهذا حتى يقوم بتمويل بناء قصوره وعاصمته . من قال إن الشيطان قدّم إستقالته ؟ الشيطان يتمتع بالجنسية المصرية من آلاف السنين ..!
( شهر ذي الحجة، أوله السبت : )
جرائم كبرى لأكابر المجرمين ( برسباى والقاضى بدر الدين العينى )
( في سابعه: اتفقت حادثة شنعاء، وهي أن الخبز قل وجوده في الأسواق، فعنده خرج بدر الدين محمود العينتابي- محتسب القاهرة- من داره سائراً إلى القلعة صاحت عليه العامة، واستغاثوا بالأمراء، وشكوا إليهم المحتسب، فعرج عن الشارع وطلع إلى القلعة وهو خائف من رجم العامة له، وشكاهم إلى السلطان. وكان يختص به، ويقرأ له في الليل تواريخ الملوك، ويترجمها له بالتركية. فحنق السلطان وبعث طائفة من الأمراء إلى باب زويلة، فأخذوا على المارة أفواه السكك ليقبضوا على الناس. فرجم بعض العبيد أحد الأمراء بحجر أصابه، فقبض عليه، وضرب. وقبض على جماعة كبيرة من الناس، وأحضروا بين يدي السلطان، فرسم بتوسيطهم ثم أسلمهم إلى الوالي فضربهم وقطع آنافهم وآذانهم، وسجنهم ليلة السبت. ثم عرضوا من الغد على السلطان فأفرج عنهم- وعدتهم اثنان وعشرون رجلاً من المستورين- ما بين شريف وتاجر، فتنكرت القلوب من أجل ذلك، وانطلقت الألسنة بالدعاء وغيره . ).
التعليق
بدر الدين العينى أو العينتابى مؤرخ شامى الأصل مثل ابن حجر العسقلانى ، ومثله قام بشرح البخارى ، ولكن العينى كان أقل علما من ابن حجر ، وأكثر وضاعة منه ، يكفى إنه كتب منافقا للسلطان ططر والسلطان المؤيد شيخ ، كتابين في تاريخهما : ( الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر) ( ططر) ، ( السيف المهند في سيرة الملك المؤيد ) ( شيخ المحمودى ). ويبدو أنه كان يستخدم هذا النفاق في تولى الوظائف دون أن يشتريها بالرشوة . وقد صار نديما للسلطان برسباى فجعله محتسبا ، وقام بوظيفة المحتسب الظالمة فأهاج الناس ( العوام ) وثاروا عليه ، وانتهت الثورة بغضب برسباى الذى أمر بعقاب عشوائى للناس كيفما إتفق ، يقول المقريزى : ( فرسم بتوسيطهم ثم أسلمهم إلى الوالي فضربهم وقطع آنافهم وآذانهم، وسجنهم ليلة السبت. ثم عرضوا من الغد على السلطان فأفرج عنهم- وعدتهم اثنان وعشرون رجلاً من المستورين- ما بين شريف وتاجر، فتنكرت القلوب من أجل ذلك، وانطلقت الألسنة بالدعاء وغيره .).
غضب المقريزى لأن في الضحايا قوما من الطبقة الوسطى أو ( المستورين ما بين شريف وتاجر ). لو كانوا من العوام ما حزن من أجلهم وما غضب . الشعب ( العوام أو الحرافيش في ثقافة العصر وقتئذ ) لا قيمة لهم .
ثم تخيل شخصا يعيش مقطوع الأنف والأُذُن ؟ . يالها من شريعة يطبقها برسباى وشيخه العينى .!
وظائف أكابر المجرمين
( وفي حادي عشرينه: خلع على شهاب الدين أحمد بن صلاح الدين بن محمد المعروف بابن المحمرة، واستقر في مشيخة الخانكاة الصلاحية سعيد السعداء، بعد وفاة شمس الدين محمد بن أحمد البيري، المعروف بأخي جمال الدين الأستادار. وابن المحمرة هذا كان أبوه سمساراً في الغلال بساحل بولاق، وعمه طحاناً، وولد هو بظاهر القاهرة، وقرأ القرآن وقرأ عدة كتب ما بين فقه ونحو وغيره، واشتغل على شيوخ العصر حتى برع في الفقه على مذهب الشافعي. وشارك في فنون، وجلس في حوانيت الشهود زماناً، واستنبته في الحسبة بالقاهرة بوساطة الأمير يلبغا السالمي، وكان من أصحابه. ثم ناب في الحكم بالقاهرة عن قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني مدة سنين. وأثرى في قضائه، وكثر ماله. ثم صرف عن الحكم، ودرس الفقه بخانكاة شيخو بمال وزنه في التدريس، ثم ولي الخانكاة . ). تعلُّم علوم الدين السُنّى تفتح الأبواب لأبناء العوام من طحّان وفلاح لأن يحصل على وظيفة ، ثم يشترى ما فوقها بالمال السُّحت ، وتتعدّد وظائفه ، وإذا وصل لأعلى تعرّض غالبا للمصادرة والعزل وربما التعذيب .
صراعات أكابر المجرمين
في مكة :
( وفيه قدم كتاب الأمير تغري بردي المحمودي من مكة وقد توجه حاجباً يتضمن أنه بعث، لما نزل من عقبة أيلة، قاصداً إلى الشريف حسن بن عجلان، يرغبه في الطاعة ويحذره عاقبة المخالفة، فقدم ابنه الشريف بركات بن حسن، وقد نزل بطن مر، في ثامن عشرين ذي القعدة، فسر بقدومه ودخل به معه مكة أول ذي الحجة، وحلف له بين الحجر الأسود والملتزم، أن أباه لا يناله مكروه من قبله ولا من قبل السلطان، فعاد إلى أبيه، وقدم به مكة يوم الاثنين ثالث ذي الحجة، وأنه حلف له ثانياً، وألبسه التشريف السلطاني، وقرره في إمارة مكة على عادته، وأنه عزم على حضوره إلى السلطان صحبة الركب، واستخلاف ولده بركات على مكة. )
الصراع المملوكى الصليبى
( وفي خامس عشرينه: ورد إلى ساحل بولاق اثنا عشر غراب من أغربة الغزاة. )
الحج
( وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الحجاج، وأن الوقفة بعرفة كانت يوم الاثنين، وكانت بالقاهرة يوم الأحد. )
أسعار وغلاء
( وفي هذه الأيام: ارتفع سعر اللحم، وعدم أياماً من الأسواق. وارتفع سعر القمح أيضاً، وعز وجوده، مع كثرته بالشون والمخازن، وعلو النيل وثباته . )






























الفصل الخامس : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 829
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى عن سنة 829 :
( سنة تسع وعشرين وثمانمائة : أهلت وخليفة الزمان المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبو عبد الله محمد، وسلطان الإسلام الملك الأشرف أبو العز برسباي الدقماقي، وأتابك العساكر الأمير الكبير قجق، وأمير مجلس الأمير أينال الجكمي، وأمير سلاح الأمير أينال النوروزي، وأمير أخور الأمير جقمق، والدوادار الأمير أزبك، ورأس نوبة تغري بردي المحمودي، وحاجب الحجاب الأمير جرباش قاشق، وأستادار الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير الوزير فخر الدين عبد الغني ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، والوزير كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن شمس الدين عبد الله بن كاتب المناخ، وناظر الخاص كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة بن كاتب جكم، وكاتب السر بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر، وناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل، وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي زين الدين عبد الرحمن التفهني، وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد بن عبد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي، ونائب الشام الأمير سودن من عبد الرحمن، ونائب شارقطوا، ونائب حماة الأمير جلبان أمير أخور، ونائب طرابلس الأمير قصروه، ونائب صفد الأمير مقبل الداوادار، ونائب الإسكندرية الأمير أقبغا التمرازي، وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان، وأمير المدينة النبوية عجلان بن نعير )
تعليق :
1 ـ الدولة المملوكية دينية عسكرية ، قال المقريزى : ( أهلت وخليفة الزمان المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبو عبد الله محمد، وسلطان الإسلام الملك الأشرف أبو العز برسباي الدقماقي ). المقريزى يطلق على السلطان برسباى ( أكبر أكابر المجرمين ) :( سلطان الإسلام )، هذا لأنه غزا قبرص وأسر ملكها الصليبى .
1 / 2 : المقريزى في تعصبه الدينى ضد أهل الكتاب كان في صياغته لأخبار الصراع بين المماليك والصليبيين يجعل الصليبيين كفارا والمماليك مسلمين ، مع أنهما معا من أكابر المجرمين . الأهم أن المقريزى هنا يتناسى مظالم برسباى التي يحفل بها تاريخه والتي يستنكرها هو في تعليقاته ، ويجعله سلطان الإسلام ، كما لو كان في دين الإسلام ( سلطان ).!!
1 / 3 : المقريزى ـــ وفق العادة السيئة الجارية حتى الآن ــ لا يرى فارقا بين الإسلام والمسلمين ، وما يرتكبه من يُسمُّون بالمسلمين يكون هو الإسلام . هذا يناقض الإسلام الذى يمثّله القرآن الكريم فقط ، بما فيه من أوامر ونواهى . التطبيق هو للبشر ، ولا يوجد بشر معصوم من الخطأ ، لذا فالإسلام لا يتجسّد في شخص. الرسول هو النبى حين ينطق بالقرآن وتكون طاعته طاعة للقرآن . النبى محمد هو شخصه البشرى وتعاملاته مع من حوله ، والنبى محمد هو أول من يطيع الرسول أو الرسالة ، لذا يأتي الأمر بالطاعة للرسول تبعا لطاعة الله جل وعلا ، ويأتي اللوم والعتاب للنبى محمد ( غير المعصوم ) والذى جاءته أوامر ونواهي وتهديدات وتحذيرات ، وتكرر في القرآن الكريم الأمر له أن يستغفر لذنبه . ثم هو يوم القيامة سيتعرض للحساب وسيتخاصم مع أعدائه من قومه ، ويكفى قوله جل وعلا له في خطاب مباشر عنه وعن قومه الكافرين بالمساواة بينه وبينهم في الموت وفى الحساب والتخاصم يوم الدين : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) الزمر ) (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) الزخرف ).
1 / 4 : في الغرب المسيحى لا يعتبرون المسيحية مسئولة عن جرائم الغرب في الاستعمار والكشوفات الجغرافية وإبادة السكان الأصليين ، مع أن سفنهم كانت تحمل راية الصليب ، وكانت دوافعهم وقتها دينية ، ومنها حروبهم الصليبية المعتدية . أما ( المحمديون ) فلا يزالون ينسبون أعمالهم وجرائمهم الى الإسلام ، واحتفل الغربيون بذلك ، فالقتل العشوائى للأبرياء يجعلونه جهادا إسلاميا، وخلط الدين بالسياسة للوصول للحكم يعتبرونه حركات إسلامية . إبتهج الغرب بهذا التشويه للإسلام ، فزعموا أن الاسلام دين الإرهاب والتخلف ، وأن الرسول الذى بعثه رب العزة جل وعلا بالقرآن الكريم رحمة للعالمين هو لارهاب العالمين. لا نلوم الغربيين ، فهم ينقلون ما يقوله المحمديون . خصوصا وأن هؤلاء الأغبياء من المحمديين وشيوخهم يتهموننا بالكفر حين نُنزّه الإسلام من جرائم من ينتسب اليه. وكانت لنا عبارة نرددها في تسعينيات القرن الماضى : ( ليس مثل الإسلام دين ظلمه أصحابه والمنتسبون اليه ). لا جدال فيه إن من ينتسبون الى الإسلام هم بشر ، لهم تاريخهم البشرى وحضارتهم البشرية وتراثهم البشرى وأديانهم الأرضية ، وقد تكون لهم إيجابيات ولكن لا شأن للإسلام بها ، وبالتالي لا شأن للإسلام بجرائمهم ومفترياتهم على الله جل وعلا ورسوله وكتابه .
2 ـ ويقول المقريزى عموما عن هذا العام :
2 / 1 : عن الأسعار : ( وأسعار المبيعات بالقاهرة مع عامة الأقوات قليلة، سيما اللحم واللبن والجبن، لم نعهد مثل قلتهم في هذا الوقت، وقد انحل سعر الغلال، وأبيع الأرز بألف درهم الأردب. والدينار الأفرنتي. بمائتين وخمسة وعشرين درهماً من الفلوس، والفلوس باثني عشر درهماً الرطل. )
2 / 2 : وعن أحوال الناس : ( وأحوال الناس بديار مصر وبلاد الشام واقفة، لقلة مكاسبهم، وقد شمل إقليم مصر- مدينتها وأريافها- الخراب، لا سيما الوجه القبلي، فمن شدة فقر أهله وفاقتهم وسوء أحوالهم لا يتبايعون إلا بالغلال، لعدم الذهب والفضة، بعد ما كان ما كانوا فيه من الغنى والسعة في غاية. ) . المسئول عن هذا هو أكبر أكابر المجرمين ، وهو الذى يصفه المقريزى بألقاب التشريف : ( وسلطان الإسلام الملك الأشرف أبو العز برسباي الدقماقي ). العجيب أن الصعيد تحت حكم العسكر المصرى الحاكم الآن لا يزال يعانى ما قاله المقريزى من شدة الفقر والفاقة وسوء الأحوال . السبب أن الدولة الاستبدادية المركزية ومؤرخيها يركزون على العاصمة مقر السلطة والسلطان ، وكلما تباعد عنها القوم زاد إهمال العسكر لهم ، وتركوهم تحت رحمة وكلاء السلطان هناك ، يفسدون بلا رقيب ولا حسيب . كنا نسمع في عهد مبارك عن العزم على إقتحام مشاكل الصعيد ..ولا يزال الصعيد منفيا وأهله يهجرونه الى القاهرة والمدن الكبرى والى الخارج ، يعملون في أشقّ المهن .!
( شهر الله المحرم، أوله الاثنين:
وظائف أكابر المجرمين
( وفي يوم الاثنين: هذا خلع على الأمير أينال الششماني، واستقر في حسبة القاهرة، عوضاً عن بدر الدين محمود العينتابي . ). عزل العينى بعد فشله ، وينتظره وظيفة أكبر ، أن يكون قاضى القضاة الحنفية .
صراعات أكابر المجرمين
( وفي تاسع عشره: قدم الشريف رميثة بن محمد بن عجلان، وقد أفرج عنه من سجنه بالإسكندرية . )
مع الحجاج :( وقدم الشريف حسن بن عجلان، فأكرم، ثم خلع عليه سابع عشرينه، واستقر في إمارة مكة على عادته، وألزم بثلاثين ألف دينار، فبعث قاصده إلى مكة حتى يحصرها، وأقام هو بالقاهرة رهينة، ولم يقع في الدولة الإسلامية مثل هذا . ). إتخاذ ابن عجلان رهينة حتى يدفع رشوة توليه مكة . ويرى المقريزى أن هذا لم يحدث من قبل في الدولة الإسلامية .! إين هذه الدولة الإسلامية ؟ . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
فساد القُضاة أكابر المجرمين
( وفي عشرينه: منع قضاة القضاة الأربع من الإكثار من نواب الحكم بالقاهرة ومصر، وأن لا يزيد الشافعي على عشرة نواب، ولا يزيد الحنفي على ثمانية، ولا المالك على ستة ولا الحنبلي على أربعة، فعمل بذلك مدة أيام، وعادوا لما نهوا من الاستكثار منهم، ولو كان ذلك من الخير لنقص .) . فساد قضاة القُضاة مستمر ، ويقومون بتعيين قضاة نوابا لهم بأعداد كبيرة ليتكسبوا أكثر . فهم يأخذون الرشوة من المدعى والمدعى عليه ، والشاكى والمشكو في حقه. ابن حجر ( امير المؤنين في الحديث ) كان كان قدوة لهم في هذا الفساد فهو الأعلى مقاما باعتباره قاضى قضاة الشافعية. والعجيب أن تأتى أوامر إصلاح القضاة من أكبر مفسد ( أكبر أكابر المجرمين )، أي إن قضاة القضاة هم الأكثر فسادا من السلطان نفسه.
ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
الحج
( وفي ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج، وتتابع قدومهم حتى قدم الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة بالمحمل، وتبعه ساقة الحاج وهم في ضر وبؤس شديد، من غلاء الأسعار، وقدم معه أيضاً الأمير قرقماس المقيم هذه المدة بمكة،). رجع الحجاج في بؤس شديد بسبب الغلاء . ولم يرحمهم برسباى ، إذ إنتظرهم ليفرض عليهم جمارك مما إشتروه في مكة من التجارة الآتية من اليمن.
إحتكار التجارة الشرقية :
( " سلطان الإسلام برسباى " وتشريع جديد باحتكار التجارة الشرقية )
( وفيه تجددت على الحجاج مظلمة لم تعهد من قبل، وذلك أنه منع التجار أيام الموسم أن يتوجهوا من مكة إلى بلاد الشام. مما ابتاعوه من أصناف تجارات الهند، وألزموا أن يسيروا مع الركب إلى مصر حتى يؤخذ منهم مكوس ما معهم، فلما نزل الحجاج بركة الحاج وخرج مباشرو الحاج وأعوانهم، واشتدوا على جميع القادمين من التجار والحجاج، واستقصوا تفتيش محايرهم وأحمالهم، وأخرجوا سائر ما معهم من الهدية وأخذوا مكسها، حتى أخذوا من المرأة الفقيرة مكس النطع الصغير عشرة دراهم فلوساً، وأما التجار فإنه كان أخرج إليهم في السنة الخالية ( السابقة ) بعض مسالمة الأقباط من القاهرة- كما تقدم ذكره- فوصل إلى مكة، ومضى إلى جدة بأعوانه، فضبط ما وصل في المراكب من بلاد الهند وهرمز من أصناف المتجر، وأخذ منها العشور، فقدم في المراكب الهندية إلى جدة في هذه السنة زيادة على أربعين مركباً تحمل أصناف البضائع، وذلك أن التجار وجدوا راحة بجدة، بخلاف ما كانوا يجدون بعدن، فتركوا بندر عدن واستجدوا بندر جدة عوضه، فاستمر بندر جدة عظيماً، وتلاشى أمر عدن من أجل هذا، وضعف حال متملك اليمن، وصار نظر جدة وظيفة سلطانية يخلع على متوليها، ويتوجه في كل سنة إلى مكة في أوان ورود مراكب الهند إلى جدة، ويأخذ ما على التجار ويحضر إلى القاهرة به، وبلغ ما حمل إلى الخزانة من ذلك زيادة على سبعين ألف دينار، سوى ما لم يحمل، فجاء للناس ما لا عهد لهم بمثله، فإن العادة لم تزل من قديم الدهر في الجاهلية والإسلام أن الملوك تحمل الأموال الجزيلة إلى مكة لتفرق في أشرافها ومجاوريها، فانعكست الحقائق، وصار المال يحمل من مكة، ويلزم أشرافها بحمله، ومع ذلك فمنع التجار أن يسيروا في الأرض يبتغون من فضل الله، وكلفوا أن يأتوا إلى القاهرة حتى تؤخذ منهم المكوس على أموالهم، وأني لأذكر أن الملك المؤيد شيخاً نظره مرة في أيام قدوم الحاج فرأى من أعلى قلعة الجبل خياماً مضروبة بالريدانية ( مكانها الآن مدينة نصر ) خارج القاهرة، فسأل عنها، فقيل له إن العادة أن ينصب ناظر الخاص عند قدوم الحاج خياماً هناك ليجلس فيها مباشرو الخاص وأعوانه، حتى يأخذوا مكس ما معهم من البضائع، فقال: والله إنه لقبيح أن يعامل الحاج عند قدومه بهذا، واستدعى بعض أعيان الخاصكية، وأمره أن يركب ويسوق حتى يأتي تلك الخيام ويهدمها على رءوس من فيها، ويضربهم حتى يحملوها وينصرفوا، ففعل ذلك، ولم يتعرض أحد في تلك السنة للحجاج، وكان ناظر الخاص إذ ذاك الصاحب بدر الدين حسن نصر الله، ولعمري لقد سمعت عجائز أهلنا وأنا صغير يقلن:" انه ليأتي على الناس زمان يترحّمون فيه على فرعون. " فبرغمي إن مضين وخلفت حتى أدركت وقوع ما أنذرنا به قبل، ولله عاقبة الأمور).
تعليق :
1 ـ ليست الشريعة السنية فيما يكتبه الفقهاء كتابة نظرية مقطوعة الصلة بالواقع ، الفقهاء السنيون كتبوا ما نسميه بالفقه النظرى عديم الصلة بالواقع ، وكانوا يضعون ( تصورات وهمية : من فعل كذا كان كذا أو فحكمه كذا ) وكانت تصوراتهم الفقهية تختلف حتى فيما يكتبه الفقيه فى المسألة الواحدة في الصفحة الواحدة. ولم يعوّل أحد على هذا الفقه المكتوب. الشريعة السنية الحقيقية تتمثل فيما يصدره السلطان ( أو الخليفة ) من أوامر وما يقوم به من أفعال يتم تنفيذها و التأريخ لها ، ويكون الفقهاء والقضاء أول من ينفّذ ويطبّق ، وكان للقاضى في مجلس الحكم أن يحكم بما يهوى ويقول كلمته المأثورة (هذا مذهبى )، هذا علاوة على جهل القضاة ووصولهم للمنصب بالوراثة والرشوة .
2 ـ لذا نعتبر كل تصرفات برسباى وأكابر المجرمين من حوله هي الشريعة السنية الحقيقية ، والتي يدعّمها قُضاة القضاة ويحكمون بها . ومن هذه الشريعة ما إستحدثه السلطان برسباى في موضوع المكوس أو الجمارك وأمر بتطبيقه، بعد أن صارت التجارة الشرقية تأتى الى ميناء جدة التابع له . من قبل كانت الجمارك تؤخذ من السفن الواردة الى جدة ، ويتم توزيعها على فقراء مكة والمدينة . ومنع السلطان المؤيد شيخ أخذ الجمارك منهم . برسباى فعل العكس ؛ أمر التجار والحجاج المصريين والشوام وغيرهم من التجار وغيرهم والذين يشترون من تلك السفن أن يأتوا بما حملوا الى القاهرة لتؤخذ منهم المكوس أو الجمارك . وأعوانه ــ بكل ما فيهم من غلظة وفساد ــ يفتشون الأمتعة ويفرضون المكوس ظلما وحسب الهوى . إحتجّ المقريزى . ومع ذلك يعتبر برسباى سلطان الإسلام .! هل الإسلام بهذا الظلم والفساد؟ !!
. ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
كوارث ومناخ
( وفي هذا الشهر: كثر موت الجاموس، ولذلك قلت الألبان والأجبان. ) ( في ليلة الخامس عشر: خسف جرم القمر بأجمعه، ومكث جميع جرمه منخسفا نحو ثماني عشر درجة . ).
( شهر صفر، أوله الأربعاء:
1 ـ ( في نصفه: جع السلطان الأمراء والقضاة وكثيراً من التجار، وتحدث في إبطال المعاملة بالذهب المشخص الذي يقال له الأفرنتي، وهومن ضروب الفرنج، وعليه شعار كفرهم الذي لا تجيزه الشريعة المحمدية. وهذا الأفرنتي كما تقدم ذكره قد غلب في زمننا من حدود سنة ثمانمائة على أكثر مدائن الدنيا، من القاهرة ومصر وجميع أرض الشام، وعامة بلاد الروم والحجاز واليمن، حتى صار النقد الرابح، فصوب من حضر رأي السلطان في إبطاله، وان يعاد سبكه بدار الضرب، ثم يضرب على السكة الإسلامية، فطلب من الغد صياغ دار الضرب، وشرع في سبك ما عنده من الدنانير الإفرنتية . )
2 ـ ( وفي سادس عشرينه: نودي بإبطال المعاملة بالدنانير الأفرنتية، وأن يتعامل الناس بالدنانير الأشرفية، وزنة الدينار منه زنة الدينار الأفرنتي، وألزم الناس بحمل ما عندهم من الأفرنتية إلى دار الضرب، حتى تسبك وتعمل دنانير أشرفية.)
تعليق
هذا تشريع آخر للسلطان برسباى . ( سلطان الإسلام عند المقريزى ) يطمع في كمية الذهب في الدينار الافرنتى ( الايطالى )، الذى يثق فيه الناس ويفضلونه في التعامل ثقة لما فيه من الذهب. لذا أمر برسباى بجمع الدنانير الافرنتية وإعادة سبكها بكمية أقل من الذهب ، وتحمل لقبه ( الدينار الأشرفى ) . والحجة الشرعية أن الدينار الافرنتى يحمل شعار الكفر . . ولكن المهم إن هذا الغش في العُملة معروف ومألوف، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
وظائف أكابر المجرمين
( وخلع على شرف الدين أبي الطب محمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله، واستقر في نظر دار الضرب، وقد كان باشر نظر وقف الأشراف، ونظر كسوة الكعبة أحسن مباشرة، بعفة وأمانة ونهضة . ) . هذا هو الذى حاز ثقة برسباى في غشّ الدينار ( الأشرفى ). ليس هذا ببعيد عن تحكم العسكر المصرى الحاكم الآن في سعر الدولار .
الغلاء بسبب الاحتكار
1 ـ ( وفي هذا الشهر: عز وجود الخبز في الأسواق أحياناً، مع كثرة الغلال وقلة طالبيها. وفقد اللحم أيضاً عدة أيام من قلة جلب الأغنام، وسبب ذلك أن الوزير يحتاج في كل يوم إلى اثني عشر ألف رطل من اللحم برسم المماليك السلطانية، ومطبخ السلطان وحريمه، فحجر على باعة اللحم أن يزيدوا في سعره حتى لا يزداد عليه ما يقوم به في ثمن اللحم، واقتني أغناماً كثيرة، وصار يشتريها بما يريد، فلا تصل أثمانها إلى بائعها إلا وقد بخسوا فيها، كما هي عادتهم في بخس الناس أشياءهم، فنفر تجار الغنم وجلابتها من الحضور بها إلى أسواقها، خوفاً من الخسارة، وكانت أراضي مصر في السنة الخالية ( الماضية ) محلاً ( خرابا ) من قلة ماء النيل في أوانه، وسرعة هبوطه، حتى شرقت الأراضي إلا قليلاً، فقلت المراعي، ثم ارتفع سعر الفول والشعير، فشحت الأنفس بعلف البهائم والأنعام، خصوصاً الفلاحون، فإن أحوالهم ساءت فهزلت من أجل هذا بهيمة الأنعام من الغنم والبقر والجاموس، وتعذر من نصف شهر رمضان الماضي وجود لحم الضأن، وارتفع سعره من سبعة دراهم للرطل إلى عشرة دراهم ونصف، وقلت الألبان والأجبان والسمن، وبلغت أثماناً لم نعهد مثله في زمن الربيع، واتفق مع هذا كله الموت الذريع في الجاموس، حتى فني معظمه، ووقع الفناء أيضاً في الأبقار وماتت أيضاً الأغنام وحمير وخيل غير كثيرة العدد .)
تعليق
تشريع آخر في الاحتكار وإستغلال الأزمات يقوم به أكابر المجرمين ، وقد اصبح معلوما عندهم في الدين السُنّى بالضرورة . تعاون نقصان الفيضان للنيل والوباء في الأنعام مع تحكم السلطان في التجارة بيعا وشراء وإهمال الإصلاح في الريف في جلب الخراب وارتفاع الأسعار . وفى الخبر التالى توضيح أكثر للغلاء :
2 ـ ( وفي نصف هذا الشهر: ارتفع سعر القمح وتجاوز الأردب ثلاثمائة درهم ، وقلّ وجود الدقيق في الطواحين، ووجود الخبز بالأسواق، وشنع الأمر في تاسع عشرينه، وازدحم الناس بالأفران في طلب الخبز، وتكالبوا على ابتياع القمح، فشحت نفوس الخُزّان به، وأبيع القدح الفول بأربعة دراهم . ولهذا أسباب: أحدها أن البدر محمود العنتابي كان أيام حسبته يلين للباعة، حتى كأنه لا حجر عليهم فيما يفعلوه، ولا ما يبيعوا بضائعهم به من الأثمان، فلما ولي الششماني أرهب الباعة وردعهم بالضرب المبرح، فكادوه، وترك عدة منهم ما كان يعانيه من البيع، واتفق في هذه الأيام هلك كثير من الجاموس والبقر، بحيث أن رجلاً كان عنده مائة وخمسون جاموسة فهلكت بأجمعها، ولم يبق منها سوى أربع جاموسات، وما ندري ما يتفق لها، فقلت الألبان والأجبان والسمن. ثم هبت في نصف هذا الشهر رياح مريسية، وتوالت أياماً تزيد على عشرة، لم تستطع المراكب السفر في النيل، فانكشف الساحل من الغلة، وجاء الخبر بغلاء الأسعار في بلاد غزة والرملة ونابلس والساحل ودمشق وحوران وحماة، حتى تجاوز سعر الأردب المصري عندهم ألف درهم فلوساً، إذا عمل حسابه. وقدم الخبر بغلاء بلاد الصعيد وأنها بأسرها لا يكاد يوجد بها قمح ولا خبز بُر، ومع هذه الرزايا كلها شُحُّ الأعيان وطمعهم، فإن بعض أمراء الألوف لما بلغ القمح مائتين وخمسين درهماً الأردب قال: لا أبيع قمحي إلا بثلاثمائة درهم الأردب. ومنع السلطان أن يباع من حواصله قمح لقلة ما عنده، فظن الناس الظنون، وجاعت أنفسهم، وقوى الحرص، وتزايد الشُّح، فأمسك خُزان ( خازنو ) القمح ما عندهم منه ضناً به وأملوا أن يبيعوا البر بالدر. هذا، ومتولي الحسبة بعيد عن معرفتها، فآل الأمر إلى ما قيل: تجمعت البلوى علي واحد فرد . )
تعليق
بدرالدين العينى ( المؤرخ المُحدّث صاحب شرح البخارى ونديم السلطان ) حين كان متولى الحسبة إكتفى بأخذ الرشوة من الباعة وتساهل معهم، بعده تولى الحسبة شخص آخر كان يأخذ الرشوة ـ وهى مشروعة وفق الشريعة السنية المملوكية ومن المعلوم عندهم بالضرورة في الدين السُّنّى ــ ومع هذا كان هذا المحتسب يضرب الباعة ، وضرب المحتسب الناس كان أيضا من المعلوم من الدين السُّنّى بالضرورة ، فتركوا البيع ، فتوقفت حركة الأسواق ، هذا مع الإحتكار وتخزين الحبوب وتزايد الحرص والشُّح بين الأكابر من الأمراء أصحاب الاقطاعات ، وسريان الوباء بين الأنعام فانتهى الأمر كما يقول المقريزى كما لو تجمعت كل البلاوى على فرد واحد . هذا الفرد الواحد هم الفقراء ..!
3 ـ ( وفيه انحط سعر اللحم من عشرة دراهم ونصف الرطل إلى ثمانية ونصف، وهو هزيل لقلة علف البهائم . ). رخصت أسعار اللحم لأن قلة علف البهائم مع انتشار الوباء كانت تجعل من يملك بهيمة يسارع بالتخلص منها .
( شهر ربيع الأول، أوله الجمعة : )
التلاعب في العملة
( أهل هذا الشهر والأردب القمح بثلاثمائة، سوى كلفه، وهى مبلغ عشرين درهماً، والدقيق كل بطة زنة خمسين رطلاً بمائة وعشرين درهماً، وهما قليل، وقد خسر الناس في تفاوت سعر الدينار الأفرنتي والدينار الأشرفي جملة مال، فإن الأفرنتي كان يصرف بمائتين وخمسة وعشرين درهماً، وفي علم السلطان أنه إنما يصرف بمائتين وعشرين، ومشي الناس أيضاً فيما بينهم نقصه زنة قمحة، فلما نودي أن لا يتعامل أحد بالأفرنتي وضرب السلطان الدنانير الأشرفية وأنفقها في جوامك المماليك بالديوان المفرد، كثرت في أيدي الناس، فصار من عنده شيء من الأفرنتية يحتاج أن يتعوض بدله من الصيارفة دنانير أشرفية فيخسر في كل دينار أفرنتي سبعة دراهم ونصف، إن كان نقصه قمحة، وما زاد على القمحة فبحسابه، فتلفت أموال الناس بسبب ذلك، وربحت الصيارفة أرباحاً كثيرة، بحيث أخبرني من لا أتهم أنه خسر في دنانير أفرنتية خمسة آلاف درهم . )
تعليق
شرع برسباى الغش في العُملة الذهبية . ترتب على غشّ السلطان في الدينار الأشرفى وقصر التعامل على هذا الدينار أن خسر من كان لديه دنانير إفرنتية اضطر لبيعها ليتعامل بالدينار الأشرفى . والمقريزى باعتباره شاهد عيان يروى أن صاحبا له يثق في كلامه قد خسر 5 آلاف درهم في تحويل العُملة . إذا كان هذا ثريا قد خسر هذا المبلغ فماذا عن الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ؟
الخبر التالى يقول :
غلاء ومجاعة بين الفقراء
1 ـ ( وفي يوم السبت ثانيه: تيسر وجود الخبز في الأسواق . ). تيسّر وجود الخبز ـ العيش الحاف بالتعبير المصرى ) دون ( الغموس ) بالنسبة للفقراء . ولأنهم فقراء فلم يستطيعوا شراء الخبز . يقول الخبر التالى :
2 ـ ( وفيه ابتدأ السلطان بعمل خبز يفرق في الفقراء كل يوم. ). جاءت نخوة مفاجئة للسلطان برسباى فأمر بتفريق الخبز ( الحاف ) على الفقراء . هذا في القاهرة ، فماذا عن غيرها في عموم الدولة المملوكية ؟
إصلاح للطرقات لم يتم
( وفي رابع عشره: نودي أن يقطع كل أحد ما تحت حانوته من الأرض، ويرمي بالكيمان، وان تصلح الطرقات في سائر أزقة القاهرة ومصر وظواهرهما، وفي جميع الحارات والخطط، وهدد من لم يفعل ذلك، فشرع كل أحد- من جليل وحقير- في طلب الفعلة وقطع الأراضي، وطلب الحمارة لنقل الأتربة ورميها، فجاءتهم كلف ومغارم مع ما هم فيه من غلاء الأسعار والخسارة في الذهب، فلطف الله وبطل ذلك بعد يومين، وقد خسر فيه من خسر جملة . ) .
تعليق
1 ـ السلطان برسباى هو الذى أعاش الناس في الفقر ، ثم يستكثر أن يكون إصلاح الشوارع على حساب دولته .!
2 ـ كانت الطرق في القاهرة مُزدانة بأكوام الزبالة ، وانتشر هذا في الشوارع الرئيسة والحارات والأزقّة ، ولأن السلطان برسباى من عادته التنزُّه فلم يعجبه ما يرى ، فأمر الناس بإصلاح الشوارع والأزقة على حسابهم وليس على حساب الدولة . إستلزم هذا من الأكابر نفقة مع غلاء الأسعار والخسارة في تغيير العُملة . وجاء الفرج في العادة المصرية ، فمصر بلد : ( كُلُّ شيء فيه يُنسى بعد حين ). وعادت كيمان الزبالة تُرصّع الشوارع . ـــ ولا تزال حتى عصرنا .!
وظائف أكابر المجرمين
( وفيه قدم الأمير قصروه نائب طرابلس . )
ألعاب أكروبات
1 ـ ( وفي هذا الشهر: ظهر رجلان أبديا صنائع بديعة:
أحدهما من مسلمة الفرنج الذين يتزيون بزي الأجناد ، فإنه نصب حبلاً أعلى مأذنة المدرسة الناصرية حسن بسوق الخيل تحت قلعة الجبل، ومده حتى ربطه بأعلى الأشرفية من قلعة الجبل، ومسافة ذلك رمية سهم أو أزيد، في ارتفاع ما ينيف على مائة ذراع في السماء، ثم إنه برز من رأس المأذنة، ومشى على هذا الحبل، حتى وصل إلى الأشرفية، وهو يبدي في مشيه أنواعاً من اللعب، وقد جلس السلطان لرؤيته، وحشر الناس من أقطار المدينة، فعد فعله من النوادر التي لو لم تشاهد لما صدقت، ثم خلع عليه السلطان، وبعثه إلى الأمراء، فما منهم إلا أنعم عليه.
فانتدب بعد ذلك بقليل شاب من أهل البلد لمحاكاة المذكور في فعله، ونصب حبلاً عنده في داره، ومشى عليه فلما علم من نفسه القدرة على ذلك صعد إلى رأس نخلة، ومد منها حبلاً إلى نخلة أخرى ومشى عليه، فأقدم عند ذلك وأظهر نفسه، ونصب حبلاً من رأس مأذنة المدرسة الظاهرية برقوق إلى رأس مأذنة المدرسة المنصورية بين القصرين بالقاهرة، وأرخي من وسط هذا الحبل الممتد حبلاً، وواعد الناس حتى ينظروا ما يفعله، مما لم يقدر ذلك الرجل على فعله، فجاءوا من كل جهة، وخرج من رأس المأذنة المدرسة الظاهرية، ومشى قائما على قدميه، وقامته منتصبة، حتى وصل رأس مأذنة المدرسة المنصورية، ومسافة ما بينهما نحو المائة ذراع في ارتفاع أكثر من ذلك، ثم إنه نام على الحبل، وتمدد، ثم قام ومشى حتى وقف على الحبل الذي أرخاه في وسط الحبل الذي هو قائم عليه، ونزل فيه إلى آخره، ثم صعد فيه، وهو يبدي في أثناء ذلك فنوناً تذهل رؤيتها، لو لا ضرورة الحس لما صدقت، وتلاشى بما فعله فعل ذلك الرجل، ثم إنه نصب حبلاً من مأذنة حسن إلى الأشرفية بالقلعة، كما نصب الرجل الأول، وجلس السلطان لمشاهدته، وأقبل الناس في يوم الجمعة تاسع عشرينه، وقد هبت رياح كادت تقتلع الأشجار، وتلقي الدور، فخرج هذا الشاب وتلك الرياح في شدة هبوبها، فمشى على قدميه حتى وصل إلى حبل قد أرخاه في الوسط، وأدلى رأسه، ونزل فيه منكوساً، رأسه أسفل ورجلاه أعلاه، إلى آخره، ثم صعد على الحبل الممتد، ومشى قائماً عليه حتى وصل إلى قبة المدرسة، فنزل من الحبل وصعد القبة وهو يجري في صعوده جرياً قوياً فوق شكل كرسي من رصاص أملس، حتى وقف بأعلاها، والرياح عماله في طول ذلك، بحيث لا يثبت لها طير السماء، ولا يقدر على المرور لشدة هبوبها، وهذا الشاب يروح ويجيء شاقاً لها، وماراً فيها، كأنما خلق من الريح، فكان شيئاً عجباً، لا سيما ولم يتقدم له إدمان في ذلك، ولا دربه فيه معلم، وإنما تاقت إليه نفسه، فامتحنها فإذا هي متأتية له فيما أراد، فبرز وأبدى ما يعجز عنه سواه .)
تعليق
السلطان برسباى والأمراء كافأوا الشخص الأول ، لأنه جندي ، كان إفرنجيا فاسلم وأصبح جنديا مملوكيا . الشخص الآخر مصري تفوق على سابقه وطمع في المكافأة ، وقد رأى السلطان مهارته وتفوقه ، ومع ذلك حرمه من المكافأة لأنه مصري . بتعبير عصر السيسى لأنه ( مواطن عادى ) وليس من ( الأسياد ).
رخص الأسعار
( ومن نصف هذا الشهر: انحل سعر الشعير، حتى أبيع الأردب بدينار أشرفي، وانحل سعر الفول، حتى أبيع الأردب بثلاثمائة درهم بعد ما بلغ أربعمائة، ووجد القمح وكثر، ولله الحمد . ) . عندما كانت الأسعار تنخفض تكون نعمة . كانت الأسعار وقتها تتذبذب بين ارتفاع في الأغلب ، وهبوط . في عصر العسكر المصرى الحاكم من 1952 ترى الأسعار في ارتفاع مستمر ، ولا تهبط . الأسعار في مصر اليوم لا تعود الى ما كانت عليه في الماضى إلا إذا رجع الشيوخ شبابا .
الصراع المملوكى الصليبى وبداية الفساد للمماليك الجُلبان :
( وفيه قدم الأمير أرنبغا المتوجه في البحر إلى مكة، وكان معه هدية لصاحب اليمن فمضى بها في البحر من جدة ومعه شخص يقال له ألطنبغا فرنجي- ولي دمياط مراراً- ومعهما من المماليك السلطانية خمسون نفراً، وقد حسن للسلطان شخص أخا اليمن بهذه العدة، فتأخر فرنجي في مركب على ساحل حلي بني يعقوب بالمماليك، وتوجه أرنبغا ومعه منهم خمسة نفر بالهدية والكتاب، وهو يتضمن طلب مال للإعانة على جهاد الفرنج، فأخذ متملك اليمن في تجهيز الهدية، فأتاه الخبر بأن فرنجي نهب بعض الضياع، وقتل أربعة رجال فأنكر صاحب اليمن أمرهم، وتنبه لهم وقال لأرنبغا: ما هذا خبر خير، فإن العادة أن يقدم في الرسالة واحد فقدمتم في خمسين رجلاً، ويحضر إلي منكم إلا أنت في خمسة نفر، وتأخر باقيكم، وقتلوا من رجالي أربعة وطرده عنه من غير أن يجهز هدية ولا وصله بشيء، فنجا ومن معه بأنفسهم وعادوا جميعاً إلى مكة، وقدم أرنبغا مخفاً ).
تعليق
1 ـ السلطان في صراعه مع الصليبيين يطلب عونا من سلطان اليمن ، واستجاب سلطان اليمن ، ولكن مجموعة من الوفد المملوكى نهبوا بعض الضياع اليمنية وقتلوا أربعة من رجال السلطان اليمنى . لا عجب . فهؤلاء هم المماليك الجُلبان ، الذين أدمنوا السلب والنهب والقتل حتى لو جاءوا ضيوفا يتسولون العون .! فماذا عن تعاملهم مع الشعب المصرى الأعزل ؟
2 ـ هنا بداية الإشارة الى وحشية المماليك الجُلبان . وستتكرر في الأحداث التالية. وكان قُضاة القُضاة يسكتون عنها ، فهم من أكابر المجرمين الفاسدين ، ولهذا أصبح ما يرتكبه المماليك الجلبان من سلب ونهب واغتصاب للنساء والصبيان عملا مشروعا ، أي اصبح عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!

( شهر ربيع الآخر، أول السبت:
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( فيه توجه الأمير قصروه عائداً إلى طرابلس على نيابته بها . )
2 ـ ( وفي ثامنه: خلع على الأمير يشبك الساقي الأعرج، واستقر أمير سلاح بعد موت أينال النوروزي . )
3 ـ ( وفي خامس عشرينه: استقر كمال الدين محمد بن همام الدين محمد السيواسي الحنفي في مشيخة التصوف وتدريس الجامع الأشرفي، عوضاً عن علاء الدين علي الرومي، وقد عزم على عودته إلى بلاده. ولم يكن بالمشكور في علمه ولا عقله . ) . هذا الرومى لم يكن عالما ولا عاقلا وفق ما يقوله المقريزى ، ونقم عليه الناس ، ومع ذلك وجد وظيفة في جامع برسباى ، ثم ظهر جهله وسوء سيرته فعزله برسباى ، فعاد الى الدولة العثمانية التي جاء منها . بالمناسبة ( الجامع الأشرفى ) لا يزال من معالم القاهرة حتى الآن ، وهو معروف بجامع برسباى .
4 ـ ( وفي يوم الخميس سابع عشرينه: خلع على بدر الدين محمود العينتابي، واستقر قاضي القضاة الحنفية، عوضاً عن زين الدين عبد الرحمن التفهني. وخلع على التفهني، واستقر في مشيخة خانكاه شيخو بعد وفاة سراج الدين عمر قارئ الهداية . ). هنا حركة تنقلات ، أصبح بها المؤرخ المحدث بدر الدين العينى قاضيا للقضاة الحنفية .
ابن حجر يتبرع للسلطان بمرتباته لمدة عام :
( وفيه تبرع قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر. مما له من المعلوم المقرر على القضاء، في أنظار الأوقاف ونحوها، لمدة سنة، فجبيت للسلطان، وباشر بغير معلوم . ). أي لم يأخذ مرتبا عن عمله في القضاء وفى إدارة الأوقاف مكتفيا بما يأخذه نوابه القُضاة الشافعية من الناس . إبن حجر تبرع للسلطان الظالم ، ولم يتبرع للفقراء. وهو بحُكم عمله أدرى بمعاناتهم .
صراعات أكابر المجرمين
البحث عن جان بك الصوفى
1 ـ ( وفي يوم الجمعة: أركب السلطان كثيراً من مماليكه، ونزلوا في عدة من الأمراء إلى القاهرة متقلدي سيوفهم، حتى طرقوا الجودرية- إحدى الحارات- وأحاطوا بها من جميع جهاتها، وفتشوا دورها، وقد وشى للسلطان بأن جانبك الصوفي في دار بها، فلم يعثروا عليه، وقبض على فخر الدين بن المرزوق وضرب بالمقارع ونفي، لتعلق بينه وبين جانبك الصوفي من جهة المصاهرة، ونودي من الغد بأن لا يسكن أحد بالجودرية، فأخليت عدة دور بها، واستمرت زماناً خالية، فكانت حادثة شنعة )
تعليق
شريعة برسباى السُنّية أن يأخذ المظلوم بذنب الخصم . سكان حارة الجودرية تعرضوا للإخلاء القسرى لأن شخصا فيها كان على صلة بالأمير الهارب جان بك الصوفى . تعرض هذا الشخص ـ وهو من الوجهاء ـ للتعذيب والنفى . يوجز المقريزى تعليقه بأنها كانت حادثة شنيعة . ولا يعطينا تفاصيل . يكفينا أنه ذكر إسم أحد الضحايا ( فخر الدين بن المرزوق ) ، أما آلاف الضحايا من سكان الحارة فلا نعرف أسماءهم ولا تفاصيل ما تعرضوا له . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
( وفي سلخه: قدم المماليك الذين كانوا مجردين بمكة . )
أكروبات
( وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: نصب تاجر عجمي حبلاً فيما بين مأذنتي مدرسة حسن ليفعل كما فعل من تقدم ذكرهما، وخرج من أعلى أحديهما ومشى على الحبل عدة خطوات ثم عاد من حيث ابتدأ، ومشى ثانياً على قدميه إلى آخره، وأبدى عجائب، منها أنه جلس على الحبل وأرخى رجليه، وتناول وهو كذلك قوساً كانت على كتفه، وأخرج من كنانته سهمين رمى بهما واحد بعد آخر، ثم قام ودخل وهو قائم على الحبل في طارة كانت معه، وخرج منها، وكرر دخوله فيها وخروجه منها مراراً، فتارة يدخل رجليه قبل إدخاله يديه، وتارة يدخل يديه قبل رجليه، ثم ينزل من الحبل الممدود في حبل قد أرخاه، وهو حال نزوله يتقلب بطناً لظهر وظهراً لبطن، حتى نزل إلى أسفله ورأسه منكوسة نحو الأرض، وقامته ممتدة، بحيث صارت قدماه توازي السماء، ورمى وهو منكوس بالقوس ثلاثة سهام واحداً بعد واحد، ثم صعد من أسفل الحبل المرخاة حتى قام على قدميه فوق الحبل الممدود، ثم ألقى نفسه وهو قائم إلى جهة الأرض، فإذا هو قد تعلق بإبهامي قدميه، وصار رأسه منكوساً، ثم انقلب وهو منكوس، فصار رأسه على الحبل الممدود ورجلاه إلى السماء، ثم انقلب فصارت قدماه على الحبل وهو قائم فوقه، ثم رفع إحدى رجليه ووقف فوق الحبل على رجل واحدة، وهو يرفع تلك الرجل، حتى ألصقها بفمه، ثم أرخاها ووقف عليها، ورفع الرجل الأخرى التي كان قائماً عليها حتى ألصقها بفمه، ثم أرخاها ووقف على قدميه منتصب القامة، وخر ساجداً على الحبل حتى صار فمه عليه يشير أنه يقبل الأرض بن يدي السلطان، وهو مستقبله، فأنست أفعاله من تقدمه. ) .
من مظاهر عبادة السلطان في الشريعة السُنُيّة السجود بين يديه وتقبيل الأرض . وكان هذا من المراسم الواجبة للسلطان إعترافا بشرعيته . والمقريزى يجعل السلطان المملوكى ( سلطان الإسلام ) . ! ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
الأسعار
( وفي هذا الشهر: ارتفع سعر الغلال بعد انحطاطها، وبلغ الأردب القمح ببلاد الصعيد أربعة دنانير. )
الصراع المملوكى الصليبى
( وفيه تحارب الفرنج القطرانيون والبنادقة في ميناء الإسكندرية، فغلب القطرانيون، وأخذوا مركب البنادقة بما فيه، بعد ما قتل بينهم جماعة، ثم أسروا طائفة من المسلمين كانوا بالميناء، ومضوا في البحر. )
( شهر جمادى الأولى، أوله الاثنين:)
الصراع المملوكى الصليبى
( في سابع عشرينه: قدم رسول صاحب اصطنبول- وهي القسطنطنية- بهدية وشفع في أهل قبرس أن لا يغزوا . )
الأسعار
( وفي هذا الشهر: ارتفع سعر القمح حتى بلغ دينارين الأردب، ثم انحط في آخره إلى دينار، وانحطت البطة الدقيق من مائة وخمسين درهما إلى ثمانين درهماً، لكثرة وجود القمح . ). ( البطّة ) هي مكيال في العصر المملوكى .
( شهر جمادى الآخرة أوله الأربعاء:)
وظائف أكابر المجرمين
( وفيه خلع على عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي الحنبلي، الذي ولي قضاء الحنابلة بدمشق في الأيام المؤيدية، واستقر قاضي قضاة الحنابلة عوضاً عن محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي بعد عزله، وقد شنعت فيه القالة لسوء سيرة أخيه وابنه . ). إبن نصر البغدادى قدم من العراق وأصبح قاضيا للقضاة الحنابلة ، وتولى إبنه منصبا . كل ذلك بالرشوة وشراء المناصب . ثم ظهر فساده وفساد إبنه فعزله السلطان وولّى غيرهما بالرشوة . السلطان برسباى ينطبق عليه المثل الشعبى المصرى ( كالمنشار طالع واكل ، نازل واكل ) . مهما بلغ جشع برسباى وفساده فلا يصل الى الحضيض الذى وصل اليه السلطان السيسى في عصرنا الحزين .!
( شهر رجب أوله الخميس : )
المحمل
( فيه أدير محمل بالقاهرة ومصر على العادة في كل سنة، وعجل عن وقته لتوجه المجاهدين للغزو. ). الاستعداد لغزو قبرص أخذ الأهمية الكبرى ، وجزءا من القوة المملوكية التي كانت تصحب الحُجّاج .
وظائف أكابر المجرمين
( وفيه خلع على عبد العظيم بن صدقة كاتب إبراهيم البرددار، واستقر في نظر الديوان المفرد، وكان قد شغر ( أي خلا ) عن الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ من حين ولي الأمير زين الدين عبد القادر أستادار، وعبد العظيم من مسلمة النصارى الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون . ). تولى عبد العظيم بن صدقة نظارة الديوان المفرد . ولأنه كان نصرانيا فأسلم فلم ينجُ من تعصب المقريزى ، يقول عنه ( ، وعبد العظيم من مسلمة النصارى الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون . ). ينسى المقريزى أن النظام كله فاسد ، وأن رأس الفساد هو من يسميه ( سلطان الإسلام ).!
العُملة السلطانية المغشوشة
( وفي يوم الخميس عشره: نودي بمنع الناس من المعاملة بالدنانير الأفرنتية، وأن تقص ويحضر بها مقصوصة إلى دار الضرب حتى تسبك، وهدد من خالف ذلك، وكان العامة بعد النداء الأول قد تعاملوا بها كما هي عادتهم في المخالفة، لقلة ثبات الولاة على ما يرسم به . ) . عودة لفرض الدينار السلطانى المغشوش على الناس ، وتهديد من يحتفظ بالدينار الافرنتى . تشريع لم يتم تنفيذه بالكامل بسبب ظلمه الفادح .!
الصراع المملوكى الصليبى
1 ـ ( وفي يوم الجمعة ثانيه: سار أربعة أمراء إلى الجهاد، وهم تغري بردي المحمودي رأس نوبة، وقد جعل مقدم عسكر البر، والأمير أينال الجكمي أمير مجلس وجعل مقدم عسكر البحر، والأمير تغري برمش، والأمير مراد خجا وتبعهم المجاهدين، وتوجهوا في النيل أرسالا، حتى كان أخرهم سفراً في يوم السبت حادي عشره . )
2 ـ ( وفي ثامن عشرينه: قدم الخبر بأن الغزاة مروا في سيرهم إلى رشيد، وأقلعوا من هناك يوم السبت رابع عشرينه وساروا إلى أن كان يوم الاثنين سادس عشرينه، انكسر منهم أربعة مراكب غرق فيها نحو العشرة أنفس فانزعج السلطان لذلك، وهمّ بإبطال الغزاة، ثم بعث في يوم الجمعة آخره الأمير جرباش قاشق حاجب الحجاب، لكشف خبرهم، والعمل في مسيرهم أو عودهم، بما يقتضيه رأيه، فقوي عنده إمضاء العزم على المسير، فساروا على بركة الله . ).
( شهر شعبان، أوله الجمعة: )
الصراع المملوكى الصليبى
( في خامسه: قدم الخبر بأن طائفة من الغزاة لما ساروا من رشيد إلى الإسكندرية وجدوا في البحر أربع قطع بها الفرنج، وهي قاصدة نحو الثغر، فكتبوا لمن في رشيد من بقيتهم بسرعة لحاقهم، وتراموا هم والفرنج يومهم، وباتوا يتحارسون، واقتتلوا من الغد، فما هو إلا أن قدمت بقية الغزاة من رشيد، ولي الفرنج الأدبار بعد ما استشهد من المسلمين عشرة . )

تعليق
صراع أكابر المجرمين من المماليك والصليبيين هو قتال في سبيل الشيطان ولكن يعتبر المقريزى ما يفعله المماليك جهادا في سبيل الله جل وعلا.
النيل
( وفي رابع عشره: جاء قاع النيل أربعة أذرع وسبعة أصابع، وابتدئ بالنداء بزيادة النيل في يوم الجمعة خامس عشره خمسة أصابع . )
شهر رمضان . أوله الأحد :
النيل
( وفي يوم الخميس تاسع عشره- الموافق له أول يوم من مسرى-: كان النيل على ثلاث عشر ذراعاً وأربعة أصابع، وهذا المقدار مما يندر وقوعه في أول مسرى لكثرته . )
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي يوم الخميس ثاني عشره: أنعم بإقطاع الأمير الكبير قجق على الأمير يشبك الساقي الأعرج أمير سلاح وأنعم بتقديمه قرقماس وإقطاعه على الأمير بردبك أمير أخور، وأنعم بطبلخاناه بردبك على الأمير يشبك أخي السلطان، ولم يتأمّر قبلها، فصار من أمراء الطبلخاناه . ). إستقدم برسباى أخاه وأفراد عائلته ، وجعل أخاه من أمراء الطبلخانة .
2 ـ ( وفي رابع عشره: خلع على الأمير يشبك الساقي واستقر أميرا كبيراً أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير قجق بعد موته . )
3 ـ تعيين بعد دفع المعلوم : ( وفي يوم الثلاثاء رابع عشرينه: قدم الشريف بركات بن حسن بن عجلان من مكة، وقد استدعى بعد موت أبيه فخلع عليه، واستقر في إمرة مكة، على أن يقوم بما تأخر على أبيه وهو مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار، فإنه كان قد حمل قبل موته من الثلاثين الألف التي التزم بها مبلغ خمسة آلاف دينار، وألزم بركات أيضاً بحمل عشرة آلاف دينار في كل سنة، وأن لا يتعرض لما يؤخذ بجدة من عشور بضائع التجار الواصلة من الهند وغيره . )
( شهر شوال، أوله الاثنين: )
الصراع المملوكى الصليبى
( فيه ابتدأ عبور الغزاة، فقدم عدة منهم في البر وفي النيل . )
النيل
( وفي يوم الخميس رابعه- الموافق له اليوم الخامس عشر من مسرى-: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، ففتح الخليج على العادة . ).
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي حادي عشره: سار الشريف بركات بن حسن بن عجلان عائداً إلى مكة أميراً )
2 ـ ( وفي خامس عشره: خلع على الأمير أينال الجكمي أمير مجلس، واستقر أمير سلاح عوضاً عن الأمير يشبك، وكانت شاغرة في هذه الأيام، وخلع على الأمير جرباش قاشق حاجب الحجاب، واستقر أمير مجلس، وخلع على الأمير قرقماس- الذي كان بمكة- واستقر حاجب الحجاب . )
3 ـ ( وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: قدم أمير الملأ عذراء بن علي بن نعير بن حيار بن مهنا، فأنزل بالميدان الكبير على عادة جده نعير، وأجريت له الرواتب، وعذراء هذا أقامه الظاهر ططر بعد موت الملك المؤيد شيخ، عوضاً عن حديثة بن مانع من آل فضل. وحديثة استقر بعد حسين بن نعير بن حيار بن مهنا، وحسين استقر بعد قتل أخيه العجل ابن نعير. والأمير الملأ عدة سنين لم يقدم إلى مصر.)
( وفي خامس عشرينه: توجه الأمير عذراء عائداً إلى بلاده على إمرة العرب، بعد ما خلع عليه.). هذه عشائر من أعراب الشام كانوا في خدمة الدولة المملوكية .
4 ـ ( وفي ثامن عشره: خلع على الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر الحسيني واستقر في إمرة المدينة النبوية عوضاً عن الشريف عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة، على أن يقوم بخمسة آلاف دينار. ). دفع المعلوم 5 آلاف دينار . ثم يجمع أضعافها ظلما وعدوانا . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
المحمل :
( وفي عشرينه: خرج محمل الحاج على العادة إلى ظاهر القاهرة . )
النيل والنوروز
( وفيه كان نوروز القبط بمصر، وماء النيل قد بلغ ثمانية عشر ذراعاً وإصبعاً واحداً. )
الأسواق
1 ـ ( وفي هذه الأيام: تعطلت أسواق القماش من البيع عدة أيام لاشتغال التجار بشراء الغنائم . )
2 ـ ( وفيها قل وجود اللحم بالأسواق لقلة الأغنام . ) ـ
( شهر ذي القعدة، أوله الأربعاء:
وظائف أكابر المجرمين
( في نصفه: قدم نجم الدين عمر بن حجي من دمشق بسعيه في ذلك، وكان منذ أخرج بعد عزله من كتابة السر مقيماً بدمشق . )
النيل
( وفي ثامن عشرينه- وهو رابع بابه-: انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً وخمسة أصابع، وثبت . )
الغلاء والأسعار
( وفي هذا الشهر: انحط سعر الغلال . )
فساد القضاة
( وفيه كثر تتبع القضاة والفقهاء فيما تحت أيديهم من الأوقاف، وانطلقت الألسن بقالة السوء فيهم.) فساد القُضاة من المعلوم في الدين السنى عندهم بالضرورة.!
صراع أكابر المجرمين
( وفيه وقع بالمدينة النبوية حادث شنيع، وهو أن خشرم بن درغان قدم المدينة وقد رحل عنها عجلان لما بلغه أنه عزل، فلم يلبث غير ليلة حتى صبحه عجلان في جمع من العربان، وحصره ثلاثة أيام، ثم دخل عربه المدينة ونهبوا دورها، وشعثوها وخربوا مواضع من سورها، وأخذوا ما كان للحجاج الشاميين من ودائع، وقبضوا على خشرم، ثم خلوه لسبيله، واستهانوا بحرمة المسجد، وارتكبوا عظائم. ). ارتكابهم العظائم في المساجد ــ حتى ما يقدسونه منها ـ هو من المعلوم عندهم في الدين السنى بالضرورة.
( شهر ذي الحجة، أوله الخميس: )
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي ثاني عشرينه: قدم الأمير شارقطلوا نائب حلب، خلع عليه وأتته تقادم الأمراء. )
2 ـ ( وفيه قدم قاضي دمشق الشريف شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم الحسيني،)
النيل
( وفي هذه المدة انحط ماء النيل قليلاً بحيث دخل شهر هتور في سادس عشرينه والماء في تسعة عشر ذراعاً. وهذا ثبات جيد نفعه، إن شاء الله . )
الحج
( وقدم مبشروا الحاج وأخبروا بسلامتهم . )
الإحتكار:
برسباى يصل إحتكاره الى منع الأمراء والأعيان من التصرف في ممتلكاتهم
( وفي هذه الأيام: رسم السلطان بمنع الأمراء والأعيان من الحمايات، ومحيت رنوكهم عن الطواحين والحوانيت والمعاصر، حتى يتمكن مباشرو السلطان من رمي البضائع، فرميت، وهي ما بين سكر وأرز وغير ذلك، فشمل الضرر كثيراً من الناس، لما في ذلك من الخسارة في أثمانها، والمغرم للأعوان . )









الفصل السادس : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 830
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى في التأريخ لسنة 830 ( سنة ثلاثين وثمانمائة:
( أهلت وسلطان الإسلام ببلاد مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي، والأمير الكبير أتابك العساكر سيف الدين يشبك الساقي الأعرج، ورأس نوبة النوب الأمير تغري بردي المحمودي، وأمير سلاح الأمير أينال الجكمي، وأمير مجلس الأمير جرباش الكريمي، وأمير أخور الأمير جقمق، والدوادار الكبير الأمير أزبك، وحاجب الحجاب الأمير قرقماس، وأستادار الأمير زين الدين عبد القادر بن الأمير فخر الدين عبد الغني بن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن عبد الله، المعروف بابن كاتب المناخ، وناظر الخاص كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم، وكاتب السر بدر الدين محمد بن بدر الدين محمد بن أحمد بن مزهر، وناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل، وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي بدر الدين محمود العنتابي، وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي عز الدين عبد العزيز البغدادي، ونائب الشام الأمير سودن من عبد الرحمن، ونائب حلب شارقطلوا، ونائب حماة الأمير جلبان أمير أخور، ونائب طرابلس الأمير قصروه، ونائب صفد الأمير مقبل الدوادار، وأمير مكة الشريف بركات بن حسن بن عجلان، وأمير المدينة النبوية الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر، ونائب الإسكندرية الأمير أقبغا التمرازي . )
الأحوال العامة :
1 ـ الأسعار :( والأسعار مختلفة فالقمح من مائة وخمسين درهماً الأردب إلى ما دونها، والشعير بمائة درهم الأردب وما دونها، والفول بمائة وخمسين درهماً الأردب، وقد كثر وجوده بعد ما كان قليلاً، والحمص بخمسمائة درهم الأردب،).
2 ـ أثر الظلم في غلاء الأسعار كالمعتاد : ( واللحم متعذر الوجود في الأحيان، فإن الوزير يمنع من الزيادة في سعره من أجل ما يحتاج إليه من راتب السلطان ومماليكه، وإذا حضر معاملو اللحم أسواق الغنم، أخذوا الأغنام كيفما شاءوا، وأحالوا أربابها بالثمن على جهات، فيغبنوا فيما يصل إليهم من أثمان أغنامهم، فقل جلب الأغنام لأجل ذلك،).
3 ـ البؤس المعتاد في ظل الشريعة السُنّية : ( والأسواق كاسدة، والجور فاش، وقد شمل الناس الفاقة، وعمت الشكاية، ولا يزداد الناس إلا إعراضاً عن الله، فلا جرم أن حل بهم ما حل، ولا قوة إلا بالله . ).
تعليق
1 ـ أسقط المقريزى الخليفة العباسى لأن إهتمامه تركّز بعد إحتلال قبرص على:( سلطان الإسلام ). هذا مع أن الحياة بؤس بسبب فساد هذا السلطان .
2 ـ ونأتى للتفاصيل :
( شهر المحرم، أوله السبت: وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( فيه سار الأمير شارقطلوا بحلب . )
2 ـ ( وفي يوم السبت ثامنه: خلع على نجم الدين عمر بن حجي، وأعيد إلى قضاء دمشق عوضاً عن الشريف شهاب الدين أحمد، بعد ما حمل عيناً وأهدى أصنافاً بنحو عشرة آلاف دينار، فلم يفد وعزل . ) تبديل قاض فاسد هو ( الشريف شهاب الدين ) بقاض فاسد آخر أشدّ فسادا هو إبن حجّى . القاضي الفاسد دفع رشوة ضخمة وضاعت عليه . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
3 ـ ( وفي سابع عشره: سافر قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي، بعد ما خلع عليه خلعة السفر. )
4 ـ ( وفي يوم الجمعة ثامن عشرينه: توجه الشريف شهاب الدين أحمد عائداً إلى دمشق بغير وظيفة، على أن يقوم بخمسة آلاف دينار، سوى ما حمل أولاً وآخراً، وهو مبلغ سبعة وعشرين ألف دينار، وجملة ما حمله غريمه نجم الدين عمر بن حجي في تلك المدد ستون ألف دينار، وهذا الشيء لم نعهد مثله، وإن هذا لمحض الفساد، ولا قوة إلا بالله. ). أخذ برسباى من القاضي ( الشريف شهاب الدين) بعد عزله 27 ألف دينار ، وألزمه بخمسة آلاف أخرى ، وهو مع ذلك لقبه "الشريف". ( أليس هذا تزويرا في أوراق رسمية ؟ ). وبلغ ما أخذه برسباى من إبن حجى على وظيفة القضاء 60 ألف دينار . ويقول المقريزى : ( وهذا الشيء لم نعهد مثله، وإن هذا لمحض الفساد، ولا قوة إلا بالله. ). القاضي الذى يصل بالرشوة وشراء المنصب لا بد أن يسترد أضعاف ما دفعه بالظلم . ( محض الفساد هذا ) الذى يقوله المقريزى يقع بزعامة من أسماه ( سلطان الإسلام ) .! هل الإسلام دين الفساد ؟ أم دين العدل والإحسان ؟ . ألا يؤمن قضاة هذا العصر ـ وقضاة عصرنا ـ بقوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) النحل ). ولكن المهم إن هذا الفساد معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
صراعات أكابر المجرمين
( وفي سادسه: أخرج الأمير أزدمر شاية أحد الأمراء الألوف إلى حلب، على إمرة، وكان من أقبح الناس سيرة، يرمي بعظائم. )،
( وفيه سار أزدمر شاية إلى حيث نفي. ). نفاه السلطان الى حلب ، واتهموه بالفساد . هذا على فرض أن برسباى سلطان صالح .
الإحتكار السلطانى :
1 ـ ( وفي هذا الشهر: منع الأمراء ونحوهم من حماية أحد على مباشري السلطان، ورميت البضائع على جماعات، فكثرت خسائرهم فيها مع الغرامة . ). السلطان يمارس إحتكاره على أُمرائه . ثم يُلزم الناس بشراء بضائعه بأسعار باهظة ، فيخسرون .
2 ـ ( وفيه أبيع بالإسكندرية فلفل للديوان على تجار الفرنج، ثم رسم بزيادة ثمنه عليهم، وقد سافروا به، فكلف قناصلتهم القيام عنهم بذلك. ). ألزم برسباى تجار الفرنج في الإسكندرية بشراء الفلفل ، ثم زاد السعر عليهم بعد سفرهم ، وألزم قناصلهم بالدفع .
3 ـ ( وفيه قدم التجار الذين تبضعوا بمكة ليسافروا ببضائعهم إلى الشام، فمنعوا من ذلك، ألزموا بمجيئهم إلى مصر، حتى يؤخذ منهم مكسها للخاص، وحتى يباع بالشام متجر الديوان، فأصابتهم بذلك بلايا عديدة . ). كما سبق ، فقد ألزم برسباى التجار والحجاج من الشام بأن يأتوا ببضائعهم الى مصر أولا ليدفعوا عنها الجمارك للسلطان في ديوان الخاص. وتحمّلوا البلاء.
البؤس
1 ـ ( وفيه اشتدت مطالبة أهل الخراج بما عليهم من الخراج والمغارم.). فرض على أهل الخراج مغارم إضافية. لم يعطنا المقريزى تفصيلات عن هذه المغارم .
2 ـ ( وفيه حصل العنت على الذمة في إلزامهم بأشياء حرجة، فلم يتم ذلك لاختلاف الآراء.). لم يسلم أهل الكتاب من ظلم برسباى . المقريزى لم يُعط تفصيلات بما أسماه بالأشياء الحرجة. وقد أثارت نقاشا فلم تتم.
الحج
1 ـ ( وفي ثاني عشرينه: قدم بوادر الحاج )، ( وقدم الركب الأول من الغد، ثم قدم المحمل في رابع عشرينه ببقية الحاج .)
زلزال في جزيرة من جُزر البحرين :( وفي هذا الشهر: حدثت زلزلة بجزيرة درحت المجاورة لهرمز من البحرين فخسف ببعض إصطبل السلطان، وبدار القاضي، وانفرج جبل بالقرب منهم، فروي فيما انفرج منه فيران في قدر الكلاب، وورد الخبر بذلك إلى دمشق في كتاب من يوثق به. ).
تعليق
كالعادة ترد للمقريزى أخبار خارجية فيسجلها ، مما يجعل تأريخه الحولى ( الذى يتتبع الأحداث بالحول والعام ) تأريخا عالميا، يأتي بأخبار من الهند الى الأندلس مرورا بآسيا الصغرى والدولة العثمانية وأوربا . شهر صفر، أوله الأحد:
وظائف أكابر المجرمين
( في سادسه: خلع على شمس الدين محمد بن عبد الدايم بن موسى البرماوي الشافعي واستقر في تدريس الصلاحية بالقدس، عوضاً عن شمس الدين محمد الهروي، وكان شاغراً منذ وفاته. ) . (خُلع عليه ) أي تولى منصبا ، وفى المناصب الكبرى يرتبط هذا ( الخُلع ) بموكب وإحتفالات ، ويشق الموكب القاهرة .
2 ـ عن سيرة حياة الشيخ البرماوى يقول المقريزى : ( وهذا البرماوي كان أبوه يتعيش بتعليم الصبيان القراءة، ونشأ ابنه هذا في طلب العلم، فبرع في الفقه والأصول والنحو وغير ذلك، وتعلق بصحبة الجلال محمد ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، وحاول أن يكون من نواب القضاة في أيام الجلال عبد الرحمن البلقيني، فأذن له في الحكم، ثم عزله، وطالت مدته في الخمول صغيراً وشاباً وكهلا، فتحول إلى دمشق، فنوه به نجم الدين عمر بن حجي واستنابه واختص به، فحسنت حاله وتحول في النعم إلى أن قدم مع ابن حجي، وولي كتابة السر، رفع من مقداره، ورتب له ما يقوم به فارتفع بين الناس قدره، حتى استقر في الصلاحية. ).
تعليق
نفهم من هذا أن صاحب الوظيفة يبدأ بتعلم ( علوم ) الدين السُّنّى ، ثم يخدم أحد القضاة أو الفقهاء ، وعندما يحصل على وظيفة يجتهد في جمع المال ليستعين به في الحصول على وظيفة أعلى . وصاحبنا هذا صار قاضيا ( نائبا ) لقاضى القضاة الشافعى عبد الرحمن البلقينى ، ويبدو أن فساده زاد وفاض فطرده البلقينى وانزوى في زوايا الخمول ، ثم سافر الى دمشق والتحق بخدمة قاضى القضاة إبن حجى وهو من أعيان دمشق فجعله قاضيا نائبا عنه ، ولأن ابن حجى كان علما في الفساد فقد عظمت مكانة البرماوى عنده ، وجمع الأموال تحت رعايته ، واصطحبه ابن حجى الى القاهرة عندما تعين كاتبا للسّر ، ورفع ابن حجى قدره فأصبح البرماوى مدرسا في المدرسة الصالحية بالقدس .
3 ـ ( وفي ثامنه: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام، فخلع عليه، وقدم للسلطان مبلغ خمسة عشر ألف دينار أفرنتية، وقماشاً وفرواً بثلاثة آلاف دينار، وتوجه عائداً إلى محل كفالته على عادته، في ثالث عشرينه . ).
نائب الشام ( أي والى الشام نيابة عن السلطان ) يقدم هدايا مالية وعينية للسلطان دليلا على إخلاصه ، ليس مجرد إخلاصه للسلطان ، ولكن أيضا إخلاصه في سرقة الناس . فهذه الهدايا من عرق ودماء المستضعفين في الأرض . وهذا مأمور به ومُطاع في الشريعة السُّنّية ، فهذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
4 ـ ( وفيه قدم الطواشي افتخار الدين ياقوت- مقدم المماليك- من مكة بمبلغ ثلاثة عشر ألف دينار، مما ألزم به الشريف بركات بن حسن بن عجلان، وكان قد تأخر بعد الحج بمكة حتى استخرج ذلك منه. ). ألزموه بدفع 13 ألف دينار ليستمر في منصبه نائبا للسلطان برسباى على ( مكّة ). ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
غش الدراهم البندقية
( وفي سابعه: نودي بمنع الناس من المعاملة بالدراهم البندقية، وهي فضة عليها شخوص من ضروب الفرنج، تعامل الناس بها من سنة ثمان عشرة وثمانمائة وبالعدد وبالوزن، ورسم بحمل ما في أيدي الناس منها إلى دار الضرب لتسبك دراهم أشرفية عليها صكة الإسلام، فجرى الناس على عادتهم في الإصرار والاستهانة بمراسيم الحكام، وتعاملوا بها، إلا قليلاً منهم . ). بعد ( تأميم الدينار الافرنتى ) جاء الدور على الدرهم البندقى الفضّى. أمر برسباى بجمع ما بيد الناس من الدراهم البندقية الإيطالية ليعيد سبكها دراهم ( اشرفية ) بعد تخفيض ما فيها من فضة. ولم يتم تنفيذ الأمر، بسبب تضرُّر الناس . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
غلاء بسبب الظلم والفساد
( وفي هذه الأيام: عز وجود اللحم بالأسواق، وفقد أياماً، وقلّ وجود اللبن والجبن، وغلا سعر الحطب حتى أبيع بمثلي ثمنه منذ شهر. هذا والوقت شتاء والبهائم مرتبطة على الربيع، وعادة مصر في زمن ربيعها أن يكثر وجود اللبن والجبن، ويرخص ثمنها. غير أن سيرة ولاة الأمور، وقلة معرفتهم بما ولوه، وفساد الرعية اقتضى ذلك . )
جراد
( وفي يوم الاثنين سلخه: جاء جراد سد الأفق لكثرته، وانتشر إلى ناحية طرا، وقد أضر ببعض الزروع، فأرسل الله عليه ريحاً مريسية ألقته في النيل ومزقته حتى هلك عن آخره، ولله الحمد . ). لا شأن للعسكر المملوكى بالوقاية من أي بلاء ينزل ، شأن العسكر المصرى الحاكم الآن . مهمتهم في جمع الجباية وفرض الضرائب والاحتكار والسلب والنهب . هي شريعة أكابر المجرمين مع اختلاف الزمان والمكان واللسان .!

شهر ربيع الأول، أوله الثلاثاء:
وباء وأمراض
( أهل والأمراض من النزلات والسعال والجدري فاشية في الناس، بحيث لا يخلو بيت من عدة مرضى، إلا أنها سليمة العاقبة في الغالب، يزول بعد أسبوع. هذا والوقت شتاء. وقدم الخبر بكثرة الوباء ببلاد صفد . ). الوباء يتنقّل ( واثق الخطوة يمشى ملكا ) ولا عائق ..!
المولد النبوى
( وفي ليلة الجمعة رابعه: كان المولد النبوي بالقصر عند السلطان، وحضر الأمراء والقضاة ومشايخ العلم ومباشرو العلم والدولة على العادة، فكان الذي عمل في السماط عشرة كباش، ذبحت ثم طبخ لحمها، ومُدّ بعد سماط الطعام سماط الحلوى.). المحتفلون من أكابر المجرمين من المماليك وشيوخ الدين أكلوا اللحوم والحلوى من عرق الفقراء ، وعلى ذكرى النبى محمد الذى لا شأن له بهم .!
رياح
( وفي هذا الشهر: كثرت الرياح العاصفة، فقدم الخبر بغرق ثلاثة عشر مركباً في بحر الملح، ( البحر المتوسط ) قد ملئت ببضائع، من ناحية صيدا وبيروت، وأقبلت نحو دمياط .)
حيوان بحرى
( وفيه ألقى البحر دابة بشاطئ دمياط، أخبرني من لا أتهم، أنها ذرعت ( أي قيست بالذراع ) بحضوره فكان طولها خمسة وخمسين ذراعاً، وعرضها سبعة أذرع . ). المقريزى ينقل من يثق فيهم ، أي له ( مراسلون ) خارج القاهرة ومصر .
شهر ربيع الآخر، أوله الخميس:
تجريدة مملوكية لإنقاذ المدينة
( فيه قدم الخبر بتشتت أهل المدينة النبوية، وانتزاحهم عنها، لشدة الخوف وضياع أحوال المسجد النبوي، وقلة الاهتمام بإقامة شعائر الله فيه، منذ كانت كائنة المدينة، فرسم بسفر الأمير بكتمر السعدي أحد أمراء العشرات إلى المدينة فأخذ في تجهيز حاله. ).
تعليق
قدمت للمقريزى أخبار المدينة في هذا الشهر ، وتجهيز حملة مملوكية لإنقاذها. وهو يشير الى ما أسماه ( كائنة المدينة ) ، وهو ما حدث في شهر ذي القعدة في العام السابق :829 ، قال المقريزى : ( وفيه وقع بالمدينة النبوية حادث شنيع، وهو أن خشرم بن درغان قدم المدينة وقد رحل عنها عجلان لما بلغه أنه عزل، فلم يلبث غير ليلة حتى صبحه عجلان في جمع من العربان، وحصره ثلاثة أيام، ثم دخل عربه المدينة ونهبوا دورها، وشعثوها وخربوا مواضع من سورها، وأخذوا ما كان للحجاج الشاميين من ودائع، وقبضوا على خشرم، ثم خلوه لسبيله، واستهانوا بحرمة المسجد، وارتكبوا عظائم. ). و معظم الأعراب هم الأشد كُفرا ونفاقا، وهم اليوم من يحكمون الجزيرة العربية . أنعم الله جل وعلا بالبترول فبدّلوا نعمة الله جل وعلا عليهم كفرا وأحلُّوا قومهم دار البوار .!. صدق قوله جل وعلا : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) ابراهيم )
أخبار الأندلس
( وقدم الخبر بأن صاحب أغرناطة ومالقة والمرية ورندة ووادي آش وجبل الفتح من الأندلس، وهو أبو عبد الله محمد الملقب بالأيسر ابن السلطان أبي الحجاج يوسف ابن السلطان أبي عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف ابن لشيخ السلطان أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن نصر الأنصاري الخزرجي الأرجوني الشهير بابن الأحمر، خرج من غرناطة- دار ملكه- يريد النزهة في فحص غرناطة- يعني مرج غرناطة- في نحو مائتي فارس في مستهل ربيع الآخر هذا ، وكان ابن عمه محمد بن السلطان أبي الحجاج يوسف محبوساً في الحمراء، وهي قلعة أغرناطة، فخرج الجواري السود إلى الحراس الموكلين به، وقالوا لهم:" تخلو عن الدار حتى تأتي أم مولاي تزوره وتتفقد أحواله ". فظنوا أن الأمر كذلك، فخلوا عن الدار، فخرج في الحال شابان من أولاد صنايع أبي المحبوس، وأطلقوه من قيده وأظهروه من الحبس، وأغلقوا أبواب الحمراء، وذلك كله ليلاً، وضربوا الطبول والأبواق على عادتهم، فبادر الناس إليهم ليلاً، وسألوا عن الخبر، فقيل لهم من الحمراء: " قد ملكنا السلطان أبا عبد الله محمد ابن السلطان."، فأقبل أهل المدينة وأهل الأرباض فبايعوه محبة فيه وفي أبيه، وكرهاً في الأيسر، فما طلع النهار حتى استوسق له الأمر ( أي إنتظم له الأمر ) ، وبلغ الخبر إلى الأيسر فلم يثبت وتوجه نحو رندة ، وقد فر عنه من كان معه من جنده، حتى لم يبق معه منهم إلا نحو الأربعين. وخرجت الخيل من غرناطة في طلبه، فمنعه أهل رندة ( أي نصروه )، وأبوا أن يسلموه، وكتبوا إلى المنتصب بغرناطة في ذلك، فآل الأمر إلى أن ركب سفينه وسار في البحر، وليس معه سوى أربعة نفر. وقدم تونس مترامياً على متملكها أبي فارس عبد العزيز الحفصي، وبلغ ألفنش متملك قشتلة ما تقدم ذكره، فجمع جنوده من الفرنج، وسار يريد أغرناطة في جع موفور، فبرز إليه القائم المذكور بغرناطة، وحاربه، فنصره الله على الفرنج، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وغنم ما يجل وصفه . ).
تعليق
هنا عصر إحتضار الوجود العربى في الاندلس ، والذى كان محصورا في غرناطة ودولة بنى الأحمر . ومع ذلك فالغباء العربى لم يفارقهم ، إختلفوا ، وتفرّقوا ، وكانت النكبة الأندلسية . ولا تزال النكبات تلطّخ تاريخ العرب في بلادهم . وضحايا النكبات الحالية تتمثل في الإخفاء القسرى في الداخل ، والمهاجرين في القوارب الى الخارج .
شهر جمادى الأولى، أوله الجمعة:
وظائف أكابر المجرمين
( في سابعه: خلع على الأمير جرباش قاشق أمير مجلس، واستقر نائب طرابلس، عوضاً عن الأمير قصروه، ونقل قصروه إلى نيابة حلب، عوضاً عن الأمير شارقطلوا. وكتب بحضور شارقطلوا.) تنقلات في وظائف أكابر المجرمين .
أخبار قبطية
( وفي يوم الثلاثاء تاسع عشره: قدم ميخائيل بطركا لليعاقبة، عوضاً عن غبريال. وكان ميخائيل هذا أحد الرهبان بدير شعران من طرا. )
شهر جمادى الآخرة، أوله الأحد:
صراعات أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي تاسعه: قدم جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي كاتب السر بدمشق معزولاً . ).
2 ـ ( وفي عاشره: قبض على الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة، وأخرج مقيداً إلى الإسكندرية ليسجن بها، فاتفق أمر غريب، وهو أن رجلاً من مباشريه لما بلغه القبض عليه خرج إلى القلعة، فوافي نزول أستاذه مقيداً، فجعل يصيح ويبكى وهو ماش معه حتى وصل إلى ساحل النيل، وأحضر أستاذه في الحراقة، أشتد صراخه حتى سقط ميتاً. ). الغريب هنا هو وفاء هذا المملوك لسيده الأمير المملوكى تغرى بردى المحمودى .
السبب في نكبة الأمير تغرى بردى المحمودى ( رأس نوبة النوب).
يقول عنه المقريزى : ( وهذا المحمودي من جملة المماليك الناصرية فرج بن برقوق، رُبّي عنده صغيراً، ثم خدم بعد قتل الناصر عند الأمير نوروز الحافظي بدمشق، فلما قتل نوروز سجنه المؤيد شيخ بقلعة المرقب، فما زال مسجوناً بها حتى تنكر المؤيد على الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس وسجنه بالمرقب مع المحمودي وأينال الششماني، فرأى تغري بردي المحمودي في ليلة من الليالي مناماً يدل على أن برسباي يتسلطن، فأعلمه به، فعاهده على أن يقدمه إذا تسلطن، ولا يعترضه بمكروه، فلما كان من سلطة الأشرف برسباي ما كان، وتقدمته للمحمودي ما ذكر فيما مضى، وتمادى الحال إلى أن بات على عادته بالقصر، فقال لبعض من يثق به من المماليك ما تقدم من منامه وهو بالمرقب، وأنه وقع كما رأى وأنه أيضاً رأى مناماً يدل على أنه يتسلطن ولا بد. فوشى ذلك المملوك به إلى السلطان، فحرّك منه كوامن، منها أن المحمودي غرّه منامه وتحدث بما كان يجب كتمانه حتى أشيع عنه وصار يقول: " أنا لما حجبت أحضرت ابن عجلان، ولما مضيت إلى قبرس أسرت ملكها، أين كان الأشرف حتى يقال هذا لسعده؟ والله ما كان هذا إلا بسعدي.!". وينقل كل ذلك إلى السلطان ومع هذا يبدو منه في حال لعبه بالكرة مع السلطان دالة، وقديماً قيل " الملك ملول" . )
تعليق
1 ـ تغرى بردى المحمودى ( رأس نوبة النوب) كان زميل الزنزانة مع الأمير برسباى ، سجنهما السلطان المؤيد شيخ . تقرّب الى الأمير برسباى وزعم أنه رأى في المنام أن برسباى سيصير سلطانا ، وبشّره بذلك . وتحققت الرؤيا ، وكافأه ( السلطان ) برسباى ، وإغترّ تغرى بردى المحمودى بمكانته خصوصا بعد إنتصاره في الحجاز ثم في قبرص ، فزعم أنه رأى في المنام أنه سيصير سُلطانا، وأسرّ بهذا الى بعضهم فأخبر برسباى فنكبه برسباى. 2 ـ في مناخ الفتن والمؤامرات وصراع الأمراء للوصول الى السلطنة كان للمنامات دور هائل ، تعرضنا له في بحثنا في موسوعة التصوف المملوكى في الجزء السياسى . حيث كان العصر يعتقد بكرامات الأولياء والمنامات . وكان بعض الأولياء الصوفية يتقرب لبعض الأمراء الطموحين بمنامات تتنبأ لهم بوصولهم الى السلطنة ، فيكون هذا دافعا لهم لتحقيق الرؤيا . إذا فشل ماتت الرؤيا معه ، إذا نجح ووصل للسلطنة شاعت الرؤيا ، وكوفىء الولى الصوفى مهما بلغ إنحلاله ، كما حدث مع ( خضر العدوى ) الذى كان شيخا للأمير بيبرس البندقدارى وبشّره بالسلطنة وقت أن كان في الشام طريدا . وبعد أن صار بيبرس سلطانا ( الظاهر بيبرس ) أصبح لخضر العدوى نفوذ هائل ، إستخدمه في الانحلال الخلقى والتعصُّب ضد أهل الكتاب . كتبنا مقالا عن أوجه الشبه بين خضر العدوى والراهب راسبوتين الروسي .
وظائف أكابر المجرمين ( حركة تنقلات )
( وفي خامس عشره: خلع على الأمير أركماس الظاهري، واستقر رأس نوبة، عوضاً عن تغري بردي المحمودي، وأنعم عليه بإقطاعه، وأنعم بإقطاع أركماس وتقدمته على قاني باي البهلوان. وأنعم بطبلخاناه البهلوان على سودن ميق.).
شهر رجب، أوله الاثنين :
وظائف أكابر المجرمين
( وفي ثامنه: قدم الأمير شارقطلوا من حلب فخلع عليه واستقر أمير مجلس عوضاً عن جرباش قاشق المنتقل لنيابة طرابلس، وقد كانت شاغرة هذه المدة .)
الأسعار
( وفي هذه الأيام: انحط سعر الغلال عند دخول الغلال الجديدة حتى أبيع الأردب القمح من مائة وعشرة دراهم فلوساً إلى ثمانين درهماً، والشعير كل ثلاثة أرادب ونصف بدينار، وأبيع الرطل من لحم الضأن السليخ بستة دراهم فلوساً، ولحم البقر بأربعة دراهم، والرغيف الخبز بنصف درهم فلوساً، فيشتري بالدرهم الفضة أربعون رغيفاً، ولم نعهد مثل ذلك ، فلله الحمد . ). هذه ناردة لم يعهدها المقريزى من قبل . هي إستثناء ، ولا يُقاس عليه ، فالقاعدة هي الغلاء والفساد .
المحمل والحج
( وفي حادي عشره: أدير محمل الحاج، وحملت كسوة الكعبة على العادة، حتى شاهدها السلطان. )
تعمير وهدم
1 ـ ( وفي تاسع عشره: توجه زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش وزعيم الدولة على الهجن إلى بلاد الشام لعمارة سور حلب، وغير ذلك من المهمات السلطانية، بعد ما قدم خيوله وأثقاله بين يديه، قبل ذلك بأيام .)
2 ـ ( وفي هذا الشهر: هدمت إحدى المآذن الثلاثة اللاتي أنشأهن المؤيد شيخ بجامعه، وهي الصغرى التي تشرف على صحن الجامع، لميلها وخوف سقوطها، ثم جددت . )
أخبار قبطية
( وفيه استقر القسيس أبو الفرج بطركاً للنصارى اليعاقبة، عوضاً عن ميخائيل بعد صرفه لطعن النصارى فيه، وكان يعلم أولاد النصارى بالمقيس، فرغبوا في ولايتا وتسمّى لما ولي يوحنا. ( أي أُطلق عليه لقب : يوحنّا ).
الصراع المملوكى الصليبى
( وفيه كثر عبث الفرنج في البحر، وأخذوا مراكب مشحونة بضائع للمسلمين، يقال عدتها ثماني مراكب، أخرها مركبان قدمتا من بلاد العلايا ( في آسيا الصغرى ) حتى قاربتا ميناء الإسكندرية أخذتا، ولا قوة إلا بالله. ). إستمرت غارات الصليبيين البحرية بعد إحتلال برسباى لقبرص .
أخبار خارجية
( فيه قدم الخبر بموت المنصور عبد الله بن أحمد الناصر صاحب اليمن، وتملك أخيه الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر. )
شهر شعبان، أوله الأربعاء:
ميعاد البخارى
( فيه ابتدئ بقراءة الحديث النبوي بالقصر السلطاني من القلعة، على العادة التي استجدت، ورسم أن لا يحضر أحد من القضاة المعزولين، وأن لا يكون من الحاضرين بحث في حال القراء، وقد كان يقع بينهم في بحوثهم ما لا يليق.). عوقب القضاة المعزولون بالمنع من الحضور في هذا الاحتفال السلطانى الرسمي بتلاوة كتابهم المقدس في دينهم ( البخارى )، كما صدرت الأوامر للقضاة والفقهاء بعدم الجدال والمشاجرات أثناء ( ترتيل البخارى )، وأن يستمعوا له وأن ينصتوا لعلهم يُرجمون.!! ( بالجيم وليس بالحاء). برجاء عدم الضحك .!!
فساد القُضاة
( وفيه رسم بعزل نواب قضاة القضاة، وأن يقتصر الشافعي من نوابه على عشرة، والحنفي والمالكي كل منهما على ثمانية، والحنبلي على ثلاثة، فهمُّوا بذلك أو كادوا. ثم عادوا لما نهوا عنه، كما هي عادتهم .).
التعليق
تجذُّر الفساد في القُضاة وزعيمهم إبن حجر العسقلانى يكفى فيه قول المقريزى : ( فهمُّوا بذلك أو كادوا. ثم عادوا لما نهوا عنه، كما هي عادتهم .).
النيل
1 ـ ( وفي رابع عشره: أخذ قاع النيل بالمقياس، فكان خمسة أذرع، وخمسة عشر إصبعاً. )
2 ـ ( وفي يوم السبت خامس عشرينه- وسابع عشرين بؤونة-: ابتدئ بالنداء في الناس بزيادة النيل ثلاثة أصابع. )
نادرة أو مأساة : أمير القرعان
يقول المقريزى في أحداث شهر شعبان :
( وفيه أيضاً اتفق حادث فظيع، وهو أن بعض المماليك السلطانية الجراكسة انكشف رأسه بين يدي السلطان، فإذا هو أقرع، فسخر منه من هنالك من الجراكسة، فسأل السلطان أن يجعله كبير القرعان، ويوليه عليهم، فأجابه إلى ذلك، ورسم أن يكتب له به مرسوم سلطاني، وخلع عليه، فنزل وشق القاهرة بالخلعة في يوم الاثنين سابع عشرينه، وصار يأمر كل أحد بكشف رأسه حتى ينظر إن كان أقرع الرأس أو لا، وجعل على ذلك فرائض من المال؛ فعلى اليهودي مبلغ عينه، وعلى النصراني مبلغ، وعلى المسلم مبلغ، بحسب حاله ورتبته، ولم يتحاش من فعل ذلك مع أحد، حتى لقد فرض على الأمير الأقرع عشرة دنانير، وتجاوز حتى جعل الأصلع والأجلح في حكم الأقرع ليجبيه مالاً فكان هذا من شنائع القبائح، وقبائح الشنائع، فلما فحش أمره نودي بالقاهرة يا معشر القرعان لكم الأمان فكانت هذه مما يندر من الحوادث. )
تعليق
لماذا بدأ المقريزى هذه الحادثة بقوله : ( وفيه أيضاً اتفق حادث فظيع، ) ، وختمه بقوله : ( فكان هذا من شنائع القبائح، وقبائح الشنائع، فلما فحش أمره نودي بالقاهرة يا معشر القرعان لكم الأمان فكانت هذه مما يندر من الحوادث.)؟. المفهوم أن برسباى في جشعه رآها فرصة ليفرض ضرائب على القُرعان من الناس ، وأعطى هذا الأمير لقب ( كبير القُرعان ) ويكون واليا عليهم ، وأعطاه سُلطة كشف رءوس الناس لكشف من هو أقرع ومن هو صاحب ( جلحة أو صلعة ).هذا مفهوم ممّا عرفناه من تطرف برسباى في الجشع.
ولكن هذا الخبر الطريف يعبر عن ثقافة ( تغطية الرأس ) التي سادت في العصر المملوكى ثم بادت. ونعطى عنها موجزا :
1 ـ في العصر المملوكي لم يكن فيه أحد من الناس يكشف رأسه إلا عندما تقع عليه مصيبة تخرجه عن عقله واحترامه لنفسه ورغبته في الحياة !! فحين مات ابن السلطان المملوكي المنصور قلاوون ليلة الجمعة 4 شعبان 679هـ حزن عليه السلطان حزنا شديدا ، وكان من مظاهر ذلك الحزن الهائل أن كشف السلطان رأسه !! رمي كلوتته -أي عمامته المملوكية – من على رأسه وأظهر للناس رأسه مكشوفة تعبر عن حزنه الفظيع لموت ابنه ( على بن قلاوون) ..قال المقريزي : " أظهر السلطان لموته جزعا مفرطا وصرخ بأعلى صوته : " واولداه " ، ورمى كلوتته من رأسه للأرض ، وبقي مكشوف الرأس إلا أن دخل الأمراء إليه وهو مكشوف الرأس يصرخ : " واولداه" !! فعند ما عاينوه كذلك ألقوا كلوتاتهم عن رءوسهم وبكوا ساعة ، ثم أخذ الأمير طرنطاي النائب شاش السلطان من الأرض وناول الشاش للسلطان فدفعه وقال : " ايش أعمل بالملك بعد ولدي ".!، وامتنع عن لبسه ، فقبّل الأمراء الأرض يسألون السلطان في لبس شاشه ويخضعون له في السؤال ساعة حتى أجابهم وغطى رأسه ..!!
2 : ونتخيل أن بعضهم كاد يضيع في شربة ماء ثم جاءه الفرج من حيث لا يتوقع ، عندئذ يعبر عن فرحه الشديد الجنوني بأن يخلع عمامته ويكشف رأسه ويدعو لمن جاءه بالفرج.. حدث هذا يوم الثلاثاء 18 رجب 876هـ حين أصابت السلطان قايتباي نوبة عدل فأخذ يعاقب أتباعه من الظلمة ويضربهم بين يديه في مجلسه السلطاني وظهرت براءة أحدهم فنجا ، ولما لم يكن مسموحا له أن يرقص أو يغني ليعبر عن فرحه- لذا فعل ما هو أخطر ـ كشف رأسه ودعا للسلطان !!
3 : ـ وكان التشهير أو التجريس من العقوبات المعروفة في العصر المملوكي ، ضمن عقوبات أخري مثل الضرب والتسمير والصلب . وكانوا يترفقون بالذي يجرسونه فلا يكشفون رأسه ، حتى لا تزداد عقوبته إذلالا . وظل ذلك حتي جاء المحتسب يشبك الجمالي وصار يعاقب الناس بالضرب والتشهير مع كشف الرأس ، والمؤرخ ابن الصيرفي الذي عاش هذا العهد يقول عن ذلك المحتسب وأفعاله " بل تحضر أعوانه له بمن لا يعطونهم المعلوم المعهود عندهم فيضربه ثلاث علقات ... ويشهرونه بلا طرطور بل يكشفون رأسه . وهو الذي أحدث كشف الرأس مع أن جماعة كثيرين ممن فعل بهم ذلك عميوا وطرشوا فإن الواحد يكون ضعيف البصر أو به نزلة فيكشفون رأسه ويدورون به القاهرة فلا يرجع إلا بضر أو أمثال ذلك ". جعل المحتسب يشبك كشف الرأس عقوبة يذل بها خصومه وذلك 873هـ وكان الناس يعتقدون أن الذي تنكشف رأسه ويطاف به في القاهرة يصاب بالعمى والطرش ..!!
رُخص الأسعار مع بقاء الظلم
( وفي هذا الشهر: كثر رخاء الأسعار حتى أبيع كل أربعة أردب شعير بدينار، وفي الريف كل خمسة أرادب بدينار، وأبيع الفول كل ثلاثة أرادب بأقل من دينار، وأبيع القمح كل أردبين بأقل من دينار، وأقبلت الفواكه إقبالاً زائداً على المعهود في هذه الأزمنة، وكثرت الخضروات، ولله الحمد. ونسأل الله حسن العاقبة. فإنك مع هذه النعم الكبيرة لا تكاد تجد إلا شاكياً لقلة المكاسب، وتوقف الأحوال، وفشو الظلم، والإعراض عن العمل بطاعة الله، سبحانه وتعالى سيما من يقيم الحدود. ). ترتفع الأسعار وتنخفض ولكن الظُّلم راسخ ومستمر . ( دى مصر يا عبلة .! ).
شهر رمضان، أوله الخميس:
منشئات معمارية
1 ـ ( فيه فتح الجامع الذي أنشأه الأمير جانبك الدوادار قريباً من صليبة جامع ابن طولون، وأقيمت به الجمعة ثانية، وجاء من أبهج العمارات وأحسنها . ).
هو الجامع المعروف ب ( جامع الجنابكية ) وبداخله قبر منشئه ، ويقع خارج باب زويلة . وقلنا إن إنشاء المعابد والصرف عليها من الأوقاف المُرصدة لها كان وسيلة لتحصين أموال الأمير أو السلطان المملوكى وأكابر المجرمين . أكابر المجرمين في عصرنا يحصّنون سرقاتهم بتهريبها الى الخارج ، وينتهى أمرها بالضياع : أين بلايين القذافى ؟ .
2 ـ ( وفي سابع عشره: قدم زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، بعد ما انتهى في سفره إلى مدينة حلب، ورتب عمارة سورها، فعمل به بين يديه في يوم واحد ألف ومائتا حجر، وبعد صيته، وانتشر ذكره، وعظم قدره، وفخم أمره، في هذه السفرة، بحيث لم ندرك في هذه الدولة المتأخرة صاحب قلم بلغ مبلغه. فلما نزل ظاهر القاهرة خرج الأمير جانبك الدوادار وطائفة من الأمراء وسائر مباشري الدولة، وعامة الأعيان إلى لقائه، فصعد القلعة، وخلع عليه، ونزل إلى داره في موكب جليل، وقد زينت له الأسواق، وأشعلت له الشموع وجلس الناس لمشاهدته، فسبحان المعطي ما شاء من شاء. ).
( حضرة الناظر ) عبد الباسط كان أقل أكابر المجرمين فسادا ، ولذا حاز إعجاب المقريزى ، لأن الأعور سلطان بين العُميان . ولكن فساد ( حضرة الناظر ) عبد الباسط يظهر بين سطور الخبر التالى :
حضرة الناظر عبد الباسط الأقل فسادا ين أكابر المجرمين
( وفي ثالث عشرينه: طلع عظيم الدولة زين الدين عبد الباسط بهدية إلى السلطان، وفيها مائتا فرس وحلي ما بين زركش ولؤلؤ برسم النساء، وثياب صوف، وفرو سمور، وغيره مما قيمته نحو العشرين ألف دينار، وعمّ المباشرين والأمراء بأنواع الهدايا . ). نسأل بكل ما لدينا من براءة : حضرة الناظر النزيه جاء من حلب ومعه كل هذه الهدايا التي وزعها رشاوى على السلطان والأمراء ، فمن اين حصل عليها ؟ وكيف ؟ واضح أنه سلب هذا من حلب ، وهو كثير لأن المقريزى يتكلم عن هداياه ، ولا يعرف بكم إحتفظ لنفسه . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
صراعات أكابر المجرمين
( وفي حادي عشرينه: قبض على عبد العظيم ناظر الديوان المفرد، وأسلم إلى الأمير زين الدين عبد القادر أستادار على مال يحمله، ثم أفرج عنه بعد أيام .). حضرة الناظر هذا كان يتولى الديوان المفرد ، أي ديوان الأموال الخاص بالسلطان ، يقوم بالسلب والنهب ليملأ خزائن السلطان . السلطان يعلم أنه يسرق لنفسه أيضا ، لذا يترصّده ويتحين الفرصة لاعتقاله وربما يعذّبه ليستخلص منه بعض ما سرقه لنفسه . ونظنُّ ـ وبعض الظّن ليس إثما ـ أن للسلطان عيونا وجواسيس تترصّد أتباعه ، ونظنُّ ـ وبعض الظّن ليس إثما ـ أنه في مناخ الصراعات بين أكابر المجرمين تكثر الوشايات ، والمستفيد منها هو أكبر أكابر المجرمين الذى يصفه المقريزى بأن ( سلطان الإسلام ). عيب يا مقريزى .!!
النيل
( وفي يوم الاثنين سادس عشرينه- وسابع عشرين أبيب-: نودي على النيل بزيادةً إصبع واحد لتتمة عشر أذرع وتسعة عشر إصبعاً، فنقص من الغد أربعة أصابع إلا أن الله تدارك العباد بلطفه، وردّ النقص، وزاد، فنودي يوم الخميس تاسع عشرينه بزيادة سبعة أصابع ، ولله الحمد. ).
شهر شوال، أوله السبت:
أخبار من حول العالم :
( في أثناء هذا الشهر قدم الخبر بأن مراد بن محمد كرشجي بن بايزيد بن عثمان، صاحب برصا من بلاد الروم، جمع لمحاربة الأنكرس- من طوائف الروم المتنصرة- وواقعهم، عدة من عسكره، وهزموا . وأن مدينة بلنسية التي تغلب عليها الفرنج- مما غلبوا عليه من بلاد الأندلس- خسف بها وبما حولها نحو ثلاثمائة ميل، فهلك بها من النصارى خلائق كثيرة، وأن مدينة برشلونة زلزلت زلزالاً شديداً، ونزلت بها صاعقة، فهلك بها أمم كثيرة، وخرج ملكها فيمن بقي فارين إلى ظاهرها، فوقع بهم وباء كبير. )
الحج والمحمل
( وفي يوم الخميس عشرينه: خرج محمل الحاج إلى الريدانية، ظاهر القاهرة، ورفع منها ليلاً إلى بركة الحاج على العادة، فتتابع خروج الحجاج . )
النيل
( وفي يوم الجمعة حادي عشرينه- الموافق له ثاني مسرى-: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، فركب الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان حتى خلق عمود بين يديه، ثم فتح الخليج على العادة، ولم تزين الحراريق ( السفن والمراكب التي للزينة والاحتفالات ) في هذه السنة، ولا كان للناس من الاجتماعات بمدينه مصر والروضة على شاطئ النيل ما جرت به عادتهم في ليالي الوفاء، وذلك أن النيل توقفت زيادته من أوائل مسرى، وأقام أياماً عديدة لا ينادي عليه في كل يوم سوى إصبع أو إصبعين، وأجرى الله العادة في الغالب من السنين أن تكون زيادة النيل المبارك منذ يدخل شهر مسرى في كل يوم عدة أصابع، فيقال: " في أبيب يدب الماء في دبيب." ، وفي مسرى تكون الدفوع الكبرى. فجاء الأمر في نيل هذه السنة بخلاف ذلك، حتى ظن الناس الظنون، وتوقف خُزّان الغلال عن بيعها، وأخذ غالب الناس في شراء الغلال خوفاً من ألا يطلع النيل، فمنع السلطان من تزيين الحراريق، ومن اجتماع الناس بشاطئ النيل لانتظار الوفاء، فانكف الناس عن منكرات قبيحة، كانت تكون هناك ولله الحمد، فإنه تعالى أغاث عباده وأجرى النيل بعد ما كادوا يقنطوا . )
2 ـ ( وفي سادس عشرينه: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد، لتتمة ستة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً، فما أصبح يوم الخميس إلا وقد نقص . ).
التعليق
1 ـ ( النيل المبارك ) عبارة تحكى تقديس النيل المنحدر من العصر الفرعونى ، والأعياد المرتبطة بالنيل ومواعيد الفيضان بالشهور القبطية أيضا من آثار الثقافة الفرعونية المتجذّرة في مصر . كانت هناك أماكن للتنزّه والانحلال الخُلُقى على النيل ، وخوفا من عدم ( وفاء النيل ) أي نُقصانه يمنعون الناس من عادتهم في عمل ( المنكرات القبيحة ) على حدّ وصف المقريزى .
2 ـ الجديد هنا أن:
2 / 1 : العسكر المملوكى إقتصر على الجباية دون تنمية الريف وصيانة الجسور والتُّرع والمصارف.
2 / 2 : نقص النيل ـ في العصر المملوكى ــ كان نذيرا بغلاء وربما مجاعة ، وممارسة تخزين الحبوب .
2 / 3 : الكفّ عن ممارسة اللهو واللعب والانحلال الخلقى خوفا من الانتقام الالهى .
جرائم المماليك الجُلبان
( وفي هذا الشهر- والذي قبله-: كثر عبث المماليك الجلب الذين استجدهم السلطان، وتعدى فسادهم إلى الحُرم ( أي الحريم أو النساء ) . وهذا أمر له ما بعده.). هذه هي البداية عن وحشية المماليك الجُلبان ، ويصفهم المقريزى بقوله ( الذين استجدهم السلطان ) ، أي بدأ بشرائهم . العادة أن يشترى السلطان المملوكى والأمراء رقيقا من الأطفال ، ويتعلمون الثقافة السائدة دينيا واجتماعيا مع المهارة الحربية وفنون التآمر. استجدّ برسباى شراء مماليك من الشباب من بلادهم الأصلية، تعلموا العربدة والسلب والنهب والاغتصاب، و( جلبهم ) الى مصر فحملوا وصف ( الجلب / ( الجُلبان ). وسيأتي ذكرهم في أحداث لاحقة .
شهر ذي القعدة، أوله الأحد:
النيل
1 ـ ( وكان النيل قد توقف عن الزيادة من يوم الخميس، والناس على ترقب مكروه، وإن لم يتدارك الله بلطفه فإنه نقص ثلاثة أصابع، وجمع السلطان القضاة والمشايخ عنده، وقرئت سورة الأنعام أربعين مرة في ليلة الأحد. هذا ودعوا الله أن يجري النيل، ثم ركب السلطان من يوم الثلاثاء ثالثه إلى الجرف الذي يقال له الرصد ووقف بفرسه ساعة، وهو يدعو، ثم عاد إلى القلعة. فلما كان يوم الخميس خامسه، نودي بزيادة إصبع بعد رد الثلاثة الأصابع اللاتي نقصت، فسر الناس ذلك، لأن الغلال ارتفع سعرها، وشره كل أحد في طلبها، وشحت أنفس خزانها ببيعها . ).
تعليق
الخوف من نقصان الفيضان جعل برسباى يجمع أكابر المجرمين للتوسل بقراءة القرآن وليس البخارى ، ثم أن يتضرع لله جل وعلا داعيا . ينطبق عليه وعليهم قوله جل وعلا :( وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) الزمر ).
2 ـ ( وفي هذا اليوم: أخذ النيل في النقصان، بعد ما انتهت زيادته إلى سبعة عشر ذراعاً، وستة أصابع، ويوافق هذا اليوم ثامن توت، وهذا هبوط في غير أوانه، فما لم يقع اللطف الإلهي بعباد الله، وإلا عظم الخطب. )
3 ـ ( وفي العشر الأخير: من هذا الشهر تكالب الناس على شراء القمح ونحوه من الغلال، وارتفع الأردب إلى مائتي درهم، والشعير والفول إلى مائة وخمسين، وتعذر وجود ذلك لشح الأنفس ببيع الغلال، مع كثرتها بالقاهرة والأرياف، فرسم السلطان للأمير أينال الششماني المحتسب أن لا يمكن أحداً من الناس بيع القمح بأزيد من مائة وخمسين درهماً الأردب، وأن لا يشتري أحد أكثر من عشرة أرادب، وسبب ذلك أن الناس ترقبوا الغلاء، فأخذ أرباب الأموال في الاستكثار من شراء الغلال ظناً منهم أن يبيعوها إذا طلبها المحتاجون بأغلى الأثمان، حتى أن بعض من لم يكن شيئاً مذكور اشترى في هذه الأيام ألف أردب من القمح، وكم أمثال هذا، فالله يحسن العاقبة. ).
تعليق
1 ـ في دولة الاستبداد المؤسّس على دين أرضى يصبح الظلم عادة إجتماعية دينية ، يتظالم به الناس، يظلم بعضهم بعضا ، وتشيع الأثرة والشُّح والأنانية ، ويزول التعاطف والتراحم ، ويكون الشعار ( أنا وبعدى الطوفان ) . الغريب تكرار نقصان النيل وتكرار المجاعات في مصر العصور الوسطى ، ومعه تكرار نفس الأفعال ، التوبة الوقتية ، ثم الرجوع الى الأصل الخبيث من الظلم والانحلال الخلقى وتحالف أكابر المجرمين من السلاطين ورجال الدين .
2 ـ حاول برسباى ضبط الأمور بواسطة المحتسب بأن يضرب على أيدى مستغلى الغلاء من التُّجّار، ونسى نفسه وأكابر الأمراء ولديهم المخزون الأكبر من الحبوب ، ثم إنه برسباى المحتكر للتجارة .
3 ـ ( وفي سابع عشرينه: كمل نقص النيل مما زاده ستة عشر إصبعاً، ثم أغاث الله عباداً بعد ما كادوا أن يقنطوا. ونودي في يوم السبت ثامن عشرينه بزيادة إصبعين من النقص. واستمرت الزيادة في يوم الأحد والاثنين، فسكن قلق الناس قليلاً .).
صراع أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي عاشره: قدم الخبر بأن قاضي دمشق- نجم الدين عمر بن حجي- وجد مذبوحاً في بستانه بالنيرب خارج دمشق، ولم يعرف قاتله . ). يبدو أنها كانت الطريقة الوحيدة للتخلص من هذا القاضي المُفسد .
2 ـ ( وفي يوم الجمعة: هذا قدم الأمير صارم الدين إبراهيم بن رمضان أحد أمراء التركمان، ونائب طرسوس وأذنة، ونائب الملك، وقد عزل وفرّ إلى ابن قرمان ليحميه، فأسلمه إلى قصاد السلطان خوفاً من معرة العسكر، فقيد وحمل من بلاد قرمان حتى قدم به كذلك، فسجن. ). هذا التركمانى هاجم حلب ( المملوكية ) ثم خاف من عقوبة برسباى وهرب الى مملكة ابن قرمان على تخوم الدولة المملوكية ، وخاف ابن قرمان من غضب برسباى فقام بتسليمه الى الدولة المملوكية . هكذا كانت دولة العسكر المملوكى ، يا حسرة على دولة السيسى .!
لنفهم أسباب خوف ابن قرمان نقرأ الخبر التالى عن إستعدادات المماليك الحربية لحماية حدودهم الشرقية :
تنقلات أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي رابع عشره: خلع على الأمير قاني باي البهلوان- أحد مقدمي الألوف- واستقر في نيابة ملطية، عوضاً عن الأمير أزدمر شاية وعين معه عدة من المماليك، وأن يتوفر له إقطاعه بديار مصر، عوناً له على قتال التركمان، وأن يستقر أزدمر شاية أميراً بحلب. وقانباي هذا أحد المماليك الناصرية فرج، وخدم بعد قتل الناصر عند أمراء دمشق، ثم اتصل بخدمة الأمير ططر فلما تسلطن بدمشق أنعم على قاني باي هذا بإمرة طبلخاناه بمصر، وقدم معه، ثم نقل إلى إمرة مائة حتى ولي نيابة ملطية. )
2 ـ ( وفي يوم الاثنين سلخه: خلع على بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجي. واستقر في قضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن أبيه، وهو شاب صغير لم يستتر عذاريه بالشعر، لكن قام بمال كبير، فلم يلتفت مع ذلك لحداثة سنه، ولا لكونه ما قرأ ولا درى، وقديماً قيل :
تعد ذنوبه والذنب جم ** ولكن الغني رب غفور).
تعليق :
بعد قتل القاضي المُفسد إبن حجى جعل برسباى إبنه الطفل الأمّى قاضيا للقضاة في دمشق ، لأنه إشترى منصب أبيه بمال كبير . والمقريزى يعبّر عن حسرته ببيت من الشّعر . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
:.شهر ذي الحجة
أهل بيوم الثلاثاء، ووافقه من شهور القبط خامس عشرين توت .
النيل والأسعار
1 ـ ( وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى سبعة عشر ذراعاً وإصبعين، بعد تراجع نقصه. وهبط شيئاً بعد شيء، فكثر شراقي الأراضي بالوجه القبلي والوجه البحري لقصور زيادة النيل وسرعة هبوطه. ).
2 ـ ( وفي هذا الشهر: اتضع سعر الغلال، وقل طالبها، وكثر كسادها، مع كثرة الشراقي في أراضي مصر لقصور زيادة النيل، وسرعة هبوطه، وعدم العناية بعمل الجسور فكان هذا من جميل صنع الله تعالى وخفي لطفه، إن الله بالناس لرءوف رحيم .). اللُّطف من الله جل وعلا ، والظلم والإهمال من المماليك .
توابع الانتصار في قبرص
1 ـ ( وفي سابع عشره: خلع أياس أحد المماليك، واستقر نائب السلطة بالعلايا، ورسم أن يجهز معه طائفة من العسكر ليسيروا في البحر، وسبب ذلك أن صاحب العلايا الأمير قرمان بن صوجي بن شمس الدين ألجأته الضرورة إلى أن قدم منذ شهر بأهله مترامياً على السلطان في أخذه بلاد العلايا منه، وأن يقيم بخدمة السلطان حتى تدخل في الحوزة السلطانية. ). قرمان يأتي الى برسباى راجيا أن يكون مع إمارته تابعا له .
2 ـ ( وفيه جهز تشريف إلى الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان وقد ورد كتابه يرغب فيه أن يدخل في الطاعة السلطانية وينتمي إلى أبوابها، والتزم بإقامة الخطبة للسلطان ببلاد الروم وضرب الصكة باسمه، ويستمر في نيابة السلطة ببلاد قرمان، فأجيب إلى ذلك، وكتب له التقليد، وجهز معه التشريف .). نفس الحال مع أبن قرمان .
3 ـ ( وفيه جهز أماج- أحد الدوادارية- إلى الأمير ناصر الدين محمد بن خليل بن دلغار نائب أبلستين، ليجهز عدد أغنام التركمان، على ما جرت به العوايد القديمة، وإلا داست العساكر بلاده. ( أي هجمت على بلاده ). برسباى يهدد حاكم أبلستين ( جنوب تركيا الآن ) أن يرسل جزية وإلّا هاجمه .
4 ـ ( وقدم من الهند إلى مكة رسولان أحدهما من صاحب كلبرجه ( في الهند ) واسمه محمود، واسم رسوله شمس الدين الغالي بغا، وصحبته هدية لأمير مكة، وهدية السلطان، ومبلغ ستة آلاف دينار ليشتري به داراً عن الصفا، وتعمر مدرسة، والرسول الآخر من صاحب بنكالة ( في الهند ) بهدية للسلطان وهدية للخليفة . ). حاكمان في الهند يرسلان الى برسباى هدايا ، وأحدهما يرسل هدية للخليفة العباسى في القاهرة، والآخر يرسل هدية لأمير مكة ، وطلبا لتعمير مدرسة فيها . كانت الدولة المملوكية العسكرية تُمثّل كوكب المحمديين في ذلك الوقت .
5 ـ ( وفي تاسع عشره: رسم بعرض المماليك على السلطان بآلة الحرب، فأخذوا في الاستعداد لذلك، وطلب الأسلحة بعد كسادها مدة وبوار أربابها وصناعها، فنفقت سوقها وربحت تجارتهم، واشتغل بعملها صناعهم . ). هذه التطورات بعد إحتلال قبرص إستلزمت إستعداد حربيا وتصنيعا للسلاح .
صراع أكابر المجرمين ( الحجاز )
1 ـ ( وفي رابع عشرينه: قبض بالمدينة النبوية على أميرها الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر بن هبة الله بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة، فإنه لم يقم بالمبلغ الذي وعد به، وقرر عوضه الشريف مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنا بن حسين بن مهنا بن داود بن قاسم بن عبد الله بن طاهر بن يحيى بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ).
تعليق
1 ـ الأستاذ ( شخرم ) لم يدفع المعلوم فعزله برسباى وعين ( شريفا ) آخر . كل هؤلاء ( الأشراف ) يحتفظون بشجرة نسب الى ( على بن أبى طالب )، وكان من العادة بيع ( شجرة النسب ) ، وبها يصير أحدهم ( شريفا ) متميزا عن غيره الذين لا حظّ لهم في الشرف ، كما لو أن الله جل وعلا خلق نوعين من بنى آدم ك اشراف بالميلاد وغير اشراف بالميلاد . ما أظلم هذا الدين الأرضى للمحمديين ؟ يظلمون رب العزة جل وعلا قبل أن يظلموا الناس .
2 ـ ومعلومات لمن لا يهمه الأمر :
2 / 1 : زعم الانتماء الى ( الاشراف ) ملايين من الصوفية ومن أصحاب الطموح السياسى ، كانوا ولا يزالون .
2 / 2 : الأشراف الذين حكموا في الحجاز كانوا أسوأ البشر ، بعضهم كان ينتهك حُرمة الكعبة ويسلب وينهب الحُجّاج . نتكلم عن الأغلبية .
3 ـ ( ووصل من العراق أحمد وعلي ولدا الشريف حسن بن عجلان. وكان لهما مدة بها، وصحبتهما مال جزيل، فنهب جميعه في الركب العقيلي قريب مكة، ونهبت أموال كثيرة، منها لتاجر واحد مائة جمل محملة بضائع ما بين شاشات وأرز وبهار، وغير ذلك . )
إصلاح في الحرم المكّى
( وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الحجاج ورخاء الأسعار بمكة، وأنه قرئ مرسوم السلطان بمكة بمنع الباعة من بسط البضائع أيام المواسم في المسجد الحرام، ومن ضرب الناس الخيام بالمسجد على مصاطبه وأمامها، ومن تحويل المنبر من مكانه إلى جانب الكعبة، لأنه عند جره على عجلاته يزعج الكعبة إذا أسند إليها، فأمر أن يترك مكانه مسامتا لمقام إبراهيم عليه السلام، ويخطب الخطيب عليه هناك، وأن تسد أبواب المسجد بعد انقضاء الموسم إلا أربعة أبواب، من كل جهة باب واحد، وأن تسد الأبواب الشارعة من البيوت إلى سطح المسجد، فامتثل ذلك، وأشبه هذا قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقد سأله رجل عن دم البراغيث فقال: عجباً لكم يا أهل العراق، تقتلون الحسين بن علي وتسألون عن دم البراغيث؟. وذلك أن مكة استقرت دار مكس حتى أنه يوم عرفة قام المشاعلي والناس بذلك الموقف العظيم يسألون الله مغفرة ذنوبهم، فنادى معاشر الناس كافة من اشترى بضاعة وسافر بها إلى غير القاهرة حل دمه وماله للسلطان، فأخر التجار القادمون من الأقطار حتى ساروا مع الركب المصري على ما جرت به هذه العادة المستجدة منذ سنين، لتؤخذ منهم مكوس بضائعهم، ثم إذا ساروا من القاهرة إلى بلادهم من البصرة والكوفة والعراق أخذ منهم المكس ببلاد الشام وغيرها. وهذا لينكر وتلك الأمور يعتني بإنكارها ويسعى أهل البلاد في إزالتها، فيا نفس جدي إن دهرك هازل.)
( ولقد كان السبب في كتابة هذا المرسوم أن رجلاً من العجم يظهر للناس النسك، ولأمراء الدولة فيه اعتقاد، أمرهم بذلك، فأتمروا. وقد أذكرني هذا ما كتب به أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، لما ولي الخلافة: أما بعد فإنكم بلغتم، بالإقتداء والإتباع، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم، تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعاجم والأعراب القرآن. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا ). ولم يعرف قط أن أبواب المسجد الحرام أغلقت إلا في هذه الحادثة، فإنها أقامت مدة أشهر مغلقة إلّا أربعة أبواب من الجهات الأربع ، فإنها مفتوحة في كل جهة باب ، حتى ضج الناس وفتحوا جميع أبواب المسجد على عادتها، واستمر المنع في بقية ما رسم بمنعه إلا جر المنبر، فإنه أيضاً جر على عادته إلى جانب الكعبة في يوم الجمعة . )
إستيلاء برسباى على أوقاف
( وفيه ركب السلطان بثياب جلوسه، وشق القاهرة من باب زويلة، وخرج من باب النصر عائداً إلى القلعة، ونظر في ممره وقف الشهابي بخط باب الزهومة ليؤخذ له، وهو من جملة الأوقاف التي ينصرف فيها القاضي الشافعي ويصرفها على ما يراه من وجوه البر، إلا أنه تشعث واحتاج إلى العمارة، فإنه قدم عهده مع كثرة مساكنه، وضاق الحال عن إصلاحه، فوجدوا ارتفاعه ( أي إيراده ) في الشهر عن الفندق الذي يعرف بخان الحجر وعلوه وما جاوره من الحوانيت وعلوها في الشهر ثلاثة آلاف درهم فلوساً، عنها نحو أربعة عشر ديناراً أشرفية، فقومت أنقاضه كلها بألفي دينار، وصارت للسلطان بالطريقة التي صار يعمل بها، ولم يقبض المبلغ المذكور للمتولي، بل وعد أنه إذا عمر هذا الوقف للسلطان جعل منه في كل شهر ثلاثة آلاف درهم لجهة الأوقاف الجكمية ، فمشى الحال على ذلك . ).






























الفصل السابع : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 831
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى في التأريخ لسنة 831
( سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة :
( أهلت وخليفة الزمان المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد العباسي، وسلطان الإسلام بمصر والشام والحجاز الملك الأشرف أبو العز برسباي الدقماقي الظاهري الجركسي، ثامن الملوك الجركسة، والأمير الكبير الأتابك يشبك الأعرج الساقي، وأمير أخور الأمير جقمق العلاي وأمير سلاح أينال الجكمي. وأمير مجلس الأمير شارقطلوا، ورأس نوبة الأمير أركماس الظاهري، والدوادار الأمير أزبك، وحاجب الحجاب الأمير قرقماس، وأستادار الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغني ابن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن محمد، المعروف بكاتب المناخ، وناظر الخاص كريم الدين عبد الكريم بن بركة، المعروف بابن كاتب جكم، وكاتب السر بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر الدمشقي. وناظر الجيش القاضي زين الدين عبد الباسط، وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي بدر الدين محمود العنتابي ، وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي عز الدين عبد العزيز البغدادي، ومحتسب القاهرة ومصر الأمير أينال الششماني، ووالي القاهرة التاج الشويكي، ونائب الشام سودن من عبد الرحمن، ونائب حلب الأمير قصروه، ونائب طرابلس الأمير جرباش قاشق، ونائب حماة الأمير جلبان، ونائب صفد الأمير مقبل الزيني، ومتولي مكة- شرفها الله تعالى- الشريف بركات بن حسن بن عجلان الحسني، ومتولي المدينة النبوية الشريف مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز الحسيني، ومتولي ينبع الشريف عقيل بن وبير بن مختار بن مقبل بن راجح بن إدريس الحسني، ونائب الإسكندرية الأمير أقبغا التمرازي . )
تعليق :
لا يزال المقريزى مُصمّما على جعل برسباى ( سلطان الإسلام )، وقد ذكر قبله الخليفة العباسى ووصفه كالعادة بأنه ( خليفة الزمان )، وتعنى وفق ثقافة العصر أنه المُختار من الله جل وعلا خليفة لهذا الزمان ، أما عن المكان فقد كان العالم في هذا العصر مقسّما الى ( دار الحرب والكُفر ، ودار الإسلام والسلام ) ، وكان يُطلق على الشخص من المعسكر الآخر أنه ( حربى ) أى من ( دار الحرب) ، وكانت الدولة المملوكية تتزعّم ( دار الإسلام والسلام ) فهى التي تسيطر على الحجاز وشعيرة الحج ، وهى التي يعيش فيها الخليفة العباسى ، ثم هي أكبر قوة وأكبر دولة في كوكب المحمديين في عصرها ، ويخطب ودّها الحكّام ( المسلمون ) في الهند وغيرها .
2 ـ المُضحك أن المعسكر المسيحى في الغرب يرى نفس الرأي في معسكر المحمديين ، وهذا كانت تتم ترجمته في الحروب بين المعسكرين ، وفى إضطهاد أهل الكتاب داخل الدولة المملوكية ، ثم إستئصال الوجود العربى في اسبانيا ، وأُفول دولة الأندلس . المُضحك أيضا أن أكابر المجرمين من المستبدين ورجال الدين كانوا المتحكمين هنا وهناك .
3 ـ وبغض النظر عما يُضحك فقد أدى إحتكار برسباى وتضييقه على المسيحيين في دولته وإحتلاله قبرص الى تقوية عزم المسيحيين في أسبانيا على إستئصال ( المحمديين ) والاسرائيليين فيما كان يُعرف بالأندلس ، ثم كانت الخطوة التالية وهى الوصول الى الهند للحصول على التجارة الشرقية منها مباشرة بدون توسط الدولة المملوكية ، وأيضا التحالف مع ملك الحبشة المسيحى المتعصب واقتحام البحر الأحمر وغزو مكة والمدينة . أسفر هذا عن كشف الرجاء الصالح والوصول الى شرق آسيا والكشوف الجغرافية في الغرب واكتشاف الأمريكيتين وتكوين مستعمرات اسبانية وبرتغالية . وتأثرت بهذا الدولة المملوكية وكانت قد شارفت على الكهولة ، مما أدى الى سقوطها أمام دولة صاعدة هي الدولة العثمانية . هذه أرضية تاريخية سريعة . نعود الى موجز الأخبار قبل تفصيلها :
2 ـ ( وأسعار الغلال رخيصة، أما القمح فمن مائة وسبعين درهماً فلوساً الأردب إلى ما دونها، وأما الشعير فمن مائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دونها، وأما الفول فبنحو ذلك. )
3 ـ ( والناس بالنواحي في شغل بزراعة الأراضي، وقد كثر الشراقي في أعمال القاهرة ومصر، لقصور مد النيل، وسرعة هبوطه، على ما تقدم ذكره في السنة الحالية. والعسكر في الاهتمام للعرض على السلطان، والناس قد غلب عليهم في عامة أرض مصر القلة والفاقة، وعدم المبالاة بأمور الدين، والشغل بطلب المعيشة، لقلة المكاسب . ) . ( الشراقى ) هي الأرض الزراعية العطشانة للرى ، وكان هذا يحدث عن نُقصان الفيضان أو تأخُّره . وبقية الأخبار معروفة ومستمرّة ومستقرّة ، من الفقر وعدم المبالاة بالدين .
( شهر الله المحرم، أوله الأربعاء:
غشّ العُملة الذهبية
( في يوم الجمعة ثالثه: قدم الحمل من قبرس، ومبلغه خمسون ألف دينار، فرسم بضربها دنانير أشرفية، فضربت بقلعة الجبل، حيث يشاهد السلطان الحال في ضربها . ) . جاءت لبرسباى الجزية من قبرص 50 ألف دينار ( إفرنتية ) فقام بصهرها وتحويلها الى دنانير ( أشرفية ) بكمية ذهب أقل ، وكان هذا تحت إشرافه في مقر حكمه : القلعة أو( قلعة الجبل ). من المنتظر أن يُسفر هذا الغش عن تحويل ال 50 ألف دينار الى ما يزيد عنها ألافا تحت مسمى ( الدينار الأشرفى ).
زيارات السلطان
( وفي يوم السبت حادي عشره: ركب السلطان من القلعة إلى دار الأمير جانبك الدوادار. يعوده وقد مرض . ). هذا عن مريض واحد ، ماذا عن مئات الألوف المرضى وضحايا الأوبئة ؟ لا ننتظر أن يقوم السلطان بعيادتهم ، ولكن ننتظر من ( سلطان الإسلام ) أن يأمر أعوانه بالرفق بهم ، وهذا ما لم يحدث.
الحج وصراعات أكابر المجرمين
( وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحج، وقدم من الغد يوم الخميس ثالث عشرينه المحمل ببقية الحاج، ومعهم الشريف خشرم أمير المدينة الشريفة في الحديد، وقدم الأمير بكتمر السعدي من المدينة النبوية. ). جىء بالشريف ( خشرم ) مكبلا بالحديد . هذا ال ( خُشرم ) يتمتع بلقب ( الشريف ) سواء كان في الحديد أو في غيره .
الجمارك / المكوس
( وقدم الحمل من عشور التجار الواردين من الهند إلى جدة وهو أصناف، ما بين بهار، وشاشات، يكون قيمة ذلك نحو الخمسين ألف دينار. ) . طبقا للاتفاق الجديد تم تحصيل الجمارك في ميناء جدّة . وبلغت نحو 50 ألف دينار ذهبت رأسا الى جيب السلطان الذى لا قاع له .!
تهجير قسرى
( وفي يوم الأحد سادس عشرينه: ابتدئ في هدم خان الحجر وقف الشهابي الششماني وقد أخذه السلطان وألزم سكانه بالنقلة منه. وكانوا أمة كبيرة، قد مرت بهم وبآبائهم فيه عدة سنين، فنزل بهم مكاره كبير، لتعذر وجود مساكن يسكنون بها . ).
تعليق :
1 ـ إستولى برسباى على خان الحجر حيث يتبع وقفا لشخص إسمه ( الشهابى الششمانى )، وقد توفى من زمن . كان يسكن في هذه المنطقة أُمّة كبيرة من الناس، وعاشوا وتناسلوا فيه من زمن، لم يشفع لهم هذا عند ( سلطان الإسلام )، فأمر بطردهم ، ولأنه لا توجد مساكن لإيوائهم فقد نزلت بهم ـــ حسبما يقول المقريزى ـــ مكاره كثيرة .
2 ـ الشريعة السُّنّية تبيح هذا للخليفة أو السلطان لأنه يملك ( الرّعية ) ، فالبشر بالنسبة للمستبد ليسوا بشرا بل ( رعيّة ) أي أنعام ، وهو( الراعى )، وطبقا للقاعدة التشريعية السنية فإن للإمام ( أي الخليفة أو السلطان ) أن يقتل ثلث الرعية لإصلاح الثلثين ، و لأنه هو الذى يملك رعيته من ( البشر الأنعام ) فمن حقه أن يذبح منها ما يشاء ، وأن يستبقى منها ما يستفيد منه كأى راعى للغنم والمواشى. ثم إن هذا الإمام ( الخليفة / السلطان ) هو الذى يملك الأرض ومن عليها . لذا لا بأس على برسباى أن يقوم بتهجير قسرى لبعض الرعية وأن يستولى مساكنهم ، فهو يملكهم ويملك أرضهم ومساكنهم . ويوافقه على ذلك قُضاة الشرع ، وهم ( قاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي بدر الدين محمود العنتابي ، وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي عز الدين عبد العزيز البغدادي..).
3 ـ قلنا ونقول ونؤكد أن أقرب كتابة بشرية للشريعة الإسلامية هي المواثيق الدولية لحقوق الانسان ، كما أن أكثرها تناقضا مع الشريعة الإسلامية هي الشريعة السُنّية التي شوّهت الإسلام وظلمت الانسان . التهجير القسرى جريمة في المواثيق الدولية لحقوق الانسان ، وهو عادة سيئة وقعت فيها نُظم استبدادية وعنصرية كثيرة في العصر الحديث ، منهم الأسبان في شبه جزيرة اييريا وفى أمريكا اللاتينية ، ومنهم الولايات المتحدة في تعاملها مع السكان الأصليين ، ومحتلو استراليا ، وفى عصرنا الراهن كان الاتحاد السوفيتى ، وإسرائيل ، بالإضافة الى سوريا والنظام العسكرى الحالي في مصر ، إذ قام جيش عبد الفتاح السيسى بتهجير أكثر من 3 آلاف عائلة في سيناء ، واعتبرته هيومون رايتس ووتش إنتهاكا للقانون الدولى . وسكت شيخ الأزهر لأن ما ارتكبه السيسى من انتهاكات لحقوق الانسان يتفق مع الشريعة السنية التي يحافظ عليها الأزهر ويحميها من النقد والنقاش. ومن ينتقدها مثلنا يكون ( مُنكرا للسُنّة ). ولا عزاء للمصريين سُكّان رفح .
ونعيد التذكير بأنه يتكرر إستيلاء برسباى على الأوقاف القديمة . عبد الفتاح السيسى تفوّق على السلطان برسباى وعلى أعتى السلاطين في السلب والنهب . لم يجرؤ أي مستبد على الاستيلاء على الأوقاف المصرية من العصر العباسى الى عهد عبد الناصر والسادات وحسنى مبارك . استولى عليها السيسى بطريقة لئيمة ، إذ عهد الى ادارتها بمجموعة تتبعه ، واصبح بالفعل مالكا للأوقاف المصرية الى تمتلك حوالى 30% من الأراضى المصرية علاوة على العقارات والعمارات . لصوص مصر الكبار والصغار مصيرهم الى تراب ، وسيأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم على ظهورهم ، ألا ساء ما يزرون .
نعود الى المقريزى :
صراع أكابر المجرمين
( وفي هذا الشهر: كانت فتنة بين آل مهنا عرب الشام، قتل فيها الأمير عذراء بن علي بن نعير، واستقر أخوه مدلج عوضه في إمرة آل فضل . ). صراع بين أخوين من عرب آل مهنا في الشام . قتل فيه أخُّ أخاه.( بسيطة.. جرى خير .!)
( شهر صفر، أوله الجمعة:
إحتكار
( فيه رسم أن لا يزرع أحد من الناس قصب السكر، وأن يبقى صنفاً مفرداً للسلطان يزرعه في مزارعه بجميع الإقليم، ويعصره عسلاً وقنداً وسكراً، ويبيعه من غير أن يشاركه في ذلك أحد، ثم بطل هذا المرسوم ولم يعمل به. ).
( سلطان الإسلام ) حظر على الجميع زراعة قصب السُّكر ليحتكره وحده ، وليحتكر صناعته والتجارة فيه. كان هذا فوق إمكانية السلطان فلم يستطع تنفيذه . وكالعادة تم نسيان الأمر في بلد فيه ( كل شيء يُنسى بعد حين ).! ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
كوارث
( وكثر في هذا الشهر- والذي قبله- أكل الدود للزراعات؛ من البرسيم الأخضر والقمح ونحو ذلك، وسببه شدة الحر في فصل الخريف، وعدم المطر، ومع هذا فأسعار الغلال منحطة، فالقمح بمائة وأربعين درهماً الأردب، والشعير والفول بتسعين درهماً الأردب. ).
صراعات أكابر المجرمين
( وفي يوم الثلاثاء ثاني عشره: خلع على محب الدين أحمد بن نصر الله، وأعيد إلى قضاء القضاة الحنابلة، عوضاً عن عز الدين عبد العزيز البغدادي، وقد عزل لتنكر كاتب السر عليه وسعايته به . ) ، كاتب السّر ( سكرتير السلطان ) يتسبب في عزل قاضى القضاة . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
وظائف أكابر المجرمين
( وفي يوم الاثنين ثامن عشره. خلع على سعد الدين إبراهيم بن المرة، واستقر في نظر الديوان المفرد، عوضاً عن عبد العظيم. واستقر عبد العظيم كاشف الجسور بالبهنساوية . ). تولية ثم خلع ثم تولية.
السلطان يتنزّه يزور ممتلكاته
( وفي يوم الثلاثاء المبارك تاسع عشره: ركب السلطان من قلعة الجبل بثياب جلوسه، وشق من باب زويلة شارع القاهرة، حتى خرج من باب النصر إلى خليج الزعفران، فرأى البستان الذي أنشأه هناك، وعاد على تربته التي أنشأها بجوار تربة الظاهر برقوق وصعد إلى القلعة . ) يزور ممتلكاته إعتناءا بها ، والمقريزى يلهث وراءه يسجل زياراته.
( شهر ربيع الأول، أوله يوم السبت:
المولد النبوى
( ففي ليلة الجمعة: كان المولد النبوي الذي يعمله السلطان، ويحضره بقلعة الجبل، على عادته في كل سنة . ) .
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي ثالث عشره: أنعم بطبلخاناه الأمير بكتمر السعدي، على الأمير قجقار جقطاي، أحد أمراء العشرات . ). السلطان ( ينعم ) على أمير مملوكى بالطبلخانة ، أي قائد الفرقة الموسيقية التي تضرب الطبل في المواكب وفى الحروب .
2 ـ ( وفي تاسع عشره: قدم قاضي القضاة الحنفي بدمشق، شهاب الدين أحمد بن محمود ابن الكشك، وقد ألزم بحمل عشرة آلاف دينار . ). قاضى القضاة الحنفى إشترى المنصب . هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
3 ـ ( وفي عشرينه: قدم قاضي القضاة الشافعي، ونقيب الأشراف بدمشق، شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم بن عدنان الحسيني. وقد ألزم أيضاً بحمل مال كبير. ). قاضى القضاة الشافعى إشترى المنصب . هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
السلطان يتنزّه كعادته
( وفيه ركب السلطان وشق القاهرة بثياب جلوسه، على عادته . ).
الأسعار
( وفي أخريات هذا الشهر: تحركت أسعار الغلال، وسببه خسة الزرع بالجيزية والوجه البحري لعدم المطر، وتوالى هبوب الرياح المريسية زيادة على ثلاثين يوماً، فلم تسر فيها المراكب . )
( شهر ربيع الآخر، أوله الاثنين:
كوارث
( أهل والناس على تخوف من سوء حال الزرع، وانكشاف ساحل النيل من الغلال، وقلة وجود القمح مع هذا عدة أيام، وقدمت الأخبار بكثرة أمراض أهل الشام، وكثرة موت الخيول بدمشق وحماة . )
وظائف أكابر المجرمين
( وفي ثالث عشرينه: خلع على القاضي شهاب الدين أحمد بن الكشك خلعة الاستمرار في قضاء الحنفية بدمشق وقد حمل مبلغ ألفي دينار بعناية بعض الأمراء به، وكان قد ألزم بمال كثير . ) . دفع قاضى القضاة الرشوة فعاد الى منصبه ، وسيستردُّ أضعاف ما دفع . هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
( وفي سادس عشرينه: توجه الشهاب بن الكشك إلى محل ولايته . ). عاد فضيلته الى بلده وموقعه ليمارس الفساد بقلب جرىء .!. هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
نوبة إصلاح فُجائية
( وفي هذه الأيام: تتبعت أماكن الفساد، وأريقت منها الخمور الكثيرة، وشدد في المنع من عصير الزبيب، ومنع الفرنج من بيع الخمر المجلوب من بلادهم. ). بسبب الخوف من المجاعة والوباء القادم تأتى نوبة اصلاح يدفع ثمنها أصحاب وصاحبات المواخير والحانات ، ثم طبقا للعادة تعود الأمور الى سابق العهد بها
المكوس / الجمارك
( وفي هذه الأيام: تشكى التجار الشاميون من حملهم البضائع التي يشترونها من جدة إلى القاهرة، فوقع الاتفاق على أن يؤخذ منهم بمكة عن كل حمل قل ثمنه أو كثر ثلاثة دنانير ونصف، ويعفوا من حمل ما يتبضعونه من جدة إلى مصر، فإذا حملوا ذلك إلى دمشق أخذ منهم مكسها هناك، على ما جرت به العادة . ). قبلها وفى شهر محرم كتب المقريزى : ( وقدم الحمل من عشور التجار الواردين من الهند إلى جدة وهو أصناف، ما بين بهار، وشاشات، يكون قيمة ذلك نحو الخمسين ألف دينار. ). بعدها إشتكوا من حملها من جدة الى القاهرة ، فجاء الاتفاق الجديد تيسيرا عليهم .
( شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء:
صراعات أكابر المجرمين
( في خامسه: غضب السلطان على الطواشي فيروز الساقي، وضربه وأخرجه إلى المدينة النبوية.). لا نعرف لماذا غضب السلطان على ( الساقى ). الطواشى يعنى ( الخصىّ ) .
الاستيلاء على أوقاف قديمة لصالح ورثة أمير مملوكى
( وفي سادسه: هدمت الحوانيت المعروفة بالصيارف وبالسيوفيين، فيما بين الصاغة ودرب السلسلة. وكانت في أوقاف المدارس الصالحية، فأخذت باسم ولد الأمير جانبك الدوادار، لتعمر له مما ورثه من أبيه. ) . هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
الحج
( وفي ثاني عشرينه: برز من القاهرة طائفة من العمار، ونزلوا بركة الحجاج، وساروا منها يريدون مكة في رابع عشرينه . )
وظائف أكابر المجرمين
( وفي سادس عشرينه: توجه السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان إلى دمشق، بعد ما حمل ثلاثة آلاف دينار، وألزم بحمل خمسة آلاف دينار من دمشق، سوى ما أهدي إلى أرباب الدولة، وهو بمال جم . ). عاد قاضى القضاة ( الشريف ) الى منصبه في دمشق بعد دفع الرشاوى للسلطان وكبار الأمراء . هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
الأسعار
( وفي هذا الشهر: انحلت أسعار الغلال وكسدت . ).
أخبار خارجية : ( اليمن )
( وفيه كانت الفتنة الكبيرة. بمدينة تعز من بلاد اليمن. وذلك أن الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس بن المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول لما مات قام من بعده ابنه الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل، وقام بعد الملك الناصر أحمد ابنه الملك المنصور عبد الله بن أحمد، في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وثمانمائة، ومات في جمادى الأولى سنة ثلاثين، فأقيم بعده أخوه الملك الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر بن الملك الأشرف إسماعيل بن عباس ، فتغيرت عليه نيات الجند كافة من أجل وزيره شرف الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوي، نسبة إلى علي بن بولان العكي، فإنه أخر صرف جوامكهم ومرتباتهم، واشتد عليهم، وعنف بهم، فنفرت منه القلوب، وكثرت حساده، لاستبداده على السلطان، وانفراده بالتصرف دونه. وكان يليه في الرتبة الأمير شمس الدين علي بن الحسام، ثم القاضي نور الدين علي المحالبي مشد الاستيفاء، فلما اشتد الأمر على العسكر وكثرت إهانة الوزير لهم، وإطراحه جانبهم، ضاقت عليهم الأحوال حتى كادوا أن يموتوا جوعًا، فاتفق تجهيز خزانة من عدن، وبرز الأمر بتوجه طائفة من العبيد والأتراك لتلقيها ، فسألوا أن ينفق فيهم أربعة دراهم لكل منهم، يرتفق بها، فامتنع الوزير ابن العلوي من ذلك، وقال: " ليمضوا غصبًا إن كان لهم غرض في الخدمة، وحين وصول الخزانة يكون خير، وإلا ففسح الله لهم، فما للدهر بهم حاجة، والسلطان غني عنهم." فهيج هذا القول حفائظهم، وتحالف العبيد والترك على الفتك بالوزير، وإثارة فتنة، فبلغ الخبر السلطان، فأعلم به الوزير، فقال: " ما يسوءوا شيئاً، بل نشنق كل عشرة في موضع، وهم أعجز من ذلك . "
فلما كان يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة هذا: قبيل المغرب، هجم جماعة من العبيد والترك دار العدل بتعز، وافترقوا أربع فرق، فرقة دخلت من باب الدار وفرقة دخلت من باب السر، وفرقة وقفت تحت الدار، وفرقة أخذت بجانب آخر ، فخرج إليهم الأمير سنقر أمير جندار، فهبروه بالسيوف حتى هلك، وقتلوا معه علي المحالبي مشد المشدين، وعدة رجال، ثم طلعوا إلى الأشرف- وقد اختفى بين نسائه وتزيا بزيهن- فأخذوه ومضوا إلى الوزير ابن العلوي فقال لهم: " ما لكم في قتلى فائدة؟ أنا أنفق على العسكر نفقة شهرين . " ، فمضوا إلى الأمير شمس الدين علي بن الحسام بن لاجين، فقبضوا عليه، وقد اختفى، وسجنوا الأشرف وأمه وحظيته في طبقة المماليك، ووكلوا به وسجنوا ابن العلوي الوزير وابن الحسام قريباً من الأشرف، ووكلوا بهما، وقد قيدوا الجميع، وصار كبير هذه الفتنة برقوق من جماعة الترك، فصعد هو في جماعة ليخرج الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل بن عباس من ثعبات فامتنع أمير البلد من الفتح ليلاً، وبعث الظاهر إلى برقوق بأن يتمهل إلى الصبح، فنزل برقوق ونادى في البلد بالأمان والاطمئنان والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وأن السلطان هو الملك الظاهر يحيى بن الأشرف. هذا وقد نهب العسكر عند دخولهم دار العدل جميع ما في دار السلطان، وأفحشوا في نهبهم، فسلبوا الحريم ما عليهن، وانتهكوا منهنّ ما حرم الله، ولم يدعوا في الدار ما قيمته الدرهم الواحد، وأخذوا حتى الحصر، وامتلأت الدار وقت الهجمة بالعبيد والترك والعامة .
فلما أصبح يوم الجمعة عاشره: اجتمع بدار العدل الترك والعبيد، وطلبوا بني زياد وبني السنبلي والخدم، وسائر أمراء الدولة والأعيان، فلما تكامل جمعهم، ووقع بينهم الكلام فيمن يقيموه، قال بنو زياد: ما تم غير يحيى، فاطلعوا له هذه الساعة. فقام الأمير زين الدين جياش الكاملي والأمير برقوق، وطلعا إلى ثعبات في جماعة من الخدام والأجناد، فإذا الأبواب مغلقة، وصاحوا بصاحب البلد حتى فتح لهم، ودخلوا إلى القصر، فسلموا على الظاهر يحيى بالسلطنة وسألوه، أن ينزل معهم إلى دار العدل، فقال: " حتى يصل العسكر أجمع." ، ففكوا القيد من رجليه، وطلبوا العسكر بأسرهم، فطلعوا بأجمعهم، وأطلعوا معهم بعشرة جنائب من الاصطبل السلطاني في عدة بغال ، فتقدم الترك والعبيد وقالوا للظاهر: " لا نبايعك حتى تحلف لنا أنه لا يحدث علينا منك سوء بسبب هذه الفعلة، ولا ما سبق قبلها."، فحلف لهم ولجميع العسكر، وهم يعددون عليه الأيمان، ويتوثقون منه، وذلك بحضرة قاضي القضاة موفق الدين علي بن الناشري، ثم حلفوا له على ما يحب ويختار، فلما انقضى الحلف، وتكامل العسكر، ركب ونزل إلى دار العدل في أهبة السلطنة، فدخلها بعد صلاة الجمعة، فكان يوماً مشهوداً. وعندما استقر بالدار أمر بإرسال ابن أخيه الأشرف إسماعيل إلى ثعبات، فطلعوا به، وقيدوه بالقيد الذي كان الظاهر يحيى مقيداً به، وسجنوه بالدار التي كان مسجوناً بها، ثم حمل بعد أيام إلى الدملوه، ومعه أمه وجاريته، وأنعم السلطان الملك الظاهر يحيى على أخيه الملك الأفضل عباس. بما كان له، وخلع عليه، وجعله نائب السلطة كما كان في أول دولة الناصر، وخمدت الفتنة .
وكان الذي حرك هذا الأمر بنو زياد، فقام أحمد بن محمد بن زياد الكاملي بأعباء هذه الفتنة، لحنقه على الوزير ابن العلوي، فإنه كان قد مالأ على قتل أخيه جياش، وخذل عن الأخذ بثأره وصار يمتهن بني زياد. ثم ألزم الوزير ابن العلوي وابن الحسام بحمل المال، وعصرا على كعابهما وأصداغهما، وربطا من تحت إبطهما، وعلقا منكسين، وضربا بالشيب والعصا، وهما يوردان المال، فأخذ من ابن العلوي- ما بين نقد وعروض- ثمانون ألف دينار، ومن ابن الحسام مبلغ ثلاثين ألف دينار، واستقر برقوق أمير جندار، واستقر الأمير بدر الدين محمد الشمسي أتابك العسكر . واستقر ابنه العفيف أمير أخور، ثم استقر الأمير بدر الدين المذكور أستادارا، وشرع في النفقة على العسكر، وظهر من السلطان نبل وكرم وشهامة ومهابة، بحيث خافه العسكر، بأجمعهم فإن له قوة وشجاعة، حتى أن قوسه يعجز من عندهم من الترك عن جره، مدحه الفقيه يحيى بن رويك بقصيدة، أولها :
بدولة ملكنا يحيى اليماني ** بلغنا ما نريد من الأماني
سيحيى بابن إسماعيل يحيى ** أناس أدركتهم موتتان
فكتب بخطه على الحاشية : " الموتتان هي دولة المنصور والأشرف.". وكانت عدة هذه القصيدة أحد وأربعين بيتا، فقال: ثمنوها. وأجاز عليها بألف دينار أحضرت له في المجلس وبهذه الكائنة اختل ملك بني رسول . )
التعليق
بدون التوقف مع التفصيلات : هنا دولة تقع في معسكر ( السلام والإسلام ) ضد معسكر ( الحرب والكفر ) . المفترض أن السلام يسود معسكر السلام ، ولكن العادة منذ الفتنة الكبرى أن الحروب لا تنقطع في داخل( دار السلام والإسلام ) بزعمهم ، بل هي أكثر من الحروب مع المعسكر الآخر ( دار الحرب ). هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
شهر جمادى الآخرة، أوله الخميس:
تنقلات في وظائف أكابر المجرمين
( في خامسه: أنعم علي الأمير شارقطلوا، وخلع عليه، فاستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر، عوضاً عن يشبك الساقي، بحكم وفاته . ). المُلاحظ هنا أن السلطان ( أكبر أكابر المجرمين ) يُنعم بالمناصب على أكابر المجرمين العسكريين الأمراء المماليك بدون رشوة ، بينما يُعطى الوظائف بالرشوة لأكابر المجرمين من المدنيين الفقهاء .
( وفي ثامن جمادى: المذكور خلع على الأمير الكبير شارقطلوا، واستقر في نظر المارستان المنصوري بالقاهرة، ونزل إليه على العادة . )
( وفي عاشره: كتب بحضور الأمير صرماش قاشق نائب طرابلس، ليستقر أمير مجلس، وكتب إلى الأمير طرباي المقيم بالقدس بطالاً أن يستقر في نيابة طرابلس، وجهز إليه خيل ليركبها، ورسم لمن في خدمة الأمراء من مماليكه أن يتوجهوا إليه . )
هدية من الهند للسلطان برسباى وأمرائه ، مع طلب ورجاء
( في سادسه: أحضرت هدية ملك كلبرجة من الهند، وهي أربعة سيوف، وستة عشر جمالاً، عليها شاشات وأزر، وقد أهدى إلى غير واحد من أعيان الدولة، وسأل أن تمكن رسله من بناء رباط بالقدس. )
أخبار خارجية : من الهند
( وكان من خبر الهند أن بلاد الهند قسمان، قسم بيد أهل الكفر وهم الأكثر، وقسم بأيدي المسلمين. وكان ملك الهند صاحب مدينة دله ( دلهى )، وهي قاعدة الملك. وكان ملكها فيروز شاه بن نصرة شاه من عظماء ملوك الإسلام، فلما مات، ملك دله ( دلهى ) بعده مملوكه ملُّو ، وعليه قدم الأمير تيمور لنك بعد سنة ثمانمائة، وأوقع بالهند وقيعة شنعاء، وخرب مدينة دله ( دلهى ) ، وعاد إلى بلاده، فأتى بلاد الشام بعد ذلك. وكان ملُّو قد فر منه، فعاد بعد مسير تيمور لنك إلى دله ( دلهى ) ، ومضى منها إلى ملطان ( مدينة هندية ) فخرج عليه خضر خان بن سليمان، وحاربه فقتل في الحرب. وكان قد ملك دله ( دلهى ) دولة يار، فنازله خضر خان وحصره مدة، ففر منه، وملك خضر خان دله حتى مات، فقام من بعده ابنه مبارك شاه بن خضر خان هذا . وقد انقسمت بعد أخذ تيمور مدينة دله ( دلهى ) مملكة الهند، وصار بها عدة ملوك، أجلهم ملك بنجالة، وملك كلبرجة، وملك بزرات.
فأما بنجالة فقام بها رجل من أهل سجستان يقال له شمس الدين، فلما مات قام من بعده ابنه اسكندر شاه ثم ابنه غياث الدين أعظم شاه بن اسكندر شاه بن شمس الدين، ومات سنة خمس عشرة وثمانمائة، فملك بعده ابنه سيف الدين حمزة، فثار عليه مملوكه شهاب الدين وقتله، فلم يتهن بعد أستاذه، وأخذه الكافر فندو، وملك بنجالة وما معها، فثار عليه ولده- وقد أسلم- وقتله، وملك بنجالة، وتسمى بمحمد، وتكنى بأبي المظفر، وتلقب بجلال الدين، ثم جدد ما دثر أيام أبيه فندو من المساجد، وأقام معالم الإسلام .
فأما كلبرجة فإن محمد شاه صاحب مدينة دله ( دلهى ) بعث إليها حسن بهمن، فأخذها له، وأقام نائبها عن محمد شاه حتى مات، فقام ابنه أحمد بن حسن بهمن، ثم قام بعد أحمد ابنه فيروز شاه بن أحمد بن حسن بهمن ، ثم قام بعده أخوه شهاب الدين أحمد أبو المغازي بن أحمد بن حسن بهمن، وهو الذي بعث الهدية المذكورة.
وأما بزرات وكنباية فإن ظفر خان كان ساقيًا عند الملك فيروز شاه بن نصرة شاه صاحب دله ( دلهى ) ، فولاه كنباية على ألف ألف تنكة ( التنكة عملة فارسية ) حمراء عنها من الذهب ثلاثة آلاف ألف مثقال وخمسمائة ألف مثقال. وكان ظفر هذا كافراً، وله أخ اسمه لاكه. وفي ولايته خرب تيمور دله ( دلهى ) ، فقام عليه ابنه تتر خان وسجنه، وصانع تيمور فأقره، فلما سار تيمور عن الهند، خرج لاكه على ابن أخيه تتر خان وقتله، وأعاد أخاه ظفر خان إلى ملكه، فوثب أحمد خان بن تتر خان بن ظفر خان على جده، وقتله، وأحرق عم أبيه لاكه، وذلك بعد سنة عشر وثمانمائة. وقد أسلم وتلقب بالسلطان. وما عدا هذه المماليك الثلاثة، فإنها دونها ، كديوه ومهايم وتانه ، ونحو ذلك مما هو بأيدي المسلمين . ) .
المقريزى يقسّم الهند الى كفار ومسلمين ، ويذكر الحروب بين المحمديين السنيين في ( دار السلام ). هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
هدية من السلطان العثمانى
( وفي تاسع عشرينه: قدمت رسل ملك الروم بمدينة برصا، مراد بك بن كرشجي محمد بن بايزيد، بكتاب وهدية فاحتفل السلطان لقدومهم، وأركب العسكر إلى لقائهم.).
أخبار الدولة العثمانية وقتها
( ومن خبر ملوك الروم أن خوندكار بايزيد بن مراد بن عثمان ترك أربعة أولاد: سلمان وهو أكبرهم، ومحمداً، وعيسى، وموسى، فقام بالأمر سلمان، وأقام ببر قسطنطنية في مدينة أدرنة وكالي بولي ( غاليبولى )، وقام أخوه عيسى بمدينة برصا، وتحاربا، فقتل عيسى، واستبد سلمان بمملكة أبيه، فثار عليه أخوه موسى وحاربه، فقتل سلمان، وملك بعده موسى ببر أدرنة، وقام ببرصا أخوه محمد كرشجي وقاتله، فقتل موسى، واستبد بالمملكة حتى مات فأقيم من بعده ابنه مراد بك بن محمد كرشجي . )
نفس التعليق عن ( دار السلام ودار الحرب )، والحرب هنا بين الأخوة . هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
أسعار
( وفي هذا الشهر: اتضع سعر الغلال بديار مصر وكسدت، فأبيع الأردب القمح بمائة وأربعين فلوساً إلى ما دون ذلك، والشعير بتسعين درهماً الأردب . )
إستيلاء على أوقاف قديمة
( وفيه أخذ السلطان خان مسرور والرباع التي تعلوه، وذلك أنه قومت أنقاضه باثني عشر ألف ديناراً، رصد منها تحت يد مباشري السلطان تسعة آلاف دينار لعمارة الربع، فصار النصف والربع للسلطان، وأقبض قاضي القضاة عن ثمن أنقاض الربع ثلاثة آلاف دينار، على أنه إذا كملت يكون ريعه جارياً تحت نظر الحكم العزيز الشافعي، يصرف ريعه فيما كان يصرف فيه ريع الأصل . ). كالعادة ؛ سرقة واختلاس للأوقاف بين السلطان وقاضى القضاة . هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
شهر رجب، أوله السبت:
حفل تكريم لرسل السلطان العثمانى
( فيه عملت الخدمة بالإيوان من دار العدل من القلعة، وأحضرت رسل مراد بن عثمان ملك الروم بيرصا. وكان موكباً جليلاً أركب فيه الأمراء ومماليك السلطان، وأجناد الحلقة . )
هدم الأوقاف بعد الاستيلاء عليها
( وفيه ابتدئ بهدم خان مسرور. ). هدم الخان بعد تفريغه من المتكسبين منه والساكنين فيه ، وقد بيعت أنقاضه ، وبقى أن يقام مكانه ( خان جديد )، يشرف على استثماره قاضى القضاة الشافعى المُخوّل بالاشراف على الأوقاف ، والسلطان هو المستفيد الأكبر . ). كالعادة ؛ سرقة واختلاس للأوقاف بين السلطان وقاضى القضاة . هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ المقريزى يمدح أصدقاءه أكابر المجرمين
1 / 1 : لم تكن هناك حواجز بين الولايات في الدولة المملوكية ، بل كان الفقهاء من خارجها يتجوّلون بين الدول المملوكية والعثمانية والعراق فيما كان يُعرف ب( دار الإسلام والسلام ). واشتهر من الشام كبار المجرمين المدنيين في الوظائف الدينية مثل القضاء، والديوانية مثل كتابة السّر. ونعطى أمثلة مشهورة : ابن حجر من ( عسقلان ) في فلسطين الآن ، والقاضى ( بدر الدين محمود بن أحمد العينى ) من عينتاب قرب ( حلب ) . واشتهر البيت البارزى في الدولة المملوكية البحرية ثم البرجية ، وهم من حماة السورية ، وكان منهم في عصر برسباى كاتب السّر ناصر الدين البازرى .
1 / 2 ـ وقد كان المقريزى ( تقى الدين أحمد بن على ) مولودا في حىّ المقارزة في بعلبك ( في لبنان الآن )، وكان متعاطفا مع الفقهاء الشاميين ، يقول المقريزى عن القاضى كمال الدين محمد إبن القاضي ناصر الدين البارزى : ( وفي سابعه: خلع علي القاضي كمال الدين محمد ابن القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي، واستقر في كتابة السر بدمشق عوضاً عن بدر الدين حسين بحكم وفاته.). لم يذكر المقريزى ما هو معتاد من دفع الرشوة وشراء المنصب ، بل يمدح صديقه القاضي ابن البازرى فيقول : ( وكان القاضي كمال الدين منذ من عزل نظر الجيش بعد كتابة السر ملازماً لداره على أجمل حالة وأمثل طريقة، من الصيانة والديانة والوقار والسكينة، وتردد الأكابر والأعيان إلى بابه، وكثرت مداراته، وبسط يده بالإحسان.). قوله ( وكثرت مداراته ، وبسط يده بالإحسان) يعنى أن يشترى السكوت عنه بالأموال بعد عزله ، خصوصا مع تردد أكابر المجرمين اليه ، وبالأموال يشترى المنصب الجديد . يقول عن توليه المنصب الجديد :( وفي ثاني عشرينه: سار القاضي كمال الدين محمد بن البارزي إلى محل ولايته. ولقد استوحشنا لغيبته، فالله يمن علينا بجميل عودته . ). ذكر مشاعره الفيّاضة نحوه ولم يتحفنا بكيفية وصوله الى المنصب .
1 / 3 ـ وعن القاضي العجلونى يقول المقريزى : ( وفي عاشره: خلع علي عز الدين عبد السلام بن داود بن عثمان العجلوني القدسي أحد خلفاء الحكم الشافعية، واستقر في تدريس الصلاحية بالقدس، عوضاً عن شمس الدين محمد بن عبد الدايم البرماوي. ). القاضي العجلونى ( من عجلون فيما يعرف الآن بالأردن ) يمدحه المقريزى فيقول : ( وعز الدين هذا قدم القاهرة بعد كائنة تيمور، فبلونا منه فضيلة ومعرفة بالحديث وغيره، وصحب كاتب السر فتح الله، وناب في الحكم فاشتهر، ثم نوه به ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر، وصار يزاحم الأكابر في المحافل، ويناطح الفحول بقوة بحثه وشهامته وغزارة علمه، ونعم الرجل هو.). كاتب السّر إبن البارزى يسعى للعجلونى في وظيفة القضاء . والمقريزى يمدح هذا العجلونى ولا يخبرنا بمقدار الرشوة التي دفعها مكتفيا بصلة العجلونى بابن البارزى، والصلة لم تكن سوى التوسط في مقدار الرشوة المطلوبة للسلطان وأكابر الأمراء . تجاهل المقريزى هذا في الحديث عن أصدقائه كما لو كانوا في مجتمع المدينة الفاضلة وليس مجتمع أكابر المجرمين . ولكنها العادة التي أصبحت عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!,
2 ـ ( وفي تاسع عشره: كتب باستقرار السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان في نظر الجيش بدمشق، عوضاً عن بدر الدين حسين، وحملت إليه الخلعة والتوقيع على يد نجاب . ) . ( النجّاب ) يعنى رسول يحمل رسالة عاجلة .
3 ـ ( وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير جرباش قاشق من طرابلس، واستقر أمير مجلس . )
المحمل
( وفي حادي عشره: أدير محمل الحاج على العادة في كل سنة ).
عفو عن مساجين
( وفي سابع عشرينه: استدعى السلطان من في سجن القضاة، وأفرج عن عدة من المديونين . ) .
كان يتم حبس العاجز عن سداد الديون بأمر من القاضي في سجن خاص يتبع القاضي ، وللسلطان الحق في العفو عنهم إذا شاء .
غلاء وكوارث
1 ـ ( وفي هذا الشهر: تحرك سعر الغلال فأبيع الشعير كل أردب بمائة وخمسة وعشرين بعد تسعين وأبيع الفول بمائة وستين، وأبيع القمح بمائة وستين، وأبيع القمح بمائة وستين بعد مائة وأربعين. هذا مع دخول الغلات الجديدة، إلا أن الفأر كثر عبثه في الغلال، ووقعت صقعة في عاشر طوبة من أشهر القبط ببلاد الصعيد، تلف بها أكثر الفول وهو أخضر، وكانت الشراقي كثيرة، فلم يزرع ما شرق من الأراضي وأكلت الدودة مواضع مزروعة ولم يزل الغلاء يترقب في هذه السنة منذ هبط النيل سريعاً، إلا أن الله تعالى أرخى الأسعار لطفاً منه بعباده ( إنّ الله بالناس لرءوف رحيم ).
2 ـ ( وقدمت الأخبار بأن أراضي حوران بالشام لم تزرع لعدم المطر، وأن الغلاء قد اشتد بالحجاز لعدم الغيث به. )
وباء في الصعيد
كان من قبل في دمياط والوجه البحرى ثم توجه الى الصعيد ( واثق الخطوة يمشى ملكا ) يقول المقريزى : ( وفيه فشت أمراض حادة في الناس ببلاد الصعيد، وكثر الموتان، لاسيما بمدينة هو، وبوتيج، ومنشية أخميم وما حولها . )
شهر شعبان، أوله الأحد:
غلاء
( أهل وأسعار الغلال أخذة في الارتفاع، ولم يكد يوجد عند قطاف عسل النحل منه شيء. وهلك النحل من قلة المراعي، وعز وجود الفول لقلة ما تحصل منه عند الدراس، وقل الحمص أيضاً، وخس الكتان .)
وباء
( وكثر الوباء في هذا الشهر بصعيد مصر، فمات بشر كثير . ). لا أحد يهتم بعدد الموتى ، ولو بصورة تقريبية ، فالصعيد بعيد عن مركز السلطة، ومُعاناة أهلة مهما بلغت لا تهُمُّ المؤرخين
صراع أكابر المجرمين في الحجاز :
( وفي سادس عشره: توجهت تجريدة عدتها خمسون مملوكاً إلى ينبع . )
شهر رمضان، أوله الاثنين:
النيل
( في ثانيه- الموافق لسابع عشرين بؤونة-: نودي على النيل ثلاثة أصابع بعد ما أخذ القاع فكان ثلاثة أذرع وعشر أصابع . )
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفيه عزل سعد الدين إبراهيم بن المرة من نظر الديوان المفرد، وولي عوضه زين الدين يحيى، قريب الأمير فخر الدين بن أبي الفرج . )
2 ـ ( وفي عشرينه: أخرج قانصوه- أحد أمراء الطبلخاناه- لنيابة طرسوس، وأضيف إقطاعه إلى الديوان المفرد. ) ( وقانصوه هذا أحد مماليك الأمير نوروز الحافظي، وصار إلى المؤيد شيخ بعد قتل نوروز، فرقاه حتى صار أمير طبلخاناه، وهو أحد الفرسان المشهورين، وكبير الطائفة النوروزية . )
الأسعار
( وفي هذا الشهر: بلغ القمح إلى مائتين وستين درهماً الأردب، وأناف الأردب من الشجر والفول على المائتين، وبلغت البطة الدقيق- وهي خمسون رطلا- ثمانين درهماً . )
الصراع المملوكى الصليبى
( وفيه قدم إلى الإسكندرية مركبان من مراكب طائفة الفرنج القطلان ( الكاتيلان ) لأخذ المدينة، فإذا الناس على يقظة وأهبة لهم، فإن متملك قبرس كان قد بعث يحذر منهم، فردهم الله خائبين. )
الجزية من قبرص
( وفيه قدم الحمل من قبرس .)
شهر شوال، أوله الأربعاء:
السلطان يتنزّه ، ويطمئن على عمارته ويعود المرضى
( في حادي عشره: ركب السلطان من قلعة الجبل، فشق القاهرة، ونظر إلى عمارته، ونزل إلى المارستان المنصوري، فعاد المرضي، وعاد إلى القلعة . )
النيل
1 ـ ( وفي ثاني عشره- الموافق لأول مسرى-: نودي على النيل بزيادة أربعة وعشرين إصبعاً، لتتمة اثني عشر ذراعاً وعشر أصابع، وهذا مما يستكثر من زيادة النيل. )
2 ـ ( وفي خامس عشرينه- الموافق له رابع عشر مسرى-: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وركب المقام الناصري محمد بن السلطان، ومعه الأتابك شارقطلوا وغيره من الأمراء، حتى خلق المقياس، وفتح الخليج على العادة . )
إستيلاء على أوقاف وهدمها
( وفي هذه الأيام: هدمت الحوانيت التي تجاه شبابيك المدرسة الصالحية التي بجوار قبة الملك الصالح. وكانت في وقف الجو كندار، وكان هدمها في رابعه. ) هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
وظائف أكابر المجرمين
( وفي سادسه: توجه سعد الدين إبراهيم بن المرة إلى جدة لأخذ مكوس التجار الواردين من الهند، وقد أعيد إلى ولايته. )
( وفيه خلع على الأمير أينال الجلالي الأجرود، واستقر في نيابة غزة، عوضاً عن الأمير تمراز الدقماقي، وأنعم بطبلخاناته على الأمير تمراز الدوادار، وكتب بإحضار الأمير بيبغا المظفري من القدس، وقد نقل إليها من دمياط من نحو شهر. )
صراع أكابر المجرمين
1 ـ في الحجاز ( وفي حادي عشره: سارت تجريدة خمسون مملوكاً، عليها الأمير أرنبغا- أحد أمراء العشرات- وسببها أن الخبر ورد من مكة بأن بني عجلان أخوة الشريف بركات بن عجلان متولي مكة طلبوا من شاهين المتوجه إلى جدة أن يأخذوا مما يتحصل ما كانت عادتهم أخذه في أيام أبيهم الشريف حسن بن عجلان، فمنعهم من ذلك، فهددوه بالقتل، وأن كثيراً من القواد قد قام معهم، فأخرج التجريدة تقوية لابن المرة على حفظ المال . )
2 ـ ( وفي ثامن عشرينه: أمسك الأمير قطش أحد أمراء الألوف، والأمير جرباش قاشق أمير مجلس، وحمل قطش في الحديد إلى الإسكندرية، فسجن بها وأخرج الأمير جرباش قاشق الكريمي بغير قيد إلى دمياط . ).
أسعار
( وفي هذا الشهر: انحل سعر الغلال، وقل طالبها، وعز وجود اللحم بالأسواق، أحياناً . )
المحمل
( وفي عشرينه: خرج محمل الحاج على العادة، إلا أنه أناخ ببركة الحجاج، ولم ينزل بالريدانية خارج القاهرة، وخرج معه أمير الحاج الأمير قرا سنقر الذي كان كاشف الجيزة، وقد خرج أمير الركب الأول الأمير أينال الششماني المحتسب- أحد رءوس النوب- واستناب عنه في الحسبة دواداره . )
شهر ذي القعدة الحرام، أوله الجمعة:
الأسعار
( أهل وأسعار الغلال رخيصة، فأخذت في الارتفاع، وعز وجود التبن، فبلغ الحمل مائتي درهم، وعز وجود اللحم أيضاً، وفقد من الأسواق، )
أسعار التبن وعسف المماليك :
( وصارت المماليك تخرج إلى الضواحي في طلب التبن لخيولها، فتأخذ بالعسف على عادتها، فامتنع الناس من جلبه من الأرياف، ولم يقدر عليه أحد بعد ذلك، فندب السلطان طائفة من غلمانه للخروج إلى الأرياف بالجمال السلطانيه، وشراء التبن من النواحي، وأن يكون بمائة درهم الحمل، وتوقف الجمال المحملة التبن تحت القلعة، ويباع الحمل منه بمائة وأربعين درهماً، ومنع المماليك من الخروج إلى الضواحي في طلب التبن، وأن لا يشتري أحد التبن إلا من تحت القلعة، فتمشي الحال في وجوده . )، كعادة المماليك الأجلاب في السلب والنهب ، عندما قلّ التبن علف الخيول نزلوا الأسواق ينهبونه فامتنع التجار من الاتيان به وصارت مشكلة مثل مشكلة وقف انتاج البترول في عصرنا ، وتدخل برسباى بتلك القرارات فأنقذ الموقف .
غلاء الأسعار وجشع المماليك مع زيادة النيل
( وفي هذه الأيام: تعدى سعر القمح ثلاثمائة درهم الأردب، والفول مائتين وستين، والشعير مائتين وثلاثين، وفقدت الغلال من الغراس مع كثرتها، وتوفر زيادة النيل، فإنه بلغ إلى يوم النوروز- وهو يوم الأحد سابع عشره- ثمانية عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً. وهذا مما يستكثر من زيادة النيل، إلا أن الأمراء والأعيان شرهوا في الفوائد، وشاركوا من دونهم في إدخار الغلال وغيرها من البضائع، رجاء الفائدة، فعز وجود الغلال، وارتفع سعرها وفقد الخبز من الأسواق أحياناً، وصارت ولاة الأمور مع ذلك بعيدة عن معرفة طرق المصالح، فإن غاية مقاصدهم إنما هي أخذ المال على كل وجه أمكن أخذه، فلهذا اختلت الأحوال، وضاعت المصالح . ).
لا بأس أن نسترجع عبارات المقريزى لأهميتها في الدلالة على دولة اللصوص من أكابر المجرمين، يقول : ( ..إلا أن الأمراء والأعيان شرهوا في الفوائد، وشاركوا من دونهم في إدخار الغلال وغيرها من البضائع، رجاء الفائدة، فعز وجود الغلال، وارتفع سعرها وفقد الخبز من الأسواق أحياناً، وصارت ولاة الأمور مع ذلك بعيدة عن معرفة طرق المصالح، فإن غاية مقاصدهم إنما هي أخذ المال على كل وجه أمكن أخذه، فلهذا اختلت الأحوال، وضاعت المصالح .)
وظائف أكابر المجرمين
( وفي حادي عشرينه: قدم الأمير بيبغا المظفري من القدس، وأنعم عليه بإمرة جرباش قاشق وإقطاعه . )
شهر ذي الحجة الحرام أوله السبت:
غلاء وفساد ..ورحمة إلاهية
( أهل والغلال عزيزة الوجود، مع كثرتها في الشون والمخازن، وإمساك أربابها أيديهم عن بيعها لأملهم فيها غاية الربح، فبلغ القمح أربعمائة درهم الأردب، والبطة الدقيق مائة وثلاثين درهماً، والشعير ثلاثمائة درهم الأردب، والفول بنحو ذلك، وأبيع الفدان البرسيم بألف درهم، ففرج الله عن عباده، وانحل السعر، حتى أبيع القمح بثلاثمائة وخمسين درهماً الأردب وما دونها، وكسدت الغلال حتى لا يجد من يطلبها . ). رُخص الأسعار يأتي بأقدار إلاهية برغم فساد أكابر المجرمين.
صراع أكابر المجرمين
1 ـ مؤامرة على السلطان برسباى
( وفي ليلة الخميس سادسه: قبض على الأمير أزبك الدوادار، وأخرج من ليلته إلى القدس بطالا، وقبض على عدة من الخاصكيته، وسبب ذلك أنه في أخريات ذي القعدة الحرام بلغ السلطان أن جماعة من خاصكيته ومماليكه يريدون الفتك به وقتله ليلا، فقبض على عدة منهم في أيام متفرقة، ونفي جماعة منهم إلى الشام وقوص، وعاقب طائفة منهم، فكثرت القالة، واشتد الإرجاف، وأخذ السلطان في الاستعداد والحذر، وسقط عليه مراراً سهام من طباق المماليك، سلمه الله تعالى منها. وبلغه أن المماليك كانت تجتمع بأزبك . ).
تعليق
واضح أن برسباى تعرّض لمؤامرة فتصرّف سريعا ونفى أزبك الدوادار وقبض على محموعة من أتباعه ، وأخمد فتنة قبل اتساعها . ويلاحظ تعاطف المقريزى مع برسباى في قوله عنه ( سلمه الله تعالى منها.). ليس هذا حُبّا في السلطان وحرصا عليه ولكن خوفا من وقوع الاضطرابات الى أن يأتي سلطان جديد ينفرد بالحكم، وقد كان هذا معتادا في العسكر المملوكى ، ونفس الحال في العسكر المصرى الحاكم الآن في مصر. لا يأتي الخطر على الرئيس العسكرى من المعارضة المدنية ، بل من المعارضة المسلحة الوهابية أو من رفاق السلاح حول الحاكم . السادات تآمر وقتل عبد الناصر ، والسادات في ضربة واحدة قتل وزير الحربية وكبار القادة في سقوط طائرة عسكرية في 2 مارس 1981، ثم تآمر على السادات أكبر رتبتين عسكريتين : مبارك وأبو غزالة ، ثم تخلص مبارك من أبى غزالة بفضيحة ، وحكم مستبدا الى أن ثار الشعب فتدخل قادة الجيش وعزلوه ، ثم قدموا الاخوان ليحكموا إبتغاء فضحهم وكشفهم ، ثم ثاروا عليهم ، وتولى السيسى الحكم ، وتخلّص من أقرب معاونيه ، ليستبد بالأمر ، ولا يزال في رُعب من مستقبل قادم .
2 ـ حركة تنقلات بعد عزل الدوادار أزبك
( وفي ثامنه: خلع على الأمير أركماس الظاهري رأس نوبة. واستقر دواداراً كبيراً عوضاً عن أزبك، وخلع على الأمير تمراز القادم من غزة، واستقر رأس نوبة عوضاً عن أركماس، وأنعم على الأمير يشبك المشد، وأنعم بطبلخاناه يشبك على أقبغا الخازندار، واستقر الطواشي صفي الدين جوهر السيفي قنقباي اللالا خازنداراً عوضاً عن أقبغا، فبلغ الاختصاص بالسلطان مبلغاً كبيراً . )
3 ـ ترقية الشوبكى نديم السلطان: ( وفي سابع عشره: خلع على الأمير تاج الدين الشويكي والي القاهرة، واستقر مهمنداراً عوضاً عن حرز- مضافاً بما بيده من الولاية وشد الدواوين والحجوبية- وهو من مجالسي السلطان في مجالسه الخاصة . ). هذا الشوبكى مصري وليس من المماليك ، وبسبب إخلاصه اصبح واليا للقاهرة أي مدير الأمن بها ، وترقى وتزايدت مناصبه لأنه من خواصّ برسباى ، خصوصا بعد مؤامرة مماليكه عليه.
الحج وصراع أكابر المجرمين في العراق
( وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الأمن والرخاء، وأنه قدم محمل من العراق معه أربعمائة جمل تحمل الحاج، جهزه حسين بن علي ابن السلطان أحمد بن أويس من الحلة، وكان قد استولى على ششتر وصاهر العرب، فقوي بهم، وناهض شاه محمد بن قرا يوسف صاحب بغداد . )
تعليق
بعد استيلاء هولاكو على بغداد قسّم المغول العراق الى منطقتين : جنوبية عاصمتها بغداد ، وشمالية عاصمتها الموصل . ويديرهما حاكمان من المغول بمساعدة من القوى المحلية ( تركمانية ). ثم استولى تيمورلنك على العراق ، وأوكل ادارته الى القوى التركمانية ، فتنازعوا أمرهم بينهم . وجاء فى الخبر السابق صراع بين صاحب الحلة العراقية وشاه محمد بن قرا يوسف التركمانى صاحب بغداد . أي هو صراع داخل ( دار السلام ) بين نفس المجموعة العرقية الحاكمة ( التركمان ). وهذا الصراع داخل ( معسكر / دار السلام ) هو من المعلوم عندهم من الدين السُّنّى بالضرورة .
( وفي ثاني عاشره- الموفق ثالث عشر توت-: نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة زيادته عشرين ذراعاً سواء، وابتدأ نقصه من الغد . ).









الفصل الثامن : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 832
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى في التأريخ لسنة 832
( سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة :)
لم يذكر المقريزى الديباجة المعروفة في التأريخ لكل عام ، من أسماء أكابر المجرمين من السلطان وقادة المماليك وأكابر الوظائف الديوانية كالاستادار وكاتب السر ، وأكابر الوظائف الدينية ( قضاة القضاء ). دخل مباشرة في تسجيل الأحداث ، فقال :

( شهر الله المحرم، أوله الاثنين:
مناخ وكوارث
( ففي ليلة الاثنين خامس عشره: حدث مع غروب الشمس برق متوال، تبعه رعد شديد، ثم مطر غزير، واستمر معظم الليل، فلم يدرك بمصر مثله برقاً ورعداً، ولا عهدنا مثل غزارة هذا المطر في أثناء فصل الخريف. وقدم الخبر بأنها أمطرت وقت العشاء من ليلة الاثنين ثامنه بناحية بني عدي من البهنساوية برداً في قدر بيضة الدجاجة وما دونها كبيضة الحمامة، فهلك به من الدجاج والغنم والبقر شيء كثير، فهلك لرجل ستون رأساً من الضأن، وهلك لآخر خمسون رأساً من المعز، ولم يتجاوز هذا البرد بني عدي، وكان مع البرد والمطر راعد مرعب من شدته، وبرق متوال ورياح عاصفة . ). واضح أن للمقريزى ( مراسلين ) يخبرونه بما يحدث في القاهرة وخارجها .
أكابر المفسدين يتتبعون مواضع الفساد
( وفي هذا الشهر: تتبع الأمير قرقماس حاجب الحجاب مواضع الفساد، فأراق من الخمور وحرق من الحشيشة المغيرة للعقل شيئاً كثيراً، وهدم مواضع، ومنع من الاجتماع في مواضع الفساد . ).
تعليق
مواضع الفساد المُشار اليها هنا لا تشمل الأماكن المرخّصة للدعارة والتي تدفع عنها ( ضامنة المغانى ) رسوما للدولة . كانت ضامنة المغانى تُرغم الرجال المارّين ن على دخول بيتها ، وإن رفضوا ألزمتهم بدفع مال ، لأنه كان مقررا عليها أن تدفع مالا محددا . أصبح هذا معلوما من الدين السُّنّى بالضرورة . وفى بعض ما يسمى بالبلاد ( الإسلامية السُنّية ) يتم تشريع الدعارة ويدفع القائمون عليها ضرائب . وكان هذا معروفا في مصر في النصف الأول من القرن العشرين. نعود للمقريزى وهو يتكلم عن تتبع أماكن الفجور الشعبية ، والسبب ظاهريا هو التظاهر بالفضيلة ، والسبب الباطنى هو حثُّ الفاجرين على الذهاب الى الأماكن المُرخّصة لتتعاظم حصيلة السلطان من الضرائب . الدليل أن أماكن الفجور الرسمية لم تكن تحفل بتناول الحشيش ، أو بتعبير المقريزى ( الحشيشة المغيرة للعقل ). كانت هناك منتزهات على النيل لتناول الحشيش وممارسة الزنا والشذوذ . وقد أنتشر الحشيش والشذوذ بالتصوف الذى جعلهما دينا ، وقد شرحنا هذا في موسوعة التصوف المملوكى في الجزء الخاص بأثر التصوف في نشر الانحلال الخلقى في مصر المملوكية ، ومقالاته منشورة هنا . المماليك ـ على أي حال ـ شأن العسكر المصرى الحاكم الآن ــ يتظاهرون بالفضيلة وهم أساس الفساد والخراب . بدليل الخبر التالى :
مظالم أكبر أكابر المجرمين
يقول المقريزى:
1 ـ ( وحدث في هذا الشهر: ثلاث مظالم، إحداها: أنه كان قد تقرر في العام الماضي مع الفاضي كريم الدين عبد الكريم بن بركة ناظر الخاص أن تعفي تجار الشام ومشهد علي والكوفة والبصرة، الذين يتبضعون من متاجر الهند، من القدوم من مكة إلى القاهرة بضاعتهم، وأن يقوموا عن كل جمل بثلاثة دنانير ونصف، فانتقض ذلك في الموسم بمكة، وألزم سائر التجار أن يحضروا من مكة ببضائعهم صحبة الركب، وتتبعوا، بحيث لم يقدر أحد منهم أن يتأخر بمكة ولا يتوجه إلى الشام، بل حضروا بأجمعهم، وأقيمت عليهم الأعوان في طول الطريق بتفقدهم وبعد أجمالهم، حتى قدموا صحبة الحاج فحل بهم من البلاء ما لا يوصف)
أي رجع السلطان في وعده وألزم الحجاج ومنهم التجار بالمجىء مقبوضا عليهم الى القاهرة ومعهم البضائع التي اشتروها ليدفعوا مكوسها أو جماركها .
2 ـ ( ثانيها: أنه منع بالإسكندرية أن ينصب قبان لوزن بضاعة أحد من التجار، فامتنع الكافة من بيع البهار على الفرنج، وألزم الفرنج بشراء فلفل السلطان المحضر من جدة بمائة وعشرين ديناراً الحمل، وكانت قيمته مع التجار ثمانين ديناراً، فأخذ الفرنج منه ما وصلت قدرة مباشري السلطان أن يبيعوه عليهم، وامتنعوا من أخذ بقيته، ورجعوا بكثير مما حملوه من بضائعهم إلى بلادهم، فشمل التجار وغيرهم من ذلك ضرر كبير. ). طبقا لسياسته في إحتكار التجارة الشرقية وفرضها على التجار الأوربيين فقد ألزمهم برسباى بشراء البهارات منه فقط ، واستولى السلطان على ما لدى التجار من الفلفل الأسود والبهارات الهندية ، وباعها للأوربيين بالسعر الذى يحدده . وقلنا سابقا إن هذا الجشع في إحتكار التجارة الشرقية وحظر حج الأوربيين الى القدس واحتلال قبرص جعل الأسبان يتجهون الى الوصول للهند غربا ، فكانت الكشوف الجغرافية .
3 ـ ( ثالثها: أنه بلغ السلطان أن التجار الواردة إلى القاهرة من الموصل وحماة ودمشق تربح فيما تجلبه من الثياب المنسوجة من القطن مالاً كثيراً فألزم السماسرة أن لا تبيع لأحد من هذا الصنف شيئاً، بل يكون بأجمعه متجراً للسلطان، فأخذ تاجر ومعه ثمانون ثوباً، وأخذ آخر ومعه عشرة ثياب، وقومت، بأقل من ثمنها في بلادها، وكتب إلى بلاد الشام بأن لا تمكن التجار من حمل شيء من ذلك إلى القاهرة، فصادف قدوم قفل من الموصل إلى مدينة حماة بثياب موصلية، فرسم عليهم حتى رحلوا من حماة بما معهم وعبروا إلى البرية عائدين إلى بلادهم. واحتج عليهم بأنهم ردوهم لأن طول الثياب نقص عن ثلاثين ذراعاً كل ثوب، وأنه لا يمكن أحد منهم أن يبيع ثوباً حتى يكون ثلاثين ذراعاً في عرض ذراع ونصف، وأن لا يكون فيها ثوب يغلو ثمنه، فحل بالناس بلاء لا يمكن حكايته، وخربت الموصل بعد ذلك، وبطل عمل الثياب بها، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.). إحتكار السلطان وصل الى المنسوجات فتسبّب في خراب الموصل التابعة له .
4 ـ ( وقدم مع ذلك الحمل من جزيرة قبرس وفيه ثياب صوف، فحملت إلى دمشق، وهي ثمانمائة ثوب، فطرح الثوب بثمانية عشر ديناراً، ويحتاج إلى دينار آخر كلفه، فأبيع أحسنها باثني عشر ديناراً، فخسر كل ثوب سبعة دنانير، وطرح بها أيضاً السكر المعمول بالأغوار على الناس، فلم يكد يسلم أحد من الأخذ منه، ولله عاقبة الأمور.). برسباى يفرض على الناس الشراء بالسعر الذى يحدده .
5 ـ وفى كل ذلك يقول المقريزى متألما : ( وحدث في هذا الشهر: ثلاث مظالم، ) ( وأقيمت عليهم الأعوان في طول الطريق بتفقدهم وبعد أجمالهم، حتى قدموا صحبة الحاج فحل بهم من البلاء ما لا يوصف)( فشمل التجار وغيرهم من ذلك ضرر كبير) ( فحلّ بالناس بلاء لا يمكن حكايته، وخربت الموصل بعد ذلك، وبطل عمل الثياب بها )( فلم يكد يسلم أحد من الأخذ منه، ولله عاقبة الأمور. ). ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
الحج
( وفي ثاني عشرينه: قدم ركب الحاج الأول صحبة الأمير أينال الششماني، وقدم من الغد محمل الحاج ببقيتهم . )

شهر صفر، أوله الثلاثاء:
إلزام الناس بالشراء بسعر مُضاعف
( فيه جبيت أثمان البضائع بالعسف )
وظائف أكابر المجرمين
( وفي حادي عشرينه: كتب على يد نجاب بحضور الطواشي فيروز الساقي من المدينة النبوية ). نفاه السلطان ثم أسرع باعادته . ولا يعرف المقريزى لماذا نفاه ولماذا أعاده .
مصادرة خيول الأعراب
( وفي رابع عشرينه: خرجت تجريدة لأخذ خيول أهل الغربية والبحيرة . )
الخيول في هذا الوقت كانت ضمن أجهزة القتال ، لذا كان يحرص المماليك على مصادرة ما لدى الأعراب من الخيول . الفلاحون المصريون لا شأن لهم بالخيول.

شهر ربيع الأول، أوله الخميس:
المماليك الجلبان ينهبون المباشرين ( كبار الموظفين )
( فيه ترك طائفة كبيرة من مماليك السلطان الجلب الذين يسكنون الطباق بقلعة الجبل إلى بيت الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج أستادار، وتسوروا الجدران حتى دخلوه فنهبوا ما فيه، وكان غائباً عنه، وعبثوا في طريقهم بالناس، فأخذوا ما قدروا على أخذه، ثم مضوا إلى بيت ناظر الديوان المفرد، ثم إلى بيت الوزير، فأدركهم مقدم المماليك والزمام، وتلطفا بهم، حتى انصرفوا عن بيت الوزير وسبب ذلك تأخر جوامكهم بالديوان المفرد لشهرين، فلما شكوا ذلك إلى السلطان قال لهم امضوا إلى المباشرين. فنزلوا وكان يوماً شنعاً . ) .
تعليق
1 ـ فساد السلطان برسباى : ( أكبر أكابر المجرمين ) وصل الى تحريض مماليكه الجلبان على سلب ونهب الاستادار الذى يجلب له الأموال بالعسف والجور. برسباى يعلم أن الاستادار يختلس مما يجمعه، وانه يُخفى اختلاساته . تأخرت ( جوامك / مرتبات ) مماليكه الجلبان شهرين ، فسلّطهم برسباى بالغارة على بيت الاستادار ونهبه ، ولأن المماليك الجلبان متخصصون في السلب والنهب فقد وجدوها فرصة للهجوم أيضا على منزل ناظر ( الديوان المفرد ) الخاص بإدارة وتنمية أموال السلطان ، وهو من أكابر الحرامية أيضا، وفى الطريق الى منزل ( ناظر الديوان ) سلبوا الناس في الشوارع ، أو كما يقول المقريزى : ( وعبثوا في طريقهم بالناس، فأخذوا ما قدروا على أخذه )، ومفهوم من هذا التعبير أن الناس رجالا ونساءا وصبيانا كانوا يفرُّون منهم ، ومن أدركوه سلبوا ما معه . وخوف ( الانفلات الأمني ) أرسل اليهم السلطان من أعادهم . من أسف أننا لا نعلم تفصيلات ما حدث للضحايا المستضعفين،المقريزى يكتفى بقوله:( وكان يوماً شنعاً . ).! سنعيش فيما بعدُ مع وحشية المماليك الجلبان ، والتي أصبحت معلوما من الدين السُنّى بالضرورة .!
2 ـ كارثة أن يكون برسباى سلطان الإسلام ، وأن يكون هؤلاء مسلمين ..!!
فوضى غشّ العُملة
( وفي خامسه: نودي بمنع الناس من المعاملة بالدراهم البندقية والدراهم اللنكية، فامتنعوا وتصدى جماعة لأخذها بأقل من قيمتها، لعلمهم بأن الدولة لا يمضي لها أمر ولا تثبت على حال، فخسر طوائف من الناس جملة، وربح آخرون . ).
تعليق
( الدراهم اللنكية ) اى التي أصدرها من قبل تيمورلنك ، وانتشرت في العراق وشرق العراق ، ووصلت الى الدولة المملوكية . والقرارات في موضوع العملة تتوالى لتشبع شهوة برسباى في السلب ، وأحيانا لا يتم العمل بها ، ولكن المهم أن تلاعب السلطان بالعُملة كان يتمتع بمباركة قُضاة القُضاة ، أي كان من المعلوم من الدين السُّنّى بالضرورة .!.
صراع أكابر المجرمين
( وفي حادي عشره: قبض على الأمير زين الدين عبد القادر أستادار، وضرب، ثم خلع عليه من الغد، واستقر على عادته . ). هذا خبر مُضحك ، وهو معتاد ومعروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).! ولكنه يكشف عن تعامل السُّلطة العسكرية مع خدمها من المدنيين . من السهل جدا أن يعزلهم السلطان ويسجنهم ويضربهم ، ثم يعيدهم الى وظائفهم . لا فارق هنا بين مدنيين في الوظائف الدينية كالقضاة أو الوظائف الديوانية كالاستادار . هو يعرف أنهم ظالمون مرتشون ولصوص ، ويعتبر ما يسرقون حقا ّله ، وهو السارق الأكبر ، لذا يستبيح عزلهم وضربه حتى يعترفوا ببعض ما سرقوه وخبأوه ، فيصادره . وبعدها يعفو عنهم ، ويعودون لمواصلة السرقة لسلطانهم ولأنفسهم . طاحونة تدور بالظلم .!.
ولا تزال تدور في مصر التي يحكمها العسكر المصري. إنها ( مصر المحروسة بالحرامية ).!!

شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة :
ارتفاع الأسعار بسبب الاحتكار
1 ـ ( أهل وقد ارتفع سعر القمح من أربعمائة درهم الأردب إلى أربعمائة وخمسين والشعير من مائة وثمانين درهماً الأردب إلى ثلاثمائة. والفول بنحو ذلك، وأبيعت البطة من الدقيق بمائة وأربعين درهماً، هذا والبهائم مرتبطة على البرسيم الأخضر. ومن العادة انحطاط أسعار الغلال في مثل هذا الوقت، غير أن الاحتكار على الغلال متزايد، والطمع في غلاء أثمانها كثير. ). المقريزى ينقل الخبر عن الارتفاع غير المبرر للأسعار ، ثم يوجز السبب : ( ومن العادة انحطاط أسعار الغلال في مثل هذا الوقت، غير أن الاحتكار على الغلال متزايد، والطمع في غلاء أثمانها كثير). ومفهوم أن المُحتكر هو السلطان ، وهو السبب في الغلاء .
2 ـ وتزايد الغلاء في نفس الشهر: ( ربيع الآخر ) ، يقول المقريزى : ( وفيه ارتفع القمح إلى خمسمائة درهم الأردب، وأبيع الأرز بألف درهم الأردب، بعد خمسمائة. )
3 ـ هبوط السعر :( وفي هذه الأيام: انحل سعر الغلال وانحط القمح عن خمسمائة درهم الأردب،)
فوضى العُملة
( وفي ثامنه: نودي أن تكون الفلوس بثمانية عشر درهماً الرطل، وقد كان الناس تضرروا من قلة وجود الفلوس، فإن التجار أكثرت من حملها إلى بلاد الهند وغيرها لرخصها بالنسبة إلى سعر النحاس الأحمر الذي لم يضرب . ).
نزهة السلطان
1 ـ ( وفي يوم السبت سادس عشره: وكب السلطان بثياب جلوسه ونزل من قلعة الجبل إلى بيت القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، فأقام عنده قليلا، وعاد إلى القلعة، فحمل إليه عبد الباسط من الغد ألفي دينار، وخيلاً وبغالاً . )
تعليق
قلنا إن القاضي عبد الباسط ( ناظر الجيش ) كان الأقل فسادا بين أكابر المجرمين ، ومن متابعة أخباره نفهم أن السلطان برسباى كان يثق فيه ، ولكن ليس الى درجة كافية ، بدليل أنه يقوم بمصادرته بكثير من اللُّطف ، يزوره في بيته ، ويفهم القاضي المحترم الهدف من الزيارة فيرسل ب ( الهدايا ) للسلطان الجشع الذى لا يشبع . القاضي المحترم لم يرث أمواله عن أبيه ، وإنما هي ــ كالعادة ــ من السرقات ، وهو يعطى جزءا منها للسلطان على شكل ( هدايا ) .
2 ـ ( وفي هذا الشهر: تكرر ركوب السلطان مراراً )
جشع إبن حجر قاضى القضاة ( أمير المؤمنين في الحديث )
( وفي سادس عشرينه: تقدم أمر قاضي القضاة شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر إلى الشهود الجالسين بالحوانيت للتكسب بتحمل الشهادات بين الناس أن لا يكتبوا صداق امرأة إلا بأحد النقدين، الدراهم الفضة أو الدنانير الذهب. وأدركناهم يكتبون الصداقات من الذهب والفضة التي هي الدراهم النقرة. فلما راجت الفلوس رسم قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني- رحمه الله تعالى- في سنة ست وثمانمائة أن لا تكتب صداقات النساء، وأجاير الدور، وسجلات الأراضي، وعهد الرقيق من العبيد والإماء، ومساطير الديون، إلا من الفلوس الجدد معاملة القاهرة، فاستمر ذلك إلى الآن. ).
تعليق
قاضى القضاة الشافعى هو كبير قضاة القضاة . قاضى القضاة الشافعى السابق ( جلال الدين البلقينى ) أباح عام 806 ( وكان عاما من الشدائد ) أن يدفع الناس رسوما بالفلوس ، ( النحاسية ، غير الفضية والذهبية ) . وكانت العادة وجود حوانيت ( دكاكين ) للشهود الذين يقومون رسميا بتسجيل العقود مقابل رسوم مالية ( مثل ختم النسر الآن والشهر العقارى ). في هذا الشهر من هذا العام 832 أمر ابن حجر أن يدفع الناس بالذهب أو الفضة دون مراعاة لأحوال الضّنك التي يعيشها الناس.
عودة إحتكار السُّكر
( وفي هذا الشهر: أعيد الحجر على السكر، ورسم أن لا يشتريه أحد ولا يبيعه إلا السلطان، ثم بطل ذلك . )
2 ـ ( وفي هذا الشهر: كشف عن أمر الديوان المفرد واعتبر متحصله في السنة ومصروفه، فإذا هو يعجز مبلغ ستين ألف دينار عن جميع ما يرد إليه من خراج النواحي، والحمامات، والمستأجرات، ورماية البضائع، وغرامات البلاد، فعين له مبلغ ثلاثين ألف دينار برسم المتجر السلطاني وأول ما بدأ به من ذلك تحكير صنف السكر، فلا يدولب زراعة القصب واعتصاره وعمل القند سكر ثم بيع السكر إلا السلطان، وأن توزع الثلاثين ألف الأخرى على الكشاف والولاة، ثم أهمل ولم يتم، ولله الحمد.).
تعليق
بسبب السرقة حدث عجز في الديوان المفرد . وكان الحل باحتكار السكر والغرامات وأنواع من الجباية وأن يقوم الكُشّاف ( حكام البلاد ) بسلب الفلاحين لعلاج العجز في خزينة السلطان الشخصية ( الديوان المفرد ). ولم يتمّ الأمر. والمقريزى يعبّر عن فرحته بقوله : ( ولم يتم، ولله الحمد.). ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
هدم بيت أوقاف قديم وبيع أنقاضه
( وفي هذا الشهر: هدم علو بيت الأمير منجك بخط رأس سويقة منعم، قريباً من مدرسة السلطان حسن، وأبيعت أنقاضه لرجل بألفي دينار، فباعها هو في الناس، وكان من جملة أوقاف صهريج منجك، وسبب هدمه أن الأمراء كانت تسكنه، ولا تعطي له أجره، فإذا تهدم فيه موضع ألزموا مباشري الوقف بعمارته، ورأى الناس أن هذا فأل رديء فإنه قيل وقع الخراب في بيوت الأمراء . ).
تحريم ركوب الخيل على المدنيين
( وفي هذا الشهر: ألزم دلالو الخيل أن لا يبيعوا فرساً لمتعمم ولا لجندي من أولاد الناس، ثم بطل ذلك . ) . ( المتعمم ) يعنى الفقهاء من القضاة والعاملين في الوظائف الدينية ( مشيخة الخوانق والمساجد ..الخ ). ( أولاد الناس ) هم ذرية المماليك الذين ولدوا أحرارا لم يمسّهم الرق . وكونهم مولودين أحرارا لم يسمهم الرقُّ جعلهم أقل درجة من المماليك الذين يؤتى بهم رقيقا . وكان بعض ( أولاد الناس ) يحترف الجندية ، ونبغ منهم مؤرخون مثل أبى المحاسن ابن تغرى بردى وابن إياس .
مصادرة الخيول بحجة الوباء
( وفي يوم السبت سلخه: كثر الإرجاف بأخذ خيول الناس من مرابطها على البرسيم بالنواحي، فسارع كل أحد إلى أخذ خيله، وقودها من الربيع إلى الاصطبلات فمنهم من نجا بها ومنهم من عوجل، فأخذت خيله وسلمت إلى أمير أخور، وسبب ذلك أن الخيول شنع هلاكها، فنفق للسلطان ومماليكه نحو الألفي فرس، ثم وقف جماعة للسلطان فأفرج لهم عن خيولهم فأخذوها . ). انتهز برسباى فرصة وباء لحق بالخيول فقام بمصادرتها .
صراع أكابر المجرمين من ( المماليك والصليبيين )
خائن من ( دار السلام ) يتطوع لمساعدة الفرنجة في ( دار الحرب )
( وفيه ( ربيع الاخر 832 )عثر على بعض تجار العجم المنتمين إلى الإسلام وقد توجه من عند الحطي ملك الحبشة إلى الفرنج يحثهم على القيام معه لإزالة دين الإسلام وأهله، وإقامة الملة العيسوية، فإنه قد عزم على أن يسير من بلاد الحبشة في البر بعساكره، فتلاقوه بجموعكم في البحر إلى سواحل بلاد المسلمين، فسلك هذا التاجر الفاجر في مسيره من الحبشة البرية حتى صار من وراء الواحات إلى وراء المغرب، وركب منها البحر إلى بلاد الفرنج، ودعاهم للثورة مع الحطي على إزالة ملة الإسلام وأهلها، واستعمل بتلك البلاد عدة ثياب مذهبة باسم الحطي، ورقمها بالصلبان، فإنه شعارهم، وقدم من بلاد الفرنج في البحر إلى الإسكندرية ومعه الثياب المذكورة وراهبان من رهبان الحبشة، فنم عليه بعض عبيده، فأحيط بمركبه، وحمل هو والراهبان وجميع ما معه إلى السلطان. ).
تعليق :
1 ـ كان حُلم الصليبيين في الوصول الى ملك الحبشة ( الحطى ) للتحالف معه ضد المماليك أكبر قوة . تطوّع تاجر إيرانى ( يبدو أنه شيعى ) بالذهاب الى ملك الحبشة وعمل مبعوثا من عنده الى الصليبيين في شبه جزيرة ايبيريا ( اسبانيا والبرتغال ) لكى يتعاون الفريقان في حرب الدولة المملوكية صاحبة السيطرة على الحجاز. وصل هذا التاجر العجمى الى الصليبيين ، وجاء الى الإسكندرية ، وأفشى سرّه بعض عبيده ، فقبض عليه المماليك .
2 ـ المقريزى الذى يرى في برسباى سلطان الإسلام يعبر عن كراهيته لهذا الفارسى الخائن بقوله :( وفيه عثر على بعض تجار العجم المنتمين إلى الإسلام ) ( فسلك هذا التاجر الفاجر في مسيره من الحبشة البرية حتى.. ) . وفق ثقافة عصره نرى المقريزى مؤمنا بتقسيم العالم الى ( دار السلام والإسلام ودار الحرب ) يظهر هذا في قوله ( وقد توجه من عند الحطي ملك الحبشة إلى الفرنج يحثهم على القيام معه لإزالة دين الإسلام وأهله، وإقامة الملة العيسوية، فإنه قد عزم على أن يسير من بلاد الحبشة في البر بعساكره، فتلاقوه بجموعكم في البحر إلى سواحل بلاد المسلمين..).. لم يفهم المقريزى إنه صراع بين أكابر المجرمين المحمديين وأكابر المجرمين المسيحيين الصليبيين وإن كان يحمل لافتة الدين.
شهر جمادى الأولى، أوله الأحد:
من أجل المكوس ( الجمارك )
( في ثامنه: برز ركب يريد المسير إلى مكة المشرفة، صحبة سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة، فيه جماعة كبيرة . )
محاكمة الخائن الايرانى
( وفي رابع عشرينه: استدعى قضاة القضاة للنظر في أمر نور الدين علي بن الخواجا، التاجر التوريزي المتوجه برسالة الحطي ملك الحبشة إلى الفرنج، فاجتمعوا بين يدي السلطان، وندب قاضي القضاة شمس الدين محمد البساطي المالكي للكشف عن أمره، وإمضاء حكم الله فيه فنقله من سجن السلطان إلى سجنه، فقامت عليه بينة بما أوجب عنده إراقة دمه، فشهر في يوم الأربعاء خامس عشرينه على جمل بمصر وبولاق، ونودي عليه هذا جزاء من يجلب السلاح إلى بلاد العدو ويلعب بالدينين. ثم أقعد تحت شباك المدرسة الصالحية بين القصرين، وضربت عنقه. وكان يوماً مشهوداً، نعوذ بالله من سوء العاقبة.).
تعليق :
1 ـ عرف المقريزى إسم هذا الخائن ، ولم يكن يعرفه من قبل إذ ذكر وصفه في أخبار الشهر الماضى:( وفيه عثر على بعض تجار العجم المنتمين إلى الإسلام ).. وقد اعتبرها برسباى قضية شرعية ، أوكل الحكم عليه لقضاة القضاء ، وأُحيلت الى قاضى القضاة المالكى ، وأُحيل المتهم من سجن القلعة العسكرى الخاص بالجرائم السياسية الى السجن المدنى التابع للقاضي المالكى . وحكم القاضي المالكى بإعدامه ، وبعد ( تجريسه) و( تشهيره ) في الشوارع، كان قطع رأسه علنا وسط جمهور غفير. المقريزى يعلق : ( نعوذ بالله من سوء العاقبة.)..!
سلب الفلاحين
( وفي هذا الشهر: سار الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج أستادار، إلى النواحي، ففرض على كل بلد مالاً سماه الضيافة، ليستعين بذلك على عجز الديوان المفرد لنفقة المماليك السلطانية فجبي مالاً كثيراً، فإنه كان يأخذ من البلد مائة دينار، ويأخذ من أخرى دون ذلك، على حسب ما يراه، فاختل حال الفلاحين خللاً يظهر أثره فيما بعد، والله المستعان . ) .
تعليق
هذا الاستادار يتجوّل في الريف يسلب وينهب للسلطان ليعالج النقص في خزينة السلطان . الاستادار يتفنّن في السلب والنهب فيخترع ضريبة على كل بلد سمّاها ( الضيافة )، وهو صاحب الحق في تحديدها ، واسرف في جبايتها الى درجة قول المقريزى ( فاختل حال الفلاحين خللاً يظهر أثره فيما بعد، والله المستعان . ) . نتذكر أن هذا الاستادار قد عزله برسباى وسجنه وضربه ثم أعاده للخدمة . وهو الآن يقوم بمهمته للسلطان ، وهذا السلطان عند المقريزى هو ( سلطان الإسلام ).ّ ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
شهر جمادى الآخرة، أوله الاثنين:
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( فيه استدعى شيخ الشيوخ شهاب الدين أحمد بن الصلاح- المعروف بابن المحمرة- شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء إلى مجلس السلطان، وعرض عليه قضاء القضاة بدمشق فقبله، فخلع عليه عوضاً عن بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجي. وكان السلطان قد استدعى قاضي القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وسأله بذلك فلم يقبل، وكان منذ صرف عن القضاء ملازماً لداره، وهو مقبل على الميعاد في كل يوم جمعة بمدرسة أبيه، وعلى التدريس والإفتاء. ).
تعليق :
1 ـ في شهر ذي القعدة عام 830 قام برسباى بتعيين فتى صغير في منصب قاض القضاة في دمشق ، وهو بهاء الدين ابن حجى ، بعد مقتل أبيه قاضى القضاة الفاسد نجم الدين ابن حجى . وقد اشترى الفتى منصب أبيه بمال كبير على حد قول المقريزى . ثم عزل برسباى هذا القاضي ( المراهق ) وعيّن بدله ابن المحمرة شيخ خانقاة سعيد السعداء ، والتي كان قد أنشأها صلاح الدين الأيوبى لنشر التصوف السُنّى بديلا عن التشيع الفاطمى . وقد رفض الشيخ صالح البلقينى هذا المنصب في دمشق مكتفيا بمدرسة أبيه ( شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى ) وهى في القاهرة ، ويبدو أنه كان يريد منصب قاضى القضاة الشافعى في القاهرة وليس في دمشق ، وهذا ما تحقق له فيما بعد . يعنينا أن برسباى بعد أن أخذ رشوة من الصبى ابن حجى وولاه قضاء القضاة في دمشق عزله وعيّن شيخا صوفيا مكانه. ولا نتصور أن هذا التعيين كان مجّانا ، بل لا بد فيه من دفع مال .
2 ـ نلاحظ تلقيب ( سراج الدين البلقينى ) ب ( شيخ الإسلام ) ، وهو لا يختلف عن بقية قُضاة القضاة المفسدين خدم المماليك . هذا يذكّرنا بعسكر مصر الحالي في تلقيب ( شيخ الأزهر) بشيخ الإسلام ، بل تطرفوا فجعلوه (الإمام الأكبر) ، وهذا مُضحك ومُؤسف ، فإذا كان ( فلان ابن فلانة ) هو ( الإمام الأكبر ) فما هو موقع محمد رسول الله عليه السلام ؟ هل يكون شيخ الأزهر ( الامام الأكبر ) الإمام الأكبر للرسول محمد عليه السلام ؟ وهل يكون الرسول هو ( الامام الأصغر ). لذا من الأفضل الرجوع للصواب والواقعية ، وهى إنه ( دين أرضى ) و ( دين ملّاكى ) يملكه أصحابه ، ويزعمون ما يشاءون ، ومنه أن ( الغزالى حُجّة الإسلام ) كما لو أن الإسلام بقى بدون حُجّة حتى ظهور الغزالى المتوفى 505 هجرية ، ومنها أن ( الأزهر ) هو ( منارة الإسلام ) كما لو أن الإسلام كان مُظلما من عهد النبى الى أن قام الفاطميون بتأسيس الأزهر. المضحك أنهم يجعلون فلانا مثل البلقينى والشرقاى ( شيخ الإسلام ) ثم يجعلون شيخ الأزهر ( شيخ الإسلام ) مع إنه لا شيخ في الإسلام ، وأن مصطلح ( شيخ ) في القرآن الكريم لا صلة له بالدين ، بل بمرحلة عُمرية ، نقرأ في القرآن الكريم : ( قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً ) (72) هود ) ( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ) (78) يوسف ) ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) القصص ). لا ضير أن يزعموا في دينهم الأرضى الملّاكى ما يشاء لهم شيطانهم . الضير أن يُقحموا الإسلام العظيم ويجعلونه ستارا لفجورهم وجرائمهم . لذا فهم فعلا ( أكابر المجرمين ) ، يظلمون رب الناس ويظلمون الناس.!
2 ـ ( وفي يوم الثلاثاء ثانيه: خلع على جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي، واستقر في نظر الجيش بدمشق، عوضاً عن السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان. وكان الجمال منذ عزل عن كتابة السر مقيماً بالقاهرة . )
3 ـ ( وفيه كتب بانتقال شهاب الدين أحمد بن الكشك من قضاء الحنفية بدمشق إلى قضاء طرابلس، عوضاً عن شمس الدين محمد الصفدي، ثم بطل ذلك، واستقر الصفدي عوضاً عن ابن الكشك في قضاء الحنفية بدمشق . )
4 ـ ( وفي ثامن عشره: توجه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن المحمرة، والقاضي جمال الدين يوسف بن الصفي إلى محل ولايتهما بدمشق، وعين أحد الخاصكية مسفراً معهما، وأن يحضر الصفدي من طرابلس إلى قضاء دمشق، على أن يأخذ من الثلاثة ألف وثلاثمائة دينار ذهباً، يخص ابن المحمرة منها ثلاثمائة دينار، وتبقى الألف نصفين على ابن الصفي والصفدي، ولم تجر العادة بأن يخرج مسفر مع متعمم. ) . سافر ابن المحمرة وابن الصفى الى دمشق ليتوليا منصبهما ، وسافر معهما ( ضابط عسكرى مملوكى / خاصكى ). وهذا لزوم دفع المعلوم . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
هبوط الأسعار
( وفي هذا الشهر: نزل القمح إلى مائتين وثمانين درهماً الأردب، بعد خمسمائة. وأبيع بمائة وثلاثين درهماً الأردب بعد أن كان بثلاثمائة، وأبيعت البطة من الدقيق بتسعين درهماً بعد ما بلغت مائة وخمسين درهماً . )
العبيد السود في القاهرة
( وفيه تتبع والي القاهرة العبيد السود، وقبض على عدة منهم، لكثرة فسادهم، ونفاهم من القاهرة . ). والى القاهرة ( مدير الأمن ) يتتبع العبيد السود فيها . الطبقة الوسطى في القاهرة المملوكية كانت تشترى العبيد السود نوعا من الوجاهة وطلبا للحماية ، وكان يؤتى بهم من السودان والحبشة ( اثيوبيا ) والصومال. إستكثر عليهم المماليك هذا فاتهموا العبيد بالفساد ونفوهم من القاهرة ، كما لو أن المماليك كانوا ملائكة أطهارا لا يأتيهم الفساد من بين أيديهم ولا من خلفهم .!
مصادرة الشعير
( وفيه رسم بأخذ الشعير من النواحي لعجز الديوان عن عليق خيول المماليك السلطانية، فأخذ من شعير الناس ما قدر عليه . ). بسبب السرقة عجز الديوان المفرد عن توفير الشعير للخيول السلطانية ، وكان الحل ـ كالعادة ــ في مصادرة شعير الفلاحين . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
شهر رجب، أوله الأربعاء:
هبوط الأسعار
( أهل والقمح من مائتين وأربعين درهماً الأردب إلى ما دونها، والشعير بمائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دونها، والذهب عزيز الوجود، وقد بلغ الدينار الأشرفي إلى مائتين وخمسين درهماً، ورخص اللحم حتى أبيع لحم الضأن بستة الرطل ولحم البقر بأربعة دراهم الرطل .)
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي ثامنه: خلع على جلال الدين أحمد بن بدر الدين محمد بن مزهر بكتابة السر، عوضاً عن أبيه. وله من العمر نحو خمس عشرة سنة، وخلع على شرف الدين أبي بكر ابن سليمان الأشقر الحلبي، واستقر نائب كاتب السر، وألزم ابن مزهر بحمل تسعين ألف دينار من تركة أبيه، فشرع في بيع موجوده وهو أصناف كثيرة ما بين بضائع للمتجر، وكتب علمية، وثياب بدنه وخيول وجمال ورقيق، وحمل ما ألزم به. )
تعليق
برسباى يطبق مصادرة تركات العاملين لديه ، وهى من المعلوم من الدين السّنى بالضرورة ، وأشهر من طبّقها كان السلطان المتدين ( جدا ) الأشرف قايتياى ، وفصّلنا هذا في كتابنا عن تطبيق الشريعة السنية في عهده . هذا الخبر عن تعيين صبى كاتبا للسّر لدى السلطان برسباى ـ بعد وفاة أب الصبى ، وهو ( ابن مزهر ) جاء الأمر بالزام الصبى بأن يدفع 90 ألف دينار من تركة أبيه . ولأن الصبى لم يكن معه ( كاش / نقود ) فقد أخذ يبيع ممتلكات أبيه . وهذا معروف ومألوف، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
2 ـ ( وفي ثامنه: أيضاً خلع على شمس الدين محمد بن يوسف بن صالح الحلاوي الدمشقي، واستقر في وكالة بيت المال، عوضاً عن نور الدين علي الصفدي وكان قد وليها في الأيام الناصريه فرج، مع نظر الكسوة . )
3 ـ ( وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام، وصحبته القاضي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب السر بدمشق، فحمل النائب تقدمته في ثالث عشرينه، وفيها مبلغ خمسة عشر ألف دينار، وخيل وثياب حرير، وفرو سمور، وغيره، فأخذ السلطان الذهب، وأعاد ما عداه إعانة له على تقادمه للأمراء. وقدم الكمال ثياب حرير وفرو سمور بنحو خمسمائة دينار . ). الرشاوى من كبار المجرمين الى أكابر المجرمين المماليك يسمونها ( تقادم ـ تقدمة ) يعنى تقديم رشاوى. وهذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
الحج والمماليك الجلبان
( وفي تاسعه: أدير محمل الحج، فكان فيه من نهب المماليك السلطانية لمآكل الباعة، والتعرض للنساء والشباب في ليالي الزينة شناعات، اقتضت تجمع السودان وقتالهم المماليك عدة مرار، فقتل بينهم رجلان . )
تعليق
مهمة المماليك هي حماية الحجاج ، ولكن المماليك الجلبان قاموا بالعكس بالسلب والنهب واغتصاب النساء والصبيان . وما لبث أن أصبح هذا معروفا ومألوفا ضمن ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).! وقام العبيد بالمقاومة دفاعا عن الناس ، وهذا خروج عن الشريعة السنية والمعلوم فيها بالضرورة . لذا كانت السُّلطة المملوكية تأخذ موقف العداء من العبيد السُّود .
جمارك واحتكار
( وفي هذه الأيام: قدم عدة تجار من الموصل، فأخذ منهم ما معهم من الثياب الموصلية، وقومت بما لم يرضيهم، ورسم أن يكون صنف البعلبكي والعاتكي والموصلي للسلطان، لا يشتريه ممن يجلبه إلى القاهرة ويبيعه في الناس إلا هو. )
احتكار
1 ـ ( وفيه حكر بيع الحطب من بلاد الصعيد، وجعل من أصناف المتجر السلطاني، وحكر بيع غلات النواحي بأسرها، وجعلت أيضاً من جملة المتجر السلطاني ثم بطل ذلك كله، ولله الحمد. ) . وصل الاحتكار للحطب .!
2 ـ (وفيه طرحت بضائع من المتجر السلطاني على الناس، ولم يعف أحد من التجار عن أخذها فارتفعت الغلة من مائتين وعشرين درهماً الأردب، إلى ثلاثمائة. ). إلزام الناس بالشراء من ( المتجر السلطانى ) بالسعر الذى يحدده السلطان . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
3 ـ لمجرد العظة : قال جل وعلا : ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) المطففين ). ودائما : صدق الله العظيم .!

شهر شعبان المكرم، أوله الخميس:
( في يوم الجمعة ثانيه: نزل من مماليك السلطان سكان الطباق بالقلعة جماعة إلى بيت الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ، ونهبوه لتأخر لحمهم المرتب لهم كل يوم. ). هذا النهب جاء تنفيذا لتوجيهات ( السيد الرئيس ) أقصد السلطان برسباى . ولكن المهم إن هذا معروف ومألوف ، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفيه توجه نائب الشام ومن معه إلى دمشق على حالهم، بعد ما ألزم النائب بحمل خمسين ألف دينار، حمل منها خمسة وعشرين، ووعد أن يرسل من دمشق خمسة وعشرين . ). دفع نصف الرشوة والتزم بدفع النصف الباقى ، ورجع لمنصبه عازما على أن يسلب من الناس أضعاف ما دفع وما سيدفع . هذا معروف ومألوف، أي إنه عندهم من ( المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة ).!
2 ـ ( وفي ثالثه: خلع على نظام الدين عمر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح واستقر في قضاء الحنابلة بدمشق. وكان قد قدم القاهرة، وعمل بالجامع الأزهر عدة مواعيد، دلت على حفظه وتفننه . ).
تعليق
1 ـ هذا الفقيه ابن مفلح جاء للقاهرة من دمشق ، وعقد ندوات أظهر فيها مقدرته على الحفظ فكان هذا مؤهلا له ـ بالإضافة الى دفع المال المقرر ـ لكى يعود الى دمشق قاضيا للحنبلية
2 ـ في موسوعة التصوف المملوكى جزء عن أثر التصوف العلمى والتعليمى ، شرحنا فيه إتّساع الحركة التعليمية ونضوب الحركة العلمية بتحريم الاجتهاد ، إذ تحول الفقهاء الأوائل في العصر العباسى الى آلهة في العصر المملوكى ، واصبحت مناقشة أحاديثهم كفرا . وشهد العصر المملوكى إعادة نسخ التراث العباسى بعد تدمير بغداد ومكتبتها . وكانت فرصة للبناء على المنتج الثقافي العباسى ونقده والبناء فوقه ، ولكن سيطر التصوف السُّنّى على العصر المملوكى ، وفرض تقديس الأولياء والخرافات فعكف ( تلاميذ ) العصر المملوكى على التراث العباسى حفظا وتقديسا ، ودارت الحركة ( العلمية ) على شرح ما سبق وتلخيص الشرح وتحويله الى متون ، واصبح معيار النبوغ في مقدار ما يحفظه الفقيه من أحاديث البخارى ، وكانت تجرى مسابقات في الحفظ ، وترتّب على تسيّد التصوف الايمان بخرافات الكرامات والعلم اللدنى واحتقار ( العلم الظاهر )، فكان الجهلة من شيوخ التصوف يفخرون على الفقهاء بعلمهم اللدنى وكراماتهم المزعومة، ومن المُضحكات المُبكيات أن شيوخ التصوف كانوا يهددون من يُنكر عليهم من الفقهاء ب ( سلب ) أي جعلهم ينسون ما يحفظون من العلم ، وكان الفقهاء مرعوبين من هذا لأن كل ما لديهم هو ما يحفظون في الذاكرة ، فاذا ضاع أو بتعبيرهم ( طاح ) علمهم ضاعوا و ( طاحوا ) معه .
فساد المماليك الجُلبان وصراع أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي سادسه: ثارت فتنة بين طائفة من مماليك السلطان الجلب وبين طائفة من مماليك الأمير الكبير شارقطلوا، فباتوا على تخوف وأصبح الجلب تحت القلعة في جمع كبير، وقد امتنع الأمير الكبير منهم بداره- وهي تجاه باب السلسلة- فماج الناس، وخشوا من النهب، فكانت حركة مزعجة بالقاهرة، من تكالب الناس على شراء الخبز والدقيق، وانتشار أهل الفساد في الشوارع للنهب، ثم سكن الحال، وأقام الجلب يومهم لا يقدرون على الأمير الكبير، لعجزهم وقلة دريتهم بالحرب، وعدم السلاح، فطلب السلطان ثلاثة من مماليك الأمير الكبير وضربهم وسجنهم من أجل أنهم أصل هذه الفتنة، فخمد الشر، ولله الحمد . )
تعليق
تخصّص المماليك الجلبان لم يكونوا محاربين ممتازين ، بل كانوا عصابات متخصصة في الاعتداء على المُسالمين المستضعفين ، إذ أن برسباى تعجّل واستقدم شبابا ورجالا كبارا من عصابات في بلادها ، وكانت العادة أن يؤتى بالمماليك صغارا ثم يتم تعليمهم الدين الأرضى والثقافة العامة مع المهارة الحربية والمهارة في التآمر والمكائد ، وبعد مدة يعتقه سيده الأمير المملوكى ويكون تابعا له ثم يشق طريقه ـ بعد التحرر من الانتماء لسيده ، ويترقى الى أن يصل الى السلطنة أو كبار المراتب ، أو يُقتل أو يُسجن أو يُحال على المعاش ويكون ( بطّالا ) . تعجل برسباى واستورد رجالا جلبهم بسرعة فالتصق بهم لقب ( الجلب ) و ( الجلبان ). شعر الجلبان بقوتهم فتحرّشوا بمماليك الأمير الكبير ( شارقطلوا )، وخاف ( شارقطلوا ) منهم فاختبأ في داره ، لأنه أحسّ أن السلطان أعطاهم ضوءا أخضر ، وشعر سُكّان القاهرة بفتنة قادمة فاسرعوا بتخزين حاجاتهم الضرورية ، وتشجّع قطاع الطرق على العمل جهارا ، وخاف الجُلبان من مواجهة حربية مع مماليك ( شارقطلوا ) المُدرّبين ، فلم تحدث مواجهة. وخاب سعى السلطان فانتقم بالضرب من ثلاثة من أكابر مماليك ( شارقطلوا ) بزعم أنهم اصل الفتنة . والمقريزى يُصدّق هذا فيقول : ( فطلب السلطان ثلاثة من مماليك الأمير الكبير وضربهم وسجنهم من أجل أنهم أصل هذه الفتنة، فخمد الشر، ولله الحمد . ). لم يفهم المقريزى إن السلطان برسباى هو ( اصل الفتنة ) ، وهو الذى ( جلب هذه العصابات ) حرسا خاصا له يستطيل بهم على الناس والأمراء المماليك أيضا .
الصراع المملوكى الصليبى
( وفي خامسه: ورد إلى ميناء الإسكندرية خمسة أغربة للفرنج، وباتوا وقد استعد لهم المسلمون ثم واقعوهم من الغد، وقد أدركهم الأمير زين الدين ابن أبي الفرج أستادار في سابعه. وكان بتروجة ومعه جمع كبير من العرب، فلما اشتد الأمر على الفرنج، انهزموا وردوا من حيث أتوا، في يوم الأحد حادي عشره، ولم يقتل سوى فارس واحد من جماعة ابن أبي الفرج . ). بعض الأعراب ( وهم قوة عسكرية ) كان يعمل في خدمة المماليك ، وبعضهم كان متمردا يهاجم القرى والفلاحين الغلابة الذين كانوا يُعانون من مجرمى المماليك ومجرمى الأعراب .
وباء وكوارث
1 ـ ( وفيه سقط موضع مبني على كتاب أطفال، فمات منهم اثني عشر طفلاً، وأصيب تسعة يُخاف عليهم . ). المؤرخون ــ في تركيزهم على أكابر المجرمين ــ لا يذكرون الغلابة إلا عند الكوارث ، ويذكرونهم على العموم بلا أسماء .
2 ـ ( وفي هذا الشهر: كثر الوباء بغزة والرملة، من أرض فلسطين )
المؤرخون ــ في تركيزهم على أكابر المجرمين ــ لا يذكرون المستضعفين إلا عند الكوارث ، ويذكرونهم على العموم بلا أسماء .

شهر رمضان، أوله الجمعة :
هدم وبناء في الأوقاف
( فيه ابتدئ بهدم حوانيت الصيارف، وسوق الكتب، وحوانيت النقليين والأمشاطيين، فيما بين الصاغة والمدرسة الصالحية، وهي جارية في وقف المارستان المنصوري، لتجدد عمارتها. )
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي رابع عشره: خلع على الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، وأعيد نظر الديوان المفرد، وكان شاغراً . )
2 ـ ( وفي حادي عشرينه: استعفي ابن الهيصم من نظر الديوان المفرد، فأعفي، ولزم على عادته . ). استقال بعد أسبوع .!. ابن الهيصم كان قبطيا فأسلم وتولى مناصب ، وترك ذرية تولت مناصب فيما بعد ُ.
3 ـ ( وفي هذه الأيام: اشتد فساد المماليك الجلب، وكثر عيثهم وعبثهم بالناس، وأخذهم ما قدروا عليه من مال وحريم، فتجمع السودان وقاتلوهم، فقتل بينهم عدة، وصاروا جمعين، لكل جمع عصبة.). المماليك الجلبان يسلبون الأموال ويختطفون النساء ، واصبح هذا عادة لا تستوجب انكارا لأنها من المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة . اضطّر الميسورون الى الاستقواء بعبيدهم للحماية ، وجرت معارك بين الجلبان والعبيد، وأصبحا (معسكرين ) في داخل ( معسكر السلام ).!! يا سلام .!!
النيل
( وفي يوم الاثنين ثامن عشره- الموافق لسادس عشرين بؤونة-: أخذ قاع النيل وكان خمسة عشر ذراعاً وسبعة أصابع، ونودي عليه من الغد بزيادة خمسة أصابع. ).

شهر شوال، أوله الأحد:
ارتفاع الأسعار
( أهل والأسعار قد ارتفعت، فالقمح من مائتين وخمسين درهماً الأردب إلى ما دونها والشعير من مائة وثلاثين إلى ما دونها ، وسببه هيف الزرع في كثير من النواحي عند توالي رياح حارة ، فقلّ وقوع الغلة عند الدراس . ) ( هيف الزرع ) تعبير مصري ، يعنى خيبة الزرع وتفاهته .
تطرف الجلبان في العصيان
( وفي هذه الأيام: اشتد بلاء من الممالك، وعظم الضرر بهم، حتى أن السلطان منع الناس من عمل الأعراس والولائم، وتهدد من عمل ذلك، خوفاً من المماليك أن تهجم على النساء وهن مجتمعات، وتبين قصور اليد عن ردعهم، ولا قوة إلا بالله. ). السلطان برسباى أطلق وحشا وعجز عن السيطرة عليه . اصبح مماليكه الجُلبان يهجمون على البيوت وفى الأفراح ومناسبات الختان لخطف النسوان . السلطان ــ في عجزه عن ردعهم والسيطرة عليهم ـ إكتفى بمنع الناس من عمل الأفراح ، وهدّدهم بدلا من تهديد مماليكه . يقول المقريزى متحسّرا : ( وتبين قصور اليد عن ردعهم، ولا قوة إلا بالله.). سكت قُضاة القضاة وكبار الفقهاء ومنهم ابن حجر والعينى لأن الأمر لا يعنيهم ، ولأن الجلبان قد أسّسوا بسيوفهم تشريعا أصبح معلوما من الدين السُّنّى بالضرورة .!
غشُّ العُملة
( وفي عاشره: نودي بمنع الناس من أخذ الدراهم البندقية والقرمانية واللكنية، فعاد الضرر في خسارة قوم وربح آخرين، ونودي أيضاً أن تكون الدنانير بمائتين وثلاثين وكانت العامة قد رفعت سعره إلى مائتين وستين، بحجة أن الذهب قليل الوجود بأيدي الناس، وأن الدراهم الأشرفية كثر فيها البندقية واللكنية والقرمانية، وكل ذلك من إعراض ولاة الأمور عن عمل المصالح، لبعدهم عن معرفتها، مع طلبهم المال بكل وجه يذم ويستقبح . ). كالعادة تتوالى الأوامر بتحريم الدنانير الخارجية ، والناس تتبع مصالحها وتعرف الغش في الدينار الأشرفى الذى سكّه الأشرف برسباى . والمقريزى يهاجم السلطان برسباى هجوما خفيفا بكل ما لديه من خفر وحياء فيقول ( وكل ذلك من إعراض ولاة الأمور عن عمل المصالح، لبعدهم عن معرفتها، مع طلبهم المال بكل وجه يذم ويستقبح . ). مع هذا كان المقريزى أكثر جُرأة في نقد المماليك من ابن حجر في تاريخه ( إنباء الغمر ) ومن أبى المحاسن في تاريخه ( حوادث الدهور ) .
الحج
( وفي تاسع عشره: برز محمل الحاج على العادة، فرحل الركب الأول من بركة الحجاج في ثاني عشرينه، ورحل المحمل ببقية الحاج في ثالث عشرينه، صحبة الأمير قرا سنقر.)
النيل
( وانتهت زيادة النيل في هذا اليوم- ويوافقه أول مسرى- إلى عشرة أذرع وخمسة عشر إصبعاً. وهذا مقدار كبير، ولله الحمد. )

شهر ذي القعدة، أوله الثلاثاء:
وظائف أكابر المجرمين
( وفيه كتب باستدعاء السيد الشريف قاضي القضاة بدمشق، وكاتب السر بها، وناظر الجيش، ونقيب الأشراف شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم بن عدنان الحسيني، ليستقر في كتابة السر، وتوجه لإحضاره من دمشق أحد الخاصكية. )
النيل وأشياء أخرى
1 ـ ( في رابعه- الموافق لثاني عشر مسرى-: نودي بزيادة سبعة أصابع لتتمة خمسة عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعاً، ولم يناد عليه من الغد، وتوقفت الزيادة إلى تاسعه. وذلك أنه نقص أربعة أصابع، لتقطع عدة جسور من فساد عملها، فغرق عدة جرون، تلف فيها ما شاء الله من الغلال، فتكالب الناس على شراء الغلة، خوفاً من الشراقي، فنزل السلطان في يوم الثلاثاء ثامنه إلى رباط الآثار النبوية، ودعا الله تعالى، فأغاث الله عباده، ووفى النيل ستة عشر ذراعاً، ونودي عليه بالوفاء يوم الأربعاء تاسعه- الموافق له سابع عشر مسرى- فنزل المقام الناصري محمد بن السلطان لتخليق المقياس وفتح الخليج على العادة. )
تعليق
المفروض أن تعتنى السُّلطة المملوكية بالنيل ، بالمصارف والتُّرع والجسور ( الكبارى) والقناطر ، وقد كان هذا معتادا طيلة التاريخ المصرى قبل المماليك بعشرات القرون . ولكن المماليك ركّزوا همّهم على الجباية والسلب والنهب ، ومصّ عرق الفلاحين . قاموا ببعض إصلاحات ــ كما يفعل العسكر المصرى الآن ـ ولكنها فشلت ـ كما يحدث أيضا الآن في مشروعات العسكر المصرى . ويقول المقريزى عن سقوط الكبارى المُقامة بالفساد واختلاس الأموال : ( وذلك أنه نقص أربعة أصابع، لتقطع عدة جسور من فساد عملها، فغرق عدة جرون، ). نتج عن هذا تلف المحاصيل ، وحدث ما هو متوقع ، التكالب على شراء الغلال خوفا من ( الشراقى ) أو عطش الأراضى وتحولها الى خرابة . ولجأ السلطان الى رب العزة جل وعلا يستجير به شأن الانسان العاصى عند الأزمة ، يدعو الله جل وعلا إذا مسّه الضر ، فإذا كشف الله جل وعلا عنه الضُّرّ عاد الى عصيانه .
2 ـ ( وفي يوم الثلاثاء ثاني عشر ذي القعدة: نودي على النيل بزيادة إصبع، لتتمة سبعة عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً، ولم يناد عليه من الغد . )
3 ـ ( وفى يوم الجمعة خامس عشره: نودي على النيل بزيادة إصبعين، بعد رد ما نقصه، لتتمة ستة عشر إصبعاً من الذراع الثامنة عشر، وكان قد انقطع بعض جسور النواحي لفساد عملها، فقل وجود الغلال، وارتفع الأردب من مائتين وسبعين إلى ثلاثمائة، واستمرت زيادة النيل إلى يوم الثلاثاء تاسع عشرينه، وقد بلغ ثمانية عشر ذراعاً إلا إصبعين، ونقص من يومه خمسة أصابع، لتقطع الجسور، فتكالب الناس على شراء الغلة، وشحت الأنفس ببيعها، حتى قل وجودها وارتفع ثمنها. )
كالعادة : سقوط الكبارى حسب قول المقريزى ( لفساد عملها ). وحدث ما هو معتاد من قلّة المعروض من الحبوب وارتفاع الأسعار ..

شهر ذي الحجة، أوله الخميس:
النيل
1 ـ ( أهل هذا الشهر والنيل متوقف عن الزيادة، وقد نقص، فمن الله تعالى، ونودي في يوم السبت ثالثه برد النقص وزيادة تتمة ثمانية عشر ذراعاً . )
2 ـ ( وفي ثاني عشره- الموافق لخامس عشر توت-: نودي بزيادة إصبعين لتتمة ثمانية عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً ثم نقص من الغد لقطع الصليبيات . )
3 ـ ( وفي يوم الجمعة سادس عشره: نودي على النيل برد النقص وزيادة إصبع )
تعليق
اهتمام المقريزى بأخبار النيل زيادة ونقصا يعنى أنه كان مسألة وجودية تعنى الحياة أو الموت ، وارتبطت به أعياد ومواسم مثل فتح الخليح ووفاء النيل . ومع الاحتفالات المتوارثة فلم يهتم المماليك بالحفاظ على النيل مصدر الحياة . هو نفس الحال مع الفرعون الحاكم الآن الذى يفرّط في حقوق مصر المائية .
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي ليلة الخميس ثامنه: قدم السيد الشريف شهاب الدين أحمد من دمشق وقد خرج الأعيان إلى لقائه، وهو موعوك فلزم الفراش . )
2 ـ ( وفي يوم الخميس نصفه: خلع على الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان، واستقر في كتابة السر عوضاً عن الجلال محمد بن مزهر، وعملت للطرحة الخضراء برقمات ذهب، فكان موكباً جليلاً إلى الغاية، ركب بين يديه الأمراء والوزراء وقضاة القضاة الأربع، والأعيان، فابتهج الناس به، وسروا بقدومه . )
3 ـ ( وفيه خلع على الجلال محمد بن مزهر، واستقر في توقيع المقام الناصري محمد ابن السلطان، كما كان في أيام أبيه . )
الحج : ( وفيه قدم مبشرو الحاج )
النيل
( وفيه نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة تسعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعاً ووافق ذلك ثامن عشرين توت، ثم لم يناد عليه، فكانت هذه زيادة ماء النيل في هذه السنة. )




الفصل التاسع : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام الطاعون : 833

مقدمة :
1 ـ ـ في هذا العام كانت النقمة بنوعين من المصائب : الوباء والمماليك الجُلبان ، اشتدّ فيه الطاعون ثم خمد ، وقضى على وباء بشرى آخر هو المماليلك الجلبان ، مما جعل برسباى أكبر أكابر المجرمين يأتي بآخرين منهم .
2 ـ جاء برسباى ضمن المماليك الأجلاب. إشتراه الأمير المملوكى دقماق المحمدى ، وأهداه للسلطان الظاهر برقوق فأعتقه السلطان وجعله من مماليكه . وشق الأمير برسباى طريقه يتولى إمارة ثم يدخل السجن ويخرج ، وهكذا، الى أن تولى السلطنة في الثامن من ربيع الأول عام 825 الموافق أول ابريل عام 1422 . وكعادة السلاطين السابقين ــ ولتقوية مركزه في أول سلطته ــ بدأ برسباى بشراء مماليكه السلطانية من عام 825 . وكالعادة أيضا لم يكن لديه وقت لشراء أطفال يربيهم ، كان ــ شأن السلاطين البرجية ــ يريد شبابا جاهزا قادرا على حمل السلاح. كان الشباب في أواسط آسيا وأوربا يوقعون أنفسهم في الرق ليؤتى بهم الى القاهرة ليكونوا أمراء بل ربما سلاطين . ولم يرض لنفسه هذا الوضع إلا الشباب الوضيع العاطلون الغارقون في الجريمة . لذا كان المماليك الجلب أو الجلبان في دولة المماليك البرجية أكثر العصابات وحشية ، وكان الشعب أبرز ضحاياهم . وفى غير أوقات الحرب تسلطوا على الشعب سلبا ونهبا وإغتصابا للنساء والصبيان . وأصبح هذا عادة لا تستدعى الدهشة أو الانكار من القُضاة والفقهاء ، وبالتالي أصبح عندهم معلوما من الدين السُّنّى بالضرورة .!!.
3 ـ المماليك الجلبان الذين إشتراهم برسباى عام 825 وما بعده ليسقيم بهم سلطانه قضى على معظمهم طاعون عام 833 . ثم إشترى برسباى غيرهم عام 833 وما بعده فقضى على معظمهم الطاعون التالى عام 841 ، وهو العام الذى شهد موت برسباى . يمكننا أن نتخيل أعمار هؤلاء المماليك الجلبان . جىء بهم شبابا عام 825 فإنغمسوا في الفتن مباشرة حتى قضى على معظمهم طاعون 833 . أي بعد 8 سنوات من مجيئهم . جىء بالجلبان الآخرين من عام 833 ، فإنغمسوا في الفتن 8 سنوات أخرى حتى قضى على معظمهم طاعون 841 . الطاعون هو بطل الأحداث هنا .
4ـ العجيب أن برسباى حكم 16 عاما ( 825 : 841 )، نصفها الأول بمماليك جلبان قضى عليهم الطاعون عام 833، ونصفها الآخر بمماليك جلبان جُدد قضى عليهم نفس الطاعون عام 841 . ثم كانت نهاية برسباى بمرض أفظع من الطاعون ، فالطاعون يُميتُ الانسان سريعا ، أما برسباى فقد أوصلته آلام مرضه الى الجنون ، وكان عبرة لمن يعتبر . ولكن أين يوجد من يعتبر .! كل مستبد قبل أو بعد برسباى يفقد صوابه حين يصل الى الكرسى ، ويحسب نفسه خالدا ، وينسى أن هذا الكرسى لو دام لغيره ما وصل اليه . ذلك أنّ ( شوشو / الشيطان ) سوّل لهم وأملى لهم . ثم في النهاية ينتظرهم عذاب الحريق .
5 ـ أهمية عامى 833 وعام 841 في أن الطاعون كان عقابا إلاهيا للظالمين من أكابر المجرمين من المماليك ورجال الدين ، كما كان عقابا إلاهيا للذين ظلموا رب العزة بتقديس البشر والحجر وارتكبوا كل الموبقات وجعلوها دينا.
6 ـ البشر وهم الآن تحت قصف وباء كورونا يجدر بهم أن يتعظوا . تقدمهم الهائل هزمه فيروس غاية في الضآلة ( البلايين من فيروس كورونا أقل حجما من حبة أرز ).جاء تسونامو كورونا يهدد الجميع . فهل نتعظ .؟ نكتب بالتدبر القرآنى والبحث التاريخى نبتغى الإصلاح ما استطعنا . ( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (هود / 88 )
اللهم إنتقم من الظالمين في يومنا هذا في الدنيا والآخرة .!
7 ـ هيا بنا الى المقريزى في كتابه السلوك ( شاهدا على العصر ) . يقول في التأريخ لعام 833:
( سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة
أهلت هذه السنة بيوم الجمعة، الموافق له ثاني بابة: والشمس في نصف برج الميزان، والوقت فصل الخريف. )
تعليق
لم يذكر المقريزى الديباجة المعروفة من أسماء أكابر المجرمين من المماليك وخدمهم المدنيين ، في المناصب الديوانية والدينية . دخل مباشرة على أحداث شهر محرم ، ونقسمها حسب الموضوع :
قال :

( شهر المحرم: في يوم السبت :
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( ثانيه: خلع على الأمير زين الدين عبد القادر أستادار خلعة الإستمرار، ثم خلع عليه ثانياً في يوم الاثنين رابعه. )
2 ـ ( وخلع على الأمير أقبغا الجمالي كاشف الوجه القبلي خلعة الاستمرار، وقد أرجف باستقراره أستادارا وألزم بحمل عشرين ألف دينار . ).
تعليق
وطبعا سيدفع أهل الصعيد الفقراء له أضعاف هذا المبلغ . السلطان يأخذ أولا ، وكاشف الوجه القبلى يمُصُّ دماء أهل الصعيد الذين لا يسمع أنينهم أحدُّ ، سوى رب العزة جل وعلا .!
3 ـ ( وفي تاسعه: خلع على الصاحب كريم الدين الوزير، واستقر في نظر الديوان المفرد، مضافاً إلى الوزارة، ليتقوى به الأمير زين الدين أستادار. )
تعليق
إستمرار الأمير في منصبه يعنى أن يدفع رشوة للسلطان ، وهو يقوم بجباية اضعافها من الناس .
مناخ وضفادع
( وفي ليلة الجمعة تاسعه أو عاشره: أمطرت مدينة حمص مطراً وابلاً، ونزل معه ضفادع خضر حتى امتلأت بها أزقة المدينة وأسطحة الدور. )
المماليك الجلبان يطلبون زيادة المرتبات ويرهبون الأعيان
( وفي العشر الثاني من هذا الشهر: حملت نفقة المماليك السلطانية من حاصل الأستادار إلى قلعة الجبل، لتنفق في المماليك على العادة في كل شهر، فامتنعوا من قبضها وطلبوا أن يزاد كل واحد على ماله مبلغ ثلاثمائة درهم في كل شهر ، وكانوا قد فعلوا ذلك في نفقة ذي الحجة، حتى زيد كل منهم أربعمائة درهم في كل شهر فبلغت الزيادتان في الشهر نحو الخمسة آلاف دينار. وكان قبل رضائهم بذلك قد استطار شرهم، وتعدوا في العتو طورهم حتى خافهم أعيان أهل الدولة، ووزعوا ما في دورهم خوف وقوع الفتنة ).
تعليق
مماليك برسباى الجلبان يطلبون زيادة المرتبات ، وهم يستطيلون على الناس ، ويرهبهم أكابر المجرمين من الجناح المدنى ، حتى كانوا يقومون بإخفاء ما في قصورهم من ذرية وأموال ومتاع . فماذا عن الشعب المسكين ؟!
الحج
( وفي حادي عشرينه: قدم ركب من الحاج تقدم أولا، ثم قدم الركب الأول من الغد، وقدم المحمل ببقية الحاج في ثالث عشرينه ).
أخبار خارجية :
ملك شمال أفريقيا يغزو صقلية ومالطة : ( حرب بين أكابر المجرمين في الغرب )
( وفي ثامن عشره: بعث صاحب تونس وإفريقية وتلمسان- أبو فارس عبد العزيز- أسطولاً فيه مائتا فرس، وخمسة عشر ألف مقاتل من العسكرية والمطوعة، لأخذ جزيرة صقلية، فنازلوا مدينة مارز حتى أخذوها عنوة، ومضوا إلى مدينة مالطة. وحصروها حتى لم يبق إلا أخذها فانهزم من جملتهم أحد الأمراء من العلوج، فانهزم المسلمون لهزيمته، فركب الفرنج أقفيتهم، فاستشهد منهم في الهزيمة خمسون رجلاً من الأعيان، ثم إنهم ثبتوا وقبضوا على العلج الذي كادهم بهزيمته، وبعثوا به إلى أبي فارس، فأمدهم بجيوش كثيرة.) .
تعليق
هو صراع شيطانى ، ليس في سبيل الله جل وعلا قتالا دفاعيا ، بل في سبيل الشيطان ابتغاء المال معبودهم الأكبر . كان هذا من الفتوحات الى ارتكبها الخلفاء الفاسقون ، ولا تزال .

( شهر صفر أوله الأحد‏:‏)
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( في رابع عشره: خلع على السيد الشريف شهاب الدين كاتب السر ونزل إلى الجامع المؤيدي، وقد استقر ناظره على العادة، فقرئ به تقليده بكتابة السر، تولى قراءته منشأة القاضي شرف الدين أبو بكر الأشقر نائب كاتب السر. وقد حضر قضاة القضاة الثلاث، ولم يحضر الحنفي، وحضر الأمير أركماس الدوادار، وكثير من الأعيان، فكان من المجامع الحفلة ( أي الحافلة ) الحشمة ( أي المحترمة ) .
تعليق
إحتفال بتولية كاتب السّر ناظرا للجامع المؤيدى الذى أنشأه السلطان المؤيد شيخ . وأُقيم حفل بهذه المناسبة . ولا ننسى ان تولى أىّ منصب لا يكون إلا بالرشوة .
2 ـ عزل ابن حجر والعينى من القضاء ، وتنقلات في الوظائف
( وفي يوم الخميس سادس عشرينه: خلع على قاضي القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، وأعيد إلى قضاء القضاة عوضاً عن الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، وخلع على قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني، وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن بدر الدين محمود العيني، ورسم باستقراره صدر الدين أحمد بن محمود العجمي في ميشخة خانكاه الأمير شيخو، عوضاً عن قاضي القضاة زين الدين التفهني. ).
قال بعدها المقريزى عن محاولة لاصلاح القضاء : ( ورسم أن لا يزيد الشافعي على عشرة نواب، والحنفي على ثمانية، والمالكي على ستة، والحنبلي على أربعة فكان حسناً أن تم. ).
تعليق
هل كان عزل ابن حجر ( الشافعى ) والعينى ( الحنفى ) ضمن اصلاح برسباى ( الفاسد الأكبر ) لفساد القُضاة ؟ أم أنّ الأمر مرتبط بجشع برسباى في أخذ الرشوة ؟. ربما.! لأنه فيما بعد سيتولى ابن حجر القضاء بعد أن يدفع الرشوة كالمعتاد ، وهكذا دورة من العزل والتولية ، والمستفيد هو السلطان الذى يبيع المناصب . والشعب هو المظلوم الذى يدفع لأكابر المجرمين من العسكر ورجال الدين .
ارتفاع الأسعار في مصر
( وفي هذه الأيام: ارتفع سعر الذهب حتى بلغ الدينار الأفرنتي مائتين وستين درهماً، وارتفع أيضاً سعر الغلال )
ارتفاع أسعار مع تزايد الطاعون في الشام
( وقدم الخبر بغلاء الأسعار بمدينة حلب ودمشق، وأن بدمشق وحمص طاعون فاش في الناس . ) .

شهر ربيع الأول، أوله الاثنين:
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( فيه ( أول ربيع الأول ) خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، واستقر في ميشخة الشيخونية . )
2 ( وفي يوم الثلاثاء سلخه ( أي اليوم التالى ) : خلع على سعد الدين إبراهيم بن كريم الدين عبد الكريم ابن سعد الدين بركة كاتب جكم، واستقر في نظر الخاص، عوضاً عن أبيه بعد وفاته، وألزم بحمل ستين ألف دينار، فشرع في حملها.).
تعليق
يرث الولد منصب أبيه ، وعليه دفع الرشوة إلزاميا .!
‏3 ـ ( وفي يوم الخميس سادس عشرينه‏:‏ خلع على قاضي القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وأعيد إلى قضاء القضاة عوضاً عن الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر . وخلع على قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية عوضاً عن بدر الدين محمود العيني، ورسم باستقراره صدر الدين أحمد بن محمود العجمي في مشيخة خانكاه الأمير شيخو عوضاً عن قاضي القضاة زين الدين التفهني.. )
تعليق
عزل إبن حجر وتولى البلقينى ، وفيما بعد سيتولى ابن حجر بعد أن يدفع الرشوة ، وهكذا دورة من العزل والتولية ، والمستفيد هو السلطان الذى يبيع المناصب . والشعب هو الذى يدفع لأكابر المجرمين من العسكر ورجال الدين .
هبوط أسعار الغلال
( وفي هذا الشهر: انحل سعر الغلال، وسبب ذلك أن المحتسب أينال الششماني منع كل من ورد بغلة إلى ساحلي مصر وبولاق من بيعها، وتشدد في ذلك، فامتنعوا وأخذوا في بيع الغلال السلطانية، على أن كل أردب من القمح بثلاثمائة وستين درهماً، فتوفرت الغلال في مدة بيعه، ثم أذن لهم في بيعها، وقد تكفي الطحانون بغلال السلطان، فانحل السعر ولله الحمد، وربما صحت الأجسام بعد العلل.) .
تعليق
كانت للسلطان أراضيه وضياعه ، وكان يتدخل في التجارة الداخلية والخارجية محتكرا ، يفرض السعر . واحيانا كان في ذلك منفعة لإنقاذ الناس من جشع التجار .
2 ـ ( وفي هذه الأيام‏:‏ ارتفع سعر الذهب حتى بلغ الدينار الأفرنتي مائتين وستين درهماً وارتفع أيضاً سعر الغلال‏. وقدم الخبر بغلاء الأسعار بمدينة حلب ودمشق وأن بدمشق وحمص طاعون فاش في الناس‏.)
تعليق
غلاء الذهب والغلال ، مع أول إشارة الى إنتشار الطاعون في الشام ، ثم وصل لمصر في الشهر التالى :

شهر ربيع الآخر أوله الأربعاء‏:
وصول الطاعون لمصر في هذا الشهر ( ربيع الآخر )
الطاعون يزحف من الشام الى الوجه البحرى ( الدلتا) في مصر ( واثق الخطوة يمشى ملكا )
( وفيه فشى الطاعون في الوجه البحري سيما في النحريرية ودمنهور، فمات خلق كثير جداً بحيث أحصي من مات من أهل المحلة زيادة على خمسة آلاف إنسان‏. ومن ناحية ( صا) زيادة على ستمائة إنسان. وكان قد وقع بغزة والقدس وصفد ودمشق في شعبان في السنة الماضية طاعون واستمر إلى هذا الشهر‏. وعُدّ هذا من النوادر فإن الوقت شتاء وما عهد فيما أدركناه وقوع الطاعون إلا في فصل الربيع‏. ويعلل الأطباء ذلك بسيلان الأخلاط في الربيع وجمودها في الشتاء ولكن الله يفعل ما يريد‏. وقدم الخبر بشناعة الطاعون بمدينة برصا من بلاد الروم وأنه زاد عدد من يموت بها في كل يوم على ألفي وخمسمائة إنسان‏. وأما القاهرة فإنه جرى على ألسنة غالب الناس منذ أول العام أنه يقع في الناس عظيم حتى لقد سمعت الأطفال تتحدث بهذا في الطرقات‏. فلما أهل شهر ربيع الآخر هذا‏:‏ كانت عدة من ورد الديوان فيه من الأموات اثني عشر إنساناً ، وأخذ يتزايد في كل يوم حتى بلغت عدة من ورد الديوان بالقاهرة في يوم الأربعاء سلخه ثمانية وأربعين إنساناً‏. وجملة من أحصاه ديوان القاهرة في الشهر كله أربعمائة وسبعة وسبعون إنساناً‏. وبلغ ديوان المواريث بمدينة مصر دون ذلك‏. هذا سوى من مات بالمارستان ، ومن جهز من ديوان الطرحاء على الطرقات من الفقراء وهم كثير‏.).
تعليق
انتشر الطاعون آتيا من الشام فوصل الى الوجه البحرى بمصر حتى غرب الدلتا ( دمنهور) ، وتكاثرت أعداد ضحاياه في الدلتا ، وإنتقل الى بلاد الروم . والخوف من الطاعون كان على ألسنة الأطفال في القاهرة الكبرى ( القاهرة ومصر )، وهذا ما سمعه المقريزى منهم في الطرقات ، بالإضافة الى تعداد الضحايا رسميا كان عن طريق ديوان المواريث في ضواحى القاهرة وقتها. أما الموتى في المستشفيات ( المارستان ) وجثث الفقراء الملقاة في الطريق فلا حصر لها.!!
أخبار أخرى غير الطاعون
وظائف أكابر المجرمين :
1 ـ ( في رابعه‏:‏ خلع على قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي واستقر في الحسبة بالقاهرة ومصر ، عوضاً عن الأمير أينال الششماني مضافاً لما معه من نظر الأحباس‏.).
تعليق
1 ـ عودة العينى للصدارة بتولّى الحسبة بدلا من الأمير المملوكى اينال الششمانى. الحسبة منصب أمنى تحكمى عنيف لا يليق بالشيوخ ، وكان أمراء المماليك الأكثر صلاحية له، ولكن تولاه العينى أكثر من مرة. العينى أيضا هو المشرف على كثير من الأحباس ( الأوقاف ). كان للعينى نفوذ هائل في سلطنة برسباى .
2 ـ الأوقاف كانت ــ ولا تزال ــ أكبر مغارة اللصوص ، تتضاءل أمامها مغارة (على بابا ) . رئيس العسكر المستبد بمصر الآن جعل الأوقاف المصرية ضمن سرقاته بقرار من مجلسه النيابى ، وأوكل لمجموعة من خدمه إدراة أملاك الوقف في مصر ، وبذلك تحكّم في نسبة كبرى من الثروة المصرية العينية والنقدية . وهذا الفرعون السيسى لا يُسأل عما يفعل ، ولا يملك أحد أن يسأله عما أخذ وعما أنفق . وفى النهاية فما أغنى عنه ماله وما كسب .
2 ـ ( وفي تاسعه‏:‏ خلع على الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار واستقر في نيابة الإسكندرية عوضاً عن الأمير أقبغا التمرازي، ورسم بإحضاره )
3 ـ ( وفي ثالث عشره‏:‏ خلع على الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم وأعيد إلى نظر الديوان المفرد عوضاً عن الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ.)
3 ـ ( وفي خامس عشرينه‏:‏ خلع على الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي الكاشف واستقر أستاداراً عوضاً عن الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج على أن يحمل مائة ألف دينار بعد تكفية الديوان، فلم ينهض بها‏.). تولية مناصب ودفع رشاوى إلزامية. الرشوة هنا هائلة لم ينهض بها الأمير المملوكى أقبغا الكاشف .
هبوط الأسعار
( وفي هذا الشهر: انحل سعر الغلال، فأبيع القمح بمائتين وخمسين درهماً الأردب، والشعير بمائة وعشرة دراهم الأردب . )

شهر جمادى الأولى
أوله الخميس‏: اشتداد الطاعون ‏
أخبار الطاعون
أخبار بدون تحديد يوم
1 ـ ( وفيه بلغت عدة من ورد الديوان بالقاهرة مائة على أنهم لا يرفعون في أوراقهم إلى الوزير وغيره إلا بعض من يرد لا كلهم‏.). عدد الضحايا وفقا لديوان المواريث في القاهرة مائة ، وهذا هو البعض فقط .
2 ـ ( وفيه نودي في الناس بصيام ثلاثة أيام وأن يتوبوا إلى الله تعالى من معاصيهم ويخرجوا من المظالم ثم يخرجوا في يوم الأحد رابعه إلى الصحراء‏. هذا والحكام والولاة على ما هم عليه‏: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم ) .
تعليق
نداء بالصيام وبالتوبة عن المعاصى والظلم ، والخروج الى الصحراء إعلانا للتوبة . والمقريزى يتندّر قائلا : ( هذا والحكام والولاة على ما هم عليه‏:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم ) .!
3 ـ ( وفي هذا الشهر‏:‏ شنع الموتان الوحي السريع بالطاعون والنزلات التي تنحدر من الدماغ إلى الصدر فيموت الإنسان في أقل من ساعة بغير تقدم مرض‏. وكان أكثر في الأطفال والشباب ثم في العبيد والإماء وأقله في النساء والرجال‏. وتجاوز في مدينة مصر الفسطاط المائتين في كل يوم سوى من لم يرد الديوان‏. وتجاوز في القاهرة الثلاثمائة سوى من لم يرد الديوان‏. وضبط من صلى عليه في مصليات الجنائز فبلغت عدتهم تزيد على ما أوردوه في ديوان المواريث زيادة كثيرة‏. وبلغت عدة من مات بالنحريرية - خاصة - إلى هذا الوقت تسعة آلاف سوى من لم يعرف وهم كثر جداً‏. وبلغت عدة الأموات بالإسكندرية في كل يوم نحو المائة‏. وشمل الوباء عامة البحيرة الغربية والقليوبية‏.).
تعليق
المقريزى يستعمل وصف ( الوحى ) للطاعون ، يعنى السريع ، أي سرعة الطاعون في الانتشار بحيث يقضى على المُصاب في أقل من ساعة . وكان أكثر الضحايا من الشباب والأطفال والرقيق والمماليك، الذين لا حصانة لديهم ، بينما كانت نسبته أقل من الكبار ، فقد نجوا من طاعون سابق واكتسبوا منه حصانة . ويورد المقريزى إحصاءات تقريبية عن الضحايا في القاهرة وضواحيها وبعض مدنها . وطبعا لا علم له بالضحايا في المدن الأخرى والقرى ، ويكتفى بالقول (وشمل الوباء عامة البحيرة الغربية والقليوبية‏.) ، فماذا عن الصعيد وبقية أقاليم مصر ؟ .
أخبار محددة باليوم
1 ـ ( وفي يوم الأحد رابعه‏:‏ خرج قاضي القضاة علم الدين صالح في جمع موفور إلى الصحراء خارج باب النصر وجلس بجانب تربة الظاهر برقوق ، فوعظ الناس على عادته في عمل الميعاد فكثر ضجيج الرجال والنساء وكثر بكاؤهم في دعائهم وتضرعهم، ثم انفضوا قبيل الظهر. فتزايدت عدة الأموات عما كانت‏.).
أكابر المجرمين من رجال الدين يقودون حملة للتوبة في الصحراء . النتيجة : ( فتزايدت عدة الأموات عما كانت‏.).
تعليق
ماذا لو خرج اليوم أكابر المجرمين في حملة للتوبة ؟ هل ستنهزم أمامهم كورونا ؟ أم ستنتشر أكثر
2 ـ ( وفي يوم الخميس سلخه‏:‏ ضبطت عدة الأموات التي صلي عليها فبلغت ألفين ومائة ، ولم يوُّرد في أوراق الديوان سوى أربعمائة ونيف‏. وفيه مات ببولاق سبعون لم يوُّرد منهم سوى اثني عشر‏.... ‏. وشنع الموت بخانكاه سرياقوس حتى بلغت العدة في كل يوم نحو المائتين، وكثر أيضاً بالمنوفية والقليوبية حتى كاد يموت في الكفر الواحد في كل يوم ستمائة إنسان‏.).
تعليق
يذكر المقريزى أعداد الضحايا المُتاحة له ، موضحا الفارق بين الأعداد الرسمية التي يتم توصيلها الى ديوان المواريث ، وهى أقل كثيرا من الأعداد الحقيقية حيث يتكتم الناس عن التبليغ عن موتاهم حتى لا يستولى على معظم تركاتهم ديوان المواريث والذى يتحكّم فيه أكابر المجرمين من العسكر ورجال الدين . وفى خانقاة ( سرياقوس ) التي أنشأها السلطان الناصر محمد بن قلاوون كان يموت فيها يوميا حوالى مائتين . والبلدة لا تزال حتى الآن معروفة باسم ( الخانكاة ) في محافظة القليوبية . وعن إنتشار الطاعون في القرى القريبة من القاهرة يقول ( ، وكثر أيضاً بالمنوفية والقليوبية حتى كاد يموت في الكفر الواحد في كل يوم ستمائة إنسان‏.). ( الكفر ) بفتح الكاف يعنى القرية ، و لا يزال مستعملا حتى الآن .
ويذكر المقريزى بين سطور الخبر السابق تفصيلات درامية ، يقول :
2 / 1 :( وشنع الموتان حتى أن ثمانية عشر من صيادي السمك كانوا في موضع فمات منهم في يوم واحد أربعة عشر ، ومضى الأربعة ليجهزوهم إلى القبور فمات منهم وهم مشاة ثلاثة فقام الواحد بشأن السبعة عشر حتى وصل بهم إلى المقبرة مات أيضاً‏.)
2 / 2 ( وركب أربعون رجلاً في مركب وساروا من مدينة مصر نحو بلاد الصعيد ، فماتوا بأجمعهم قبل وصولهم الميمون‏.)
2 / 3 : ( ومرت امرأة من مصر تريد القاهرة وهي راكبة على حمار مكاري ، فماتت وهي راكبة ، وصارت ملقاة بالطريق يومها كله حتى بدأ تغير ريحها فدفنت ولم يعرف لها أهل‏. ) .
تعليق
أين ذهب المكارى يا شيخنا المقريزى ؟ ( المكارى ) هو الذى يحمل الناس على الحمار.
2 / 4 : ( وكان الإنسان إذا مات تغير ريحه سريعاً مع شدة برد الزمان .)
تعليق
أي مع شدة البرد كانت الجثث تتجيّف سريعا .!
3 ـ ( وفي العشر الأخر من هذا الشهر‏:‏ وجد بالنيل والبرك التي بين القاهرة ومصر كثير من السمك والتماسيح ، قد طفت على وجه الماء ميتة، واصطيدت بنية كبيرة ، فإذا هي كأنما صُبغت بدم من شدة حمرتها‏. ووجد في البرية ما بين السويس والقاهرة عدة كثيرة من الظباء والدياب موتى‏. وقدم الخبر بوقوع الوباء ببلاد الفرنج‏.).
تعليق
قبل السد العالى كانت التماسيح تمرح في النيل حتى مصبّه في رشيد ودمياط . ووصل اليها الطاعون ، كما أصاب أيضا الحيوانات البرية من الذئاب والظّباء،. ووصل الطاعون الى أوربا.
أخبار أخرى بجانب الطاعون
الحج
1 ـ ( فيه برز سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة إلى خارج القاهرة وقد توجه معه كثير من الناس يريدون العمرة والحج‏.) .
تعليق
الحج وقت الطاعون ، وينتشر الطاعون .
أخبار أكابر المجرمين
( وقدم كتاب مراد بن عثمان صاحب برصا بأنه هادن الفرنح ثلاث سنين. ). هدنة بين العثمانيين والبيزنطيين .
أخبار الفساد الذى لم يمنعه الطاعون :
برسباى رأس الفساد
1 ـ ( وفي سادس عشرينه‏:‏ حضر تجار الإسكندرية وقد طُلبوا منها، فأوقفوا بين يدي السلطان ، وألزموا جميعهم أن لا يبيع أحد منهم شيئاً من أصناف البضائع التي تُجلب من الهند كالفلفل ونحوه لأحد من التجار الفرنج وهُدّدوا على ذلك‏. وسبب هذا أن السلطان أقام طائفة تشتري له البضائع وتبيعها، فإذا أخذت بجدة المكوس من التجار التي ترد من الهند حملت فلفلاً وغيره في بحر القلزم من جدة إلى الطور ثم حملت من الطور إلى مصر ، ثم نقلت في النيل إلى الإسكندرية . وألزم الفرنج بشراء الحمل من الفلفل بمائة وثلاثين ديناراً‏. هذا وسعره بالقاهرة خمسون ديناراً‏. فبلغ السلطان أن بعض التجار سأل الفرنج بالإسكندرية أن يبتاعوا منه الحمل بأربعة وستين ديناراً فأبوا أن يأخذوه إلا بتسعة وخمسين فأحب السلطان عند ذلك الزيادة في الفوائد وأن يأخذ ما عند التجار من الفلفل بسعر ما دفع لهم فيه الفرنج ليبيعه هو على الفرنج‏. مما تقدم ذكره فمنعهم من يبيعهم على الفرنج ليبور عندهم فيأخذه حينئذ منهم بما يريد‏.).
تعليق
جشع السلطان برسباى لم يوقفه الطاعون . كان مشهورا باحتكار التجارة الشرقية . كان يؤتى بها من الهند الى جدة ( في الحجاز التابع للدولة المملوكية ) ، ويتم نقلها من البحر الأحمر ( القلزم ) الى القاهرة ومنها بالنيل الى الإسكندرية ليشتريها التجار الإيطاليون . الفلفل الأسود أهم المستورد من الهند ، ويُباع في القاهرة بخمسين دينارا بينما ألزم برسباى التجار الايطاليين في الإسكندرية بشرائه ب 130 دينارا . وحاول بعض التجار في الإسكندرية أن يبيعوه الى الايطاليين ب 64 ، وأثناء التفاوض علم السلطان بالخبر فاستدعاهم لقلعة الجبل ( مقر الحكم ) وهددهم إذا باعوا شيئا من البضائع الهندية ( للفرنجة ). و قصد بذلك أن يتلف ما لديهم فيشتريه منهم بالسعر الذى يحدده .
احتكار السُّكر الذى كان دواءا للطاعون عندهم
( وفيه أيضاً طلب الأمير أقبغا الأستادار الباعة بالقاهرة ومصر ليطرح عليهم السكر ، فأغلقوا الحوانيت، وفروا منه، فأعيا الناس شراء الأدوية للمرضى، ولم يكادوا أن يجدوا ما يعللوهم به‏.).
تعليق
إحتكر برسباى أيضا السكر ، وألزم التجار في القاهرة ليشتروه منه بالسعر الذى يحدده ، فأغلقوا الحوانيت وهربوا . وباغلاق الحوانيت لم يجد الناس أدوية وقت الوباء . وهذه هي مساهمة برسباى في مواجهة الوباء .
فساد أتباع برسباى
( وفي حادي عشرينه‏:‏ قبض على الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج وكثير من أزلامه ( أتباعه ) ، وسُلّموا إلى الأمير أقبغا أستادار. ثم أفرج عنه في رابع عشرينه ، على مال يحمله‏.).
تعليق
هذا الرجل كان من أكابر الحرامية وكان له أزلام أي أتباع ، وهو من أكابر المجرمين من الجناح المدنى ، ويحمل لقب أمير. لنفهم خلفية هذا الخبر :
1 :. قبلها بعام وفى شهر ربيع الأول ( ‏ فيه ترك طائفة كبيرة من مماليك السلطان الجلب الذين يسكنون الطباق بقلعة الجبل إلى بيت الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج أستادار وتسوروا الجدران حتى دخلوه فنهبوا ما فيه وكان غائباً عنه وعبثوا في طريقهم بالناس فأخذوا ما قدروا على أخذه ثم مضوا إلى بيت ناظر الديوان المفرد ثم إلى بيت الوزير فأدركهم مقدم المماليك والزمام وتلطفا بهم حتى انصرفوا عن بيت الوزير وسبب ذلك تأخر جوامكهم بالديوان المفرد لشهرين فلما شكوا ذلك إلى السلطان قال لهم امضوا إلى المباشرين‏. فنزلوا وكان يوماً شنعاً ) المماليك الجلبان يعرفون أن هذا الرجل من أكابر اللصوص ، ويرون أنهم أحق بما عنده من أموال فاستباحوا نهب قصوره وقصور الآخرين .
2 : لتعويض ما سلبوه منه قام بسلب القرى والفلاحين المساكين ، يقول المقريزى ( سار الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج أستادار إلى النواحي ففرض على كل بلد مالاً سماه الضيافة ليستعين بذلك على عجز الديوان المفرد لنفقة المماليك السلطانية فجبي مالاً كثيراً ، فإنه كان يأخذ من البلد مائة دينار ويأخذ من أخرى دون ذلك على حسب ما يراه، فاختل حال الفلاحين خللاً يظهر أثره فيما بعد والله المستعان‏.) .
3 : رجع هذا الحرامى بما سلب من القرى والفلاحين فوجد سيده الحرامى الأكبر برسباى في إنتظاره ، يقول المقريزى ( وفي حادي عشرينه‏:‏ قبض على الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج وكثير من أزلامه، وسلموا إلى الأمير أقبغا أستادار ثم أفرج عنه في رابع عشرينه على مال يحمله‏. ).
5 / 4 : السمكة تفسد من رأسها ، سواء كانت رأس برسباى أو رأس السيسى ..ولا جديد تحت الشمس ..
( مصر أغنى دولة في العالم ) حقيقة تاريخية يعرفها لصوص مصر دائما يسرقها اللصوص من عمرو بن العاص الى مبارك ثم عبد الفتاح بن السيسى ، يسرقونها زمن الطاعون وزمن كورونا ..لا فارق . العجيب أنه لا يزال فيها رمق .!!!

شهر جمادى الآخرة أوله الجمعة‏:‏
أخبار الطاعون
1 ـ ( فيه تزايدت عدة الأموات عما كانت فأحصي في يوم الاثنين رابعه من أخرج من أبواب القاهرة فبلغت عدتهم ألفاً ومائتي ميت سوى من خرج عن القاهرة من أهل الحكورة والحسينية وبولاق والصليبة ومدينة مصر والقرافتين والصحراء وهم أكثر من ذلك‏. ولم يوُّرّد بديوان المواريث بالقاهرة سوى ثلاثمائة وتسعين، وذلك أن أناساً عملوا توابيت للسبيل، فصار أكثر الناس يحملون موتاهم عليها ولا يورّدون الديوان أسماءهم‏.)
زيادة الضحايا عن ذي قبل . في يوم واحد بلغوا ألفا ومئتين من بعض أحياء القاهرة ، والعدد أكثر من ذلك . ولم يتم التبليغ إلا عن 390 . وتمت صناعة توابيت ليحمل الناس عليها أمواتهم دون الذهاب للديوان .
2 ـ ( وفي هذه الأيام‏:‏ ارتفعت أسعار الثياب التي تكفن بها الأموات ، وارتفع سعر ما تحتاج إليه المرضى كالسكر وبذر الرجلة والكمثرى ، على أن القليل من المرضى هو الذي يعالج بالأدوية بل معظمهم يموت موتاً وحيا سريعاً في ساعة وأقل منها.)
إرتفعت أثمان الأكفان ، وإرتفع سعر الدواء المعروف وقتها ، ونعرف أنه كان السكر وبذر الرجلة وبذر الكمثرى ، وهى خبرة شعبية في التداوى . ويقال الآن عن الفوائد الطبية لنبات ( الرّجلة ) وهو نبات طبيعى في الريف المصرى ، كان طعاما مشهورا في الستينيات في القرى المصرية . إستعمل المصريون بذور الرجلة في عصر المقريزى ضد الطاعون ، مع إنه لم يكن لها جدوى لأن المريض كان يموت سريعا.!
3 ـ ( وعظم الوباء في المماليك السلطانية - سكان الطباق بالقلعة - الذين كثر فسادهم وشرهم وعظم عتوهم وضرهم بحيث كان يصبح منهم أربعمائة وخمسون مرضى فيموت في اليوم زيادة على الخمسين مملوكاً.) .
من منافع الطاعون إهلاك معظم المماليك الذين إشتراهم السلطان برسباى ( المماليك السلطانية ). كانوا مجرمين حقيقيين ، تسلطوا على المصريين المستضعفين بالسلب والنهب والاغتصاب والقتل والإذلال ، يقول عنهم المقريزى ( الذين كثر فسادهم وشرهم وعظم عتوهم وضرهم ) . لم تكن لديهم حصانة من الطاعون فتساقطوا في حصون القلعة . حصون القلعة أو ( طباق القلعة ) لم تغن عنهم شيئا ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) (78) النساء ) . هل يعتبر عسكر مصر الآن ؟!
4 ـ ( وشنع الموت‏ بمدينة فوه ومدينة بليبس ووقع ببلاد الصعيد الأدنى‏. وانقطع الوباء من البحيرة والنحريرية وكثر بمدينة المحلة‏.). إشتعل الطاعون وبلغ الذروة في الوجه البحرى والصعيد ، بينما خفّت حدته في المناطق الأخرى التي هاجمها أولا مثل البحيرة والنحريرية .
5 ـ ( وفي يوم الخميس سابعه‏:‏ أحصي من صلى عليه من الأموات في المصليات المشهورة خاصة فكانوا نحو الألف ومائتي ميت ، وصُلّى بغير هذه المصليات على ما شاء الله‏. ولم يورد في ديوان القاهرة سوى ثلاثمائة وخمسين وفي ديوان مصر دون الثلاثين‏. وصلى بها على مائة‏.)
كانت هناك ( مُصلّيات ) للصلاة على الموتى في الأوقات العادية ، وتشتهر في أوقات الطاعون باعتبارها مصدرا لتعداد الضحايا بجانب ديوان المواريث الذى فقد صُدقيته . ولكن للمقريزى علم بالمُصليات المشهورة فقط . وهناك الكثير منها غير مشهور .
6 ـ وفى إحصاءات لاحقة عن أعداد الضحايا يقول المقريزى :
6 / 1 : ( وضبط في يوم السبت تاسعه من صُلّى عليه بالقاهرة فكانوا ألفاً ومائتين وثلاثاً وستين ، لم يرد الديوان سوى ما دون الأربعمائة، فكان عدد من صُلّى عليه بمُصلّى باب النصر في هذا اليوم أربعمائة وخمسين ..... ) مصلّى باب النصر كانت الأشهر في العصر المملوكى ، وكانت بجانب باب النصر الموجود حتى الآن .
6 / 2 : ( وبلغ عدد من صلى عليه بمصلى باب النصر في يوم الأحد عاشره خمسمائة وخمسة ، وهي من جملة أربع عشرة مصلى‏. ....)
6 / 3 : ( وبلغت عدة من صلى عليه في يوم الاثنين حادي عشره في المصليات المشهورة بالقاهرة وظواهرها ألفين ومائتين وستة أربعين‏. وانطوى عن الذي ضبط الكثير ممن لم يصل عليه فيها، وبلغت عدة من صلى عليه فيها وبلغت عدة من صلى عليه بمصلى باب النصر خاصة في يوم واحد زيادة على ثمانمائة ميت ، ومثل ذلك في مصلى المؤمني تحت القلعة ، وكان يصلي على أربعين ميتاً معاً فما تنقضي الصلاة على الأربعين جميعاً حتى يؤتي بعدة أموات . وبلغت عدة من خرج من أبواب القاهرة من الأموات اثنا عشر ألفاً وثلاثمائة ميت‏.).
7 ـ ويذكر المقريزى بعض الغرائب ، يقول :
7 / 1 : ( ومات بعض الأمراء الألوف فلم يُقدر له على تابوت حتى أخذ له تابوت من السبيل‏. ومات ولد لبعض الوزراء فلم يقدر الأعوان - مع كثرتهم وشدتهم - على تابوت له حتى أُخذ له تابوت من المارستان‏. ). ميزة الوباء أنه لا يفرّ بين المستضعفين وأكابر المجرمين . هذا ما نرجوه من كورونا في وقتنا هذا .!
7 / 2 : ( واتفق في هذا الوباء غرائب منها: أنه كان بالقرافة الكبرى والقرافة الصغرى من السودان نحو ثلاثة آلاف ما بين رجل وامرأة صغير وكبير ففنوا بالطاعون حتى لم يبق منهم إلا قليل‏. ففروا إلى أعلى الجبل وباتوا ليلتهم سهارى لا يأخذهم نوم لشدة ما نزل بهم من فقد أهليهم وظلوا يومهم من الغد بالجبل فلما كانت الليلة الثانية مات منهم ثلاثون إنساناً وأصبحوا فإلى أن يأخذوا في دفنهم مات منهم ثمانية عشر‏.). قال جل وعلا : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ) (8) الجمعة )
7 / 3 : ( واتفق أن إقطاعاً بالحلقة انتقل في أيام قليلة إلى تسعة نفر، وكل منهم يموت). قسّم المماليك أراضى مصر الزراعية إقطاعات على أنفسهم ، من الجنود الى الأمراء والسلطان . أحد الإقطاعات كان لأمير فمات هذا الأمير فانتقل لغيره من نفس الرتبة ، فمات هذا الأمير فانتقل لمن يليه ، فمات ، وهكذا تنقل هذا الإقطاع الى تسعة من الأمراء ماتوا كلهم واحدا إثر آخر .
تعليق
في كورونا التي تضرب مصر والعالم الآن ألا يتعظ السيسى وعصابته بأنه لا هروب من الموت ؟ !. الأرض تبقى ونحن نموت ونصبح فيها ترابا . ولكن أكابر المجرمين غافلون . وسبحان من يرث الأرض ومن عليها : ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) مريم )
7 / 4 : ( ومن كثرة الشغل بالمرضى والأموات تعطلت أسواق البز ونحوه من البيع والشراء وتزايد ازدحام الناس في طلب الأكفان والنعوش فحملت الأموات على الألواح والأقفاص وعلى الأيدي) . في هذه المحنة كسدت أسواق الحرير ( البزّ ) ، وانتعشت سوق الأكفان والنعوش ، وكانوا بسبب قلة المعروض من التوابيت والنعوش يحملون الموتى على الأيدى وألواح الخشب والأقفاص .!
7 / 5 : ( وعجز الناس عن دفن أمواتهم، فصاروا يبيتون بها في المقابر ، والحفارون طول ليلتهم يحفرون، وعملوا حفائر كثيرة تلقى في الحفرة منها العدة الكثيرة من الأموات ، وأكلت الكلاب كثيراً من أطراف الأموات، وصار الناس ليلهم كله يسعون في طلب الغُسّال والحمّالين والأكفان، وترى نعوش الأموات في الشوارع كأنها قطارات الجمال لكثرتها والمرور بها متواصلة بعضها في إثر بعض، فكان هذا من الأهوال التي أدركناها‏.). ثم وصل الناس الى العجز عن دفن الضحايا ، فلجأوا الى المقابر الجماعية التي إزدحمت بالجثث ، وعجزت عن مواراتها بالكامل فكانت الكلاب تأكل أطراف الجثث . والمقريزى يصف ما رآه ويقول : ( وترى نعوش الأموات في الشوارع كأنها قطارات الجمال لكثرتها والمرور بها متواصلة بعضها في إثر بعض، فكان هذا من الأهوال التي أدركناها‏.).!
7 / 6 : ( وفشا ببلاد الصعيد وببوادي العرب وبمدينة حماة ومدينة حمص‏.) .تناقص الطاعون في القاهرة بينما إشتد في الصعيد والشام . وليست لدى المقريزى تقديرات بالضحايا .
7 / 7 ـ ( ووجد في بعض بساتين القاهرة سبعة دياب قد ماتوا بالطاعون‏.) ( ومات عند رجل أربع دجاجات وجد في كل واحدة منهن كبة في ناحية من بدنها‏.) ( وكان عند رجل نسناسة فأصابها الطاعون برأسها وأقامت ثلاثة أيام، إذا وضع لها الأكل لا تتناول الغداء، وتشرب مرة واحدة في اليوم، ثم هلكت بعد ثلاث‏.).في القاهرة : موت ذئاب ودجاج وقرود بالطاعون ، فماذا عن البشر في الريف المصرى المنبوذ ؟.
8 ـ ( وفي يوم الجمعة خامس عشره‏:‏ جمع السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان كاتب السر ، بأمر السلطان أربعين شريفاً اسم كل شريف منهم محمد، وفرّق فيهم من ماله هو خمسة آلاف درهم ، وأجلسهم بالجامع الأزهر ، فقرءوا ما تيسر من القرآن الكريم بعد صلاة الجمعة ، ثم قاموا - هم والناس - على أرجلهم فدعوا الله تعالى، وقد غصّ الناس بالجامع الأزهر، فلم يزالوا يدعون الله حتى دخل وقت العصر ، فصعد الأربعون شريفاً إلى أعلى الجامع ، وأذّنوا جميعاً ، ثم نزلوا فصلوا مع الناس صلاة العصر وانفضوا . وكان هذا مما أشار به بعض العجم ، وأنه عمل هذا ببلاد المشرق في وباء حدث عندهم فارتفع عقيب ذلك . فلما أصبح الناس يوم السبت أخذ الوباء يتناقص في كل يوم حتى انقطع. )
تعليق
1 ـ هذا هجص وضيع ومضحك ، تجميع أربعين شريفا كل منهم إسمه ( محمد ) للتوسل بالاههم الذى صنعوه وأسموه محمدا ، وهذا لرفع الطاعون مقابل 5 ألاف درهم من مال برسباى المشهور بالبخل .! . الذى تولى تجميعهم هو كاتب السّر ( الشريف إبن عدنان ) ، ولو أراد هذا الشريف إبن عدنان تجميع آلاف من ( الأشراف ) كل منهم إسمه ( محمد ) فما وجد عُسرا ، إذ تكاثر الزعم بالانتساب للنبى عند طوائف المحمديين خصوصا بين الصوفية ، فكل من يزعم الولاية يصنع لنفسه إنتسابا للنبى محمد زورا وبهتانا ، وكانت طبقة الأشراف ذات مكانة عالية في أديان التصوف والتشيع والسّنة، بالتالى كانوا ينتمون الى أكابر المجرمين من رجال الدين . وبعضهم إصطنع الإنتساب للنبى محمد وزعم المهدية ليصل للحكم ويصير من أكابر المجرمين المستبدين . وهنا ظهر تقليد جدا لمواجهة الطاعون واكب وصوله الى ذروته وبدء تناقصه .
2 ـ فى وباء كورونا الحالي يظهر بين الشيعة والسنة من يزعم المهدية ، وتظهر أنواع أخرى من الهجص الدينى في مقاومة كورونا تثير القرف ، وتؤكد أن هذه الحيوانات الضالة أشد ضررا من كورونا .
9 ـ ( وفشا ببلاد الصعيد وببوادي العرب وبمدينة حماة ومدينة حمص‏.) .
تعليق
تناقص الطاعون في القاهرة بينما إشتد في الصعيد والشام . وليست لدى المقريزى تقديرات بالضحايا .
10 ـ ( ووجد في بعض بساتين القاهرة سبعة دياب قد ماتوا بالطاعون‏.) ( ومات عند رجل أربع دجاجات وجد في كل واحدة منهن كبة في ناحية من بدنها‏.) ( وكان عند رجل نسناسة فأصابها الطاعون برأسها وأقامت ثلاثة أيام، إذا وضع لها الأكل لا تتناول الغداء، وتشرب مرة واحدة في اليوم، ثم هلكت بعد ثلاث‏.).
تعليق
غرائب الطاعون في القاهرة : موت ذئاب ودجاج وقرود بالطاعون .

شهر رجب أوله الأحد‏:‏
أخبار الطاعون
1 ـ ( أهل هذا الشهر والوباء قد تناقص بالقاهرة ، إلا أنه منذ نقلت الشمس إلى برج الحمل في ثامن عشر جمادى الآخرة ودخل فصل الربيع فشا الموت في أعيان الناس وكبرائهم ومن له شهرة بعد ما كان في الأطفال والخدم، وقد بلغت أثمان الأدوية وما تحتاح إليه المرضى أضعاف ثمنها‏. وذلك أن الأمراض طالت مدتها بعد ما كان الموت وحيا فلا تخلو دار من ميت أو مريض‏. وشنع في هذا الوباء ما لم يعهد مثله إلا في النادر، وهو خلو دور كثيرة جداً من جميع من كان بها ، حتى أن الأموال المخلفة عن عدة من الأموات أخذها من لا يستحقها‏.)
تعليق
جاءت موجة تالية من الطاعون . الأولى كان ضحاياها في الأطفال والخدم والرقيق ، وكان موتا سريعا يستغرق ساعات . الموجة التالية كانت مرضا طويلا أصاب الكبار والأعيان المشهورين ، ربما لأنه كانت لديهم مناعة تقاوم الفيروس فتطيل المرض ومعاناته . وطول مدة المرض جعلت الطلب كبيرا على الأدوية فارتفعت أثمانها . وبلغ البلاء أن كل دار ــ تقريبا ــ كانت لا تخلو من مريض ، وكان قد مات فيها من قبل ضحايا من الموجة الأولى . وبالتالي خلت دور كثيرة من أصحابها بعد موت أصحابها ، واستولى آخرون على هذه البيوت .
2 ـ ( وشنع أيضاً الموت والأمراض في المماليك السلطانية بحيث ورد كتاب من طرابلس فلم يجد الشريف عماد الدين أبو بكر بن علي بن إبراهيم ابن عدنان من يتناوله حتى يفتحه السلطان‏. وكان السيد أبو بكر إذ ذاك يباشر بعد موت أخيه السيد شهاب الدين، وقد عين كتابة السر فأخبرني - رحمه الله - أنه خرج من بين يدي السلطان حتى وجد واحداً من المماليك خارج القصر فدخل به حتى أخذ الكتاب من القادم به وفتحه ثم قرأه هو على السلطان‏.).
تعليق
1 : المقريزى كان يعرف كاتب السّر ( سكرتير السلطان ) إبن عدنان . وقد أخبره كاتب السر أن معظم المماليك السلطانية قد أبادهم الطاعون الى درجة أنه بصعوبة وجد واحدا منهم ليستلم رسالة من نائب طرابلس . قلنا ان الطاعون أحسن صنعا إذ إلتهم جلبان برسباى المجرمين ، فإحتاج الى ( جلب ) مماليك آخرين قضى عليهم أيضا طاعون عام 841 .
2 : ندعو الله جل وعلا أن تطهر كورونا الكرة الأرضية من أكابر المجرمين في عصرنا من الحكام ورجال الدين .!
أخبار أكابر المجرمين
الطاعون لم يعطل التعيينات والترقيات والعزل لأنه مورد رزق ( سُحت ) للسلطان بها يأخذ رشوة ، ومن يتولى يسلب أضعافها من المستضعفين .
يقول المقريزى :
1 : ( وفي يوم الاثنين تاسعه‏:‏ خلع على الطواشي زين الدين خشقدم واستقر مقدم المماليك بعد موت الأمير فخر الدين ياقوت‏. وخشقدم هذا رومي الجنس رباه الأمير يشبك وأعتقه واشتهر ).
2 :( وفي سادس عشره‏:‏ قدم الأمير تغري بردي المحمودي من سجنه بدمياط فرسم أن يتوجه من قليوب إلى دمشق ليكون أتابك العساكر بها فتوجه إليها‏.)
3 :( وفي ثالث عشرينه‏:‏ خلع على بدر الدين حسن بن القدسي واستقر في مشيخة الشيخونية بعد موت صدر الدين أحمد بن محمود العجمي‏.)
أخبار الأسعار
4 ـ ( وفي هذه الأيام‏:‏ انحل سعر الغلال وقد دخلت سعر الغلة الجديدة فأبيع الشعير بتسعين درهماً الأردب والقمح بمائتين وما دونها )

شهر شعبان أوله الأربعاء‏:‏
1 ـ ( في ثالثه‏:‏ منع نواب القضاة من الحكم ، ورسم أن يقتصر الشافعي على أربعة نواب والحنفي على ثلاثة والمالكي والحنبلي كل منهما على نائبين. فما أحسن هذا إن تم‏.).
تعليق
1 :هذه لمحة عن فساد القضاء ، وتدخل السلطة المملوكية ( الفاسدة ) لاصلاح هذا القضاء بين الناس ، مما يدلّ على أن أكابر المجرمين من القضاة كانوا الأكثر فسادا من برسباى . لا ننسى أن كبيرهم قاضى القضاة الشافعى شيخ الإسلام ابن حجر العسقلانى أمير المؤمنين في الحديث . كانوا في نهم لأخذ الرشاوى لتعويض ما يدفعونه في شراء المنصب . أحس السلطان إنهم يسلبون كثيرا وبما يفوق ما دفعوه من رشوة فاتخذ هذه الخطوة الإصلاحية بتخفيض أعداد ( نواب القضاة ). إنقسم القضاة الى الدرجة العليا وهم قضاة القضاة ( الأربعة ) وعلى رأسهم القاضي الشافعى . وكل منهم يستنيب ( أي يعين ) له نوابا في البلاد ، يأخذون الرشوة على الأحكام .إذ كانوا يدفعون الرشوة كالمعتاد لكى يتولوا المنصب ، فأكثروا من تعيين قضاة ينوبون عنهم .
2 : المقريزى يعلق يائسا : ( فما أحسن هذا إن تم‏. ). يعنى لم يتم هذا الإصلاح ، لأن الفساد أصله في الرأس ، وهم أكابر المجرمين من مماليك ورجال الدين . ولأن السلطان يحتاج الى فساد القضاة ، إذ يعطيه هذ حُجّة لأن يرتدى ثوب المُصلح ، ثم أن يصادر المفسدين ، ويعزلهم ليولى مفسدين غيرهم ، وكله فسادُّ في فساد !.
المحمل
2 ـ ( وفي يوم الاثنين ثامنه‏:‏ أدير محمل الحاج على العادة و لم نعهده أدير قط في شعبان ، وإنما يدار دائماً في نحو نصف من شهر رجب ، غير أن الضرورة بموت المماليك الرماحة اقتضت تأخير ذلك ، حتى أن معلمي اللعب بالرماح أخذوا في تعليم من بقي من المماليك ما عرفوا منه كيف يمسك الرمح ، فكان الجمع فيه دون العادة‏.).
تعليق
أهلك الطاعون المماليك الرمّاحة الذين يلعبون بالرماح في إحتفال خروج المحمل بالحجاج ، وكان مناسبة هامة .
وظائف أكابر المجرمين
نعيد القول : الطاعون لم يعطل التعيينات والترقيات والعزل لأنه مورد رزق ( سُحت ) للسلطان ، يأخذ رشوة ، ومن يتولى يسلب أضعافها من المستضعفين . يقول المقريزى :
1 :( وفي ثالث عشرينه‏:‏ خلع على جمال الدين يوسف بن أحمد التزمنتي - المعروف بابن المجير - أحد فضلاء الشافعية واستقر في مشيخة الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء‏. وكان قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن المحمرة قد استنابه فيها‏.). المقريزى يصف التزمنتى بأنه أحد فُضلاء ( الفقهاء ) الشافعية .!. هل يرضى أحد الفضلاء أن يخدم برسباى ويتولى منصبا بالرشوة ؟ ‏
2 :( واستقر أيضاً بدر الدين محمد بن عبد العزيز - المعروف بابن الأمانة - أحد خلفاء الحكم الشافعي في تدريس الشافعية بالشيخونية ، وكان ابن المحمرة قد استنابه عنه ، فاستقل كل منهما بالوظيفة عوضاً عن مستنيبه ( أي قاضى القضاة الذى جعله نائبا عنه ) ، بحكم إقامته على قضاء دمشق‏.)
3 : ( وخلع أيضاً على أمين الدين يحيى بن محمد الأقصراي واستقر في مشيخة الأشرفية المستجدة وتدريس الحنفية بها ، عوضاً عن كمال الدين محمد بن الهمام ، لرغبته عنها تعففاً وزهادة‏. )
انخفاض الأسعار
( وفي هذا الشهر: انحطت الأسعار فأبيع القمح. بمائة وخمسين درهما الأردب فما دونها، والشعير بتسعين فما دونها، والفول بسبعين درهماً فما دونها. وبلغ الدينار الأشرفي إلى مائتين وثمانين درهماً، والأفرنتي إلى مائتين وستين. ).
النيل
( وفي تاسع عشرينه: ابتدئ بالنداء على النيل، وقد بلغت القاعدة ستة أذرع وثلاثة أصابع . )

شهر رمضان أوله الأربعاء‏:
أخبار أكابر المجرمين‏
1 ـ ( في تاسعه‏:‏ قرر السلطان في جامعه المستجد بجوار قيسارية العنبر من القاهرة دروساً ثلاثة، فجعل مدرس الشافعية شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن يعقوب القاياتي‏. وقرر عنده عشرين طالباً ، وجعل مدرس المالكية عبادة بن علي بن صالح الزرزاري مولده سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وعنده عشرة من الطلبة ، وجعل مدرس الحنابلة زين الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الزركشي ومعه عشرة من الطلبة‏. ومولد عبد الرحمن الزركشي في تاسع عشر شهر رجب سنة ثمان وخمسين وسبعمائة‏. وسمع علي بن إبراهيم البناني صحيح مسلم)
تعليق
1 :لتحصين أمواله السُّحت من المصادرة إذا حدث له طارئ، كان الأمير المملوكى أو السلطان المملوكى يبنى مدرسة او جامعا او خانقاة ، يوقف عليها اراضى زراعية ، ويعين فيها مدرسين وطلبة في العلوم الدينية في دينه الأرضى ، ويجعل نفسه قائما على الوقف ، ينفق الأقل على المدرسة ويستأثر بالباقى . لم يكن وقتها تهريب الأموال فى بنوك خارجية. إضطر كبار المجرمين الى إستثمار أموالهم في الداخل ، وتشغيل حلفائهم أكابر المجرمين من رجال الدين في تلك المؤسسات الدينية التعليمية .
2 : عمائرهم الدينية لا تزال باقية في مصر والشام ، وكلها من مال حرام.
2 ـ ( وفي يوم السبت ثامن عشره‏:‏ قدم كاتب السر بحلب شهاب الدين أحمد بن صالح ابن السفاح باستدعاء ليستقر في كتابة السر بديار مصر ويستقر عوضه في كتابة السر بحلب ابنه زين الدين عمر على أن يحمل عشرة آلاف دينار‏. وكانت كتابة السر قد شغرت بعد موت السيد الشريف شهاب الدين فباشر أخوه عماد الدين أبو بكر أياماً قلائل، ومات فباشر شرف الدين أبو بكر الأشقر نيابة حتى يلي أحد. وسعى فيها جماعة، فاختار السلطان ابن السفاح وبعث في طلبه وخلع عليه في عشرينه‏.).
تعليق
المُلفت فيما قاله المقريزى ــ وهو يكتب على سجيته ـ أن السلطان إستدعى من يتولى منصب كاتب السر على أن يأتي وهو يحمل معه الرشوة عشرة ألاف دينار. وقد تنافس آخرون على شراء هذا المنصب فاختار السلطان هذا الشخص وألزمه بدفع الرشوة . وما كان له إلا أن يطيع ، ليس فقط خوفا من السلطان ولكن سيكون في القاهرة بجانب السلطان أكثر نفوذا وأكثر قدرة على السلب والنهب .

شهر شوال أوله الخميس‏:
الأسعار
1 ـ ( أهل هذا الشهر وعامة المبيعات من الغلال واللحوم والفواكه رخيصة جدا‏.‏)
تعليق: هل هذا بسبب انتشار الطاعون ؟!
المحمل
2 ـ ( وفي يوم الثلاثاء عشرينه‏:‏ برز محمل الحاج وكسوة الكعبة إلى الريدانية خارج القاهرة فرحل الركب الأول في ثاني عشرينه ورحل المحمل من بركة الحاج في ثالث عشرينه).
تعليق
أسهمت تجمعات الحج في نشر الطاعون في الآفاق .
النيل
( وفي يوم الخميس ثاني عشرينه‏:‏ نودي على النيل بزيادة إصبع واحد لتتمة خمسة وعشرين إصبعاً من الذراع التاسعة . ولم يُناد عليه من الغد ، فتوقفت الزيادة، ثم نودي عليه من يوم الأحد‏.).
تعليق
الطاعون لم يعطل الاهتمام بالنيل . قياس النيل كان مهما ومؤثرا في أسعار الحبوب ، وكان الإعلان عنه بالمناداة بأنه زاد كذا أو نقص كذا .
‏ وظائف أكابر المجرمين :
( وخلع علي سليمان بن عذراء بن علي بن نعير بن حيار بن مهنا ، واستقر أمير الملأ ، عوضاً عن مدلج بن نعير ، وعمره نحو خمس عشرة سنة‏.). تعيين صبى أميرا على قبيلته الاعرابية التي تخدم المماليك في الشام.

شهر ذي القعدة أوله السبت‏:‏
وظائف أكابر المجرمين‏
1 ـ ( وفي ثالثه‏:‏ خلع على الوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ واستقر أستاداراً عوضاً عن الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي مضافاً إلى الوزارة‏.)
( وفي رابع عشرينه‏:‏ خلع على أقبغا الجمالي، وُأخرج لكشف الجسور‏. )
أخبار النيل
( وفي سادس عشرينه‏:‏ نودي على النيل بزيادة ثلاثة أصابع لتتمة سبعة عشر ذراعاً وتسعة أصابع‏. )
( وفيه نقص النيل لتقطع الجسور من فساد عمالها فتوقفت الزيادة‏.)
( وفي عشرينه - الموافق لثاني عشر توت -‏:‏ نودي على النيل بزيادة إصبع واحد لتتمة تسعة عشر ذراعاً وعشر أصابع ولم يناد عليه من الغد ونقص عشر أصابع لتقطع الجسور‏.) .
تعليق
كان لا بد من مراعاة الكبارى والجسور على النيل ، وكانت تحدث المجاعة إذا فاض النيل زائدا عن الحد أو إذا تناقص . وبعد المجاعة يحدث وباء بسبب تعفن الجثث في الشوارع .!
أخبار الحجاج‏
( وفي ليلة السبت خامس عشره‏:‏ ظهر للحجاج - وهم سائرون من جهة البحر الملح - كوكب يرتفع ويعظم ثم يفرع منه شرر كبار ثم اجتمع‏. فلما أصبحوا اشتد عليهم الحر فهلك من المشاة ثم من الركبان عالم كثير وتلف من حمالهم وحميرهم عدد عظيم وهلك أيضاً في بعض أودية ينبع جميع ما كان فيه من الإبل والغنم كل ذلك من شدة الحر والعطش‏.)

شهر ذي الحجة ، أوله الاثنين‏:‏
أخبار أكابر المجرمين
1 ـ برسباى يشهد مناورة بحرية : ( وفي يوم الثلاثاء ثامنه : نزل السلطان من قلعة الجبل إلى بيت ابن البارزي المطل على النيل، وقدم بين يديه في النيل غرابان حربية، فلعبا كما لو حاربا الفرنج، ثم ركب سريعاً، وعاد إلى القلعة )
2 ـ سفر ناظر الجيوش للقدس وعودته : ( وفي عاشره‏:‏ توجه عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش ومدبر الدولة في جماعته لزيارة القدس‏. ) . ( وفي تاسع عشرينه‏:‏ قدم القاضي‏ زين الدين عبد الباسط من القدس‏.)
صراع أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي هذا الشهر‏:‏ توجه الأمير قصروه نائب حلب والأمراء المجردون من مصر بمن معهم لمحاربة قرقماس بن حسين بن نعير فلقوا جماعه تجاه قلعة جعبر وقد أخلى الجليل فأخذ العسكر في نهب البيوت فخر عليهم العرب فقتلوا كثيراً منهم وفيهم أتابك حلب وسلبوهم فعادوا إلى حلب بأسوأ حال‏.)
2 ـ ( وفي هذا الشهر‏:‏ توجه الأمير قصروه نائب حلب والأمراء المجردون من مصر بمن معهم لمحاربة قرقماس بن حسين بن نعير فلقوا جماعه تجاه قلعة جعبر وقد أخلى الجليل فأخذ العسكر في نهب البيوت فخر عليهم العرب فقتلوا كثيراً منهم وفيهم أتابك حلب وسلبوهم فعادوا إلى حلب بأسوأ حال‏.).
تعليق
حارب المماليك جماعة من الأعراب عند قلعة جعبر ( تقع الآن بجوار مدينة الرقة السورية ) . أخلى الأعراب مدينة الخليل فانشغل المماليك بنهب بيوت الجليل ، فهاجمهم الأعراب وهزموهم فهرب المماليك الى ( حلب ). نهب المماليك التابعين للسلطان برسباى ( سلطان الإسلام بزعمهم ) هو من المعلوم عندهم بالضرورة في دينهم السُّنّى . وهو ما يؤيده ويؤكده كبار فقهاء الشرع ( الشريف ) مثل ابن حجر العسقلانى .
الحج : موت الحجاج عطشا :
( وفي سابع عشرينه‏:‏ قدم مبشرو الحاج وأخبروا بهلاك من هلك من العطش‏.‏)
النيل وانهيار الجسور
1 ـ ( فيه نودي على النيل برد النقص وزيادة ثلاثة أصابع، لتتمة سبعة عشر ذراعاً ونصف )
2 ـ وفي عشرينه- الموافق لثاني عشر توت-: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد، لتتمة تسعة عشر ذراعاً وعشر أصابع ولم يناد عليه من الغد، ونقص عشر أصابع لتقطع الجسور )
3 ـ وفي سلخه ( 30 ذي الحجة ) : نودي على النيل برد النقص وزيادة إصبعين .

موجز لكوارث هذا العام 833 :
ويوجز المقريزى أحوال هذه السنة 833 فيقول : ( فكانت هذه السنة ذات مكاره عديدة من أوبئة شنعة، وحروب وفتن. )
1 ـ يقول عن مصر : ( فكان بأرض مصر- بحريها وقبليها- وبالقاهرة ومصر وظواهرهما، وباء مات فيه- على أقل ما قيل- مائة ألف إنسان والمجازف يقول المائة ألف من القاهرة فقط، سوى من مات بالوجه القبلي والوجه البحري، وهم مثل ذلك. ) . تضارب في الأعداد ، وهو ما يحدث الآن في عصر العسكر المصرى ، فأعداد الضحايا ليس معروفا ، والتنقيب عنه يعنى الحبس الاحتياطي ، فهو من الأسرار العليا .
2 ـ وعن الحجاج : ( وغرق ببحر القلزم في شهر ذي القعدة مركب فيه حجاج وتجار يزيد عددهم على ثمانمائة إنسان، لم ينج منهم سوى ثلاث رجال، وهلك باقيهم، وهلك في ذي القعدة أيضاً بطريق مكة- فيما بين الأزلم وينبع- بالحر والعطش ثلاثة آلاف ويقول المكثر خمسة آلاف، )
3 ـ وعن الغرقى بالنيل : ( وغرق بالنيل في مدة يسيرة اثنتا عشرة سفينة، تلف من البضائع والغلال ما قيمته مال عظيم. ). الغرق في النيل وفى البحر عادة مؤلمة ، مستمرة حتى اليوم ، هل نسيتم ضحايا عبّارة السلام في عهد مبارك ؟
4 ـ وعن الشام : ( وكان بغزة والرملة والقدس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب وأعمالها وباء، هلك فيه خلائق لا يحصى عددها إلا الله تعالى. )
4 ـ غير ذلك : ( وكان ببلاد السراي والدشت وصحاري في هذه السنة والتي قبلها قحط شديد، ووباء عظيم جداً، هلك فيه عالم كبير، بحيث لم يبق منهم ولا من أنعامهم إلا أقل من القليل. ).
هذا ما يقوله المقريزى شاهدا على عام 833 .
تعليق
يقول رب العزة جل وعلا عن منافقى المدينة : ( أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿١٢٦﴾ التوبة ) . أكابر المجرمين من الخلفاء الفاسقين والسلاطين ورجال الدين أشد كفرا من منافقى المدينة قبلهم.!.
































الفصل العاشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام : 834
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى في التأريخ لسنة 834
مقدمة :
في هذه السنة قام المقريزى بالحج ، ولبث في مكة وقتا غاب فيه عن مصر ، فلم يسجل كثيرا من الأحداث ، ولكنه أعطى تسجيلا حقيقيا ومؤلما لغارة تعرضت لها قافلة الحج التي كان فيها ، وكان قائد الغارة أحد ( الأشراف ) المنتمين ل ( آل البيت ) . نعرض لتسجيل المقريزى لأحداث هذا العام . قال :
( سنة أربع وثلاثين وثمانمائة )
( أهل شهر الله المحرم بيوم الأربعاء‏:‏ ).
الأسعار
( والأسعار رخيصة القمح كل أردبين - وشيء - بدينار والشعير والفول كل أربعة أرادب بدينار هرجة‏.).
النيل
( وفي يوم الخميس عاشره - وثاني بابة -‏:‏ انتهت زيادة النيل إلى تسعه عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً ونقص من الغد‏. )
هلاك الحجاج عطشا ( وفي ثالث عشرينه‏:‏ قدم ركب الحاج الأول وقدم المحمل ببقية الحاج في رابع عشرينه ، وقد هلك كثير منهم - ومن جمالهم وحميرهم - عطشاً فيما بين أكره وينبع وهم متوجهون إلى مكة‏. )

شهر صفر أوله الجمعة‏:
(‏أسعار )
( وفي هذا الشهر‏:‏ نزل الفول إلى خمسين درهماً الأردب ، والشعير إلى ستين درهماً الأردب ، والقمح إلى مائة وثلاثين درهماً الأردب‏. هذا والذهب‏ بمائتين وثمانين درهماً )
مواكب السلطان
( وفي يوم الاثنين حادي عشره : ركب السلطان من قلعة الجبل في موكب جليل ملوكي احتفل له ، ولبس قماش الركوب كما كان يلبس الظاهر برقوق ، وهو قباء أخضر‏ بمقلب أحمر وعلى رأسه كلفتاه، وجرّ الجنائب ، وصاحت الجاويشية وهو سائر ، وحوله الطبردارية حتى عبر من باب زويلة ، فشق القاهرة وخرج من باب الشعرية، يريد الصيد ، فبات ليلة الثلاثاء ، وعاد يوم الثلاثاء آخر النهار‏ ، و لم يركب منذ تسلطن للصيد سوى هذه الركبة‏. ). موكب السلطان وصفه المقريزى بأنه ( موكب جليل ملوكي ) ورافقته هتافات المماليك الجاويشية . هذا مع انه موكب للصيد .
( في خامس عشرينه‏:‏ ركب السلطان للصيد ورمي الجوارح وعاد من الغد‏. وتكرر ركوبه لذلك مراراً‏. ).
تعليق
يبدو ان برسباى أعجبه سيره في موكب ، فكرّر ذلك . وصدق الله جل وعلا : ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) آل عمران ) (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) النحل ) . ماذا لو عرف برسباى نهايته التعيسة مريضا وصلت به آلام المرض الى الجنون ؟ وهل يعتبر بهذا أكابر مجرمى عصرنا ، وهم مفتونون بالمواكب والتقلب في الأرض ؟ إن الله جل وعلا نهى عن ما هو أبسط من هذا . قال جل وعلا : ( وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) الاسراء ) وقصّ قصة قارون وموكبه ليكون عبرة لمن يخشى : ( القصص 76 : 82 ) . على أيّة حال فقد كان العسكر المملوكى ( الغريب ) منتصرا ، ويرى أن من حقه يتباهى بانتصاراته في مواكب تخرج من ( باب النصر ) بالقاهرة . المؤسف والمؤلم أن العسكر المصرى الخائن الخائب المهزوم مُغرم أيضا بالمواكب والاحتفالات .. ( على إيه يا حسرة ؟.!! ) . ‏
أخبار متكرّرة عن فساد العُملة
1 ـ( وكانت الدراهم الأشرفية ــ التي يتعامل الناس بها في القاهرة ومصر ويصرف كل درهم منها بعشرين من الفلوس - زنتها رطل وأوقية وثلث أوقية - قد كثر فيها أنواع من الدراهم ، وهي البندقية ضرب الفرنج ، والقرمانية ضرب بني قرمان أصحاب الروم ، واللنكية ضرب بلاد العجم ، والقبرسية ضرب قبرس ، والمؤيدية التي ضربت في الأيام المؤيدية شيخ ، والدراهم الزغل وهي عمل الزغلية ( الزغلية هم من يقومون بتزييف العُملة ) ، فترد عند النقد لكثرة ما فيها من الغش . فنودي في يوم الأحد رابع عشرينه أن لا يتعامل بشيء من الدراهم سوى الأشرفية‏. وكان قد نودي‏ بمثل ذلك فيما تقدم ، وعمل به الناس مدة ، ثم ترخصت الباعة في التعامل بها كلها لما جمعوه منها في أيام النهي عنها حتى مشت في أيدي الناس وتعاملوا بها. فلما نودي بالمنع منها عاد الأمر كما كان ، فخسر أناس عدة خسارات ، وأخذت الباعة وغيرها في جمعها لتتربص بها مدة ثم تخرجها شيئاً فشيئاً لعلمهم أن الدولة لا تثبت على حال وأن أوامرها لا تمضي‏. ). ‏
2 ـ ( وفي هذا الشهر‏:‏ توقف التجار في أخذ الذهب من كثرة الإشاعة بأنه ينادي عليه ، فنودي في يوم السبت سلخه أن يكون سعر الدينار الأشرفي‏ بمائتين وخمسة وثلاثين والمشخص بمائتين وثلاثين ، وهُدّد من زاد على ذلك بأن يُسبك في يده ، فعاد الضرر في الخسارة على كثير من الناس لانحطاط سعر الدينار خمسين درهماً‏.).

شهر ربيع الأول ، أوله السبت .
أخبار متكرّرة عن فساد العُملة
( في رابعه‏:‏ جُمع الصيارفة والتجار وأُشهد عليهم أن لا يتعاملوا بالدراهم القرمانية ولا الدراهم اللنكية ولا القبرسية وأن هذه الثلاثة أنواع تباع بالصاغة على حساب وزن كل درهم منه بستة عشر درهماً من الفلوس ، حتى يدخل بها إلى دار الضرب ، وتعمل دراهم أشرفية خالصة من الغش. ونودي بذلك وأن تكون المعاملة بالدراهم الأشرفية والدراهم المؤيدية والدراهم البندقية ، فإن هذه الثلاثة فضة خالصة ليس فيها نحاس بخلاف الدراهم التي منع من المعاملة بها فإن عشرتها إذا سبكت تجيء ستة لما فيها من النحاس‏. واستقر الذهب الأشرفي‏ بمائتين وثمانين ، والأفرنتي‏ بمائتين وسبعين ، وأخذت الدنانير الأفرنتية في القلة لكثرة ما يسبك منها في دار الضرب وتعمل دنانير أشرفية ، فإنها بوزن الأفرنتية وسعرها عشرة دراهم على الأفرنتي‏.)
مواكب السلطان
( في تاسعه‏:‏ ركب السلطان للصيد وعاد من الغد‏. )‏
شهر ربيع الآخر أوله الأحد‏:‏
إصلاح في طريق الحج بعد هلاك الحُجّاج عطشا ‏
( وفي سادسه‏:‏ برز الأمير شاهين الطويل - أحد الأمراء العشرات - ليسير إلى طريق الحجاز ، ومعه كثير من البناة والحجارين والآلات والأزواد والأمتعة لإصلاح المياه التي فيما بين القاهرة ومكة ، وحفر آبار في المواضع المعطشة ، فساروا في نحو المائة بعير‏.)
أخبار متكرّرة عن فساد العُملة
( وفي سابعه‏:‏ نودي بأن الفضة على ما رسم به وأن لا يتعامل بالقرمانية ولا اللنكية ، وأن الدينار الأشرفي بمائتين وثلاثين ، والأفرنتي بمائتين وخمسة وعشرين‏. وحُذّر من خالف ذلك ، فتزايدت المضرة لكثرة التناقض وعدم الثبات على الأمر واستخفاف العامة براعيها وقلة الاهتمام بما يرسم به‏. )
‏تعليق
خبر يتكرّر لأنه تطبيق للمعلوم من دينهم بالضرورة ، وهو غش العُملة ، والسلطان هو البطل ، وفى نفس الوقت هو الذى يعاقب ( الزُّغلية ) أي من يقومون بغش العُملة الذهبية ، لأنه لا يريد أن ينافسه أحد .
شهر جمادى الأولى أوله الثلاثاء‏:
سفر المقريزى بأهله للحج مع قافلة إبن المرة ناظر جدة
( في سابعه‏:‏ برز سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة يريد التوجه إلى مكة، فسار معه ركب فيه جماعة ممن يريد الحج والعمرة ، تبلغ عدة جمالهم نحو الألف وخمسمائة جمل ، ثم رفعوا من بركة الحاج في ثاني عشرة ، فلما وصلوا إلى الوجه - وكنت فيهم بأهلي - وجدنا فيما بين الوجه وأكره عدة موتى ما بين رجال ونساء ممن هلك في عطشة الحاج ، فدفن منهم نحو الألف ، وترك ما شاء الله‏. ). شاهد المقريزى بنفسه جُثث من مات عطشا من الحجّاج ، ودفنوا نحو ألف منهم .!
عودة ابن حجر قاضيا للقضاة الشافعية
( وفي رابع عشرينه‏:‏ خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر ، وأعيد إلى قضاء القضاة بديار مصر ، عوضاً عن قاضي القضاة علم الدين صالح ابن البلقيني‏.)
تعليق
أكبر أكابر المجرمين برسباى يولّى ويعزل أكابر المجرمين في المناصب الدينية ( القضاء مثلا ) والمناصب الديوانية ( كاتب السّر مثلا ) ليأخذ منهم الرشاوى . وكانوا يتنافسون على تولى المناصب ويدّخرون الأموال وهم في الوظيفة تحسبا للعزل والعودة لشراء المنصب . هذا يسرى على ابن ( شيخ الإسلام : ابن البلقينى ) وعلى من حمل لقب ( أمير المؤمنين في الحديث ( ابن حجر العسقلانى ). أي إنّه صار ( معلوما من الدين بالضرورة ) في دينهم السُّنّى ، أو من ( الثوابت الدينية السُنّية ).

شهر جمادى الآخرة ، أوله الأربعاء .
لم يكتب المقريزى أحداث هذا الشهر بسبب سفره للحج ، وبدأ التسجيل بيوم 19 من هذا الشهر حيث تعرضت القافلة الى كان فيها بأهله الى غارة قام بها أعراب زبيد ، ثم غارة ( الشريف ) زهير الحسينى . يقول :
( في تاسع عشره‏:‏ عارض ركب المعتمرين ــ رفقة ابن المرة ـ عرب زبيد ، فأنخنا في غير وقت النزول ، وكادت الفتنة أن تثور ، حتى صولحوا على مائة دينار ، قام بها ابن المرة من ماله ، ولم يكلف أحد وزن شيء ، فلما نزلنا رابغ ( موضع قرب مكة ) أهلّينا بالعمرة ونحن على تخوف ، وسرنا ، فبينما نحن فيما بين الجرينات وقديد ، أغار علينا ـ ونحن سائرون ضحى ـ الشريف زهير بن سليمان بن زيان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني، في نحو مائة فارس ، وعدة كثيرة من المشاة، وقاتلنا ، فقاتله القوم صدراً من النهار، والجمال مناخة بأحمالها ، فقتل منا رجلان ومن العرب نحو العشرة ، وجرح كثير ثم وقع الصلح معه على ألف ومائة دينار أفرنتية وعلى ثياب جوخ وصوف وعبي ( عباءات ) بنحو أربعمائة دينار ، فكف الناس عن القتال بعد ما تعين الظفر لزهير، وبتنا بأنكد ليلة من شدة الخوف ، والمال يجبى من كل أحد بحسب حاله ؛ فمنهم من جُبي منه مائة دينار ومنهم من أُخذ منه دينار واحد ، وحمل ذلك من الغد . وسرنا فقدمنا مكة ــ ولله الحمد ــ في يوم الثلاثاء ثامن عشرينه، فكانت مدة سيرنا من القاهرة إلى مكة - شرفها الله تعالى - ستة وأربعين يوماً‏. )
تعليق
1 ـ قال جل وعلا عن حصانة السائرين لأداء فريضة الحج : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً ) (2) المائدة ). على النقيض من هذا التشريع الاسلامى كان لبعض الأشراف في مكة والمدينة تاريخ أسود في انتهاك حُرمة البيت الحرام وقتل ونهب الحُجّاج ، وبدأ هذا من العصر العباسى الثانى واستمر في العصرين المملوكى والعثمانى . ومع هذا يتمتعون بلقب ( الأشراف ) . كيف يكون شريفا من يقتل وينهب الحُجّاج من نساء وأطفال وغيرهم ممّن يبتغون فضلا من الله جل وعلا ورضوانا .
2 ـ ولأنها عادة تأصّلت عبر قرون فقد أصبحت من المعلوم من الدين السُنّى بالضرورة . أي صار حقا للشريف ممّن يزعم الانتساب لما يسمى ب ( آل البيت ) أن ينهب ويقتل الحجاج ، يطبّق شريعة سنيّة دينية معلومة من الدين السُنّى بالضرورة ، ومن ( ثوابت هذا الدين ) . لذا نرى المقريزى لا يُطلق لسانه مُحتجّا ، وهو وأهله ضحية لاعتداء مجرم قاطع الطريق هذا ، بل يسمّيه ( شريفا ) : ( أغار علينا ـ ونحن سائرون ضحى ـ الشريف زهير بن سليمان بن زيان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني، في نحو مائة فارس ، وعدة كثيرة من المشاة، وقاتلنا .. )
وظائف أكابر المجرمين
( وفي هذا الشهر‏:‏ استقر جانبك الناصري نائب الإسكندرية بعد موت الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار . وأصله من مماليك الأمير يلبغا الناصري ثم عمل في الأيام المؤيدية رأس نوبة المقام الناصري إبراهيم ابن السلطان ، وصار من جملة الأمراء، وولي كشف الجسور بالغربية‏. )
الاعتقاد في التنجيم
( وفيه أنذر المنجمون بكسوف الشمس ، فنودي بالقاهرة أن يصوم الناس ويفعلوا الخير، فلم يظهر الكسوف ، ووقع الإنكار على من أنذر به . ثم قدم الخبر بحدوث كسوف الشمس بجزيرة الأندلس حتى استولى على جرم الشمس كله إلا مقدار الثمن منه وذلك بعد نصف النهار من ثامن عشرينه‏. ). شاع الاعتقاد في جدوى التنجيم تبعا للاعتقاد في هجص كرامات أولياء التصوف ومزاعم علمهم بالغيب .
شهر رجب أوله السبت‏:‏
محمل الحاج
( في سابع عشره‏:‏ أدير محمل الحاج على العادة‏. ). سمع بهذا المقريزى وهو خارج مصر فكتبه ، ولعله كتبه من ذاكرته حيث كانت العادة خروج المحمل في هذا الوقت سنويا . ولم يسجل من أحداث شهر رجب سوى هذا الخبر. وفى مقامه بمكة لم يسجل أحوال الناس ، لأنه لا يرى مستحقا للتسجيل سوى من نعتبرهم أكابر المجرمين . ونعيد التذكير بأن التاريخ ينام في أحضان الطُّغاة وأكابر المجرمين ، ولا يهتم بالمستضعفين في الأرض إلا عرضا حين تقع لهم الكوارث ، فيذكرهم ليس بالأسماء ولكن بالوصف ، فلا يستحقون عندهم أكثر من ذلك .!‏
شهر شعبان أوله الاثنين‏:‏
أخبار الأندلس
نكبة الزلازل :
زلازل في الاندلس سمع بها المقريزى وهو في الحجاز
( في حادي عشره‏:‏ كانت زلزلة عظيمة شديدة بعد صلاة الظهر بجزيرة الأندلس وبمرج أغرناطة ، وسقطت بها أبنية كثيرة على سكانها فهلكوا . وخسف بثلاث بلاد كبيرة في مرج أغرناطة - وهي بلد همدان وبلد أوطورة وبلد دارما - فابتلعت الأرض هذه البلاد بأناسها وبقرها وغنمها وسائر ما فيها حتى صار من يمر من حولها يقول كان هنا بلد كذا وبلد كذا . وانخسف في كثير من البلاد عدة مواضع ، وسقط نصف قلعة أغرناطة ، وتهدم كثير من الجامع الأعظم وسقط أعلى منارته ، ورؤى حائط الجامع يرتفع ثم يرجع ومقدار ارتفاعه نحو عشرة أذرع ارتفع كذلك مرتين .
وخاف رجل عند حدوث الزلزلة فأخذ ابنه وأراد أن يخرج من باب داره فالتصق جانبا الباب وانفرج الحائط ، فخرج من ذلك الفرج هو وابنه وامرأته ، فعاد الحائط كما كان وتراجع جانبا الباب إلى حالهما قبل الزلزلة.
وأقامت الأرض بعد ذلك نحو خمسة وأربعين يوماً تهتز حتى خرج الناس إلى الصحراء ونزلوا في الخيم خوفاً من المدينة أن تسقط مبانيها عليهم . )
نكبة صراع أكابر المجرمين في الأندلس من المحمديين والمسيحيين
( وكان هذا كله بعد وصول السلطان المخلوع أبي عبد الله محمد الأيسر من تونس إلى الأندلس وحصره قلعة أغرناطة سبعة أشهر وقتله الأجناد والرجال حتى فنيت العدد والأموال ، فبلغ ذلك ملك قشتالة الفنشي فجمع عساكره من الفرنج وركب البحر إلى قرطبة يريد أخذ أغرناطة من المسلمين ، فاشتد البلاء عليهم لقلة المال بأغرناطة وفناء عسكرها في الفتنة وموت من هلك في الزلزلة ، وهم زيادة على ستة آلاف إنسان، ونزل الفرنج عليهم ، فلقوهم في يوم الجمعة عاشر رمضان من هذه السنة، وقاتلوهم يومهم ومن الغد قتل من المسلمين نحو الخمسة عشر ألف ، وألجأهم العدو إلى دخول المدينة وعسكر بإزائها على بريد منها ، وهم نحو خمسمائة وثمانين ألف. وقد اشتد الطمع في أخذها ، فبات المسلمون ليلة الأحد في بكاء وتضرع إلى الله ، ففتح عليهم الله تعالى وألهمهم رشدهم، وذلك أن الشيخ أبا زكريا يحيى بن عمر ابن يحيى بن عمر بن عثمان بن عبد الحق - شيخ الغزاة - خرج من مدينة أغرناطة في جمع ألفين من الأجناد وعشرين ألفاً من المطوعة ، وسار نصف الليل على جبل الفخار‏، حتى أبعد عن معسكر الفرنج إلى جهة بلادهم، ورفع إمارة في الجبال يعلم بها السلطان بأغرناطة ، فلما رأى تلك العلامات من الغد خرج يوم الأحد بجميع من بقي عنده إلى الفرنج فثاروا لحربهم ، فولى السلطان بمن معه من المسلمين كأنهم قد انهزموا ، والفرنج تتبعهم حتى قاربوا المدينة، ثم رفعوا الأعلام الإسلامية ، فلما رآها الشيخ أبو زكريا نزل بمن معه إلى معسكر الفرنج وألقي فيه النار ووضع السيف فيمن هنالك ، فقتل وأسر وسبى ، فلم يدع الفرنج إلا والصريخ قد جاءهم والنار ترتفع من معسكرهم ، فتركوا أهل أغرناظة ، ورجعوا إلى معسكرهم ، فركب السلطان بمن معه أقفيتهم يقتلون ويأسرون ، فبلغت عدة من قتل من الفرنج ستة وثلاثون ألفاً ، ولحق باقيهم ببلادهم بعد ما كادوا أن يملكوا أغرناطة‏. وبلغت عدة من أسر المسلمون من الفرنج نحو اثني عشر ألفاً . ويقول المكثر إنه قتل ومات وأسر من الفرنج في هذه الكائنة زيادة على ستين ألفاً‏.‏
وكان سبب هذه الحادثة أنه وقع بين ملك القطلان صاحب برجلونة وبين ملك قشتالة صاحب أشبيلية وقرطبة فجمع القشتيلي وسار لحرب القطلاني حتى تلاقى الجمعان فمشى الأكابر بين الملكين في الصلح فاعتذر القشتيلي بأنه أنفق في حركته مالاً كثيراً فأشير عليه بأخذ ما أنفقه من المسلمين بأن يغزوهم فإنهم قد ضعفوا. وما زالوا حتى تقرر الصلح ونزل على أغرناطة وكان ما تقدم ذكره‏. )‏
شهر رمضان‏:‏
المقريزى يقوم باسماع كتابه ( إمتاع الأسماع في المسجد الحرام )
الإسماع يعنى قراءة الكتاب على مستمعين ، وتدوين نُسخ منه . قال :
( ( وفي شهر رمضان‏ هذا ابتدأت في إسماع كتاب " إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأحوال والحفدة والمتاع صلى الله عليه وسلم "، من أول يوم فيه بقراءة - المحدث الفاضل تقي الدين محمد بن محمد بن فهد الهاشمي بالمسجد الحرام تجاه الميزاب . وكان جمعاً موفوراً‏. )
وهذا هو الخبر الوحيد الذى سجله في شهر رمضان . نعيد التذكير بأنه لم يهتم بتسجل أخبار الناس من حوله لأنهم ليسوا من أكابر المجرمين ّ!‏
شهر شوال أوله الثلاثاء‏:‏
في يوم الأربعاء تاسعه - الموافق لسادس عشرين بؤونة -‏:‏
أخبار النيل
( أخذ قاع النيل فجاء ستة أذرع وثلاثة أصابع ، ونودي عليه من الغد بزيادة ثلاثة أصابع واستمرت الزيادة‏. )
خروج المحمل ‏
( وفي حادي عشرينه‏:‏ خرج محمل الحاج إلى الريدانية خارج القاهرة صحبة الأمير قرا سنقر ورفع منها إلى بركة الحجاج . وحج القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش عظيم الدولة ومدبرها ، وحجت خوند جلبان زوجة السلطان أم ولده في تجمل كبير بحسب الوقت‏. ). وصلت الأخبار بهذا الى المقريزى وهو مكة فسارع بالتسجيل ، وذكر أهم الحُجّاج : الأمير قراسنقر وزين الدين عبد الباسط وخوند جلبان زوجة السلطان . واسمها يدل على أنها من المماليك الجُلبان من الشركس . ذكر أكابر المجرمين فقط دون الحُجّاج المستضعفين .
صراع الفيران .!!‏
( وفي هذا الشهر‏:‏ اتفقت حادثة غريبة وهو أنه اجتمع بأجران كوم النجار بالغربية من الفيران عدد لا يحصيه إلا الله تعالى ، واقتتلوا من العصر إلى قريب عشاء الآخرة ، فوجد من الغد نحو خمسة آلاف فار ميت، فجمعوا وأحرقوا . وأفسد الفار مقاتي البطيخ ونحوه ، وأكلوا الغلال وهي في سنبلها ، وأكلوا أكثر ما في جرون نواحي الغربية ، بحيث أن بعض النواحي لم ترد بذارها. وكان يجتمع في المواضع الواحد أكثر من ثلاثمائة فأر‏. ).
تعليق :
كانت تشيع أخبار عجيبة عن الحيوانات ، وتحظى بالتصديق مع انها تدخل في بند الخرافات . كان يحدث أن أعدادا هائلة من الفيران تلتهم المحاصيل ، ويختلق الفلاحون المستضعفون أقاصيص عنها ، يستلهمونها من صراعات أكابر المجرمين حولهم وفوقهم .! ولعلها إشارة الى معاناة الفلاح المصرى وقتها من الفيران والمماليك والأعراب . كلهم تسلّط عليه بالخراب والعذاب .!
شهر ذي القعدة ، أوله الخميس
أخبار النيل
( في يوم الاثنين ثاني عشره - الموافق له تاسع عشرين أبيب -‏:‏ كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً‏ . وركب الأمير قرقماس حاجب الحجاب حتى خلق المقياس وفتح الخليج على العادة‏. )
( وفيه زاد النيل اثني عشر إصبعاً من الذراع السابعة عشر . وفي هذا نادرتان من نوادر النيل ، إحداهما الوفاء قبل مسرى. وقد أدركنا ذلك وقع مرتين‏. والثانية زيادة هذا القدر في يوم الوفاء ، ولم يدرك مثل ذلك . واستمرت زيادة النيل والنداء عليه في كل يوم‏. ) . هذه أخبار معتادة ، وجاءت للمقريزى وهو في مكة فسجّلها .
‏خبر عن الحجاز يسجّله المقريزى وهو هناك :
( وفي هذا الشهر‏:‏ استجد بعيون القصب من طريق الحجاز بئر ، حفرت بإشارة القاضي زين الدين عبد الباسط ، فعظم النفع بها‏. ‏
وذلك أنني أدركت عيون القصب، وتخرج من بين الجبلين ماء يسيح على الأرض ، فينبت فيه القصب الفارسي وغيره شيء كثير، ويرتفع في الماء حتى يتجاوز قامة الرجل في عرض كبير . فإذا نزل الحاج عيون القصب أقاموا يومهم على هذا الماء يغتسلون منه ويردون . ثم انقطع هذا الماء، وجفت تلك الأعشاب فصار الحاج إذا نزل هناك احتفروا حفائر يخرج منها ماء رديء ، إذا بات ليلة واحدة في القرب نتن . فأغاث الله العباد بهذه البئر وخرج ماؤها عذباً‏.‏
وكان قبل ذلك بنحو شهرين قد حفر الأمير شاهين الطويل بئرين بموضع يقال له زعم وقبقاب ، وذلك أن الحاج كان إذا ورد الوجه تارة يجد فيه الماء وتارة لا يجده‏. فلما هلك الناس من العطش في السنة الماضية بعث السلطان بشاهين هذا كما تقدم ذكره فحفر البئرين بناحية زعم ، حتى لا يحتاج الحاج إلى ورود الوجه فيروي الحاج منهما، وعمّ الانتفاع بهما ، وبطل سلوك الحاج على طريق الوجه من هذه السنة‏. )‏
شهر ذي الحجة أوله السبت‏:
‏وظائف أكابر المجرمين
( في ثاني عشرينه‏:‏ خلع على تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير واستقر في نظر الديوان المفرد عوضاً عن الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم بعد موته‏. وابن الخطير هذا من نصارى القبط وله بيتوته مشهورة ‏. كان اسمه جرجس وتلقب بالشيخ الناج ، وترقى في الخدم الديوانية ، وباشر ديوان الأمير برسباي في الأيام المؤيدية شيخ ، فألزمه بالإسلام فأسلم، وتسمى تاج الدين عبد الوهاب، وخدم بديوان الخاص وبالديوان المفرد. فلما تسلطن الأشرف برسباي رقّاه، وولّاه نظر الاصطبل ،عوضاً عن بدر الدين محمد بن مزهر لما ولاه كتابة السر ،وأضاف إليه عدة رتب . منها أستادار المقام الناصري ابن السلطان، فشكرت سيرته من عفته وأمانته ورفقه بالفلاحين ولين جانبه وحسن سياسته مع كثرة برّه وإحسانه ، بحيث لا يوجد في أبناء جنسه من يدانيه فكيف يساويه‏. وإن أراد الله عمارة البلاد جعل إليه تدبير أمرها‏. ).
تعليق
هنا مصرى قبطى لم يكن من أكابر المجرمين مع عمله في هذه الدولة المجرمة . إنّه ابن الخطير ، وهو من أسرة متخصصة في الحسابات ، وقد أكرهوه على الدخول في دينهم الذى ينسبونه ظلما وزورا الى الإسلام العظيم ، فأطاع ، وبسبب أمانته تقلّب في الوظائف . بل إن أمانته أجبرت المقريزى ـ المشهور بتعصبه ضد النصارى ـ أن يقول عنه : ( فشكرت سيرته من عفته وأمانته ورفقه بالفلاحين ولين جانبه وحسن سياسته مع كثرة برّه وإحسانه ، بحيث لا يوجد في أبناء جنسه من يدانيه فكيف يساويه‏. وإن أراد الله عمارة البلاد جعل إليه تدبير أمرها‏. ). والعبارة الأخيرة تأثر فيها المقريزى بعقيدة ( وحدة الفاعل ) الصوفية التي تزعم ان الله جل وعلا هو الفاعل لكل شيء من خير أو شر . وهذا بهتان يعنى نفى اليوم الآخر والحساب والعقاب والثواب .
‏أخبار الحج
( وفي يوم السبت سلخه‏:‏ قدم مبشرو الحاج وقد مات كبيرهم الأمير فارس بينبع وكان مجرداً‏ ‏
بمكة على طائفة من المماليك ، وهو أحد أمراء العشرات . )
تعليق :
لم يسجل المقريزى معظم أحداث مصر معظم هذا الشهر . بدا بتسجيل الأسبوع الأخير منه . حسبما وصل اليه الخبر .



















الفصل الحادى عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 835
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى في التأريخ لسنة 835
سنة خمس وثلاثين وثمانمائة
شهر الله المحرم أوله الأحد‏:‏
أخبار النيل
( في عاشره - الموافق لعشرين مسرى -‏:‏ انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً واثني عشر إصبعاً ثم نقص خمسة عشر إصبعاً وزاد ونقص إلى حادي عشرينه وهو أول بابه‏. ثم لم يناد عليه لاستمرار النقص‏. )
‏أخبار أكابر المجرمين
( وفي ثاني عشرة‏:‏ قدم الأمير طرباي نائب طرابلس فأكرمه السلطان وأعاده إلى محل كفالته فسار بعد خمسة أيام‏. ) .
( وفي نصفه‏:‏ خلع على الأمير أقبغا الجمالي وأعيد إلى كشف الوجه القبلي عوضاً عن مراد خجا ، وقد ساءت سيرته ، ومبالغته في ظلم الناس . )
تعليق :
كوفىء الأمير أقبغا الجمالى على ظلمه الشديد بإعادة تنصيبه كاشفا ( حاكما ) للصعيد ، لأنه يبالغ في تطبيق الظلم ، وهذا الظلم دليل على التمسّك بالشريعة السُنّية ، وبثوابتها .
رجوع المقريزى مع الحجاج
قال المقريزى : ( وفي ثالث عشرينه‏:‏ قدم القاضي زين الدين عبد الباسط وصحبته خوند جلبان وبقية الركب الأول ، وقدم بعدهم من الغد محمل الحاج صحبة الأمير قرا سنقر ، وقدمتُ معهم . وقد عسف الأمير الناس في المسير مع ما أصابهم من العطش في توجههم‏. ) .
تعليق
زوجة برسباى ( خوند جلبان ) رجعت من الحج في صحبة الزين عبد الباسط ، وفى الركب الأول ، وفيه الحماية الفائقة . الركب الثانى كان الأمير قراسنقر هو قائد العسكر المرافق له . وكان المقريزى من بين الحجاج . ويذكر المقريزى أن الأمير المملوكى بالغ في السرعة خوفا من غارات الأعراب العاديين أو من غارة الشريف المجرم الذى هجم من قبل على الحجاج في قدومهم.
شهر صفر أوله الثلاثاء‏:‏
كوارث
1 ـ في مصر : ( في خامسه‏:‏ انتشر بآفاق السماء جراد كثير كفى الله شره‏. )
2 ـ في العراق والمشرق : أنواع متنوعة من الكوارث :
‏( وفى نصفه ..قدم الخبر بأن الخراب شمل البلاد من توريز إلى بغداد مسيرة خمسة وعشرين يوماً بالأثقال ، وأن الجراد وقع بتلك البلاد حتى لم يدع بها خضراً ، مع شدة الوباء ، وانتهاب الأكراد ما بقي ، وأن الغلاء شنع عندهم حتى أبيع المن من لحم الضأن - وهو رطلان بالمصري - بدينار ذهب، وأبيع لحم الكلب كل من بستة دراهم . وقد كثر الوباء ببغداد والجزيرة وديار بكر، ومع ذلك فقد عظم البلاء بأصبهان بن قرا يوسف بناحية الحلة والمشهد‏. ).
تعليق
1 ـ هنا كوارث مزدوجة من الجراد والوباء والحروب داخل مناطق متجاورة في ( معسكر السلام / دار السلام ). لم توقفهم الكوارث عن تقاتلهم فيما بينهم . هذه الحروب في العراق ستجعل برسباى يقود حملة لتدعيم سلطته في تخوم دولته .
2 ـ هي لمحة هنا بلاء أهل العراق وايران بالغلاء والجراد العادى ، والجراد البشرى ( أكابر المجرمين ).
3 ـ ما أكثر معاناة العراقيين من أكابر المجرمين في الماضى والحاضر .!
‏ملاحظة :
لم يذكر المقريزى أخبارا في شهر ربيع الأول .
شهر ربيع الآخر أوله الجمعة‏:
جرائم المماليك الجلبان تتسبب في استقالة الاستادار وتولية بديل عنه بالاكراه ‏
( في سابع عشره‏:‏ نزل عدة من المماليك السلطانية - سكان الطباق - من قلعة الجبل إلى دار الوزير كريم الدين بن كاتب المناخ أستادار ، يريدون الفتك به . وكان علم من الليل فتغيب واستعد ، فلم يظفروا به ولا بداره، وعادوا، وقد أفسدوا فيما حوله ، فسأل الإعفاء من الأستادارية، فأعفى . واستُدعى الوزير صاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في يوم السبت ثالث عشرينه ، وخُلع عليه ، وأعيد إلى الأستادارية‏. فكان في ذلك موعظة؛ وهي أن المماليك كانت جراياتهم ولحومهم وجوامكهم وعليقهم مصروفة ولا يخطر ببال أحد عزل ابن كاتب المناخ ، لثباته وسداد أمور الديوان في مباشرته، وانقطاع ابن نصر الله في بيته ، منذ نُكب عدة سنين ، فألقى الله في نفس ابن كاتب المناخ الخوف من المماليك حتى طالب الإعفاء ، وألهم الله السلطان ذكر ابن نصر الله ، فبعث إليه بالقاضي زين الدين عبد الباسط والوزير كريم الدين وسعد الدين ناظر الخاص في يوم الأربعاء يسلمون عليه من قبل السلطان ، ويعلموه بأنه عينه أستاداراً، فاعتذر بقلة ماله وتغير أحواله ، وهم يرددون سؤاله في القبول ويشيرون عليه بذلك ، ويحذرونه من المخالفة ، فاستمهلهم حتى يستخير الله، فتركوه وانصرفوا . فأشار عليه من يثق به أن يقبل ، فأجاب ، وأرسلوا إليه، فوافقهم على رأيهم‏.)
تعليق
1 ـ الاستادار ( كريم الدين ابن كاتب المناخ ) علم عزم المماليك الجلبان على الفتك به فاختفى ، وجاءوا فلم يجدوه فعاثوا في المنطقة فسادا. وقدّم هذا الاستادار استقالة شفوية ، أو بتعبير المقريزى سأل السلطان إعفاءه من منصبه فعزله السلطان وولى مكانه الوزير ابن نصر الله . كان ابن نصر الله معزولا منها من قبل ، وكان معتزلا في بيته بعد أن نكبه السلطان وصادره . وقد بعث له برسباى بثلاثة من الأكابر يبلغونه بالتعيين فاعتذر بالفقر ، أي عدم القدرة على دفع المعلوم ، ولكنهم حذّروه وأرهبوه ، وكان لا بد في النهاية أن يطيع . هم أكابر المجرمين ولكنهم خدم لأكبر أكابر المجرمين ، يوليهم ويعزلهم ويضربهم ويبتزّهم ، ويقيم لهم المواكب حين يخلع عليهم الوظائف ، ويعذبهم ويهينهم ويصادرهم إذا شاء . لا يملكون سوى طاعة السلطان . هم ظالمون مظلومون . وهذا جزاء من يبيع نفسه لمستبد طاغية .! .
2 ـ المقريزى في تأثره يثقافة عصره ينسب الأفعال لرب العزة وفق عقيدة ( وحدة الفاعل ) الصوفية ، فيقول إن الله جل وعلا هو الذى أخاف ابن كاتب المناخ : (.. ألقى الله في نفس ابن كاتب المناخ الخوف من المماليك حتى طالب الإعفاء ) وهو الذى ألهم برسباى تعيين ابن نصر الله : ( ألهم الله السلطان ذكر ابن نصر الله ) . هذا إفتراء على الله جل وعلا ، إذ ينسب ظلم البشر للخالق جل وعلا ! .
‏المنع من السفر الى مكة خوفا من غارات العربان والشريف المجرم
( وفي سابع عشرينه‏:‏ نودي بأن لا يسافر أحد صحبة ابن المرة إلى مكة ، فشق ذلك على الناس لتجهز كثير منهم للسفر‏.) ‏
شهر جمادى الأولى أوله السبت‏:‏
وظائف أكابر المجرمين
المنع من السفر الى جدة خوفا من غارات العربان والشريف المجرم
( في ثامنه‏:‏ خلع على سعد الدين إبراهيم بن المرة خلعة السفر إلى جدة ، وحذر من أخذ أحد معه ، خوفاً عليهم من العرب‏.) ، و كرّر المقريزى هذا الخبر يوم 10 من الشهر التالي .
خسوف القمر
( وفي ليلة الجمعة رابع عشره‏:‏ خسف جرم القمر جميعه مدة ثلاث ساعات من أول الليل‏.)
هدم قصر بعد سلب رخامه
(وفي سادس عشره‏:‏ ابتدئ بهدم قصر بيسري بين القصرين ، وكان قد أُخذ رخامه وعمل في داير الأشرفية المستجدة‏. )
تعليق
كان من ثوابت الدين السنى ومن المعلوم فيه بالضرورة أن يقوم السلطان الحالي أو أعوانه بهدم قصور الظالمين السابقين وسرقة رُخامها لاستعماله في قصورهم ومعابدهم . وتدور الأيام ويحدث نفس الشىء لقصور هذا السلطان أو ذاك الأمير بعد موته . ولا يتّعظ أحد .
مواكب السلطان
( وفي خامس عشرينه‏:‏ ركب السلطان من القلعة وعبر القاهرة من باب زويلة، ونزل في بيت عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط ، ثم ركب منه بعد ساعة إلى بيت سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص ، فجلس عنده قليلاً. وعاد إلى القلعة. وأكثر في هذا الشهر - بل في هذه السنة - من الركوب وعبور القاهرة وإلى الصيد والنزهة بخلاف ما كان عليه أولاً‏.)
الغرض من زيارة السلطان للقاضى زين الدين وللناظر سعد الدين يأتي في الخبر التالى : يقول المقريزى : ‏( وفي سادس عشرينه‏:‏ حمل القاضي زين الدين عبد الباسط والقاضي سعد الدين ناظر الخاص إلى السلطان تقادم جليلة‏.) .
تعليق
هما يعرفان أن برسباى لا يزورهما حُبّا وغراما فيهما بل في أموالهما ، والسلطان يعرف أنه أساس أموالهما وأن له الحق في الاستيلاء على أموالهم بالعنف أو بالزيارة الودية .
شهر جمادى الآخرة أوله الاثنين‏:‏
وظائف أكابر المجرمين
( في ثانيه‏:‏ عزل الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ، ورسم لأقبغا الجمالي كاشف الوجه القبلي أن يتحدث في وظيفة الأستادارية، ثم خلع عليه من الغد، ولزم ابن نصر الله داره‏. وسبب ذلك أنه لما بلغ أقبغا عزل ابن كاتب المناخ من الأستادارية سأل في الحضور ، فأُجيب ، وقدم ، فسعى في الأستادارية ، على أن يحمل عشرة آلاف دينار، وإن سافر السلطان إلى الشام حمل معه نفقة شهرين ، وهي مبلغ أربعين ألف دينار ، فأجيب ، وأبقى الكشف أيضاً معه وأضيف إليه كشف الوجه البحري‏.) .
تعليق
هذا أمير مملوكى تطرّف في ظلم الفلاحين في الصعيد ، يسمعون عن مظالمه دون ذكر لضحاياه . ولأنه مخلص في تطبيق ثوابت الشريعة السنية والمعلوم منها بالضرورة فقد كوفيء بمنصب جديد هو الاستادارية ، بعد عزل ابن كاتب المناخ ، وقد قدّم ثمن المنصب ، وأُضيف له أن يكون كاشفا للوجه البحرى ، أي المتصرف في الريف المصرى كله ، وفى الاستادارية أيضا .
المنع من السفر الى جدة خوفا من غارات العربان والشريف المجرم
( وفي عاشره‏:‏ برز سعد الدين بن المرة يريد السفر إلى جدة، ثم رحل في ثاني عشره ، ولم يمكن أحداً من السفر معه ، فلم يتمكن إلا ألزامه وحاشيته‏. ) ( ألزامه أي حاشيته ).
وظائف أكابر المجرمين
( وفي سابع عشرينه‏:‏ خلع على بدر الدين محمود العينتابي وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية عوضاً عن زين الدين عبد الرحمن التفهني ، وقد طالت مدة مرضه فباشر القضاء والحسبة ونظر الأحباس جميعاً‏. )
تعليق
مرض قاضى قضاة الحنفية ( التفهنى ) فعزله برسباى وولى مكانه العينتابى (المؤرخ العينى ) ، وهو نديم برسباى ، فأضاف برسباى للعينى القضاء الحنفى مع وظيفة الحسبة . ليس للصداقة دخل هنا ، بل هو دفع الرشوة وشراء المنصب ، فهذا من ثوابت شريعتهم السُّنّية .
شهر رجب أوله الثلاثاء‏:‏
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( فيه خلع على الأمير صلاح الدين أستادار ابن الأمير الوزير الصاحب بدر الدين حسن ابن نصر الله واستقر محتسب القاهرة عوضاً عن قاضي القضاة بدر الدين محمود العنتابي‏. وكان الأمير صلاح الدين - منذ نكب هو ووالده - ملازماً لداره وعمل مع الحسبة حاجباً‏. ) .
تعليق
سرعان ما عزل برسباى صديقه المؤرخ العينى من وظيفة الحسبة ، وجعله متفرغا للقضاء الحنفى ، وولّى الحسبة مكانه صلاح الدين ابن الوزير ابن نصر الله . وهما ( الابن ووالده ) سبق أن نكبهما برسباى ، ثم أعاد الابن محتسبا وأضاف اليه أن يكون حاجبا ، وكله بالأموال طبقا لثوابت الشريعة السنية والمعلوم منها بالضرورة .!.
2 ـ ( وفي عشرينه‏:‏ قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام باستدعاء ، وقدم معه قاضي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب السر بدمشق ، فباتا في تربة الظاهر برقوق خارج القاهرة ، وصعدا من الغد إلى قلعة الجبل . وقبّلا الأرض ، فلما انقضت الخدمة نزل النائب إلى بيته ، ولم يخلع عليه فعلم أنه معزول. وخلع عليه من الغد ، واستقر أميراً كبيراً عوضاً عن الأمير شارقطلوا . وخلع على شارقطلوا ، واستقر عوضه في نيابة الشام . ورسم بإبطال الحركة إلى السفر فبطلت‏. ).
تعليق
1 ـ هنا حركة تنقلات يُجريها السلطان برسباى أكبر أكابر المجرمين ، وقد استدعى نائب الشام ( اى الحاكم المملوكى على الشام ) ، وعزله ، وولّى مكانه الأمير شارقطلو ، وتولى هو منصب شارقطلو أميرا كبيرا . من العادة أن يخشى السلطان المملوكى في القاهرة من طموح نائبه على الشام ، لذلك لا يستمر نائب الشام كثيرا في منصبه خشية أن تتكون حوله جماعات من أنصاره فيستقوى بهم ويستقل بحكم الشام .
2 ـ يلاحظ هنا :
2 / 1 : وصول ابن البازرى كاتب السّر بدمشق ، وهو من عائلة خدمت المماليك في الشام طويلا وذات نفوذ هناك ، وقد استدعاه برسباى لأخذ المزيد من أمواله كما سيظهر فيما بعدُ.
2 / 2 : انهما باتا في تربة الظاهر برقوق أي المدفن الخاص به ، وهو ليس مجرد مقبرة بل مؤسسّة كاملة ، فيها مسجد ومدرسة ودار للضيافة ، وتنفق عليها أوقاف من أراض زراعية وحوانيت تجارية ، يديرها أبناء الواقف ، ويأكلون معظم ريعها ، ويخصصون جزءا تافها للانفاق على تلك المؤسسة . كانت تربة برقوق ـ مؤسس الدولة المملوكية البرجية ـ خارج القاهرة . لذا تخصّص جزء فيها للضيافة ، إذ كانت قريبة من قلعة الجبل مقر السلطان .
2 / 3 : من مراسم الولاء للسلطان السجود له ، وتقبيل الأرض بين يديه . وهذا من ثوابت الدين السُنُى والمعلوم منه بالضرورة ، ويفعل ذلك قُضاة ( الشرع الشريف ) على حدّ قولهم .
دوران المحمل
( وفي ثالثه‏:‏ أدير محمل الحاج على العادة إلا أنه عجل به في أول الشهر لأجل حركة السلطان إلى سفر الشام ، فإنه تجهز لذلك هو وأمراؤه‏. ).
تعليق
دوران المحمل موعده في شهر رجب ، إذ تعتبره الشريعة السُنّية أحد الأشهر الحُرُم بالمخالفة للاسلام ، فالأشهر الحرم تبدأ بشهر ذي الحجة وتنتهى بشهر ربيع الأول ، ويجوز الحج طيلة هذه ألشهر الأربعة الحُرُم ، وفصلنا هذا في كتابنا عن الحج .
شهر شعبان أوله الأربعاء‏:
وظائف أكابر المجرمين
( فيه خلع على الأمير شارقطلوا نائب الشام خلعة السفر وتوجه إلى مخيمه خارج القاهرة . وخلع على القاضي كمال الدين بن البارزي خلعة السفر ، ثم خلع عليه من الغد يوم الجمعة ثالثه ، واستقر قاضي القضاة الشافعية بدمشق عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن المحمرة ، مضافاً لما بيده من كتابة السر. ولم يعهد مثل ذلك في الجمع بين القضاء وكتابة السر، إلا أنه أخبرني - أدام الله رفعته - أن والده المرحوم ناصر الدين محمد بن البارزي جمع بين قضاء حماة وكتابة السر بها‏. )
تعليق
1 ـ لم يسجل المقريزى سوى هذا الخبر في شهر شعبان .
2 ـ وهو تابع للخبر السابق عن تعيين شارقطلو نائبا للسلطان برسباى في الشام ، وتعيين ابن البارزى ( كمال الدين ) قاضيا للشافعية في دمشق مع احتفاظه بمنصب كاتب السر لنائب الشام الجديد . وطبعا لا بد من دفع الرشوة طبقا للمعلوم عندهم في دينهم السُنّى بالضرورة .
3 ـ المقريزى كان قريبا من الأحداث ، وهو متعاطف مع أكابر المجرمين من الشام لأنه من هناك . وكانت صلته عريقة ببيت آل البارزى . ‏
شهر رمضان أوله الخميس‏:‏
وظائف أكابر المجرمين
( في يوم الثلاثاء ثالث عشره‏:‏ خلع على الأمير أقبغا الجمالي أستادار، وسبب ذلك أنه سافر إلى بلاد الصعيد ، فعاث في البلاد عيث الذئب في زريبة غنم ، فصادر أهلها وعاقبهم أشنع عقوبة ، حتى أخذ أموالهم وتعتع ( يعنى تغلغل في ) ما بقي من الإقليم، فشنعت القالة فيه، فوُعد لما قدم أن يحمل عشرين ألف دينار ، فحاققه القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير ناظر الديوان المفرد على ما أخذ من أموال النواحي ، حتى تسابّا بين يدي السلطان ، فرسم بمحاسبته، فحقق في جهته خمسة عشر ألف دينار . فخلع عليه تقوية له، ونزل على أنه يحمل ما وجب عليه‏.)
تعليق
1 ـ أقبغا الجمالى أمير مملوكى تمت ترقيته بسبب تطرفه في ظلم الفلاحين المستضعفين في الصعيد، ويكفى قول المقريزى فيه ( فعاث في البلاد عيث الذئب في زريبة غنم ، فصادر أهلها وعاقبهم أشنع عقوبة ، حتى أخذ أموالهم وتعتع ( يعنى تغلغل في ) ما بقي من الإقليم،) . وصلت شناعاته الى الآفاق، أو على حد قول المقريزى: ( فشنعت القالة فيه )، فاستدعاه برسباى ، لا ليعاقبه ، ولكن ليرقّيه مقابل عشرين ألف دينار مما نهبه من الفلاحين من أهل الصعيد . وعيّن برسباى القاضي ناظر الديوان المفرد ( خزينة السلطان ) أن يحقّق معه ، ليس في ظلمه ، ولكن فيما سلبه من الفلاحين ، ووصل الخلاف بينه وبين ابن الخطير أن تشاتما في حضرة السلطان ، ولم يهتم السلطان ، لأنه مهتم فقط بمقدار ما سيأخذه من الأمير . وانتهى التحقيق باثبات أن الأمير قد سرق 15 ألف دينار . فكان عليه أن يدفعها للسلطان ، ومقابل ذلك تمت ترقيته ، أو بتعبير المقريزى : ( فخلع عليه تقوية له، ونزل على أنه يحمل ما وجب عليه‏.). المكافأة هنا لأنه قام بتطبيق الشريعة السُّنية خير قيام ، تمسكا بالمعلوم منها بالضرورة ، وهى السرقة والسلب والنهب والظلم والتخريب .!.
2 ـ ( وفي سادس عشرينه‏:‏ خلع على دولات خجا واستقر في ولاية القاهرة عوضاً عن التاج الشوبكي وأخيه عمر‏. ودولات هذا أحد المماليك الظاهرية وولي كشف الوجه القبلي ، فتعدى الحدود في العقوبات ، وصار ينفخ بالكير في دبر الرجل ، حتى تنذر عينيه وتنفلق دماغه ، إلى غير ذلك من سيء العذاب، ثم ولي كشف الوجه البحري. وكان التاج قد ترفع عن مباشرة الولاية ، وأقام فيها أخاه عمر ، فشره في المال حتى كان كلما أتاه أحد بسارق أخذ منه مالاً وخلى عنه ، فأمن السُرّاق في أيامه على أنفسهم ، وصاروا له رعية يجبى منهم ما أحب . فلما ولي دولات خجا بدأ بالإفراج عن أرباب الجرائم من سجنهم ، وحلف لهم أنه متى ظفر بأحد منهم وقد سرق ليوسطنّه، وأرهب إرهاباً زائداً ، وركب في الليل وطاف. وأمضى وعيده في السراق ، فما وقع له سارق إلا وسّطه ، فذعُر الناس منه‏.)
تعليق
1 ـ دولات خجا كان كاشفا للصعيد ، أي حاكما هناك ، وقد تطرف في تعذيب الفلاحين المستضعفين وتفنّن فيه ، أو كما يقول المقريزى ( فتعدى الحدود في العقوبات ، وصار ينفخ بالكير في دبر الرجل ، حتى تنذر عينيه وتنفلق دماغه ، إلى غير ذلك من سيء العذاب ). إنها همّته في التعذيب والظلم تمسّكا بالثوابت في تطبيق الشريعة السُّنّية ، ولا يزال التعذيب سيد الموقف في دول المحمديين حتى الآن ، ويحظى برضا الكهنوت الدينى ، ولم يحدث مطلقا أن ارتفع صوت شيخ الأزهر أو غيره محتجّا على حالة تعذيب واحدة ، لأن التعذيب أساس تثبيت حكم الاستبداد ، وهم أعوان الاستبداد يباركون ظلمه وتعذيبه للأبرياء مقابل القليل من المال السُّحت . لو كان في الناس وعى لبصقوا إحتقارا على رجال الدين أعوان المستبدين ، بدلا من احترامهم وتقديسهم .!
2 ـ كان برسباى قد عيّن تاج الدين ابن الخطير كاشفا للوجه البحرى فاستصغر المهمة وعهد لأخيه عمر أن يحكم باسمه ، وكان عمر هذا قد جعل اللصوص في الوجه البحرى أعوانا له ، يقتسم معهم ما يسرقون ، وعلم برسباى فعزل عمر هذا ، وعيّن مكانه دولات خجا ، فقام بتهديد اللصوص بالتوسيط ( القتل بقطع الجسد قسمين ) ، ونفّذ وعيد بتوسيط بعض من وقع في يده ، فارتعب اللصوص ، ولم يعد هناك من لصّ غيره .!. ثم ما لبث برسباى أن عيّن دولات خجا مديرا للأمن في القاهرة وعزل التاج الشوبكي وأخاه عمر‏.
‏3 ـ ( وفيه خلع على عمر أخي التاج واستقر من جملة الحجاب ليرتفق بمطالع العباد على بلوغ أغراضه ونيل شهواته‏. )
تعليق
عمر هذا صديق اللصوص في الوجه البحرى كوفى بتعيينه حاجبا ضمن حُجّاب برسباى ، يقف على أبواب السلطان . والمقريزى يعبّر ساخرا عن استمراره في سرقاته وجرائمه فيقول : (ليرتفق بمطالع العباد على بلوغ أغراضه ونيل شهواته‏. ) .!
4 ـ ‏( وأكثر دولات خجا من الركوب ليلاً ونهاراً بفرسانه ورجالته، وألزم الباعة بكنس الشوارع ثم رشها بالماء وعاقب على ذلك ، ومنع النساء من الخروج إلى الترب في أيام الجمع‏.)
تعليق
جاء دولات خجا مديرا لأمن القاهرة تسبقه شهرته في التعذيب ، فألزم القاهريين بكنس الشوارع ، ومنع النساء من الخروج للمقابر ( التُّرب ) في أيام الجمعة ، وكانت العادة أن تبيت النساء في صالات المدافن ، ويحدث إنحلال خلقى يتستّر بالنقاب ، وقد تعرضنا لذلك في بحثنا عن أثر التصوف في الانحلال الخُلُقى في مصر المملوكية .
السلطان برسباى واحتكار الفلفل ‏
( وفي هذه الأيام‏:‏ أوقعت الحوطة على فلفل التجار بالقاهرة ومصر والإسكندرية، ليُشتري للسلطان من حساب خمسين ديناراً الحمل ، وكان قد أُبيع عليهم فلفل السلطان في أول هذه السنة بسبعين ديناراً الحمل ، ورُسم بأن يكون الفلفل مختصاً بمتجر السلطان ، لا يشتريه من تجار الهند الواردين إلى جدة غيره ، ولا يبيعه لتجار الفرنج القادمين إلى ثغر الإسكندرية سواه ، فنزل بالتجار من ذلك بلاء كبير‏. )‏
‏تعليق
1 ـ السلطان التّاجر ( برسباى ) فرض سلطته في احتكار الفلفل الأسود ، فصادر ما لدى التجار ، ونصب نفسه المشترى الوحيد والبائع الوحيد ، وألزم تجار الفرنجة أن يشتروا منه وحده ، وهو الذى يتحكّم في الشراء وفى البيع ، وبالسعر الذى يحدّده .
2 ـ بهذا أفقر برسباى طبقة التجّار ، وهم أهم شريحة في الطبقة الوسطى وقتئذ ، حيث كانوا يتمتعون باستقلال عن السلطة المملوكية ، في الوقت الذى كان فيه غيرهم من الفقهاء والمدنيين موظفين لدى أكابر المجرمين . ميزة التجار أنهم يخدمون المجتمع بوساطتهم بين المنتج والمستهلك ( بيعا وشراء ) . وبعضهم اشتهر بفعل الخيرات فذكره المؤرخون . هم أفضل كثيرا من طبقة ( المعممين / الشيوخ ) الذين ( يشترون ) بآيات الله جل وعلا ثمنا قليلا ، و( يبيعون ) للناس أحاديث شيطانية يزيفون بها دين الله جل وعلا . وبعض التجار كان يوقف الأوقاف الخيرية على بيوت العبادة ، والأوقاف الخيرية تكون خالصة لعمل الخير ، عكس الأوقاف ( الأهلية ) التي تتيح للواقف ولورثته تحصين أموالهم من المصادرة مقابل إنفاق جزء يسير منها على مؤسسة دينية تُدار باسم الواقف ، وتتراقص باسمه دعاء ومدحا . بتضاؤل الطبقة الوسطى من التجار تعاظم الفارق بين أكابر المجرمين وأفقر الفقراء وهم الأغلبية من الفلاحين والحرفيين .
تاجر يقوم بإصلاح في مكة
( وفي هذا الشهر‏:‏ أجريت العين حتى دخلت إلى مكة بعد ما ملأت البرك داخل باب المعلاه ومرت على سوق الليل إلى الصفا وانتهت إلى باب إبراهيم وساحت من هناك ، فعم النفع بها وكثر الخير، لشدة احتياج الناس بمكة إلى الماء وقلته أحياناً وغلاء سعره. وتولى ذلك سراج الدين عمر بن شمس الدين محمد بن المزلق الدمشقي أحد التجار وأنفق فيه من ماله جملة وافرة‏. )
‏ تعليق
نُعيد التنبيه على أن التُجّار كانوا أهم شريحة في الطبقة الوسطى، وكانت تتمتع باستقلالها عن السلطة المملوكية ، وبعضهم قام بعمل الخيرات . جاءت سلطنة برسباى وبالا عليهم ، باحتكاره التجارة الشرقية وتحكمه في سوق العُملة ، فتضاءلت طبقة التجار لصالح أكابر المجرمين .
( شهر شوال ، أوله السبت )
وظائف أكابر المجرمين : المال هو الأساس وليس الكفاءة .
( في ثالثه‏:‏ قدم النجاب من دمشق بجواب الأمير شارقطلوا نائب الشام يعتذر عن حضور قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك‏. وكان قد كتب بحضوره ليستقر في كتابة السر عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن السفاح بعد موته ويحمل عشرة آلاف دينار ، فامتنع من ذلك ، واحتج بضعف بصره وآلام تعتريه، فاستدعى السلطان عند ذلك الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ ورسم له بكتابة السر‏. فلما أصبح يوم الثلاثاء رابعه‏:‏ خلع عليه خلعة الوزارة ، واستقر في كتابة السر مضافاً إلى الوزارة ، ولم يقع مثل ذلك في الدولة التركية أنهما اجتمعا لواحد. فنزل في موكب جليل إلى الغاية، وباشر ـ مع بُعده عن صناعة الإنشاء وقلة دربته بقراءة القصص والمطالعات الواردة من الأعمال ـ غير أن الكفاءة غير معتبرة في زماننا ، بحيث أن بعض السوقة ممن نعرفه ولي كتابة السر بحماة على مال قام به ، وهو لا يحسن القراءة ولا الكتابة، فكان إذا ورد عليه كتاب وهو بين يدي النائب لا يقرأه مع شدة الحاجة إلى قراءته ليعلم ما تضمنه ثم يمضي إلى داره حتى يقرأه له رجل أعده عنده لذلك، ثم يعود إلى النائب فيعلموه بمضمون الكتاب . وتداعى بالقاهرة خصمان عند كبير من قضاتها فقضي على المدعي عليه فقال له ما معناه أنه حكم بغير الحق فأمر بإخراجهما حتى ينظر في مسألتهما ، ثم طالع بعض كتب مذهبه ، فوجد الأمر على ما ادعاه الرجل من خطأ القاضي فردهما وقال‏:‏ وجدنا في الكتاب الفلاني الأمر كما قلت ، ولم يبال بما تبين من جهله. ولهذا نظائر لو عددنا ما بلغنا منها لقام من ذلك سفر كبير مع الحجاب وإعجاب وفرط الرقاعة . وإلى الله المشتكى‏. ) .!
تعليق
1 ـ اعتذر القاضي ابن الكشك في الشام عن وظيفة كاتب السّر ، فولّى برسباى الوظيفة لابن كاتب المناخ مقابل مال يدفعه ، فجمع ابن كاتب المناخ بين منصبين : الوزارة وكاتب السّر. وحدث هذا لأول مرة في دولة المماليك البرجية .
2 ـ ويقول المقريزى إن ابن كاتب المناخ لا يعلم شيئا عن الكتابة ومراجعة الأوراق والردّ عليها ، وقال إن هذا هو السائد ، حيث يتولى العمل من لا يجيده طالما يدفع الأموال ، حتى لقد تولّى منصب كاتب السّر في حماة بالشام رجل من العوام لا يعف القراءة والكتابة . ووصل الأمر الى تعيين القّضاة ، وأورد المقريزى حكاية ، ولديه الكثير من الأمثلة تحتاج كتابا في ذكرها عن جهلهم ورقاعتهم وغرورهم . وفى العادة يشتكى المقريزى الى الله جل وعلا ، مكرّرا عبارته المعتادة ( والى الله المشتكى )
3 ـ والأساس في دول طُغاة المحمديين هو توظيف ( أهل الثقة ) وإبعاد ( أهل الكفاءة ). بل من يرفع راسه من أهل الكفاءة يطاردونه حتى ينكمش أو يهرب . في الدول الديمقراطية يقومون برعاية قليل الحظ من الكفاءة حتى يكون كفئا ، أما في دول المحمديين فهم يضطهدون العباقرة والمجتهدين حتى يهاجروا . لهذا تُفلح الكفاءات من دول المحمديين إذا هاجرت الى الغرب ، إذ تجد الرعاية والتشجيع ، بغض النظر عن أسمائها أو بلدها الأصلى . ونتذكر د . مجدى يعقوب ، د أحمد زويل ، ود . فاروق الباز، وكثيرين غيرهم .
4 ـ يقول المقريزى هذه الحكمة : (غير أن الكفاءة غير معتبرة في زماننا ). ونقول : وفى زماننا أيضا أيها المقريزى ، فنحن دائما نتقدم الى الخلف . !
اصلاح دارالعدل ‏
( وفي الخميس ثالث عشره‏:‏ ابتدأ السلطان بالجلوس في الإيوان بدار العدل من القلعة‏. وكان قد ترك من بعد الظاهر برقوق الجلوس به في يوم الاثنين والخميس إلا في النادر القليل ، سيما في الأيام المؤيدية شيخ ، فتشعث ونسبت عوائده ورسومه ، إلى أن اقتضى رأى السلطان أن يجدد عهده فأزيل شعثه وتتبعت رسومه‏. ثم جلس فيه وعزم على ملازمته في يومي الخدمة، ثم ترك ذلك‏.‏ ).
كانت هاك دار للعدل داخل القلعة مركز الظُّلم ، جلس فيها برسباى أكبر أكابر المجرمين حينا ، وترك ذلك سريعا.
أخبار الحج والحجاج
1 ـ ظلم الحجاج المغاربة والأفارقة
( وفيه قدم ركب الحجاج المغاربة ، وقدم ركب الحاج التكرور أيضاً ، وفيهم بعض ملوكهم ، فعوملوا جميعاً بأسوأ معاملة من التشدد في أخذ المكوس مما جلبوه من الخيل والرقيق والثياب، وكلفوا مع ذلك حمل مال ، فشنعت القالة‏. )
تعليق
1 ـ التكرور دولة كانت تمتد من غرب السودان الى سواحل الأطلنطى ، تشمل ما يعرف الآن بموريتانيا والسنغال ومالى والنيجر ونيجيريا وتشاد . الحجاج منها ومن المغرب كانوا يتوقفون في مصر ليصحبوا قافلة الحج المصرية . وهذه المرّة كان فيها بعض الملوك والكثير من متاع الحياة الدنيا . ولا ننتظر من برسباى أن يتركهم بما معهم ، لذا أخذ منهم المكوس ، وعوملوا معاملة سيئة استوجبت التشنيع على برسباى وأعوانه .لم يقف قضاة القضاة كابن حجر والعينى يعظ برسباى بحصانة الآمّين للبيت الحرام . السبب بسيط ، إن من ثوابت الشريعة السُّنيّة والمعلوم منها بالضرورة هو انتهاك حُرمة الحج والحجاج ، وآمّين البيت الحرام .
2 ـ ( وفي عشرينه‏:‏ خرج محمل الحاج إلى بركة الحجاج‏. ). كان منهم حُجاج المغرب وأفريقيا ( التكرور ) .
أخبار النيل
( وفي حادي عشرينه‏:‏ أخذ قاع النيل فكان ستة أذرع وعشرين إصبعاً‏. )
( وفي ثاني عشرينه‏:‏ ابتدئ بالنداء على النيل فنودي بزيادة أربعة أصابع . )
الاحتكار
( وفي هذه الأيام‏:‏ رسم بشراء الغلال للسلطان فإنها رخيصة ، وربما توقفت زيادة النيل فغلت الغلال فيكون السلطان أحق بفوائدها. فخرجت المراسيم إلى أعمال مصر بشراء غلال الناس ، وألزم سماسرة الغلة بساحل مصر وساحل بولاق أن لا يبيعوا لأحد شيئاً من الغلال حتى يتكفي السلطان ، فكثر من أجل هذا تطلع الناس إلى شراء الغلة ، ما كان عدة أشهر وهي كاسدة . وسعر القمح من مائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دونها والفول والشعير من ثمانين درهماً الأردب إلى ما دونها وسائر أسعار المبيعات رخيصة جداً ، فالله يحسن العاقبة‏. )
تجارة شرقية تأتى من الصين أيضا
( وقدم الخبر من مكة المشرفة بأن عدة زنوك ( نوع من السُّفن ) قدمت من الصين إلى سواحل الهند ، وأرسى منها اثنان بساحل عدن ، فلم تنفق بها بضائعهم من الصيني والحرير والمسك وغير ذلك لاختلال حال اليمن ، فكتب كبير هذين الزنكين إلى الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة وإلى سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة يستأذن في قدومهم إلى جدة ، فاستأذنا السلطان في ذلك ، ورغّباه في كثرة ما يتحصل في قدومهم من المال ، فكتب بقدومهم إلى جدة وإكرامهم‏. )
تعليق
كانت التجارة الشرقية تأتى أساسا من الهند الى اليمن ثم الى جدة . هذه المرة جاءت قافلة بحرية من الصين ، وعرفت طريقها الى جدة . وفرح بها برسباى .
قتل قبطى لأنه وقع في حق النبى داود
جاء هذا الخبر في وفيات هذا العام 835 . يقول المقريزى : ( وقُتل نصرانى في سابع شوال ، ضُربت رقبته تحت شباك المدرسة الصالحية . بسبب وقوعه في حق نبى الله داود بعدما سُجن مُدّة ، وعُرض عليه الإسلام ، فامتنع )
تعليق
يعنى لو قبل عرضهم بالدخول في دينهم المحمدى ( ليس الإسلام الحقيقى ) ما قتلوه . قتلوه لأنه رفض الدخول في دينهم . هذا التطبيق يخالف شريعتهم في قتل المرتد الذى بدّل دينه ، هو لم يبدّل دينه بل تمسك بدينه ، وقتلوه لأنه تمسّك بدينه . هو دين أرضى ملّاكى يملكه أصحابه ، يشرّعون فيه ما يشاءون ، ويطبقون فيه ما يهوون ، ويختلفون مع أنفسهم في ما يكتبون وفيما يطبّقون .
شهر ذي القعدة أوله الاثنين‏:‏
السلطان برسباى أكبر أكابر المجرمين يحقّق في فساد قُضاة الشرع السُّنّى ، وكالعادة لا فائدة
( فيه استدعى قضاة القضاة الأربع بجميع نوابهم في الحكم بالقاهرة ومصر إلى القلعة لتعرض نوابهم على السلطان ، وقد ساءت القالة فيهم ، فدخل القضاة الأربع إلى مجلس السلطان، وعُوّق نوابهم عن العبور معهم ، فانفض المجلس على أن يقتصر الشافعي على خمسة عشر نائباً ، والحنفي على عشرة نواب، والمالكي على سبعة ،والحنبلي على خمسة. وقد تقدم مثل هذا كثير ولا يتم‏.‏)
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي سابعه‏:‏ خلع على الأمير تاج الدين الشوبكي وأعيد إلى ولاية القاهرة عوضاً عن دولات خجا‏. ). استراح الناس من عسف دولات خجا .
2 ـ ( وفيه خلع على عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي واستقر في قضاء القضاة الحنابلة بدمشق عوضاً عن نظام الدين عمر بن مفلح ، وخُلع عليه من بيت الوزير كاتب السر كريم الدين . ولم يعهد قضاة القضاة يخلع عليهم إلا من عند السلطان ، غير أن الوزير أعاد لكتابة السر بعض ما كان من رسومها ، لوفور حرمته واستبداده . وكان مع ذلك القضاة والفقهاء قد انحط جانبهم واتضع قدرهم‏. ).
تعليق
إنحطّت منزلة قُضاة الشرع السُّنّى الى درجة أن جاء تعيين قاضى قضاة الحنابلة وتقليده المنصب من دار كاتب السّر الذى لا يعرف مهنته . ويقول المقريزى معلقا بأن الفقهاء ( ممثلي الشرع السُّنّى ) قد انحطّ جانبهم وإتّضع قدرهم ، وهذا يشمل ابن حجر العسقلانى أمير مؤمنيهم في الحديث ، والعينى ، وكلاهما شارح للبخارى . تقرأ تاريخ ابن حجر ( إنباء الغمر بأبناء العمر ) والذى يؤرخ فيه لعصر في تجد انتقادا للظلم الذى يغلّف عصره . والسبب واضح ، إنها الشريعة التي يمثلها ويدافع عنها ، ويأكل السُّحت بسببها .
ويقول الشاعر
من يهُن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميّت إيلام ‏
موت ملك قبرص التابع للمماليك
( وفي ثامن عشرينه‏:‏ ورد الخبر بموت جينوس بن جاك صاحب قبرس‏. )
شهر ذي الحجة أوله الثلاثاء‏:‏
وفاء النيل
( فيه نودي بوفاء النيل ستة عشر ذراعاً وثلاثة أصابع ووافق ذلك خامس مسرى‏. وهذا مما يندر وقوعه فركب الأمير جقمق أمير أخور لفتح الخليج على العادة‏. ). تذكروا هذا الأمير جقمق سيكون السلطان الذى سيطيح بابن برسباى ويتولى مكانه .
السلطان يولى ابن ملك قبرص واليا بعد موت أبيه ، مع دفع المعلوم
( وفي خامس عشرينه‏:‏ سارت سرية عدتها ستون مملوكاً مع بعض أمراء العشرات إلى قبرس ومعهم خلعة لجوان بن جينوس باستقراره في مملكة قبرس عوضاً عن أبيه نيابة عن السلطان ، ومطالبته بما تأخر على أبيه ، وهو أربعة وعشرون ألف دينار ،وما التزم به في كل سنة وهو خمسة آلاف دينار‏. )
أخبار الحج
( وفي سادس عشرينه‏:‏ قدم مبشرو الحاج‏. )
‏خراب الريف بسبب إهمال الإصلاح
( وفي هذا الشهر‏:‏ كثر تقطع الجسور بالنواحي ، فغرقت بلاد عديدة ، ودخل الماء إلى كثير من البلاد قبل أوانه، فغرقت الجرون وهي ملآنة بالغلال ، وتلف من المقاتي والسمسم والنيلة ما يبلغ قيمته آلاف دنانير، وشرقت عدة بلاد . وكل ذلك من فساد عمل الجسور وأخذ الأموال في النواحي عوضاً عن رجال العمل وأبقارها‏.)
توزيع بعض القرى الخربانة التابعة للسلطان ( الديوان المفرد ) على بعض الأكابر لاصلاح حالها ، فماذا عن بقية القرى ؟!
( وفيه فرقت عدة بلاد من بلاد الديوان المفرد على جماعة ليعمروها ، فإنها خربت من سوء ولاية الأستادارية وعسفهم وكثرة المغارم ، فسُلّم إلى القاضي زين الدين عبد الباسط وإلى الوزير كريم الدين وإلى سعد الدين ناظر الخاص وإلى التاج بن الخطير، كل منهم بلد من البلاد، وسُلّم إلى آخرين دون هؤلاء عدة بلاد‏.‏)
إنارة شوارع القاهرة
( وفيه رسم أن يعلق على كل حانوت من حوانيت الباعة بالأسواق قنديل يضيء الليل فعمل ذلك‏. )
أخبار النيل
1 ـ ( وفيه كثرت زيادة ماء النيل فانسلخ ذو الحجة بيوم الأربعاء رابع أيام النسىء ، والماء على ثمانية عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً‏. )
2 ـ ( وهذه السنة‏:‏ تحول الخراج فيها من أجل أنه لم يقع فيها نوروز ، فحولت سنة ست إلى سنة سبع وثلاثين‏. ). الزراعة المصرية والخراج وشئون النيل كان يتم حسابها بالشهور القبطية الفرعونية، هذا مع اختلاف الحكام من عرب ومماليك .
موت ملك التكرور‏
( وفيه قدم أحد ملوك التكرور للحج فسار إلى الطور ليركب البحر إلى مكة فمات بالطور، ودُفن بجامعه ، وكان خيّرا كثير التلاوة للقرآن ، فيه برُ واحسان . ) . المقريزى لا يعرف اسم هذا الملك ، ولكن يصفه بالبرّ والخير ، وهو ضحية لطمع برسباى .
أخبار صراع أكابر المجرمين المحمديين والمسيحيين في اسبانيا والاندلس
الصليبى الاسبانى يغزو تونس مستعينا بالصليبى حاكم صقلية ويستولى على جزيرة جربة ويحاربه ملك المغرب
( وفيها نزل الطاغية النشو بن دون فرنادو بن أندريك بن جوان قتيل الفرس بن فدريك بن أندريك ملك الفرنج القطلان وصاحب برشلونة على جزيرة صقلية في شهر رمضان ، وسار ومعه صاحب صقلية في نحو مائتي قطعة بحرية حتى أرسى على جربة في سابع عشر ذي الحجة وملكها‏. وكان ملك المغرب أبو فارس عبد العزيز غائباً عن تونس في جهات تلمسان ، فلما بلغه ترك معظم عسكره وسار على الصحراء حتى دنا من جربة ، وكانت بينه وبين الفرنج وقعة كاد يؤخذ فيها وقتل من الفريقين جماعات كثيرة‏. )
حرب سابقة بين اكابر المجرمين الصليبيين في أسبانيا
يقول المقريزى : ( وهذا الطاغية النشو مات جده أندريك وملك بعده ابنه جوبان بن أندريك بن جوبان‏. خرج فرناندو بن أرندريك من بلد أشبيلية يريد محاربة القطلان أهل برشلونة ، وقد مات ملكهم مرتين ، فغلبهم وملك برشلونة وأعمالها حتى مات فملك بعده ابنه النشو هذا‏. ).
تعليق
1 ـ كما يتحارب المحمديون أكابر المجرمين داخل ما يسمونه دار السلام ، يتحارب أكابر المجرمين في المعسكر الآخر . كلهم يعبدون الشيطان ، والشيطان سوّل لهم وأملى لهم وزيّن لهم سوء أعمالهم ، وكلهم يخدمه الكهنوت الشيطانى وشريعته الدموية الظالمة ..!
2 ـ المضحك ان المقريزى يصف ملك أشبيلية بالطاغية ، بينما يصف برسباى ب ( سلطان الإسلام ) . هو ضحك من نوعية ما قاله المتنبى عن مصر
وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا
3 ـ الآن هو أكبر موسم للضحك الباكى على ما يحدث في مصر ..




















الفصل الثانى عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 836
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى في التأريخ لسنة 836
سنة ست وثلاثين وثمانمائة
عن أكابر المجرمين ووظائفهم في هذا العام قال المقريزى :
( 1 ) عن الخليفة العباسى والسلطان والمماليك الكبار : ( أهلت هذه السنة والخليفة المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل، وسلطان مصر والشام والحجاز وقبرس الملك الأشرف أبو الفرج برسباي ، والأمير الكبير الأتابك سودن من عبد الرحمن، وأمير سلاح أينال الجكمي ، وأمير مجلس أقبغا التمرازي ، ورأس نوبة الأمير تمراز القرمشي ، وأمير أخور جقمق ، والدوادار الأمير أركماس الظاهري . )
( 2 ) الوظائف الديوانية : ( والوزير كاتب السر كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، وناظر الجيش عظيم الدولة ومدبرها القاضي زين الدين عبد الباسط ، وناظر الخاص سعد الدين إبراهيم ابن كاتب الجكمي .)
(3 ) الوظائف الدينية : ( وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن حجر ،وقاضي القضاة الحنفي ناظر الأحباس بدر الدين محمود العينتابي ، وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي ، وقاضي القضاة الحنبلي محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي .)
(4 ) الوظائف الأمنية : ( والمحتسب الأمير الحاجب صلاح الدين محمد بن نصر الله ، والوالي التاج الشوبكي. )
(5 ) حكام الولايات التابعة للدولة المملوكية : ( ونائب الشام ( دمشق ) الأمير شار قطلوا ، ونائب حلب الأمير قصروه ، ونائب طرابلس الأمير طرباي ، ونائب حماة الأمير جلبان ، ونائب صفد الأمير مقبل الزيني ، ونائب غزة الأمير أينال الأجرود . ومتولي مكة - شرفها الله تعالى - الشريف بركات بن حسن بن عجلان ، ومتولي مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشريف مانع بن علي بن عطية ، ومتولي ينبع الشريف عقيل بن وبير بن نخبار. )
(6 ) عن الملوك خارج الدولة المملوكية : ( وملك المغرب أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس الحفصي . وملك المشرق شاه رخ بن تيمورلنك . ومتملك بغداد شاه محمد بن قرا يوسف. وملك الروم ( الدولة العثمانية ) مراد بن محمد كرشجي بن عثمان . وملك اليمن الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل بن العباس بن رسول‏.)
وعن الأحوال العامة قال :
1 ـ ( ونيل مصر متزايد، والأسعار رخيصة القمح من مائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دون ذلك، والشعير والفول من ثمانين درهماً الأردب إلى ما دونها‏. )
2 (والدينار الأشرفي ( الذى ضربه وسكّه الأشرف برسباى ) بمائتين وستين درهماً من الفلوس التي كل رطل منها بثمانية عشر درهماً ، ومصرف الدرهم الأشرفي ( أي تحويله وقيمته بالنسبة لغيره ) بعشرين درهماً من الفلوس، والدينار الأفرنتي بمائتين وخمسين درهماً من الفلوس. والأسواق كاسدة‏.).‏
شهر الله المحرم أوله الخميس‏:‏
أخبار النيل والأعياد القبطية المصرية
1 ـ( في يوم الجمعة ثانيه‏:‏ كان نوروز القبط بأرض مصر وهو أول توت‏. وقد صار ماء النيل على ثمانية عشر ذراعاً وثلاثة وعشرين إصبعاً‏.)
2 ـ ( يوم الأحد ثامن عشره‏:‏ وافقه سابع عشر توت وهو يوم عيد الصليب عند أقباط مصر‏. ونودي فيه على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً تنقص إصبعاً واحداً‏. وهذا أيضاً مما يندر من كثرة ماء النيل‏.)
3 ـ ‏( وفي ثامن عشرينه - الموافق لسابع عشرين توت -‏:‏ نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً وخمسة أصابع‏.)
‏إتّفاق التقويم القبطى واليهودى والهجرى
( واتفق من الغرائب أن يوم الخميس أول السنة وافقه أول يوم من تشرين وهو رأس سنة اليهود فاتفق أول سنة اليهود مع أول سنة المسلمين، ويوم الجمعة وافقه أول توت - وهو أول سنة النصارى القبط - فتوالت أوائل سنين الملل الثلاث في يومين متوالين. واتفق ذلك أن طائفة اليهود الربانيين يعملون رءوس سنينهم وشهورهم بالحساب ( الفلكى ) وطائفة القرائين يعملون رءوس سنينهم وشهورهم برؤية الأهلة‏ كما هو عند أهل الإسلام ، فيقع بين طائفتي اليهود في رءوس السنين والشهور اختلاف كبير ، فاتفق في هذه السنة مطابقة حساب الربانيين والقرائين للرؤيا، فعمل الطائفتان جميعاً رأس سنتهم يوم الخميس‏. وهذا من النوادر التي لا تقع إلا في الأعوام المتطاولة‏.)
أخبار الحج
( وفي ثالث عشرينه‏:‏ قدم الركب الأول من الحجاج وقدم المحمل من الغد ببقية الحاج‏. ).
وظائف وعقوبات لأكابر المجرمين
عزل أقبغا الجمالى الاستادار وضربه وإهانته وتعذيبه لاستخلاص أموال سرقها
( وفي سادس عشرينه‏:‏ ضرب السلطان الأمير أقبغا الجمالي أستادار ، وأنزله على حمار إلى ييت الأمير التاج والي القاهرة ، ليعاقبه على استخراج المال‏. )
تعيين بديل لأقبغا الجمالى في اليوم التالى وتنقلات وتعيينات في مناصب أكابر المجرمين :
( وخلع من الغد يوم الثلاثاء سابع عشرينه على الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ وأعاده إلى الأستادارية‏ ، ورفعت يده من مباشرة كتابة السر ، فاستقل بالوزارة والأستادارية . ورسم لشرف الدين الأشقر نائب كاتب السر بمباشرة كتابة السر حتى يستقر( أي يتوظّف ) أحد . وعين جماعة لكتابة السر ، فوقع الاختيار منهم على قاضي القضاة كاتب السّر بدمشق كمال الدين محمد بن البارزى . )
هجوم صليبى بحرى على طرابلس الشام ، وبرسباى ينتقم بمصادرة أموال الايطاليين في دولته:
( وفي هذا الشهر‏:‏ طرق الفرنج ميناء طرابلس الشام في يوم السبت عاشره ، وأخذوا مركباً ، فيه عدد كثير من المسلمين وبضائع لها قيمة جليلة‏. وبينا هم في ذلك إذ قدمت مركب من دمياط فأخذوها أيضاً بما فيها وساروا ، فلما ورد الخبر بذلك كُتب بإيقاع الحوطة على أموال الفرنج الجنوية والقطلان دون البنادقة، فأحيط بأموالهم التي بالشام والإسكندرية‏.)
انسحاب الصليبى حاكم برشلونة من جزيرة جربة التونسية
( وفيه أقلع الطاغية صاحب برشلونة عن جزيرة جربة في عاشره، ومضى إلى جزيرة صقلية‏ بمن معه من جمائع القطلان وأهل صقلية‏.)
شهر صفر أوله السبت‏:
تنقلات في وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( في ثانيه‏:‏ توجه القاصد لاستدعاء القاضي كمال الدين محمد بن البارزي ليستقر في كتابة السر ، وأن يستقر عوضه في قضاء القضاة بدمشق بهاء الدين محمد بن حجي‏ ، وأن يستقر عوضه في كتابة السر بدمشق قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك الحنفي ، ويستقر ولده شمس الدين محمد بن الكشك في قضاء القضاة الحنفية ، ويستقر جمال الدين يوسف بن الصفي في نظر الجيش بدمشق عوضاً عن بهاء الدين محمد بن حجي . كل ذلك بمال‏. ). نلاحظ انتماء أكابر المجرمين المدنيين الى عائلات متخصصة في خدمة المماليك ، وأنهم يشترون المناصب ـ كالعادة .!
‏2 ـ ( وفي ثامنه‏:‏ خلع على حسن باك بن سالم الذكري أحد أمراء التركمان وابن أخت قرا يلك واستقر في نيابة البحيرة ، ورسم أن يكون ملك الأمراء عوضاً عن أمير علي ، وأنعم عليه بمائة قرقل ومائة قوس ومائة تركاش وثلاثين فرساً‏. ). هذا أمير تركمانى خسر في معاركه في العراق ولجأ الى حليفه برسباى، فعينه برسباى حاكما تابعا له .
3 ـ ( وفي سابع عشرينه‏:‏ كتب باستقرار تاج الدين عبد الوهاب بن أفتكين - أحد موقعي الدست بدمشق - في كتابة السر بها ، لامتناع قاضي القضاة شهاب الدين أحمد ابن الكشك من ولايتها‏. وكتب أيضاً باستقرار محيي الدين يحيى بن حسن بن عبد الواسع الحياني المغربي في قضاء المالكية بدمشق عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الأموي بعد موته‏. )‏‏
قبرص ( المملوكية ) وتجديد الولاء للسلطان برسباى
( وفي سابعه‏:‏ قدمت الرسل المتوجهة إلى قبرس‏.)
( وكان من خبرهم أنهم ركبوا البحر من دمياط في شينين ، فوصلوا إلى الملاحة يوم السبت عاشر المحرم وسار أعيانهم في البر يريدون مدينة الأفقسية دار مملكة قبرس، فتلقاهم وزير الملك جوان بن جينوس بن جاك في وجوه أهل دولته ، وأنزلهم خارج المدينة ، وعبروا المدينة من الغد يوم الاثنين ثاني عشره ، ودخلوا على الملك جوان‏ في قصره، فإذا هو قائم على قدميه فسلموا عليه ، وأوصلوه كتاب السلطان ، وهو قائم ، وبلغوه الرسالة، فأذعن وأجاب بالسمع والطاعة ، وقال‏:‏ " أنا مملوك السلطان ونائب عنه، وقد كنت على عزم أن أرسل التقدمة‏ ( أي الهدية )". فطلبوا منه أن يحلف فأجابهم إلى ذلك ، واستدعى القسيس وحلف على الوفاء والاستمرار على الطاعة والقيام بما يجب عليه من ذلك، فأفيض عليه التشريف السلطاني المجهّز له‏. وخرجت الرسل من عنده فداروا بالمدينة، وهو ينادي بين أيديهم باستمرار الملك جوان في نيابة السلطنة ، وأن للناس الأمان والاطمئنان، وأمروا بطاعته وطاعة السلطان . ثم أنزلت الرسل في بيت قد أعد لهم ، وأجرى لهم ما يليق بهم من المأكل ، وحُمل إليهم سبعمائة ثوب صوف قيمتها عشرة آلاف دينار مما تأخر على أبيه. وأظهر خصم أربعة آلاف دينار ، ووعد بحمل العشرة آلاف دينار بعد سنة ، وبعث إليهم أيضاً بأربعين ثوباً صوفاً برسم الهدية للسلطان ( المالك الملك الأشرف أبو النصر برسباى الدقماقى ). وساروا بعد عشرة أيام من قدومهم إلى اللمسون ، وركبوا البحر ستة أيام حتى أرسوا على دمياط ، وعبروا في النيل إلى القاهرة. فقبل السلطان ما حملوه إليه. وقرئ كتابه، فإذا هو يتضمن السمع والطاعة ، وأنه نائب السلطنة فيما تحت يده ونحو هذا‏. ).
تعليق
1 ـ هو التأكُّد التّام من خضوع ملك قبرص للسلطان برسباى ، ولولا خوف الملك القبرصى من سطوة برسباى ما أذعن وما خضع .
2 ـ فارق هائل بين برسباى المنتصر و ضابط المخابرات الذى يحكم مصر الآن ، والذى ما دخل في حرب قط ، والذى لا ينتصر إلا على المصريين .!!
3 ـ خيبته لا مثيل لها في التاريخ ، ولا في ( الجغرافيا ) .!!
قصة درامية عن قبطى أسلم ثم ارتد فقتلوه
( وفي سادس عشرينه‏:‏ ضربت رقبة رجل ارتد عن الإسلام‏. وكان من خبره أنه كان نصرانياً فوجده بعض الناس عند زوجته، فاتقي من القتل بأن أظهر الإسلام ، ومضى لسبيله . فلم يقم سوى أشهر وجاء يوم جمعة إلى بعض القضاة وذكر له أنه كان نصرانياً وأسلم ثم أنه رغب أنه يعود إلى النصرانية‏. وقصد أن يطهر بالسيف ، وتكلم بما لا يليق من القدح في دين الإسلام وتعظيم دين النصرانية ، وصرّح بما يعتقد من إلاهية المسيح وأمه، فتلطّف به القاضي ومن عنده، وهو يُلحُّ ويعاند ويفحش في القول ، فأمر به فسُجن وعُرض عليه الإسلام مراراً في عدة أيام ، وهو متماد في غيّه ، فلما أعياهم أمره وملّت الأسماع من فُحش كلامه وجهره بالسوء ضربت رقبته. ثم أحرقت. )
تعليق
1 ـ نرى من ملامح الشريعة السنية في العقوبات ( الحدود ) أنهم : ضبطوا قبطيا يزنى بزوجة ( محمدية ) ، ولكى ينجو من القتل أعلن إسلامه ، فعفوا عنه ، أي أن للقبطى اذا زنى بزوجة ( محمدية ) وضبطوه فلا عقاب عليه إذا أعلن بلسانه ( إسلامه ). أما الزوجة الزانية فلا عقوبة عليها. العفو عنه هو مكافأة له على دخوله الدين السُنّى ( وليس الإسلام الحق بطبيعة الحال ) . صاحبنا ( القبطى ) آلمه ضميره القبطى ، وطبقا لشريعته الاستشهادية صمّم أن يتطهّر بالعودة لدينه وأن يُقتل . حاول القاضي إثناءه عن رأيه ، ولكنه رفض بل أخذ في تأكيد دينه ، والطعن في دين المحمديين ، ولمّا يأسوا منه قتلوه وأحرقوا جُثّته . والمقريزى يعبّر عن تعصّبه في قوله عنه ( وعُرض عليه الإسلام مراراً في عدة أيام ، وهو متماد في غيّه ، فلما أعياهم أمره وملّت الأسماع من فُحش كلامه وجهره بالسوء ضربت رقبته. ثم أحرقت. )
2 ـ صدر لنا كتاب ينفى ( حدّ الردة ) عام 1993 . حديث الردة الكاذب يقول ( من بدّل دينه فاقتلوه ) ، أي إن الذى يبدّل دينه يجب قتله ، بمعنى أن القبطى إذا بدّل دينه ودخل الدين السُّنّى يجب قتله ، ولو بدّل يهودى دينه ودخل المسيحية يجب قتله . ولكن التطبيق مختلف تماما ، إذا يقومون بالترغيب والترهيب بإدخال اليهود والمسيحيين الى الدين السُّنى ، ويقومون بقتل من يخرج منهم عن الدين السُّنّى . الإسلام الحق برىء منهم ومن شريعتهم سواء ما كان منها مكتوبا في بطون الكتب ، أو كان تطبيقا عمليا في الماضى أو الحاضر . في الإسلام العظيم حرية دينية مطلقة للجميع ، ولا إكراه في الدين ، لا إكراه في دخول أي دين أو الخروج منه ، ولا إكراه في تأدية أي عبادة دينية ، فللدين يوم هو يوم الدين ، ومالك يوم الدين سبحانه وتعالى هو الذى سيحكم فيه بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون . وظيفة الدولة في الإسلام ( العلمانى ) هي خدمة الناس وليس إدخالهم الجنة . الهداية في الإسلام شأن شخصى ، ومن اهتدى فلنفسه ومن أساء فعليها .
شهر ربيع الأول أوله يوم الاثنين‏:
احتجاج الفرنجة على احتكار برسباى للتجارة الشرقية مع التهديد بعدم الشراء
( فيه قدم رسول ملك القطلان من الفرنج بكتابه وقد نزل على جزيرة صقلية في ثاني رمضان بما ينيف على مائتي قطعة بحرية ، فتضمن كتابه الإنكار على الدولة ما تعتمده من التجارة في البضائع ، وأن رعية الفرنج لا يشترون من السلطان ولا من أهل دولته بضاعة. فرد رسوله رداً غير جميل‏. )
لمجرد التذكير
إحتكار برسباى للتجارة الهندية هو الذى أدى للكشوف الجغرافية للوصول الى الهند ، فاكتشفوا رأس الرجاء الصالح وأمريكا .
بناء قيسارية جديدة في القاهرة ( القيسارية هي مركز تجارى وتجمع لأصحاب الحرف )
‏( وفي رابعه‏:‏ فتحت القيسارية المستجدة بخط باب الزهومة من القاهرة وسكنها الكتبيون ( باعة الكتب ). وكان سوق الكتب المقابل للصاغة قد هُدم وما حوله في سنة ثلاث وثلاثين ، وبُني قيسارية يعلوها ربع ، وبدائرها حوانيت ، حيث كانت الصيارف تجاه الصاغة ، وحيث كانت النقليون وسوق الكتب والأمشاطيين تجاه شبابيك المدرسة الصالحية بالقاهرة والصليبة . وسكن في القيسارية التي عملت بجوار الكتبيين أرباب الأقفاص الذين كانوا بالقفيصات تحت شبابيك القبة المنصورية وشبابيك المدرسة المنصورية. وصارت هذه القيسارية سوقاً يضاهي الصاغة ، وأسكن في مقاعد القفيصات ودككها قوم من الخريزاتية - بياعي الخرز - وطائفة من أرباب المعايش‏. فلما كملت القيسارية المستجدة بباب الزهومة تجاه درب السلسلة تحول إليها الكتبيون وجاءت من أحسن ما بني بالقاهرة‏.)
المقريزى مولع بالقاهرة وأحيائها ، وله كتابه الرائع في خطط مصر والقاهرة ( الخطط المقريزية ) ، ومنه نعرف أن باب الزهومة كان المكان المخصص لبيع مخلفات الذبائح .
نزهة السلطان
( وفي ثامن عشره‏:‏ سرح السلطان إلى جهة أطفيح برسم الصيد وقدم من الغد آخر النهار وسرح قبل هذا إلى جهة شيبين وإلى بركة الحجاج أربع سرحات‏. )
وظائف أكابر المجرمين
وصول ابن البارزى للقاهرة ليتولى كتابة السّر ، وتكريمه بموكب :
( وفي تاسع عشره‏ :‏ قدم القاضي كمال الدين محمد بن البارزي من دمشق ومثل يدي السلطان ، وقد خرج الناس إلى لقائه ، ثم نزل في داره ، وخلع عليه من الغد يوم السبت عشرينه واستقر في كتابه السر . ونزل في موكب جليل ، فسُّر الناس به سروراً كثيراً ، لحسن سيرته وكفايته وجميل طويته وكرمه وكثرة حيائه يؤيده‏. ) نذكّر بحبّ المقريزى لأكابر المجرمين من الشام . ‏
شهر جمادى الأولى أوله الخميس‏:
نزهة السلطان
( فيه قدم الأمير مقبل الزيني نائب صفد ، وكان السلطان قد ركب إلى خارج القاهرة فركب في الخدمة إلى القلعة ثم نزل في دار أعدت له‏.)
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ( وفي خامسه‏:‏ خلع على ابن ( ..‏. ) واستقر في كشف الوجه القبلي عوضاً عن طوغان العثماني على مبلغ اثنى عشر ألف دينار يحملها من البلاد ).
ما بين القوسين لم يكتبه المقريزى ، والذى يهمنا هو أن هذا الكاشف ( الحاكم ) الجديد للصعيد التزم بدفع 12 ألف دينار للسلطان يجبيها من أهل الصعيد الذين لا يجدون ما ينفقون ، وطبعا سيجمع منهم أضعاف هذا المبلغ .
2 ـ ( وفي ثامنه‏:‏ خلع على الأمير أسنبغا الطياري أحد أمراء العشرات واستقر في نظر جدة عوضاً عن سعد الدين إبراهيم بن المرة وأذن لابن المرة أن يتوجه معه‏. ).
تعليق
1 ـ سعد الدين ابن المرة كان المتخصص في إدارة ميناء جدة ، وقد عزله برسباى وعيّن أميرا مملوكيا مكانه ، مع الاستعانة به رفيقا لهذا الأمير المملوكى في الإدارة المدنية لميناء جدة وما يعنيه من مكوس تقع على التجارة الشرقية التي احتكرها برسباى .
‏2 ـ ( وفيه توجه الأمير مقبل نائب صفد إلى محل كفالته على عادته ، بعد ما قدم مالاً وغيره بنحو اثني عشر ألف دينار‏. ). جاء حاكم صفد ، وأعاده برسباى لوظيفته بعدما قدّم 12 ألف دينار .‏
‏3 ـ ( وفي سابع عشرينه‏:‏ توجه الوزير الأمير أستادار كريم الدين ابن كاتب المناخ إلى الوجه البحري لتحصيل ما يقدر عليه من الجمال والخيل والغنم والمال لأجل سفر السلطان إلى الشام‏. ).
4 ـ ( وفي حادي عشره‏:‏ نودي للناس بالإذن في السفر صحبة الطياري إلى مكة ، فسُرّوا بذلك سروراً زائداً ، وتجهزوا للسفر‏. ). هذا عن الحامية المملوكية الى الحجاز .
كواكب
( وفي ليلة الثلاثاء ثالث عشره‏:‏ بالرؤية ورابع عشره بالحساب خسف جميع جرم القمر في الساعة الحادية عشر وأقام في الخسوف ثلاث ساعات ونصف ساعة. )
شهر جمادى الآخرة أوله يوم الجمعة‏:
الحامية المملوكية الى الحجاز
1 ـ ( في خامسه‏:‏ أنفق السلطان في المماليك المجردين إلى مكة صحبة الأمير أسنبغا الطياري . وهم خمسون مملوكاً كل واحد مبلغ ثلاثين ديناراً‏. )
2 ـ ( وفي ثامن عشره‏:‏ برز الطياري بمن معه‏. )
3 ـ ( وفيه خلع على سعد الدين بن المرة ليكون رفيقاً للطياري‏. )
4 ـ ( وفي ثالث عشرينه‏:‏ استقل الطياري بالمسير من بركة الحجاج في ركب يزيد على ألف ومائة جمل‏. )‏
توزيع صُرر الأموال على المسافرين صُحبة السلطان الى المشرق
1 ـ ( وفيه ابتدئ بصرّ نفقة السفر إلى الشام‏. )
( صرّ ) النفقة أي جعلها في صُرر لتوزيعها على أربابها .
2 ـ ( وفي حادي عشره‏:‏ أنفق في الأمراء نفقة السفر، فحمل إلى الأمير الكبير الأتابك سودن من عبد الرحمن فضة عن ثلاثة آلاف دينار ، وإلى كل من الأمراء الألوف - وهم عشرة - ألفا دينار ، وإلى كل من أمراء الطبلخاناه خمسمائة دينار كل ذلك فضة‏. )
3 ـ ( 24 جمادى الآخرة ) : (‏ ابتدئ بنفقة المماليك السلطانية وهم ألفاً وسبعمائة لكل منهم صرة فيها ألف درهم أشرفي وخمسون درهماً أشرفية ، عنها من الفلوس ( أي عند تحويلها ) اثنان وعشرون ألف درهم ، وهي مصارفة مائة دينار من حساب كل دينار بمائتين وعشرين درهماً فلوس ، والدينار يومئذ يصرف بمائتين وثمانين‏. وكذلك نفقات الأمراء التي تقدم ذكرها إنما حملت إليهم دراهم على هذا. )
الاستادار يُنزل الظلم العظيم بأهل الوجه البحرى لتمويل حملة برسباى على العراق
( وفي هذا الشهر‏:‏ نزل بأهل الوجه البحري من نزول الأستادار على بلاء عظيم‏. )
تعليق
هي عادة الاستادار وهى وظيفته من أجل السلطان أكبر أكابر المجرمين ، بل هي التطبيق الصريح للمعلوم عندهم بالضرورة من شريعة دينهم السُنُى وقُضاة القُضاة بشرعهم ( الشريف ). ألا لعنة الله جل وعلا عليهم جميعا في الماضى وفى الحاضر . ‏
شهر رجب أوله الأحد‏:
قدوم الاستادار الظالم لسيده السلطان بما حمل
( في ثالثه‏:‏ قدم الوزير أستادار من الوجه البحري، وقد احتاج ( أي افتقر ) أهله بأخذ خيولهم وأغنامهم وأموالهم، هو وأتباعه . فما عفُّوا ولا كفُّوا‏. ) . لاحظ تعبير المقريزى الموجز الموجع : ( فما عفُّوا ولا كفُّوا‏. ).!
تعليق :
ونعطى مثالا لأحد لصوص الكبار في العصر المملوكى ، وهو أيضا شهر استادار في عصر المماليك البرجية ، إنه الأمير جمال الدين الاستادار. نستخلص تاريخ حياته مما كتبه عنه المقريزى .
1 ـ قلنا إن الاستادار هو الذي كان يتولى الإشراف على نفقة القصور السلطانية في العصر المملوكي . وصاحبنا جمال الدين بدأ حياته العملية في السرقة حين كان يتولى " مشد " باب رشيد بمدينة الإسكندرية ، والمشد هو الموظف الذي يتولى تنفيذ أوامر السلطة المملوكية ، وينفذها بالضرب والعسف ، وعن طريق ذلك يجمع الأموال . وجمال الدين جمع ثروته الأولى عن هذا الطريق ، خصوصا وقد تصادف أن هجم الفريخة على الإسكندرية سنة 767 في ذلك الوقت ، فأتاح ذلك له فرصة للثراء واستغلال النفوذ ، يقول المقريزي " فيقال أن ماله الذي وُجد له حصّله يومئذ ، ثم انه سار للقاهرة . " .
2 ـ جاء صاحبنا للقاهرة ومعه أموال يريد أن يستغلها ويستثمرها بأفضل طريق ، أي في شراء المناصب ، وبأمواله يستطيع أحدهم أن يشتري الوظيفة ، ثم يربح في الوظيفة أضعاف ما دفع فيها . وبهذا الطريق تقلب صاحبنا في المناصب وتضاعفت ثروته ، ففي أيام الظاهر برقوق عمل استدارا عند الأمير سودون باق ، ثم عمل شاد الدواوين إلى أن تولى الاستادارية للسلطان برقوق في يوم الثلاثاء الثالث من جمادى الآخرة سنة 790 ، ثم أصبح مشير الدولة ، وجمع بين الوزارة والاستادارية والإشراف على ( ديوان الخاص ) أو أملاك السلطان . أي أصبح أكبر شخصية مدنية بعد السلطان ، وانفتحت أمامه أبواب سرقة مصر على مصراعيها .
3 ـ ثم قامت ثورة على الظاهر برقوق ، فاضطر برقوق للاختفاء ، واختفي أيضا جمال الدين الاستادار . ولكن جمال الدين رأى فرصة للعودة فأظهر نفسه لقائد الثورة، وهو الأمير يلبغا الناصري خصم برقوق المنتصر عليه . ظن جمال الدين أنه يستطيع شراء يلبغا بأمواله ، ولكن يلبغا أخذ منه الأموال واعتقله في القلعة وعزله عن الاستادارية. ثم قامت ثورة أخرى بزعامة منطاش رفيق يلبغا ، والذى أطاح بالأمير يلبغا . وكان ذلك في صالح جمال الدين الاستادار ، إذ أطلقه منطاش من الاعتقال يوم الاثنين 8 رمضان سنة 791 وأكرمه . وكان هدف منطاش أن يستولى على أموال جمال الدين الاستادار ، وفعلا أرغمه على تقديم هدية ضخمة من الذهب ، ثم بعدها اعتقله في القلعة ، وهي نفس الطريقة التي عامله بها يلبغا الناصري ، ويقول المقريزي أن جمال الدين دفع للأميرين يلبغا ومنطاش 58 قنطارا من الذهب ( نكرر بالحروف : ثمانية وخمسين قنطارا من الذهب ) منها ثمانية عشر قنطارا ذهبا في ليلة واحدة ..!! ولم ينقذه ذلك من الاعتقال في المرتين . والمال الحرام لا ينفع .. آه .. لو يعقلون .!!
4 ـ وعاد برقوق سلطانا بعد فشل تلك الثورات في 14 صفر 792 ، فعاد جمال الدين استادار للسلطان. بل عيّن السلطان برقوق ابن جمال الدين نائبا للسلطان في الإسكندرية . واتسع نفوذ جمال الدين . وأراد برقوق إبتزازه فاثار المماليك السلطانية ( الجلبان ) ، بالحجة المعروفة ، وهى التأخر في صرف كسوتهم . تجرأوا عليه، فضربوه وكادوا يقتلونه . وكان ذلك بداية التراجع في نفوذه ، إذا أن السلطان برقوق سرعان ما عزله عن الاستادارية ، ثم أعاده إليها ، وفي كل مرة يأخذ منه الأموال على حسب العادة . ثم ساءت علاقة السلطان به سنة 797 وعزم السلطان على الإيقاع به واستخلاص أمواله ، فأرسل إليه الأمير ابن الطبلاوي يطلب منه نصف مليون دينار وإلا يضربه بالمقارع ، وتم الاتفاق على أن يدفع جمال الدين مائة وخمسين ألف دينار ، وبعدها صعد للقلعة ليقابل السلطان ، ولكن السلطان ترك المماليك السلطانية يضربونه ، ثم ضربه السلطان يوم الاثنين 30 ربيع الأخر 797 بسبب تأخره في دفع ما عليه من نفقة للمماليك السلطانية. ثم عزله السلطان عن ديوان الخاص ، ومن الإشراف على سكّ النقود . وحاسبه ابن الطبلاوي ــ الذي خلفه في سكّ النقود ــ وأثبت أنه اختلس ستة ألاف درهم فضة ، فعاقب السلطان صاحبنا جمال الدين بغرامة قدرها مائة وخمسين ألف دينار .
4 ـ ثم مرض جمال الدين فأعتقل السلطان زوجتيه وكاتبه وابنه ، وصادر أمواله الظاهرة في بيته ، وبلغت الأموال النقدية السائلة خمسين ألف دينار ، غير الأمتعة والفراش ، وعزلة السلطان عن الاستادارية . واستمال السلطان إليه كاتب جمال الدين ، واسمه ابن غراب، فجعله ناظر الديوان المفرد ، كي يفشي أسرار جمال الدين وأماكن أمواله المخبأة . هذا بينما إعتقل ابن الطبلاوي ابن جمال الدين كي يحصل منه على مائة ألف دينار . وعن طريق ابن غراب – كاتب جمال الدين السابق – عثروا على أموال مخبأة في خرابة خلف مدرسة جمال الدين ( خانقاة جمال الدين الاستادار التي كانت الأشهر في وقتها ، وقد بناها من المال الحرام ، كما هو شائع في شريعتهم السُنية ) ، وكانت جملة تلك الأموال مليون درهم فضة . مع ستة ألاف دينار وأربعة ألاف وخمسمائة درهم ، في أماكن متفرقة .
5 ـ وأمر السلطان برقوق بمصادرة كل أموال جمال الدين ، واعتقاله في داره واعتقل مماليكه وأتباعه ، وبدأت تظهر أمواله المخبأة شيئا فشيئا ، ثم تسلمه الأمير فرج شاد الدواوين ، فأخذ يعذبه ليعترف بما لديه من أموال ( وكانت تلك الوظيفة لجمال الدين من قبل ) . ومع شدة التعذيب فلم يعترف جمال الدين بشيء ، فقام بتعذيبه عدوه ابن الطبلاوي فلم يعترف أيضا بشيء !! بل كان يسب ابن الطبلاوي وهو تحت العذاب. ثم استدعاه السلطان برقوق ، وحقق معه بحضور كاتبه السابق ابن غراب ، الذي أفشى أسراره أمام السلطان ، فزاد من حقد السلطان عليه ، فأمر بتشديد التعذيب عليه ، حتى مات تحت التعذيب ، وهذا في ليلة الأحد تاسع رجب عام 799 في الستين من عمره ، ودفنوه في مدرسته .
6 ـ وكان جمال الدين الاستادار غاية في التديّن ، يدين بالمعلوم من الدين السنى ، يظلم ويسرق ويقدم الصدقات وينشئ المدارس مما يسرقه من المال الحرام ، لذا نجد المقريزي يصف جمال الدين بصفات متناقضة ، يقول إنه كان كثير الصلاة والعبادة وقيام الليل " إلا أنه كان شرها في الأموال " وأفسد سك النقود بمصر ، وهو أيضا الذي أنشأ مدرسته الشهيرة المدرسة المحمودية " نسبة اليه محمود جمال الدين . وكان بها خزانة كتب عظيمة ، يقول عنها المقريزي " لا يعرف اليوم بديار مصر ولا الشام مثلها " ويقول عن المدرسة أو الخانقاة التي بناها " وهذه المدرسة من أحسن مدارس مصر " . وبسبب شهرة تلك المدرسة أو الخانقاة ووجودها حتى اليوم ، فهناك رسالة دكتوراة في مصر عن مدرسة أو خانقاه جمال الدين الاستادار ، تبحث وثائق وقفها ، وتنفيذ شروط الوقف .
7 ـ وجمع جمال الدين الاستادار من سرقاته من خير مصر ما لا يصدقه عقل ، ويكفي أن السلطان برقوق صادر من أمواله بعد نكبته الأخيرة مائة وأربعين قنطارا من الذهب ، ومليون درهم فضة ، بالإضافة إلى بضائع قيمتها مليون درهم ، فإذا أضفنا إلى ذلك ما كان يدفعه إلى السلطان برقوق عن رضي وما دفعه إلى منطاش ويلبغا ( 58 قنطارا من الذهب ) لعرفنا إلى أي حد كانت ثروته الظاهرة ، أما المدفون منها فالله تعالى هو الأعلم به .
8 ـ نعلم بعض ما سرقه جمال الدين الاستادار ، ولكن لا نعرف ما سرقه سيده السلطان الظاهر برقوق ، وقد كان مشهور بعبادة المال .
أخيرا نقول :
1 ـ الأهرامات المصرية من عجائب الدنيا السبع . لكن أعجب العجب أنهم يسرقون مصر من عشرات القرون ، ولا تزال مصر تعيش حتى الآن .!!
2 ـ مصر أغنى دولة في العالم . هذه حقيقة يعرفها اللصوص جيدا ، ينهبونها من عشرات القرون ولا يزال فيها رمق .
3 ـ سرقها كثيرون من الأمراء والولاة والسلاطين ، منهم عمرو بن العاص الذى سرق منها 120 إردبا من الذهب أي ما يعادل 210 قنطارا من الذهب ، ويتفوق عليه حسنى مبارك . الجارديان الانجليزيه قالت إن تركة الرئيس السابق مبارك تريليون ومائة وخمسون مليار جنيه .! ..
4 ـ أما ضابط المخابرات الذى يحكم مصر الآن ( السيسى ) فقد تفوّق على الجميع . السيسى حرامى عجيب الشأن . يستحق أن يأخذ جائزة ( نوفل ) في السرقة . ويستحق أن يدخل موسوعة جينيز العالمية كأكبر سارق في تاريخ مصر بل والبشر أجمعين . السيسى يسرق ( ماضى ) المصريين : يسرق الآثار المصرية ويهربها لحسابه . السيسى يسرق ( حاضر) المصريين ، يبيع جزيرتين مصريتين ، ويبيع النيل ، ويسرق الثروة المصرية بالنهب والضرائب والرسوم ، ويشترى أسلحة بلا مبرر ليحصل على عمولات بالبلايين . السيسى يسرق ( مستقبل ) المصريين ، يقترض بفوائد مركبة ، ويقترض ليسدد فوائد الديون وليس أصل الديون ، وسيقع على الأجيال القادمة أن تسدد هذه الديون ، أي يسرق السيسى الأجيال المصرية القادمة . يسرق الماضى والحاضر والمستقبل . وفى النهاية سيموت ، فلا فرار ولا هرب من الموت . وسيحمل معه أوزاره يوم الحساب ، وما أغنى عنه ماله ، وما كسب .
5 ـ هناك فارق بين الحرامية في العسكر المملوكى والحرامية في العسكر المصرى الراهن الخائب الخائن . لصوص مصر في العصر المملوكى كانوا يستثمرون أموالهم داخل مصر ، ويتركونها داخل مصر. أي يموتون وتظل سرقاتهم في مصر أموالا يتناقلها حرامية آخرون ، أو يقيمون بها عمائر ينفقون عليها أموالا ينتفع بها كثيرون في البناء ، وينتفع بها كثيرون ، يتعلمون فيها ، ويتكسبون منها ، ثم تظل من بعدهم آثارا تحكى المجد القديم ؛ ماتوا جميعا ولا تزال آثار سرقاتهم عمائر مملوكية تزدان بها مصر . أما لصوص العسكر المصرى الراهن الخائن الخائب فهو يسرق الأجيال القادمة مع الجيل الحاضر ، ويقوم بتهريبها للخارج ، ولن يحصل على جميع ما سرق ، وسيضيع كل ما سرق بعيدا عن مصر. ( مصر المحروسة دائما بالحرامية ).!!.
دوران محمل الحجاج في ظروف استثنائية
( وفي يوم الخميس ثاني عشره‏:‏ أدير محمل الحاج . ولم يعمل ما جرت العادة به من التجمل ، بل أوقف تحت القلعة وأعيد ، و لم يتوجه إلى مصر ( أي ما يعادل القاهرة الكبرى الآن ) ، وهذا شيء لم يعهد مثله‏. )
لمجرد التذكير كان دوران المحمل ( الذى يحمل كسوة الكعبة ) أحد شعائر الحج وقتها ، طبقا للمعلوم بالضرورة من الدين السُنّى .
‏وظائف أكابر المجرمين ( تنقلات وتقلبات )
1 ـ ( وفي سابع عشره‏:‏ أعيد دولات خجا إلى ولاية القاهرة، عوضاً عن التاج لسفره في الخدمة السلطانية مهمندار وأستادار الصحبه وجليساً‏. ). ضمن الوظائف أن يكون أحدهم نديما وجليسا للسلطان ، وهكذا كان التاج ابن الخطير .
2 ـ ( وخلع على شهاب الدين أحمد ابن محمد بن علي - ويعرف بابن النسخة شاهد القيمة - واستقر في حسبة مصر عوضاً عن شمس الدين أحمد بن العطار‏. )
سلطان تونس والمغرب يرسل للسلطان برسباى بأخبار حربه ضد ملك الفرنج الكاتيلان
( وقدم كتاب متملك تونس - وعامة بلاد المغرب - أبي فارس عبد العزيز يتضمن واقعته مع ملك الفرنج القطلان على جزيرة جربة‏. )
شهر شعبان أوله الاثنين‏:
خروج المحمل بالحجاج وكسوة الكعبة في ظروف غيبة السلطان في حملته الحربية في الشرق
( وفي يوم الاثنين تاسع عشره‏:‏ خرج محمل الحاج صحبة الأمير أينال الششماني إلى الريدانية خارج القاهرة ، ورفع منها إلى بركة الحجاج ، ثم استقل بالمسير من البركة في ثالث عشرينه. والحاج ركب واحد لقلتهم، و لم نعهد الحاج فيما سلف بهذه القلة‏. )
حرائق غامضة في غيبة السلطان
( وفي هذا الشهر‏:‏ تعدد وقوع الحريق في أماكن ، فظهرت نار في الجرون بناحية شيبين القصر وأحرقت غلات كثيرة، وكان وقت الدراس. واجترت فارة فتيلة سراج في خن مركب قد أوسق بثياب وسيرج وغير ذلك ، ووقف بساحل مدينة مصر ليسير إلى الصعيد فأحرقت النار جميع ما كان في الركب وسرت إليها فاحترقت بأجمعها وهي في الماء حتى صارت فحماً ، ووقعت النار في دور متعددة بالقاهرة ومصر‏.‏ ) . ليس هذا من فعل الفئران ، بل ينطبق عليه المثل المصرى ( غاب القط العب يا فار ) . هذا بفعل فاعل ، وقد تعدّد الفاعلون من الريف الى القاهرة والنيل .
كسوف
( وفي يوم الأربعاء ثامن عشرينه‏. كسف من جرم الشمس نحو الثلثين في برج السرطان بعد العصر بزيادة على ساعة ، فما غربت حتى بدأ الكسوف ينجلي ، وفي مدة الكسوف اعتمت الآفاق وظهر بعض الكواكب‏. )
شهر ذي القعدة أوله السبت‏:‏
قياس النيل
( فيه أخذ قاع النيل فجاء ستة أذرع وثلاثة أصابع ، ونودي من الغد بزيادة خمسة أصابع ، واستمر النداء بزيادة ماء النيل‏.)
خسوف القمر بعد كسوف الشمس
( وفي ليلة الجمعة رابع عشره‏:‏ خسف أكثر جرم القمر، فطلع من الأفق الشرقي منخسفاً وانجلى الخسوف وقت العشاء‏. وهذا من النوادر ؛ وقوع الخسوف القمري بعد كسوف الشمس بخمسة عشر يوماً‏. )
إشاعات بعدم زيادة النيل تؤدى الى ‏غلاء الأسعار وتخزين الحبوب
( وفي هذا الشهر‏:‏ تحركت أسعار الغلال ، فأبيع القمح بمائة وثلاثين درهماً الأردب بعد مائة ، وأبيع الأردب الشعير والفول من ثمانين إلى بضع وتسعين بعد ما كان بستين‏. وسبب ذلك أن طائفة من الناس قد اعتادت منذ سنين أن ترجف في أيام زيادة النيل بأنه لا يبلغ الوفاء ، يريدون بذلك غلاء الأسعار ، فتكف أرباب الغلال أيديها عن البيع ، ويأخذ آخرون في شراء الغلال وخزنها ليتربص بها دوائر الغلاء، فيتحرّق السعر من أجل ذلك ، فإذا بلغ النيل القدر المحتاج إليه في ري الأراضي وزرع الناس أيس طلاب الغلاء ، فباعوا ما قد اختزلوه منها ، فينحل السعر ويتضع‏.)
نائب السلطان في مصر يولى شخصا مجهولا تابعا له مديرا لأمن القاهرة وعزل دولات خجا المشهور بظلمه . والمقريزى ــ على غير العادة يمدح نائب السلطان .!
( وفي ثامن عشرينه‏:‏ عزل نائب الغيبة دولات خجا عن ولاية القاهرة وأقام عوضه دواداره - أعني دولات حجا - وهو مجهول لا يعرف ونكرة لا يتعرف . ومع ذلك فأحوال الناس بالقاهرة جميلة لحُسن سيرة نائب الغيبة، وتثبته وإظهار العدل مع كثرة الأمن ورخاء أسعار عامة المبيعات كلها‏.).
تعليق
غريب أمر المقريزى ؛ حين يظهر شخص مسئول حسن السيرة يصفه بالنكرة والشخص المجهول ، بينما يُسهب في سيرة أكابر المجرمين
شهر ذي الحجة أوله الأحد‏:
‏قياس النيل وغلاء الأسعار بسبب الازدحام على شراء وتخزين الحبوب خوفا من مجاعة
( وفي ثامن عشرينه‏:‏ نودي على النيل بزيادة إصبع واحد لتتمة خمسة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً‏. وأصبح الناس يوم الأحد عشرينه - وهو ثالث عشرين مسرى - وقد نقص ستة أصابع ، فازدحم الناس على شراء القمح وقد بلغ إلى مائة وأربعين درهماً الأردب ، فتعدى مائة وخمسين‏. )


















الفصل الثالث عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 837
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى في التأريخ لسنة 837
( عن مناصب أكابر المجرمين :
( سنة سبع وثلاثين وثمانمائة :
أهلت هذه السنة وخليفة الوقت المعتضد بالله داود‏. وسلطان الإسلام بمصر والشام والحجاز وقبرس الملك الأشرف برسباي‏. والأمير الكبير سودن من عبد الرحمن‏. وأمير سلاح أينال الجكمي‏. وأمير مجلس أقبغا التمرازي‏. ورأس نوبة الأمير تمراز القرمشي . وأمير أخور جقمق‏. والدوادار أركماس الظاهري‏. وحاجب الحجاب قرقماس‏. والوزير وأستادار كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ‏. وكاتب السر كمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن البارزي‏. وناظر الجيش القاضي زين الدين عبد الباسط ، وهو عظيم الدولة وصاحب تدبيرها‏. وناظر الخاص سعد الدين إبراهيم ابن كاتب حكم‏. وقضاة القضاة على حالهم‏. ونواب السلطنة وملوك الأطراف كما تقدم في السنة الخالية‏. )
لمحة عن تأخر وفاء النيل والقلق وارتفاع الأسعار
( والنيل قد تأخر وفاءه ( الصحيح أن يقول المقريزى : وفاؤه ) ، والناس لذلك في قلق وتخوف، وقد كثر تكالبهم على شراء الغلة ، وبلغ القمح إلى مائة وأربعين درهماً الأردب‏. على أن الذهب بمائتين وخمسة وثمانين درهماً الدينار‏. )
التفاصيل :
( شهر الله المحرم أوله الثلاثاء‏:
أخبار النيل
1 ـ زيادة النيل وفرح الناس وغيظ من قام بتخزين الغلال :
( ‏ فيه نودي على النيل برد ما نقص وزيادة ثلاثة أصابع، فعظُم سرور الناس بذلك ، وباتوا على ترجي الوفاء . فنودي من الغد - يوم الأربعاء ثانيه وسادس عشرين مسرى - بوفاء النيل ستة عشر ذراعاً وزيادة إصبعين من سبعة عشر ذراعاً ، فكاد معظم الناس يطير فرحاً‏. وغيظ ( أي إغتاظ ) من عنده غلال يتربص بها الغلاء. ففُتح الخليج على العادة‏.‏ )
2 ـ ( ووافق هذا اليوم ( 12 محرم ) أول ( شهر ) ، توت وهو نوروز أهل القبط بمصر‏. وماء النيل على سبعة عشر ذراعاً وثمانية أصابع‏. )
3 ـ أمطار صيفية نادرة مع نقصان النيل ، وبوار بعض الأراضى الزراعية بسبب فساد الجسور واهمال حفر الترع :
( وفيه ( 14 محرم ) أمطرت السماء. ولم نعهد قبله مطراً في فصل الصيف، فأشفق أهل المعرفة على النيل أن ينقص ، فإن العادة جرت بأن المطر إذا نزل في أيام الزيادة هبط ماء النيل ، فكان كذلك ، ونقص في يوم الجمعة ثامن عشره ، وقد بلغت زيادته سبعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً‏. وكان نقصه في هذا اليوم ستة وعشرين إصبعاً ، فشرق من أجل هذا كثير من أراضي مصر، لفساد الجسور وإهمال حفر الترع‏. ). قلقهم حول النيل جعلهم يعتقدون أن نزول المطر في أيام زيادة النيل يجعل النيل تنقص مياهه .
الحج
1 ـ قدوم مبشرون بقرب وصول الحجاج
( وفي ثالثه‏:‏ قدم مبشرو الحاج‏. )
2 ـ موت حُجّاج من شدة الحرارة : ( وفي ثاني عشرينه‏:‏ قدم سوابق الحاج‏. ونزل المحمل ببركة الحاج في غده ، وقد مات من الحاج بطريق المدينة من شدة الحر عدة كثيرة‏. )
وظائف أكابر المجرمين
( وفيه خلع على الأمير تاج الدين الشوبكي وأعيد إلى ولاية القاهرة على عادته ، مع ما بيده من شد الدواوين وغيره‏. ).هذا الشوبكى هو نديم برسباى ، وقد جمع بين وظائف كثيرة .
‏شهر صفر‏:‏ أهل بيوم الخميس
النيل : نقصان وقلق وارتفاع الأسعار وتخزين الحبوب ( كالمعتاد )
( أهل بيوم الخميس. وقلق الناس متزايد ، فإن النيل تراجع نقصه حتى صار على سبعة عشر ذراعاً‏. ثم نقص تسعة أصابع ، فشره الناس في ابتياع الغلال وشحّ أربابها بها‏ ، فبلغ الأردب القمح مائة وثمانين درهماً والشعير مائة وأربعين‏. وفُقد الخبز من الأسواق عدة ليالي . )
تجميع طعام الخيول ( العليق ) وتخزينه ( الوقود العسكرى وقتها )
( وفيه ألزم السلطان الوزير الصاحب كريم الدين أستادار بحمل ما توفر من العليق بالديوان المفرد في مدة السفر ، وهو خمسون ألف أردب، وما توفر من العليق بديوان الوزارة ، وهو عشرون ألف أردب ، وبعث إلى النواحي من يتسلمها منه‏. ). بعد رجوع حملة برسباى كان تجميع علف الدواب .
‏عزل وعقاب أحد أكابر المجرمين : ( شيء معتاد )
( وفي ثاني عشرينه‏:‏ عزل داود التركماني من كشف الوجه القبلي ، وسُلّم إلى الأمير أقبغا الجمالي أستادار - كان - وقد أنعم عليه بإمرة طبلخاناه عوضاً عن تنبك المصارع‏. ) ( استادار ـ كان ـ ) يعنى الاستادار السابق الذى كان .
مناخ وكواكب
( وفي هذا الشهر‏:‏ ظهر في جهة المغرب بالعشايا كوكب الذؤابة وطوله نحو الرمحين ورأسه في قدر نجم مضيء ، ثم برق حتى تبقى ذنبه كشعب برقة الشعر، وذنبه مما يلي المشرق‏.‏
وفيه أيضاً توالت بروق ورعود وأمطار غزيرة متوالية بالوجه البحري وفي بلاد غزة والقدس‏. )
‏الصراع الحربى البحرى مع الصليبيين
( وفيه أيضاً أخذ الفرنج قريباً من طرابلس الغرب تسع مراكب تحمل رجالاً وبضائع بآلاف دنانير، وتصرفوا في ذلك بما أحبوا‏. ) . جميل هذا التعبير من المقريزى عن الفرنجة : ( وتصرفوا في ذلك بما أحبوا‏. ) ‏
شهر ربيع الأول ، أوله الجمعة‏:‏
المولد النبوى شعيرة دينية رسمية
( في ليلة الجمعة ثامنه‏:‏ عمل السلطان المولد النبوي على العادة‏. )
‏هبوط الأسعار
( وفي هذه الأيام انحل سعر الغلال لقلة طالبها‏. وكان ظن الناس خلاف ذلك‏. )
‏عقوبات سلطانية لبعض أكابر المجرمين دون أن نعرف السبب
( وفيها طلب السلطان بعض الكتاب ، فهرب منه ، فرسم بهدم داره ، فهدمت حتى سوّى بها الأرض‏. )
( وفيها أمر بإحراق معصرة بعض المماليك ، فأحرقت بالنار حتى ذهبت كلها. )
نزهة صيد للسلطان
( وفي ثاني عشره‏:‏ ركب السلطان في موكب ملوكي، وسار من قلعة الجبل ، فعبر من باب زويلة ، وخرج من باب القنطرة يريد الرماية بالجوارح لصيد الكراكي. ثم عاد في آخر رابع عشره‏. ).
‏عرض عسكرى وتجربة مدفع
( وفي خامس عشره‏:‏ نصب المدفع الذي أعد لحصار آمد ، وهو مكحلة من نحاس زنتها مائة وعشرون قنطاراً مصرياً‏. وكان نصبها فيما بين باب القرافة وباب الدرفيل . فرمت إلى جهة الجبل بعدة أحجار ، منها ما زنته خمسمائة وسبعون رطلاً‏. وقد جلس السلطان بأعلا سور القلعة لمشاهدة ذلك ، واجتمع الناس‏. واستمر الرمي بها عدة أيام‏. )
‏عزل سودون الأمير الكبير ومصادرة إقطاعه وخروجه على المعاش معتكفا في داره
( وفي تاسع عشره‏:‏ رسم أن يخرج الأمير الكبير سودن بن عبد الرحمن إلى القدس بطالاً ، فاستعفى من سفره، وسأل أن يقيم بداره بطالا ، فأجيب إلى ذلك ، ولزم داره . وأنعم بإقطاعه زيادة في الديوان المفرد‏. و لم يقرر أحد عوضه في الإمرة‏. )
مناخ : رياح وصواعق ومطر وتلف مزروعات
( وفي هذا الشهر‏:‏ ثارت رياح عاصفة بمدينة دمياط ، فتقصفت نخيل كثيرة ، وتلف كثير من قصب السكر المزروع ، وهدمت عدة دور، وخرج الناس إلى ظاهر البلد لهول ما هم فيه‏. وسقطت صاعقة فأحرقت شيئاً كثيراً ، ونزل مطر مغرق‏. ولم يكن بالقاهرة شيء من هذا‏. )
‏تنقلات في وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي سادس عشرينه‏:‏ خلع على شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن محمود ابن الكشك ، واستقر في قضاء الحنفية بدمشق عوضاً عن أبيه بعد وفاته ، بمال وعد به‏. ).
تعليق
1 ـ فساد القضاة خبر عادى ، نراه كثيرا بين سطور المقريزى ، وهو يذكره أحيانا معلقا عليه ، وحينا بلا تعليق . هذا القاضي للقضاة في دمشق وعد برشوة ، ولا بد أن يفى بوعده ، وسيكون ذلك من فساده قاضيا للقضاة في دمشق .
2 ـ لا ينبغي أن تذهب أنفسنا حسرات على فساد القضاة في عصر العسكر المملوكى . أشدُّ منه فسادا هو القضاة في عصر العسكر الحاكم الآن في مصر . أصبح حذاءا في قدم السيسى يركل به من يشاء من الأبرياء والأحرار المصريين الذين لا حول لهم ولا قوة ... !
2 ـ ( وفيه خلع على عبد العظيم بن صدقة الأسلمي، وأعيد إلى نظر ديوان المفرد ، عوضاً عن تاج الدين الخطير‏. وكان قد ترك ذلك تنزهاً عنه من قبل سفر السلطان إلى الشام ، ولم يباشر أحد عوضه‏. ) .
تاج الدين الخطير ( الذى كان قبطيا فاسلم ) ، هو شخصية محترمة وسط مجتمع أكابر المجرمين .
شهر ربيع الآخر أوله السبت‏:‏
وظائف أكابر المجرمين : تعيينات وتنقلات
1 ـ ( فيه خلع على دولات شاه المعزول من ولاية القاهرة ، واستقر في ولاية المنوفية والقليوبية.)
قاسى منه القاهريون العذاب، وجاء الدور على أهل المنوفية والقليوبية ليذوقوا منه العذاب .
2 ـ ( وفي عاشره‏:‏ خلع السلطان على الأمير أينال الششماني ، واستقر في نيابة مدينة صفد ، عوضاً عن الأمير مقبل بعد وفاته‏. )
3 ـ ( واستقر خليل بن شاهين في نظر الإسكندرية عوضاً عن فخر الدين بن الصغر‏. وخليل هذا أبوه من مماليك الأمير شيخ الصفوي، وسكن القدس ، وبه وُلد له خليل هذا ، ونشأ‏. ثم قدم القاهرة من قريب واستقر حاجب الإسكندرية‏ ، ثم عُزل ، فسعى في النظر بمال حتى وليه مع الحجوبية‏. ) .
تعليق :
هو حاجب في الإسكندرية ، وقد سعى بأمواله ليفوز بوظيفة نظر الإسكندرية أيضا . وقد ذكر المقريزى هذا الخبر في أحداث شهر شوال . وسيتقلب في المناصب بين عزل وتولية ، وهو فاسد عريق .‏
4 ـ ( وفي حادي عشره‏:‏ خلع على الأمير أقبغا الجمالي ، واستقر كاشف الوجه البحري ، عوضاً عن حسن باك بن سقل سيز التركماني ، وأضيف له كشف الجسور أيضاً‏. ) .
تعليق
أقبغا الجمالى المشهور بالفساد والقسوة يتقلب في المناصب ليمارس هوايته في تعذيب الفلاحين وفى اهمال كشف الجسور والترع .
يومان نزهة صيد للسلطان
( وفي ثالثه سرح السلطان للصيد ، وعاد في خامسه )
برسباى يحقق بنفسه في أحوال المارستان ( المستشفى ) المنصورى قلاوون :
( وفي ثالث عشره‏:‏ ركب السلطان بعد الخدمة ، ومعه ناظر الجيش وكاتب السر والتاج الشوبكي‏. ونزل إلى المارستان المنصوري للنظر في أحواله، ليلى التحدث فيه بنفسه ، فإنه لم يول نظره أحداً بعد الأمير سودن بن عبد الرحمن‏. وأقام الطواشي صفي الدين جوهر الخازندار لما عساه يحدث من الأمور فاستمر على ذلك‏. )
تعليق
1 ـ المارستان المنصورى أشهر المستشفيات في العصر المملوكى ، أسّسه السلطان المنصور قلاوون ، ويقع في منطقة بين القصرين بالقاهرة .
2 ـ ذرية المنصور قلاوون حكمت الدولة المملوكية البحرية الى أن أسّس الظاهر برقوق الدولة المملوكية البرجية ، نسبة لأبراج القلعة ، مركز الحكم ، والتي عاش في ابراجها مماليك ذرية قلاوون ثم خلفوهم في الحكم .
شهر جمادى الأولى‏:‏ أوله الاثنين‏.
وظائف أكابر المجرمين
( في سادسه‏:‏ خلع على نظام الدين بن مفلح وأعيد إلى قضاء الحنابلة بدمشق‏. عوضاً عن عز الدين عبد العزيز البغدادي‏. )
2 ـ ( وفي ثامن عشرينه‏:‏ استقر حسين الكردي في كشف الوجه البحري عوضاً عن أقبغا الجمالي ، بعد قتله في خامس عشرينه في حرب كانت بينه وبين عرب البحيرة‏.‏ وقتل معه جماعة من مماليكه ومن العربان . )
3 ـ ( وخُلع على الوزير أستادار كريم الدين جبه بفرو سمور، ليتوجه إلى البحيرة - ومعه حسين الكردي - لعمل مصالحها ، واسترجاع ما نهبه أهلها من متاع أقبغا الجمالي‏. وكتب إليهم بالعفو عنهم ، وأن أقبغا تعدى عليهم في تحريق بيوتهم وأخذ أولادهم ، ونحو ذلك مما يطمئنهم ، عسى أن يؤخذوا بغير فتنة ولا حرب‏.‏ ).
تعليق
1 ـ لم يكن هناك خلاص من أقبغا الجمالى إلا بالقتل ، كان يحرّق بيوت الأعراب في البحيرة ويسبى أولادهم وبناتهم . فقتله الأعراب ، وهم حملة السلاح . أما الفلاحون المصريون المسالمون المستضعفون فليس هناك من يبكى عليهم .!!
2 ـ تركز إهتمام برسباى ليس على الإصلاح ، بل استرجاع ما نهبه الأعراب من متاع أقبغا الجمالى ، وكانت مهمة حسين الكردى خداع الأعراب ليسترجع منهم متاع أقبغا بدون حرب .
أمطار هدمت بيوتا في مكة وغمرت الحرم
( وفي ليلة الجمعة سادس عشرينه‏:‏ وقع بمكة المشرفة مطر غزير سالت منه الأودية وحصل منه أمر مهول على مكة ، بحيث صار الماء في المسجد الحرام مرتفعاً أربعة أذرع‏. فلما أصبح الناس يوم الجمعة ورأوا المسجد الحرام بحر ماء أزالوا عتبة باب إبراهيم ، حتى خرج الماء من المسفلة ، وبقي بالمسجد طين في سائر أرضه قدر نصف ذراع في ارتفاعه فانتدب عدة من التجار لإزالته‏. وتهدم في الليلة المذكورة دور كثيرة ، يقول المكثر زيادة على ألف دار‏. ومات تحت الردم اثنا عشر إنساناً وغرق ثمانية أنفس‏. ودلف سقف الكعبة فابتلت الكسوة التي بداخلها وامتلأت القناديل التي بها ماء‏. وحدث عقيب ذلك السيل بمكة وأوديتها وبأطرق ( أي طرقات ) من اليمن‏.‏)
شهر جمادى الآخرة‏:‏ أوله الثلاثاء‏.
( وفي ثالثه‏:‏ سار الوزير إلى البحيرة‏. ) . هو الوزير أستادار كريم الدين المبعوث من برسباى لخداع الأعراب فيها .
‏الظلم يؤدى للخراب : إحصائية تثبت ذلك
يقول المقريزى : ( فيه أحصي ما بالإسكندرية من القزازين وهم الحُيّاك ، فبلغت ثمانمائة نول ، بعد ما بلغت عدتها في أيام محمود أستادار - أعوام بضع وتسعين وسبعمائة - أربعة عشر ألف نول ونيف شتت أهلها ظلم ولاة الأمور وسوء سيرتهم‏. )
تعليق
1 ـ خلال ربع قرن تقريبا تناقصت أعداد الأنوال التي تصنع الثياب من 14 ألفا الى 800 نول فقط ، وهجر خياطون كثيرون المهنة ، بسبب الظلم والاحتكار الذى أدمنه برسباى.
2 ـ التاريخ يكرر نفسه الآن في مصر ؛ العسكر المصرى الخائن الخائب الذى يحتلُّ مصر من عام 1952 وصل به الفساد الى أن يحتكر الصناعة والتجارة لحسابه ، فأضعف الصناعة الوطنية وسبّب تهميش الطبقة الوسطى ، وتعاظم الفجوة بين أقلية الأقلية من المترفين والأغلبية الساحقة من أفقر الفقراء . وهذا الفقر المنتشر المتزايد يصاحبه نشر السجون المحلية في كل قسم شرطة ، وتكميم الأفواه ، بما يُنذر بانفجار من الداخل . ! . ونحذّر ونُنذر ، وبلا فائدة .!
لمجرد التذكير :
وعظا للجيش المصرى قبل فوات الأوان
أولا : عن الاحتكار
1 ـ لن نكتفي بالقول بأن الاحتكار حرام وأن المحتكر يجرم في حق المجتمع ومأواه جهنم وبئس المصير ، فكم تكلم الآخرون علي هذا المنوال وما ازداد الاحتكار إلا انتشارا علي انتشار. سنتحدث عن الاحتكار في فلسفة الأخلاق وأخلاق السوق .
2 ـ إن مجاوزة الاعتدال والوسطية توقع الإنسان في الرذائل ، لأن الفضيلة وسط بين رذيلتين ، ففضيلة الكرم تتوسط الإسراف والبخل ، وفضيلة الشجاعة وسط بين التهور والجبن ، فهل ينطبق هذا الميزان الأخلاقي علي رزيلة الاحتكار إذا ارتكبها أشخاص ؟
3 ـ إن الاحتكار يعني أن يتحكم شخص أو عدة أشخاص معا في سلعة معينة يحتاجها الناس والمجتمع ، فلا يستطيعون الحصول عليها إلا منهم وبالشروط والثمن الذي يحدده المحتكرون . والاحتكار بهذا يعتبر رذيلة لأنه يجافي التوسط الذي يعني حرية السوق في العرض والطلب إلا أن نقيض الاحتكار في الميزان يعتبر هو الآخر رذيلة أي فالذي يحتكر السلعة ويؤثر بها نفسه يقع في رذيلة .
4 ـ والمعروف قرآنيا ، أنه ليس من السرف أن يؤثر الإنسان علي نفسه ، فقد فعل ذلك الأنصار الفقراء حين حل بهم المهاجرون في المدينة ، وقال عنهم رب العزة جل وعلا : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) الحشر) .
5 ـ إن المحتكر شخص تملّكه الشُّح ، فاعمي بصره عن إدراك حقائق الأخلاق وحقائق السوق أيضا ، وهما ــ للعلم ــ متلازمان . إن الاحتكار أنانية تؤكد أن المحتكر لا يري إلا نفسه ولا يأبه بالآخرين ولا يتصور نفسه سيكون محتاجا لهم ، وبذلك فالمحتكر يضيف إلي صفة الأنانية والشح صفة أخري هي عدم التقدير الصحيح للأمور. وحقائق السوق أعمق من مجرد تبادل المنافع التي يصادرها الاحتكار، إن الحقيقة الكبرى في السوق هي العرض والطلب ، ولو تمكن محتكر ما من الاستحواذ علي سلعة ما فإن المنتجين سيسارعون بإنتاجها في العام التالي ، فيكثر عرضها وينتهي احتكارها . ولو تمكن المحتكر من اختزانها في مخازنه للعام التالي فإن مخزونه سيفسد وسيخسر، وإذا نجا من الفساد فإنه ـ أي المخزون ـ سيسهم في رخص الأسعار بعدة زيادة العرض وستضاف مصاريف التخزين إلي خسائر المحتكر، وذلك يؤكد أن الاحتكار لا ينجح في السوق المفتوح ذي الهواء الصحي الذي يحكمه قانون العرض والطلب.
6 ـ كل هذا عن الاحتكار الفردى في سوق مفتوحة حُرّة أمام الجميع للتنافس . وبهذه الحرية يقوم التنافس بإصلاح السوق ، طالما لا تتدخل الدولة . أمّا إذا تدخلت السلطة في السوق فاحتكرت السوق بيعا وشراء فهو الخراب بعينه ، لأنه الفساد بعينه . وهذا هو ما يحدث الآن في مصر حيث يستخدم الجيش سلطته في التربّح إحتكارا وفسادا .
ثانيا : تجربة جيلنا البائس من الطبقة الوسطى
1 ـ سياسيا : فتح جيلنا عينيه على ( ثورة 1952 ) ، ونشأ على حب عبدالناصر ثم تقديسه ، ثم فجعته النكسة وهتف فى جنازة عبدالناصر" سنبكيك الى آخر العمر يا أعظم الرجال " ، ثم نظر باستخفاف الى أنور السادات ، وامتعض من ثورة التصليح أو التصحيح ، ثم انخرط مع السادات فى حرب أكتوبر المجيدة ، ثم خرج منها يواجه التضخم والغلاء ويبحث عن شقة فى بولاق الدكرور وعين شمس والمطرية ، ودخل فى حسبة معقدة يوازن بها بين ضآلة المرتب والإحتياجات الضرورية ، لكى يعيش محترما ..
2 ـ اقتصاديا : جيلنا هو الذى أدرك في بدايته فى الخمسينات عصر النكلة والمليم .. وشهد فى بداية الستينات انقراضهما ، ثم شهد فى عصر الانفتاح انقراض التعريفة (5 مليم) ثم القرش صاغ (10 مليم) ثم ( الشلن ) (50 مليم) ثم العشرة قروش (100 مليم)، ثم ربع الجنيه ( 25 قرشا ) ثم نصف الجنيه ، ثم هو الآن على وشك أن يقيم حفل تأبين لوداع الجنيه (1000 مليم) الذى لم يعد يُسمن ولا يُغنى من جوع !!. أي إن جيلنا ـ المنكوب بحكم العسكر من عام 1952 ـ سيدخل التاريخ من أشدّ أبوابه بؤسا ، لأنه الجيل الوحيد ـ المعروف حتى الآن ـ الذى عايش ارتفاعا للإسعار، تبلغ نسبته أكثر من الألف ضعف ، ولأنه سيكون الجيل الوحيد الذى أدرك انقراض كل العملات المصرية وعجزها عن الوفاء بشراء السلع الضرورية ، وتلك كارثة .
3 ـ العجيب أن هذا يحدث مع وجود ( خبراء ) إقتصاد ، ووزارة للتخطيط ، وأجهزة معلومات ، كلها تزدحم ـ ليس بأهل الكفاءة ـ ولكن بأهل الثقة ، الذين يقولون للمستبد العسكرى ( تمام يا فندم )، ويفسدون ما شاءوا تحت شعار ( توجيهات الرئيس ) .
4 ـ لقد ظلت العملة المصرية ثابتة والأسعار مستقرة قبل ثورة العسكر 1952 ، طيلة العصر الملكى (الفاسد) فى أغلب الأوقات، والسبب ليس عبقرية فى السلطة الحاكمة، ولكنه السير التلقائى فى الطريق السليم ، وهو قانون السوق والعرض والطلب وترك الحرية للإنسان لينتج ويفكر ويعمل ، وفى النهاية فان الفلاح لن يلتهم وحده كل المحاصيل التى ينتجها ، وصاحب المصنع لن يرفض بيع انتاجه للجمهور، وإنما يصب الإنتاج كله فى البلد ، واذا حدث نقص فى سلعة ما وازداد عليها الطلب سارع المنتجون بالإتجاه لإنتاجها ، فيغمرون بها السوق وينخفض سعرها ، وهكذا يقوم السوق بإصلاح نفسه بنفسه، وما على الحكومة الا أن تقدم الخدمات وتجمع الضرائب . ذلك ما كان سائدا فى مصر والعالم قبل أن تظهر الشيوعية ، والتى ما لبثت أن اعتنقتها الثورات فى العالم الثالث ومنها مصر، لأن فلسفة العسكر هي تغيير كل شىء بكل ما لديهم من جهل ، والتدخل فى كل شىء بكل ما لديهم من حُمق ، والتحكم فى كل شىء بكل ما لديهم من عُنف . زاد هذا البلاء عمل العسكر فى الوظائف المدنية لأنهم الأكثر من ( أهل الثقة ) المتخصصين في الفساد ونهب البلاد . كان ذلك من المضحكات المبكيات ، فكيف تنفق الدولة على تعليم الضابط ليكون كفئا فى تخصصه العسكرى الميدانى ثم ينتقل بعدها ليكون مديرا لمؤسسة أو وزيرا فى وزارة أو محافظا فى مديرية أو رئيسا لمجلس مدينة ؟ إنه بحكم تكوينه العسكرى لايعرف الا طاعة الأوامر واصدارها، ثم انه ليس لديه الصبر على التعامل مع الجمهور والاستماع إلى المناقشات. أحيانا يضع الضابط التصرف فى يد موظف بيروقراطى يفهم سر المهنة ، ويكون من أهل الثقة وأهل النفاق وأهل الفساد .
5 ـ سنة 1962 كان مرتب خريج الجامعة 12 جنيها . وكان ثمن سندوتش الطعمية 5 مليمات ، وثمن كيلو اللحم 28 قرشا ، وكان يستطيع الحصول على شقة فى وسط البلد بالقاهرة . وفى 1972 وصل مرتب خريج الجامعة الى 17 جنيه ، وأصبح ثمن السندوتش 10 مليمات ، ووصل ثمن كيلو اللحم الى 70 قرشا ، ولكن كان بإمكانه أن يعيش (مستورا) فى شقة يمكنه العثور عليها بسهولة فى حدائق القبة والجيزة. ثم جاء طوفان الغلاء بعد انتصار اكتوبر واكتسح كل شىء ، ثم اصبح مرتب خريج الجامعة سنة 1992 حوالى 70 جنيها ، وثمن السندوتش 50 قرشا، وكيلو اللحمة أكثر من عشرة جنيهات ، وكان يستطيع هذا الخريج الجامعى اذا توظف أن يسكن فى شقة فى الأحياء الراقية في القاهرة بشرط ان يكون ذلك فى احلام اليقظة فحسب . من وقتها وحتى الآن ، فكل الأمور متاحة أمام خريج الجامعة المصرى ( المستقيم ) الذى لا يجد عملا خارج مصر ـ لأن يحلم فقط ، أحلام يقظة ؛ يحلم بمرتب يكفيه وشقه تؤويه وعروس تؤنسه ، إذ أن الدولة ـ مشكورة ـ لم تتدخل بعد بقوانينها وقرارتها لتتحكم فى أحلام اليقظة التى لم يعد أمام الشباب الضائع سواها.!. وبعض الشباب الضائع تمرد على أحلام اليقظة ، فلبس عمامة الدين وانطلق يدمر المعبد على من فيه . وهؤلاء لا يعلمون أنهم بهذا يطيلون حكم العسكر ، فالعسكر يحتاج الى فزّاعة يخيف بها من هم داخل مصر ومن هم خارجها .
أخيرا
لا حلّ لمصر إلا برجوع الجيش الى ثكناته ، كما أراد الرئيس الراحل محمد نجيب من قبل . لا حلّ لمصر إلا بوجود نظام مدنى ديمقراطى ليبرالى حقوقى . ونحلم ـ حُلم يقظة ـ أن يتحقق هذا سلميا بدون إراقة الدماء . لأن الدماء المُراقة سيكون معظمها من المستضعفين في الأرض ، ونحن نضع المستضعفين في قلوبنا .
تنقلات في وظائف أكابر المجرمين
( وفي ثاني عشره‏:‏ رسم بإعادة أبي السعادات جلال الدين محمد بن أبي البركات ابن أبي السعود بن زهيرة إلى قضاء الشافعية بمكة ،عوضاً عن جمال الدين محمد بن علي بن الشيبي بعد موته‏. ). قاض فاسد تعرض للعزل واعادته للمنصب .
المماليك الجلبان في القلعة يرجمون كبار الموظفين المسئولين عن مرتباتهم
( وفي سابع عشره‏:‏ رجم مماليك الطباق بالقلعة المباشرين عند خروجهم من الخدمة السلطانية ، لتأخر جوامكهم بالديوان المفرد عن وقت إنفاقها‏. )
ليسوا مسئولين عن تأخر الصرف للكرتبات . السلطان هو المسئول ، ومماليكه السلطانية ( الجلبان ) ينفّسون عن غضبهم في الموظفين ( المباشرين ) الذين لاحول لهم ولا قوة .
مرض السلطان برسباى
( وفي يوم السبت سادس عشرينه‏:‏ أصبح السلطان ملازماً للفراش من آلام حدثت في باطنه من ليلة الخميس ، وهو يتجلد لها ، إلى عصر يوم الجمعة ، فاشتد به الألم ، وطلب رئيس الأطباء فحقنه في الليل مراراً‏. وأصبح لما به فلم يدخل إليه أحد من المباشرين‏ ، وبعث بمال فرقه في الفقراء‏ . وما زال محجوباً عن كل أحد ، وعنده نديماه ولي الدين محمد بن قاسم والتاج الشوبكي فقط‏. ثم دخل في يوم الثلاثاء تاسع عشرينه الأمراء لعيادته وقد تزايد ألمه‏ ، ثم خرجوا سريعاً ، فأبلّ تلك الليلة من مرضه‏. ).
تعليق
1 ـ لا يجوز للمستبد أن يقع في المرض ، لا يجوز للمستبد أن يبدو ضعيفا حتى لا يفترسه بعض خدمه من أكابر المجرمين . لذا لا بد أن يتحمّل ما استطاع ألم المرض ويبتسم . في النهاية تغلبه الآلام فيأتيه الطبيب . عبد الناصر تعذّب من المرض ، وتعذّب أكثر من تجلّده وإخفائه لضعفه وآلامه . وعندما أشار طبيبه د أنور المفتى الى مرضه سقوه السُّم ، فمات سريعا . مرض المستبد وأحواله الصحية من أخطر أسرار الدولة. السبب بسيط جدا ومؤلم جدا : لأن المستبد هو الدولة.!!
2 ـ عندما إشتدّ مرض برسباى تصدّق على الفقراء ، أي تذكّر أن هناك فقراء هو الذى أضاع حقوقهم وأفقرهم . العادة السيئة للإنسان العاصى أنه إذا أصابه المرض إستغاث برب العزة جل وعلا ، فإذا كشف الله سبحانه وتعالى عنه ضرّه عاد الى ما كان عليه من عصيان . هكذا فعل برسباى ، وهكذا فعل سابقوه ، وهكذا فعل ويفعل وسيفعل لاحقوه . ‏
شهر رجب الفرد أوله الخميس‏:
شفاء برسباى ومباشرته مهامه علنا ليؤكد أنه في تمام صحته
1 ـ ( فيه عملت الخدمة السلطانية بالبيسرية ، وقد زال عن السلطان ما كان به من الألم‏. )‏
2 ـ ( وشهد الجمعة من الغد بالجامع على العادة‏. وخلع على الأطباء في يوم السبت ثالثه‏. ثم ركب في يوم الخميس ثامنه ، وشق القاهرة من باب زويلة ، ومضى إلى خليج الزعفران بالريدانية وعاد إلى القلعة‏. )
السفر للحج
( وفي خامس عشره‏:‏ نودي في القاهرة بسفر الناس إلى مكة صحبة الأمير أرنبغا ، وقد عين أن يسافر بطائفة من المماليك ، فأخذ طائفة من الناس في التأهب للسفر‏. )
عودة الوزير من البحيرة بعد نجاح مهمته
( وفيه قدم الوزير من البحيرة وقد مهد أمورها على ما يجب‏. ). تمهيد المهمة كان على حساب الفلاحين المستضعفين لصالح أكابر المجرمين . أكاد أسمع أنينهم بين هذه السطور.!!
موت نائب برسباى في الشام ، وتعيين نائب حلب مكانه
( وفي سابع عشرينه‏:‏ قدم الأمير بربغا التنمي الحاجب بسيف الأمير شار قطلوا نائب الشام ، وقد مات بعد ما مرض خمسة وأربعين يوماً في تاسع عشره‏. )
( وفي تاسع عشرينه‏:‏ كُتب بانتقال الأمير قصروه من نيابة حلب إلى نيابة دمشق ،عوضاً عن شارقطلوا ، وأن يتوجه له بالتشريف وتقليد النيابة الأمير خجا سودن نوبة من أمراء الطبلخاناه‏. )
( وفيه ( شهر رجب ) سار الأمير بربغا التنمي ، ليبشر الأمير قصروه بنيابة الشام‏. ) ( التنمى ) نسبة الى الأمير تنمى الذى اعتقه .
تنقلات بين أكابر المجرمين من الأمراء المماليك وتنقلات لبعض الاقطاعات ( الأطيان الزراعية )
1 ـ ( وخلع على الأمير قرقماس الشعباني حاجب الحجاب، واستقر في نيابة حلب عوضاً عن الأمير قصروه، وأن يتوجه متسفره الأمير شادي بك رأس نوبة من الطبلخاناه‏.). ( المتسفّر ) الذى يسافر صحبة الأمير حارسا له .
2 ـ ( وخلع على الأمير يشبك المشد الظاهري ططر ، واستقر حاجب الحجاب عوضاً عن قرقماس‏.). ( الظاهرى ططر ) يعنى أنه كان مملوكا للسلطان الظاهر ططر ، فأعتقه ورقّاه ، فأصبح منتسبا له . وهكذا في نسبة المماليك لمن أعتقهم ؛ فليست نسبتهم لآبائهم .
3 ـ ( وأنعم بإقطاع قرقماس على الأمير أقبغا التمرازي أمير مجلس ، وبإقطاع أقبغا على الأمير يشبك المذكور‏. )
4 ـ ( وخلع على الأمير أينال الجمكي أمير سلاح ، واستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر ، وكانت شاغرة منذ لزم سودن بن عبد الرحمن داره‏. ). سودون أصبح معزولا مغضوبا عليه .
5 ـ ( وخلع على الأمير جقمق أمير أخور، واستقر أمير سلاح ، عوضاً عن الأمير أينال الجمكي‏. )
6 ـ ( وخلع على الأمير تغري برمش ، واستقر أمير أخور عوضاً عن جقمق‏. )
7 ـ ( وأخرج سودن بن عبد الرحمن إلى دمياط‏. ) . نفى سودون الى دمياط .
تعليق
بعد أن أحاله برسباى على المعاش ( بطّالا ) وسمح له بالبقاء في بيته بالقاهرة عاد ونفاه الى دمياط . هذا التغيّر في معاملة برسباى لمن كان ( الأمير الكبير ) المنصب التالى للسلطان ربما كان مبعثه أن برسباى يخطّط مقدما لتولية ابنه ويخشى من طموح الرجل الثانى في الدولة . جدير بالذكر أن برسباى قام فيما بعد بتصعيد الأمير جقمق من أمير أخور الى أمير سلاح . واصل جقمق الصعود الى أن أصبح الرجل الثانى في أواخر حياة برسباى، وعزل الأمير جقمق السلطان الصغير ابن برسباى ، وتولى مكانه فأصبح السلطان جقمق .
شهر شعبان أوله الجمعة‏:
مشكلة لا تنتهى : فرض التعامل بالعملة الرسمية ( الأشرفية ) التي سكّها الأشرف برسباى ، وتحريم ما عدها ، ورفض الناس لهذا :
( فْيه نودي ألا يتعامل الناس بالدراهم القرمانيِة ونحوها بما يجلب من البلاد ، وأن تكون المعاملة بالدراهم الأشرفية فقط ، وأن يكون الذهب والفلوس على ما هما عليه‏. وذلك أنه كان قد عزم السلطان على تجديد ذهب ودراهم وفلوس وإبطال المعاملة‏ مما بأيدي الناس من ذلك ، فكثر اختلاف أهل الدولة عليه بحسب أغراضهم‏.‏ ولم يعزم على أمر ، فأقرّ النقود على حالها ، وجمع الصيارفة وضرب عدة منهم ، وشهّرهم من أجل الدراهم القرمانية وإخراجها في المعاملة وقد نهوا عن ذلك مراراً فلم ينتهوا‏. )
تعليق
1 ـ برسباى يضرب الصيارفة ( تُجّار العملة ) ويقوم بتشهيرهم وتجريسهم في الشوارع ، وهم لا ذنب لهم ، فالسلطان برسباى هو الذى يقوم بغش العُملة ، وهو الذى يفرضها على الناس ، والناس ترفض ، وهو متردّد . وينفّس عن غضبه بالانتقام من الصيارفة . والصيارفة المظلومون لا يمكن أن يشتكوا السلطان عند قُضاة الشرع ، فهم خدم للسلطان ، وهم أشد ظلما من السلطان ، وهم يرون أن السلطان يقوم بتطبيق الشريعة السنية وفق المعلوم منها بالضرورة .
2 ـ العجيب هنا أن العُملة القرمانية لا غشّ فيها ، وهى من إمارة بنى قرمان الصغيرة في الأناضول . أما العُملة التي يصدرها برسباى فلم تكن تحظى بالثقة ، لأن السلطان غشّاش ، ويا له من عار .!!
وظائف أكابر المجرمين
( وفي سابعه‏:‏ خلع على الأمير الكبير أينال الجكمي ، واستقر في نظر المارستان المنصوري ، على عادة من تقدمه‏. ). العادة أن من يتولى منصب ( الأمير الكبير ) يكون ناظرا لأكبر مستشفى ( مارستان ) في مصر وقتها ، وهو المارستان المنصورى ، الذى بناه من قبل السلطان المنصور قلاوون .
( وفي رابع عشره‏:‏ برز الأمير قرقماس نائب حلب في تجمل حسن بالنسبة إلى الوقت ، ليسير إلى محل كفالته‏. وخلع عليه خلعة السفر ططري ، بفرو سمور ومن فوقه قباء نخ بفرو قاقم‏. )
تعليق
أفضل زىّ وملبس في التشريف هو من ( فرو السمور ) أفخر أنواع الفرو . ( السمور ) حيوان يشبه ( العرسة ) ( بكسر العين ) وأكبر منها ، ويعيش في غابات أوربا وآسيا الوسطى ، ويتم صيده بسبب فروه الثمين . وليس للمصريين معرفة وثيقة به ، ولكن المماليك الآتين من هذه الأصقاع جلبوه ، وجعلوه زيا فاخرا ، يُنعم به السلطان تشريفا على من يستحق عنده التشريف.
هروب الوزير وتعيين بديل عنه
( وفي يوم السبت ثالث عشرينه‏:‏ فُقد الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ ، فخلع على أمين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم ناظر الدولة ، واستقر في الوزارة‏. ).
عودة الوزير الهارب وتعيينه استادارا
( وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه‏:‏ ظهر الوزير كريم الدين وصعد إلى القلعة فخلع عليه قباء من أقبية السلطان‏ ، ونزل على أنه أستادار‏ ، ثم خلع عليه من الغد ، فكان موكبه جليلاً إلى الغاية‏. )
رفض منصب الاستادار
( وقد ألزم السلطان في غيبة الوزير عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش بإقامة دواداره جانبك أستادار ، فلم يرض بذلك خوف العاقبة ، وأخذ يسعى في دفع ذلك عنه ، حتى أعفي ، فعين سعد الدين إبراهيم بن كاتب حكم ناظر الخاص أستادار، فما زال يسعى في الإعفاء حتى ظهر الوزير كريم الدين فتنفس خناق الجميع‏. )
‏ برسباى يلزم داودار ناظر الجيش بأن يكون الاستادار بدل الوزير الهارب ، فيرفض هذا الشخص خوفا ، فيعين ناظر الخاص استادار فيرجو الاستعفاء . وأخير ظهر الاستادار الهارب فأراح الجميع.!
الخروج للحج
( وفى تاسعه‏:‏ برزت المماليك المتوجهة إلى مكة صحبة الأمير أرنبغا ، ورافقهم عدة كبيرة من الرجال والنساء ، يريدون الحج والعمرة‏. )
‏ الظلم يؤدى للخراب : إحصائية تثبت ذلك
( وفي هذا الشهر‏:‏ - والذي قبله - فرض السلطان على جميع بلاد الشرقية والغربية والمنوفية والبحيرة وسائر الوجه القبلى خيولا تؤخذ من أهل النواحى . وكان يؤخذ من كل قرية خمسة آلاف درهم فلوساً عن ثمن فرس ، ويؤخذ من بعض النواحى عشرة آلاف عن ثمن فرسين‏. ويحتاج أهل الناحية مع ذلك إلى مغرم لمن يتولى أخذ ذلك منهم‏. وأحصي كُتاب ديوان الجيش قرى أرض مصر كلها - قبليها وبحريها - فكانت ألفين ومائة وسبعين قرية‏. وقد ذكر المسَّبحي أنها عشرة آلاف قرية. فانظر تفاوت ما بين الزمنين‏. ) .!! . علامات التعجب من عندنا .
تعليق
1 ـ يُحسبُ للمقريزى تنوع المادة التاريخية التي يذكرها في كتابه ( السلوك ) ، ومع أن كتابه في التاريخ الحولى الذى يؤرخ لكل عام أو بالحول إلا إنه ــ خلافا للمؤرخين ــ يورد الأخبار الاقتصادية ، منها الأسعار وارتباطها بالنيل ، ويشير الى التدهور الاقتصادى للأيام التي يعيشها مقارنة بأيام سلفت . وهنا يشير الى عدد القرى المصرية في العصر الفاطمى وفق ما ذكره المسبحى مقارنة بتعدادها في عصره. كانت عشرة آلاف قرية ، فأصبحت في عهده 2170 فقط . والسبب هو الظلم المُسبب للخراب . والمقريزى في هذا متأثر بما كتبه أستاذه عبد الرحمن بن خلدون في ( المقدمة / مقدمة ابن خلدون )، وفيها كتب ابن خلدون يحذر من عمل السلطان بالتجارة ، لأن هذا يؤدى الى الظلم ، والظلم يؤدى للخراب. ولنا كتاب منشور هنا عن مقدمة ابن خلدون في دراسة تحليلية .
2 ـ فساد برسباى تخطّى الحدود ، ليس فقط في الاحتكار، ولكن أيضا في المصادرات ، بعضها يقوم بها أعوانه كالاستادار والكُشّاف ، وبعضها يقوم بها بنفسه مثلما جاء في هذا الخبر عن مصادرته للخيول في الريف المصرى . والقرية التي لا خيول فيها عليها أن تدفع ثمن الخيول المقررة عليها ، ثم ــ طبقا للفساد السائد ــ عليها أن تقدم رشوة لزبانية برسباى أيضا . مصادرة الخيول ليس الهدف منها فقط المكسب المادى ، ولكن الأهم هو إحتكار السلطان للخيول ومصادرة ما يوجد منها عند الأعراب . فالخيول أهم عتاد حربى . الفلاح المصرى لا شأن له بهذا ، فليست لديه خيول .
3 ـ قضاة الشرع ( الشريف ) لا يعترضون على هذا ، لأن ( سلطان الإسلام ) عندهم يقوم بتطبيق المعلوم من الدين بالضرورة .
4 ـ هو نفس الحال في مصر تحت حكم العسكر من عام 1952 ، نهبوا الثروة المصرية بالمصادرة والتأميم والتمصير ، وجعلوها قطاعا عاما لصالحهم ، ثم باعوه أو خصخصوه ، أيضا لصالحهم ، ثم ترزح مصر اليوم تحت حكم ضابط مخابرات، يبتزُّ رجال الأعمال ، ويرهبهم حتى يتبرعوا له ، ويصادر الأموال والشركات والمصانع الناجحة ويهدد أصحابها أو يسجنهم. وشيوخ الأزهر يسبحون بحمده آناء الليل وأطراف النهار لعله يرضى .!..ولن يرضى ، ولن يشبع ..
5 ـ ندعو الله جل وعلا أن يطعم أكابر المجرمين من شجرة الزقوم . قال جل وعلا :
1 ـ ( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ (68) الصافات )
2 ـ ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) الدخان )
3 ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) الواقعة )
ودائما : صدق الله العظيم .!!‏
حفل ختان ابن برسباى ، والمقريزى يؤلف كتابا بهذه المناسبة
( وفي تاسع عشره‏:‏ ختن السلطان ولده المقام الجمالي يوسف وأمه أم ولد اسمها جلبان جركسية ، وختن معه نحو الأربعين صبياً بعد ما كساهم‏. وقدم له المباشرون ذهباً وحلاوات ، فعمل مُهمّا ( حفلا ) للرجال وللنساء ، أكلوا فيه وشربوا‏.‏ وكتبتُ عند ذلك كتاباً سميته : ( الأخبار عن الأعذار ) وما جاء فيه من الأخبار والآثار وما لأئمة الإسلام فيه من الأحكام ، وما فعله الخلفاء والملوك‏ ، وفيه من المآثر الجسام والأمور العظام ، لم أُسبق بمثله ، فيما علمت‏. )
‏تعليق
ماذا أيها المقريزى عن أطفال المستضعفين المعذبين في الأرض والذين لا يجد آباؤهم ما ينفقون ؟ طبعا هناك فارق بين أطفال أكابر المجرمين الأسياد وبين أطفال الفلاحين الحُفاة . لا يزال الفارق ماثلا في مصر اليوم ، بين الأسياد ومن يسمونه تفضّلا بالمواطن العادى الذى يتعرض قفاه للصفع بمناسبة أو بدونها !.
الجزية القبرصية
( وفيه قدم الحمل من قبرس على العادة في البحر في كل سنة‏. )
وباء في مكة
( وفي هذا الشهر‏:‏ اشتد الوباء بمكة وأوديتها ، حتى بلغ بمكْة في اليوم عدة من يموت خمسين ما بين رجل وامرأة‏. )‏
شهر رمضان أوله السبت‏:‏
الكاتيلان الفرنجة ينتقمون من إحتكار برسباى بالقرصنة
( في ثامنه‏:‏ ورد الخبر من دمياط بأخذ الكيتلان من الفرنج خمس مراكب من ساحل بيروت فيها بضائع كثيرة ورجال عديدة‏. وبعث ملكهم إلى والي دمياط كتاباً ليوصله إلى السلطان ، يتضمن جفاء ومخاشنة في المخاطبة ، بسبب إلزام الفرنج أن يشتروا الفلفل المعد للمتجر السلطاني فغضب السلطان لما قرئ عليه ومزقه‏. ).
‏بمناسبة رمضان : قطع المرتبات المالية والعينية : مصادرة من نوع آخر
( وفي هذه الأيام‏:‏ قطع عدة مرتبات للناس على الديوان المفرد وعلى الاصطبل السلطاني وعلى ديوان الوزارة‏. وذلك ما بين نقد فى كل شهر ولحم في كل يوم وقمح في كل سنة‏. فاغتمّ لذلك كثير من الناس . وكانت العادة أن تكثر الصدقات والهبات في شهر رمضان ، فاقتضى الحال قطع الأرزاق لضيق حال الدولة‏. )
تجريدة بحرية للانتقام من الفرنجة
( وفيها عينت تجريدة في النيل لتركب بحر الملح من دمياط وتجول فيما هنالك ، عسى تنكف عادية الفرنج ويقل عبثهم وفسادهم‏. ).
تعليق
يتناسى المقريزى أن المماليك والفرنجة يتبادلون الهجوم ، ويمارس كل منهما القرصنة على الآخر . ويعتبر المماليك قرصنتهم جهادا ، ونفس الحال مع الفرنجة . المقصد هو المال ، معبودهم الأعظم .!
تناقص الوباء في مكة
( وفي هذا الشهر‏:‏ تناقص الوباء بمكة‏. )
شهر شوال أوله الاثنين‏:
( وأتفق في الهلال ما لم يذكر مثله ، وهو أن أرباب تقويم الكواكب اقتضى حسابهم أن هلال شهر رمضان في ليلة السبت يكون مع جرم الشمس فلا يمكن رؤيته‏. فلما غربت الشمس تراءى السلطان بمماليكه من فوق القلعة الهلال ، وتراءاه الناس من أعلى الموادن ( المآذن ) والأسطحة بالقاهرة ومصر وما بينهما وما خرج عنهما ، وهم ميون ( مئات ) ألوف ، فلم ير أحد منهم الهلال ، فانفضوا وقد أظلم الليل‏. وإذا برجل ممن يتكسب في حوانيت الشهود بتحمل الشهادة جاء إلى قاضي القضاة الشافعي وشهد بأنه رأى الهلال فأمر أن يرفع للسلطان‏. فلما مثل بين يديه ثبت وصمم على رؤيته الهلال‏ ، وكان حنبلياً ، وهو من أقارب نديم السلطان ولي الدين بن قاسم ، فبالغ في الثناء عليه عند السلطان ، فأمر بإثبات الهلال ، فأثبت بعض نواب قاضي القضاة الحنبلي بشاهدة ( أي بشهادة ) هذا الشاهد أول رمضان ، ونودي في الليل بصوم الناس من الغد بأنه من رمضان‏. فاصبح الناس صائمين ، وألسنتهم تلهج بالوقيعة في القضاة والشهود ، وتمادوا على ذلك ، فتوالت الكتب من جميع أرض مصر قبليها وبحريها ومن البلاد الشامية وغيرها‏ ، بأنهم تراءوا الهلال ليلة السبت، فلم يروه ، وأنهم صاموا يوم الأحد‏. فلما كان ليلة الاثنين التي يزعم الناس أنها أول ليلة من شوال تراءى الناس الهلال من القلعة وبالقاهرة ومصر وما بينهما وحولهما فلم يروه ، فجاء بعض نواب القضاة وزعم أنه رآه ، وأنه شهد عنده برؤيته من أَثبت بشهادته أن هلال شوال غدا يوم الاثنين. فكانت حادثة لم ندرك قبلها مثلها ، وهي أن الهلال بعد الكمال عدة ثلاثين يوماً لا يراه الجم الغفير الذي لا يحصى عددهم إلا خالقهم ، مع توفر دواعيهم على أن يروه ، وقد خلت السماء من الغيم‏. وجرت العادة باًن يتساوى الناس في رؤيته. وأوجب ذلك تزايد الوقيعة في القضاء ، بل وفي سائر الفقهاء ، حتى لقد أنشدني بعضهم لمحمود الوراق‏:‏
كنا نَفِر من الولاة الجائرين إلى القضاة
فالآن نحن نفر من جور القضاة إلى الولاة. )
تعليق
1 ـ في كل مرة يتنقد المقريزى القُضاة والفقهاء ، ويجعلهم أكثر ظلما من المماليك.
2 ـ أدمنوا شهادة الزور ، وتعدى هذا الى رؤية الهلال . إذ تمسكوا بحديث زور مشهور يقول : ( صوموا لرؤيته ) وهو زور لا يزال مرفوع الرأس لدى المحمديين حتى اليوم ، وقد كتبنا في هذا من قبل ، نؤكد أن حساب الشهور بالتقويم الفلكى ، فالشمس والقمر بحسبان. قال جل وعلا : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) الرحمن ) (فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) الانعام ) ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) يونس ) ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) الاسراء ).
3 ـ كان يحدث التلاعب في رؤية رمضان والعيدين لأغراض سياسية أيضا ، إذ ساد إعتقاد بأن مجىء العيد يوم جمعة وبما يعنى وجود خطبتين فهذا يعنى سقوط السلطان القائم ومجىء سلطان جديد . لذا تقرّب الفقهاء والقضاة بتزوير رؤية الهلال حتى لا يأتي عيد الفطر أو عيد الأضحى يوم جمعة . ونفس التزوير والتدليس لا يزال سائدا مرفوع الرأس و ( الاست ).!
4 ـ إنهم ضمن شرُّ الدواب عند الله جل وعلا ، قال جل وعلا : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) الانفال ) ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الانفال ). (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) البينة ). شرُّ البرية ، شرُّ الدواب يتمتعون بالتقديس في الأديان الأرضية الشيطانية .!
‏تحركات عسكرية مملوكية :
تجريدة مملوكية نهرية في النيل
( وفي ثامنه‏:‏ سارت التجريدة في النيل ، وهي مائتا مملوك من المماليك السلطانية ومائة من مماليك الأمراء‏ ، وعليهم ثلاثة أمراء من أمراء العشرات ، بعد ما أنفق في كل مملوك ألف وخمسمائة درهم فلوساً عنها خمسة دنانير وكسر‏. ) .
ترتب عليها اعتقال شيخ الأعراب من لواته وتوسيطه ، فقد قال المقريزى : ( وفي يوم الأربعاء ثالثه‏:‏ وُسّط الأمير علم الدين حذيفة بن الأمير نور الدين علي بن نصير الدين ، شيخ لواته خارج القاهرة‏. )
خروج محمل الحج
( وفي عشرينه‏:‏ خرج محمل الحاج صحبة الأمير قرا سنقر إلى بركة الحاج ، وصحبته كسوة الكعبة علىْ العادة‏. )
لحوق الحجاج من المغرب وبلاد التكرور بالمحمل
( وقد قدم من بلاد المغرب ومن التكرور ومن الإسكندرية وأعمال مصر حاج كثير، فتلاحقوا بالمحمل شيئاً بعد شيء‏. ثم استقل الركب الأول بالمسير من البركة في ثاني عشرينه‏. ورحل الأمير قرا سنقر بالمحمل وبقية الحاج في ثالث عشرينه‏. )
وظائف أكابر المجرمين
نائب السلطان في الإسكندرية يصبح بالرشوة الحاجب الذى يقف على باب النائب .!!
( وفيه أيضاً كتب باستقرار خليل بن شاهين ناظر الإسكندرية وحاجبها في نيابة الثغر مع النظر والحجوبية‏. وكان قد بعث بثلاثة آلاف دينار، ووعد بحمل مثلها ، وسأل في ذلك فأجيب إليه‏. ولم ندرك مثل ذلك ، وهو أن يكون النائب حاجباً . فإن موضع الحاجب الوقوف بين يدي النائب والتصرف بأمره . هي الأيام كلها قد صرن عجائب ، حتى ليس فيها عجائب. ).
تعليق
1 ـ خليل بن شاهين عرف أثر المال السحرى في الوصول الى المناصب ، فتقلّب فيها ، بلا استحقاق ، سوى قدرته على الرشوة .
2 ـ بالمال كان يمكن شراء أي منصب في عصر برسباى، وفى عصر الفرعون الحالي لمصر.
3 ـ خايل بن شاهين كان نائب السلطان على الإسكندرية فاشترى منصب الحاجب أيضا ليكون حاجبا على نفسه ، وهذا لكى يجمع أكبر قدر من الأموال ، فالحاجب هو الواقف على باب الأمير ليبتزّ الأموال من أصحاب الحاجات .
4 ـ يقول المقريزى متعجبا : ( هي الأيام كلها قد صرن عجائب، حتى ليس فيها عجائب. )..
فماذا نقول عن أعاجيب عصرنا الردىء ؟ حيث يوضع الأحرار في السجون ، ويُجبر العباقرة على الهجرة والنفى ، ويصبح المجرمون اللصوص أراذل الناس هم أسياد البلد .!! ويتربع على قمة السُّلطة خائن فاشل خائب معتوه .!! هنا لا تكفى مئات العلامات من التعجّب .!!!!!
‏أوامر من برسباى الى ملك المغرب ، وملك المغرب يسمع ويطيع . لماذا ؟
( وفيه قدم جنيد - أحد أمراء أخورية - وقد توجه إلى أبي فارس عبد العزيز ملك المغرب ، وعلى يده كتاب السلطان بمنع التجار من حمل الثياب المغربية المحشاة بالحرير من ملابس النساء ، وأن يلزمهم بقود الخيول بدل ذلك‏. فوجده متوجها من بجاية إلى فاس فأكرمه ، ونادى بذلك في عمله ، وأجاب عن الكتاب‏. وبعث بهدية ، هي ثلاثون فرساً ، منها خمسة مسرجة ملجمة ، ونحو مائتين وخمسين بعيراً. وقدم صحبة جنيد ركب في نحو ألف بعير يريدون الحج‏. ) .
تعليق
برسباى يريد فرض الاحتكار لصالحه حتى في المغرب ، وملك المغرب يسمع ويطيع لأن حجّاج المغرب يأتون للقاهرة ليكونوا في حماية محمل الحج المملوكى .
برسباى يهدد المنجمين
( وفي يوم الاثنين تاسع عشرينه‏:‏ كسفت الشمس في آخر الساعة الرابعة ، فتغير لونها تغيراً يسيراً ،ولم يشعر بها أكثر الناس ، ولا اجتمعوا للصلاة بالجوامع على العادة ، لقلة الشعور بذلك‏. ثم انجلى الكسوف سريعاً‏. وكان بعض من يزعم علم النجوم لقلة درايته وكثرة جرأته قد أرجف قبل ذلك بأيام ، وشنع بأمر الكسوف ، وما يدل عليه ، حتى اشتهر إرجافه وتشنيعه ، وداخل بعض الناس الوهم‏. فلما لم يكن من أمر الكسوف كبير شيء طلب السلطان طائفة ممن ينتحل هذا الفن من أهل التقويم ، وأنكر عليهم وهدّدهم‏. )
تعليق
1 ـ في عصر كان يعتقد في اساطير الكرامات لا بد أن يشيع الايمان بالتنجيم ، يدل على هذا قول المقريزى : ( وشنع بأمر الكسوف ، وما يدل عليه ، حتى اشتهر إرجافه وتشنيعه ، وداخل بعض الناس الوهم‏. ) . وكان يتم استغلال هذا سياسيا ، وقد شرحناه في موسوعة التصوف في أثر التصوف السياسى . وخوفا من تأثير هذا على سلطانه سارع برسباى بتهديد المنجمين .
2 ـ أكثر الناس ظلما هو أشدهم خوفا ورُعبا . المستبد الظالم ــ أكبر أكابر المجرمين ــ هو أكثر الناس رعبا وخوفا .
قطع المرتبات
( وفي هذه الأيام‏:‏ قطعت أيضاً عدة مرتبات للناس من ديوان السلطان ، ما بين عليق لخيولهم ، ومبلغ دراهم في كل شهر‏.)
ارتفاع طفيف في الأسعار
( وفيها ارتفع سعر الغلال قليلاً ؛ فكان القمح من مائة وخمسين درهماً الأردب إلى ما دونها ، فبلغ مائة وسبعين مع كثرته، لزكاة ( أي زيادة إنتاج ) الغلال وقت الدراس، ورخاء بلاد الشام والحجاز‏.).
المجاهدون في البحر يدمرون سفنا إيطالية أصحابها تُجّار مُسالمون
( وفيها ظفر المجردون ( المجاهدون ) في البحر على بيروت بغراب ( سفينة ) للبنادقة ، فيه صناديق مرجان ونقد وغير ذلك‏. وظفروا بمركب آخر للجنويين على طرابلس ، فيه بضائع ، فأًحرقوه بما فيه ، وأسروا ــ سوى من غرق ــ بضعاً وعشرين رجلاً‏.‏ وقتل من المماليك المجردين سبعة ، فلم يُحمد هذا من فعلهم. وذلك أن البنادقة والجنوية مسالمون المسلمين‏.)
طبقا لشريعتهم السنية والمعلوم منها بالضرورة فلا مانع من سلب تُجّار مُسالمين وقتل بعضهم ، مع أنهم أتوا محتمين بأمان من السلطان ، وإلا ما جاءوا . هذا يذكرنا بالشريعة السنّية التي تجعل المتطرفين يقتلون السُّيّاح المسالمين غدرا ، ويستبيحون دماءهم بكل نذالة ، ويعتبرون ذلك جواز دخولهم للجنة والاستمتاع بالحور العين بزعمهم .

شهر ذي القعدة أوله الأربعاء‏:
الحج
( فيه توجه الأمير جقمق أمير سلاح إلى مكة حاجاً ، وسار معه كثير ممن قدم من المغاربة.)

شهر ذي الحجة‏:‏ أهل بيوم الخميس :
ارتفاع الأسعار بسبب إشاعات كاذبة عن نقصان النيل
( وسعر القمح قد ارتفع إلى مائتي درهم ، والفول إلى مائتي درهم أيضاً‏. والشعير إلى مائة وسبعين ، لتكالب الناس على شرائه ، مع استمرار زيادة النيل من غير توقف‏. لكنها عوائد سوء ــ قد ألفوها منذ هذه الحوادث والمحن ــ أن يكثر إرجاف المرجفين بتوقف النيل رغبة في بيع الغلال بأغلى الأثمان ، فيأخذ كل أحد في شرائها ، ويمسك أربابها ما بأيديهم منها ، لا سيما أهل الدولة، فيرتفع لذلك سعرها‏. )
نستعيد عبارة المقريزى : ( لكنها عوائد سوء ــ قد ألفوها منذ هذه الحوادث والمحن ــ أن يكثر إرجاف المرجفين بتوقف النيل رغبة في بيع الغلال بأغلى الأثمان ، فيأخذ كل أحد في شرائها ، ويمسك أربابها ما بأيديهم منها ، لا سيما أهل الدولة، فيرتفع لذلك سعرها‏ ). الناس على دين ملوكهم ، نتحدث عن الأثرياء والميسورين ، وليس عن المستضعفين المساكين . برسباى كان مثلهم في الجشع والاحتكار ، ساروا على سُنّته ، وأصبح هذا معلوما من دينهم بالضرورة .!
أخبار النيل
1 ـ ( وفي ثالث عشره‏:‏ ابتدئ بالنداء على النيل بزيادته ، وقد أخذت القاعدة فكانت خمسة أذرع واثنين وعشرين إصبعاً . والنداء بزيادة ثلاثة أصابع‏. )
2 ـ ( وفي يوم الأحد ثامن عشره‏:‏ نودي بزيادة ماء النيل اثني عشر إصبعاً لتتمة ثلاثة عشر ذراعاً واثنتين وعشرين إصبعاً‏. ووافق هذا اليوم أول مسرى‏. وهذا القدر مما يستكثر من الزيادة في هذا الوقت ، ويؤذن بعلو النيل وكثرة زيادته، إن شاء الله تعالى‏. )
3 ـ ( وفي يوم السبت رابع عشرينه - وسابع مسرى -‏:‏ نودي بزيادة عشر أصابع لتتمة ستة عشرة ذراعاً ، وهي التي يقال لها أذرع الوفاء ، وزيادة أربعة أصابع من سبعة عشر ذراعاً. ويعد هذا من الأنيال ( التواريخ ) الكبار. وفيه نادرتان : إحداهما زيادة عشر أصابع في يوم الوفاء ، وقل ما يقع ذلك اليوم من ذي الحجة‏:‏ ولا أذكر أني أدركت مثل ذلك‏. والنادرة الثانية وفاء النيل في هذا العام مرتين ، أحدهما في ثانى المحرم كما تقدم . والأخرى هذا اليوم من ذي الحجة . ولا أذكر أنى أدركت مثل ذلك . ونادرة ثالثة أدركنا مثلها مراراً ، وهي الوفاء في سابع مسرى ، بل أدركنا وفاه قبل ذلك من أيام مسرى . إلا أن ذلك قل ما وجد في الأنيال القديمة‏. )
4 ـ ( وفيه ركب المقام الجمالي يوسف ابن السلطان ، حتى خُلّق عمود المقياس بين يديه، ثم فتح الخليج على العادة ، فكان يوماً مشهوداً‏. )
5 ـ ( وفي غده نودي على النيل بزيادة ثمانية أصابع لتتمة ستة عشر ذراعاً ونصف ذراع‏. ثم نودي من الغد بزيادة خمسة عشر إصبعاً لتتمة سبعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. وهذه الزيادة بعد الوفاء من النوادر أيضاً‏. فالله يحسن العاقبة‏. ).
تعليق
1 ـ المقريزى يعبّر عن القلق المصرى المرتبط بالنيل .
2 ـ المصريون الآن في غيبوبة ، النيل ـ مجرى حياتهم ـ مهدد بالجفاف ، وهم لا يشعرون وربما لا يأبهون .!! ماذا لو عاش المقريزى عصرنا هذا ؟
سلامة الحجاج
( وفي سادس عشرينه‏:‏ قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامتهم‏. وهذا أيضاً مما يندر وقوعه‏. ). الأمن كان عُملة نادرة في حكم العسكر المملوكى ، ولا يزال عُملة نادرة في حكم العسكر المصرى الراهن .
انتقام الفرنجة
( وفي هذه السنة‏:‏ أخذ أفرنج ثماني عشرة مركباً من سواحل الشام ، فيها من البضائع ما يجل وصفه ، وقتلوا عدة ممن كان بها من المسلمين وأسروا باقيهم‏. )
هنا نتذكر ما قاله المقريزى في أحداث شهر شوال : ( وفيها ظفر المجردون ( المتطوعون للجهاد ) في البحر على بيروت بغراب للبنادقة ، فيه صناديق مرجان ونقد وغير ذلك‏. وظفروا بمركب آخر للجنويين على طرابلس ، فيه بضائع ، فأًحرقوه بما فيه ، وأسروا ــ سوى من غرق ــ بضعاً وعشرين رجلاً‏.‏ وقتل من المماليك المجردين سبعة ، فلم يحمد هذا من فعلهم. وذلك أن البنادقة والجنوية مسالمون المسلمين‏.)
اسطورة مضحكة
( وفيها طلق رجل من بني مهدي بأرض البلقاء امرأته وهي حامل، فنكحها رجل غيره ، ثم فارقها فنكحها رجل ثالث. فولدت عنده ضفدعاً في قدر الطفل ، فأخذوه ودفنوه خوف العار. )
تعليق
1 ـ في أي مجتمع تسيطر الثقافة السمعية المرتبطة بدين أرضى تشيع مثل هذه الأساطير ، وتتم نسبتها لأشخاص مجهولين ، ويكون ختم الأسطورة بموت البطل في الأسطورة حتى لا يمكن التحقق من صدق الواقعة . ومع هذا كانت تلك الأساطير تحظى بالتصديق ، ويذكرها المؤرخون على أنها أحداث حقيقية .
2 ـ لماذا ؟ كان العصر المملوكى مستعدا للإيمان بأى شيء ، ومجرد أن تشيع اسطورة فيسارع الناس بتداولها وتصديقها . الأساس أن الناس في هذا العصر كانوا يؤمنون بأساطير الكرامات للأولياء الصوفية مهما بلغ حُمقها وتفاهتها ، بل كانوا يؤمنون بكرامات الجمادات والنباتات ، وفصّلنا هذا في الجزء الأول من موسوعة التصوف عن العقائد الدينية في مصر المملوكية .





الفصل الرابع عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 838
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى في التأريخ لسنة 838
سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة
شهر اللّه الحرام ( محرم ) أوله السبت‏:
الصراع البحرى المملوكى الصليبى
( في ثالثه‏:‏ قدمت التجريدة المجهزة في البحر بغير طائل‏. ). خرجت وعادت بلا طائل ، كالمثل المصرى ( سالمة يا سلامة رُحنا وجينا يالسلامة ) .
اضطهاد الحجاج الفرنجة القادمين للكنيسة في القدس : ( القمامة )
( وفي ثامن عشرينه‏:‏ وصل من القدس مائة وعشرة رجال من الفرنج الجرجان وقد قدموا لزيارة قمامة على عادتهم ، فاتهموا أن فيهم عدة من أولاد ملوك الكيتلان الذين كثر عيثهم وفسادهم في البحر، فأحضروا ليكشف عن حالهم ، وهم بأسوأ حال ، فسجنوا مهانين‏. ثم أفرج عنهم بعد أيام وقد مات منهم عدة‏. ) .
تعليق
1 ـ بين السطور نفهم أن الحجاج الفرنجة كانوا تحت مراقبة أمنية ، ونفهم معاناتهم ، فالاتهام ظالم ، فهم ليسوا من أولاد الملوك الكيتلان ، ولا أساس لهذا الاتهام بدليل الافراج عنهم . ولكن قبل الافراج عنهم جىء بهم من القدس ـ تحت الحديد ـ الى القلعة ، وبالتعذيب كانوا بأسوأ حال . وصلت حالتهم الى المقريزى ، فسجّل هذا . وسجنوهم وأهانوهم ، ثم بعد أيام من الاستجواب والتعذيب أفرجوا عمّن ظلّ منهم حيا .
2 ـ على أن هذه المأساة لا تختلف كثيرا عن غارات الأعراب على الحجّاج المحمديين ، ومن أولئك المعتدين على الحُجّاج أحد ( الأشراف ). وربما لولا أن المقريزى كان ضمن القافلة ما عرفنا هويّة هذا ( الشريف / الخسيس ).!
علاقة ودية بين برسباى والعثمانيين ‏
( وفي رابعه‏:‏ قدم قاصد الأمير عثمان قرا يُلك بكتابه وتسعة أكاديش تقدمة للسلطان ، وبعث بدراهم عليها سكة السلطان‏. )
تعليق
كانت العلاقة ودية بين المماليك والدولة العثمانية الناشئة ، يجمعهما الصراع ضد الأوربيين ، وتوطّدت أكثر في عهد السلطان قايتباى . لم يعرف المماليك أن العثمانيين هم الذين فيما بعد سيدمرون الدولة المملوكية ، ويرثون أملاكها .
‏عزل وتولية لأكابر المجرمين
1 ـ ( وفي حادي عشره‏:‏ قبض على الأمير بردبك الإسماعيلي ، أحد أمراء الطبلخاناه وحاجب ثاني ، وأُخرج إلى دمياط‏. وأُنعم بإقطاعه على الأمير تغري بردي البكلمشي المعروف بالمؤذي أحد رءوس النوب‏. واستقر الأمير جانبك الذي عزل من نيابة الإسكندرية حاجبا عوض الإسماعيلي‏. ).
تعليق
هذا معزول ومغضوب عليه ، ولا نعرف السبب . عزله ارتبط بنفيه ومصادرة إقطاعه ، أو الأرض الزراعية التي كانت له . شيء مُضحك ، تلقيب هذا الأمير المملوكى ب ( المؤذى ) . هل إحتكر وحده الإيذاء ؟ ماذا عن الأمير دولات خجا ؟
2 ـ ( وفيه ( 23 محرم ) خلع على الأمير دولات خجا ، وأعيد إلى ولاية القاهرة عوضًا عن التاج الشويكي ، وكان أخوه عمر يتحدث عنه في الولاية ، وقد ترفع عنها بمنادمته السلطان‏. ) . هذا الأمير المجرم أعاده برسباى مديرا لأمن القاهرة . ‏
‏رجوع الحجاج
1 ـ ( وفي خامس عشره‏:‏ قدم الأمير جقمق من الحج بمن معه على الرواحل‏. ). الراحلة هي الجمل ، سفينة الصحراء . جقمق وصل بالركب الأول الممتاز . ( درجة أولى ).!
2 ـ ( ‏وفي ثالث عشرينه‏:‏ قدم الركب الأول من الحاج‏. ). هذا هو الركب الأول غير الممتاز .!
3 ـ ( وفي رابع عشرينه‏:‏ قدم المحمل ببقية الحاج . وقد هلك جماعة من المشاة ، وتلفت جمال كثيرة‏. ) الركب الأخير هم الفرز درجة 3 . ومنهم من كان يسير على قدمية ( مُشاة ) . ولأنهم من المستضعفين فقد مات منهم جماعة ، وهلكت جمالهم .! المستضعفون لا قيمة لهم في بلاد المحمديين ..!
هدم سقف الكعبة لتجديدها
( وفيه شرع سودن المحمدي - المجهز لعمارة الحرمين - في هدم سقف الكعبة‏. ) . وستأتى أخبار لاحقة عن عمارة الكعبة .
‏النيل
( وفي ثاني عشرينه‏:‏ - الموافق لآخر أيام النسئ نودي على النيل بزيادة إصبعين لتتمة تسعة عشر ذراعاً ونصف ذراع‏. ووافق هذا اليوم ( 23 محرم ) نوروز القبط‏. ونودي فيه بزيادة إصبعين لتتمة تسعة عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً‏. وهذه زيادة كبيرة يندر أن يكون يوم النوروز والنيل على ذلك . )
شهر صفر
‏وظائف أكابر المجرمين : تنقلات وهروب ورشاوى وعقوبات
1 ـ ( في سادسه‏:‏ رُسم باستقرار سراج الدين عمر بن موسى بن حسن الحمصي - قاضي طرابلس - في قضاء القضاة الشافعية بدمشق عوضاً عن بهاء الدين محمد بن نجم الدين بن عمر بن حجي‏. وقد وَعد بأربعة آلاف دينار يقوم بها‏. واستقر عوضه في قضاء طرابلس صدر الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن محمد النويري، بمبلغ ألف وثلاثمائة دينار‏.) هنا حركة تنقلات مبعثها الرشوة وشراء المنصب .
2 ـ ( وأُعيد القاضي شمس الدين محمد بن علي بن محمد الصفدي إلى قضاء القضاة الحنفية بدمشق ،على أن يقوم بألفي دينار‏. ) . كان في منصبه ، وعزله السلطان ليولّى غيره بالرشوة ، ثم أعاده السلطان الى نفس منصبه بالرشوة .. ما هذه الروعة ؟!!
3 ـ ( وعزل شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن نجم الدين محمود بن الكشك‏.) . ربما لتكرار نفس القصة السابقة .
4 ـ ( وفي يوم الجمعة - تاسع عشره‏:‏ - عين شمس الدين بن سعد الدين بن قطارة لنظر الدولة، وألزم بتكفية يومه‏. ) ، أي بدون مرتب .
5 ـ في نفس اليوم : ( ورُسم بطلب الأمير أرغون شاه الوزير - كان - من دمشق وهو أستادار بها ليستقر في الوزارة عوضاً عن أمين الدين إبراهيم بن الهيصم بعد ما تنكر السلطان على أستادار كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ من أجل أنه عرض عليه الوزارة فلم يقبلها ، فرسم بعقوبته. وضمنه ناظر الخاص سعد الدين إبراهيم ابن كاتب جكم‏. ).
تعليق :
( الوزير ـ كان ) أي الوزير السابق ( الذى كان ). الاستادار ابن كاتب المناخ رفض منصب الوزير ، فعاقبه برسباى ، أي أمر بضربه وتعذيبه . وضمنه ناظر الخاص ابن كاتب جكم .
‏6 ـ ( وفي يوم السبت عشرينه‏:‏ خلع على أستادار كريم الدين على عادته‏. ) .
تعليق
1 ـ بعد أن ضمنه ناظر الخاص ابن كاتب جكم ، أفرج برسباى عن الاستادار ابن كاتب المناخ ، وأعاده لمنصب الاستادرا مكرما ، وهذا معنى ( خلع على ) . يعنى عزل وضرب ثم تعيين ثم تكريم .!
2 ـ من المعتاد تكريم الموظف الكبير بموكب تشريف ، ثم عزله وتعذيبه وربما تشهيره وتجريسه بموكب تحقير . وأكابر ( الموظفين ) خدم العسكر المملوكى لا يرون في هذا باسا . فقد كانوا عبيدا للمماليك ( الذين كانوا من قبل عبيدا مماليك ).
7 ـ ( وخلع على الوزير أَمين الدين واستقر بعد الوزارة في نظر الدولة كما كان قبل الوزارة‏. وألزم بتكفية الدولة إلى حين قدوم الأمير أرغون شاه ، فاختفى في ليلة الاثنين‏. ). سيادة الوزير الجديد هرب خوفا من تولى منصب نظر الدولة .
8 ـ ( وفي يوم الاثنين ثاني عشرينه‏:‏ قبض على الأمير كريم الدين أستادار وألزم سعد الدين ناظر الخاص بولاية الوزارة ، فلم يوافق على ذلك‏. ) إعادة القبض على الاستادار كريم الدين ابن كاتب المناخ ، وبالتالي إعادة ضربه وتعذيبه . وهذا طبعا بعد الخلع عليه وتكريمه .! وألزم برسباى خادمه ناظر الخاص بتولى الوزارة ، فرفض . فماذا حدث له ؟
9 ـ ( وفي خامس عشرينه‏:‏ تغير السلطان علي سعد الدين ناظر الخاص لامتناعه من ولاية الوزارة وأمر به فضُرب - وقد بطح على الأرض - ضرباً مبرحاً‏. ثم نزل إلى داره‏. ) عاقب برسباى خادمه ناظر الخاص بالضرب المبرح لرفضه منصب الوزارة .
10 ـ ( ‏ وفي يوم الخميس خامس عشرينه‏:‏ ضُرب الوزير الصاحب أستادار كريم الدين ابن كاتب المناخ بالمقارع ــ وقد عُرّي من ثيابه ــ زيادة على مائة شيب‏. ثم ضُرب على أكتافه بالعصي ضرباً مبرحاً وعصرت رجلاه بالمعاصر‏. وكان له - منذ قُبض عليه وهو مسجون ومقيد - عدةُ مرسمون عليه في موضع بالقلعة، ثم أنزل في يوم الجمعة غد من القلعة وأركب بغلاً ، ومضى به إلى الأعوان الموكلون به إلى بيت الأمير التاج وإلى القاهرة، ليورد ما ألزم به . وقد حوسب ، فوقف عليه خمسة وخمسون ألف دينار ذهباً ، صولح عنها بعشرين ألف دينار ، فشرع في بيع موجوده وإيراد المال‏. ).
تعليق
1 ـ هذه حفلة تعذيب للوزير الاستادار إبن كاتب المناخ . وقد عانى فيها من أصناف العذاب المعروفة وقتها . ( ليس منها تكنولوجيا التعذيب الشائعة المعتادة الآن في حكم العسكر المصرى ) . بعد حفلة التعذيب والتكبيل نقلوه الى مقر ( والى القاهرة ) أي مدير الأمن . وتحت التحقيق والمُحاسبة ثبت عليه أنه سرق 55 ألف دينار ذهب ( فقط ) . ففرضوا عليه غرامة 20 ألف دينار ( فقط ) . ولأنه لا يملك ( الكاش ) فقد بدا في بيع ممتلكاته لتسديد الغرامة . السؤال الآن : اين أخفى ما سرقه ( 55 ألف دينار ). ؟ هنا براعة اللصوص . لقد أخفاها ، ليس في بنوك خارجية أو ( ألأوف شورز ). بل في حصن حصين ، بعيد عن عيون السلطان المتفحّصة ، لأنه فيما بعد سيبذل رشوة ويعود الى المنصب .
2 ـ المُعتاد هنا ، أنه تتكرّر دورة ( خلع عليه وولاه منصبا ) وبعدها العزل والمصادرة وربما التعذيب ، وبهذه الدورة تمتلىء خزينة السلطان بالعزل والمصادرة وبإعادة التولية .
3 ـ المُضحك هنا، أن صاحبنا الذى يعانى العزل والتعذيب قد يقوم بتعذيبه رفيق له ، قد يأتى دور هذا الرفيق لتصهره آلة التعذيب أيضا. وقد يكون هذا الرفيق ضمن المهلّلين له في حفل التعيين ( الخلع عليه بالوظيفة ) . أي هي ساقية تدور بهم ، من أعلى الى اسفل ومن أسفل الى أعلى .
4 ـ نعيد التذكير بأنه ربما في توليه المنصب يسير في موكب يشق القاهرة في يوم مشهود ، ثم يليه العزل والتعذيب والمصادرة ، حيث ربما يسير به موكب آخر للتحقير ، يقال عنه ( تجريس وتشهير ). أهل القاهرة يهتفون له في موكب التكريم ويبصقون عليه في موكب التشهير والتجريس . فيلم هندى لا مثيل له .!!
5 ـ هى لُعبة القط والفأر ، بين السلطان أكبر أكابر المجرمين وخدمه من أكابر المجرمين . والضحية هو الشعب المسكين ، الذى يتعرض للسلب والنهب بلا وازع من خُلُق ودين .!
6 ـ المؤسف أنه قد أضحى هذا من المعلوم عندهم بالضرورة في دينهم السُّنّى.
وظائف أكابر المجرمين ‏في جدة ومكة
1 ـ ( وفيه ( 6 صفر ) خلع على نكار الخاصكي واستقر شاد جدة‏. ) الشّاد ( المشدّ ) هو المخصص للعقوبة . ( وخُلع معه على علم الدين عبا الرزاق الملكي واستقر عوضاً عن سعد الدين بن المرة‏. ) ( وساروا بعد أيام إلى مكة - شرفها الله تعالى - في البحر‏.)
2 ـ ( وفي ثالث عشره‏:‏ كتب إلى مكة - شرفها الله تعالى - بأن يتحدث الأمير سودن المحمدي المجرد هناك في نظر الحرم‏. )
‏التشديد في الاحتكار في جدة ، وتدخل أمير مكة معترضا
1 ـ أمر برسباى بتحصيل العُشر فقط من تجار الهند القادمين الى جدة ، بينما يؤخذ ضعف ذلك من التجار المصريين والشوام الذين يشترون البضائع الهندية من اليمن . أما التجار اليمنيون فأمر بمصادرة بضائعهم . يقول المقريزى : ( وكتب أيضاً بألا يؤخذ من التجار الواردين إلى جدة من الهنود سوى العُشر فقط وأن يؤخذ من التجار الشاميين والمصريين إذا وردوا جدة ببضائع اليمن عشران ( أي الخُمس )، وأنَّ من قدم إلى جدة من التجار اليمنيين ببضاعة تؤخذ بضاعته بأًجمعها للسلطان من غير ثمن يدفع له عنها‏. ).
2 ـ المقريزى أوضح السبب ، فقد إزدهرت جدة وأفقرت عدن وسلطانها اليمنى . وتعاظم دخل برسباى من جمارك جدة ، ومنه كان ينفق على موظفيه هناك ، وأكثر من ذلك كان يُصدّر من جدة بضائع مصرية الى الهند ، ويفرض مسبقا ثمنها ، وقام أمراء مماليك بهذا ، أي أصبح ميناء جدة للاستيراد والتصدير ، وموردا ماليا يحتكره برسباى وبعض كبار أُمرائه . هذا الاحتكار ضاق به التجار فذهب بعضهم رأسا الى اليمن ليشتروا منها بضائع اليمن ، ولكن كان عليهم التوقف في جدة ، فعاقبهم برسباى بتضعيف الجمارك عليهم . يقول مؤرخنا : ( وسبب ذلك أن تجار الهند في هذه السنين صاروا عند ما يعيرون من باب المندب يجوزون عن بندر عدن حتى يرسوا بساحل جدة كما تقدم ، فأقفرت عدن من التجار ، واتضع حال مَلِك اليمن لقلة متحصله‏ ، وصارت جدة هي بندر التجار ، ويحصل لسلطان مصر من عشور التجار مال كبير‏ ، وصار نظر جدة وظيفة سلطانية ، فإنه يؤخذ من التجار الواردين من الهند عشور بضائعهم‏ ، ويؤخذ مع العشور رسوم تقررت للناظر والشاد وشهود القبان والصيرفي ونحو ذلك من الأعوان وغيرهم‏. وصار يحمل من قبل سلطان مصر مرجان ونحاس وغير ذلك مما يحمل من الأصناف إلى بلاد الهند فيطرح على التجار‏. وتشبه به في ذلك غير واحد من أهل الدولة‏. فضاق التجار بذلك ذرعاً ، ونزل جماعة منهم في السنة الماضية إلى عدن ، فتنكر السلطان بمصر عليهم ، لما فاته من أخذ عشورهم، وجعل عقوبتهم أن من اشترى بضاعة من عدن وجاء بها إلى جدة إن كان من الشاميين أو المصريين أن يضاعف عليه العشر بعُشرَيْن ، وإن كان من أهل اليمن أن تؤخذ بضاعته بأسرها‏. ).
3 ـ وتشريعا لهذه القرارات أمر برسباى باعلانها في الكعبة عند الحجر الأسود، ولكن اعترض أمير مكة ، وراجع برسباى حتى أبطل هذه الأوامر. واعتبر المقريزى هذا لطفا من الله جل وعلا ، يقول : ( فمن لطف الله تعالى بعباده أنه لم يعمل بشيء من هذا الحادث . لكن قرئت هذه المراسيم تجاه الحجر الأسود ، فراجع الشريف بركات بن عجلان أمير مكة في أمرها للسلطان ، حتى عفا عن التجار وأبطل ما رسم به‏. )
أمير مكة يرفض تعيين تاجر قاضيا
يقول المقريزى : ( وكانت العادة التي أدركناها أن الحرم يلي نظره قاضي مكة الشافعي ، فبذل بعض التجار العجم المجاورين بمكة - وهو داود الكيلاني - مالا للسلطان حتى ولاه نظر الحرم ، وعزل عنه أبا السعادات جلال الدين محمد بن ظهيرة قاضي مكة في السنة الماضية‏. فلما قدم مكة وقُرئ توقيعه تجاه الحجر الأسود على العادة أنكره الشريف بركات وراجع السلطان في كتابه إليه بأن الفقراء وغيرهم من أهل الحرم لم يرضوا بولاية داود ، وأنه منعه من التحدث ، وأقام سودن المحمدي المجهز لعمارة الحرم يتحدث في النظر حتى يرد ما يعتمد عليه. فكتب لسودن المحمدي في التحدث في نظر الحرم فباشر ذلك‏. )
التعليق
كعادته في بيع الوظائف عيّن برسباى تاجرا مقيما في مكة ليقوم ناظرا عليها ، وكانت العادة أن يتولى ذلك القاضي الشافعى هناك ضمن اختصاصات وظيفته . رفض أمير مكة هذا التعيين ومنع الناظر الجديد من ممارسة وظيفته ، وكتب لبرسباى معترضا . وتراجع برسباى .
‏ثورة المماليك الجلبان بسبب تأخر رواتبهم ، وتداعياتها :
1 ـ ( وفي يوم الخميس ثالث عشره‏:‏ ثارت مماليك السلطان سكان الطباق بقلعة الجبل وطلبوا القبض على المباشرين بسبب تأخر جوامكهم في الديوان المفرد ، ففر المباشرون منهم ونزلوا من القلعة إلى بيوتهم بالقاهرة ، فنزل جمع كبير من المماليك إلى القاهرة ، ومضوا إلى بيت القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش وهو يومئذ عظيم الدولة وصاحب حلِّها وعقدها فنهبوا ما قدروا عليه‏ ، وقصدوا بعده بيت الوزير أمين الدين إبراهيم بن الهيصم وبيت الأمير كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ أستادار فنهبوهما‏. ولم يقدروا على أحد من الثلاثة لفرارهم منهم فكان يوماً شنيعاً‏. )
2 ـ ( وفي يوم الثلاثاء غده‏:‏ غُلقت أسواق القاهرة ، وماج الناس في الشوارع والأزقة ، وفرّ الأعيان من دورهم ، لإشاعة كاذبة بأن المماليك قد نزلوا من القلعة للنهب‏. وكان ذلك من أشنع ما جرى. إلا أن الحال سكن بعد ساعة لظهور كذب الإشاعة وأن المماليك لم تتحرك‏. )
3 ـ ( وفي سابع عشره‏:‏ ركب القاضي زين الدين عبد الباسط إلى القلعة بعد ما نزل له الأمراء في أمسه بأن يتوجه إلى الإسكندرية ، فما زال حتى انصلح حاله‏. وركب بقية المباشرين إلى القلعة للخدمة السلطانية على العادة. فتقرر الأمر على أن يقوم عبد الباسط للوزير من ماله بخمسمائة ألف درهم مصرية عنها نحو ألفي دينار أشرفية تقوية له ، وأن السلطان يساعد أستادار بعليق المماليك لشهر . ونزلوا وقد أمنوا واطمأنوا‏. ).
تعليق
1 ـ التقصير في صرف المرتبات ليس من المباشرين ( أي كبار الموظفين ). هو من برسباى الذى كان يتعمد الضغط على كبار المباشرين ( الموظفين ) ليستخلص من أموالهم ما يستطيع . باعتباره أكبر أكابر المجرمين فهو متيقن أن أتباعه يسرقون الناس لحسابه ، ويعطونه جزءا ويحتفظون لأنفسهم بالباقى ، فالمناصب زائلة ، وهم على الحافة ، يمكن للسلطان عزلهم ومصادرتهم ، ولا يستطيعون تولى المنصب إلا برشوة . إبتزّهم السلطان برسباى بتسليط مماليكه الجلبان المتخصّصين في السلب والنهب . تأخرت رواتبهم فجاءهم الضوء الأخضر من السلطان فطلبوا القبض على المباشرين ، وهرب المباشرون من القلعة خوفا منهم ، فنزلوا من القلعة . لم يأبهوا بصغار المباشرين ، وأغاروا على منازل ناظر الجيش القاضي زين الدين عبد الباسط ، والوزير ابن الهيصم ، والاستادار ابن كاتب المناخ ، ونهبوا تلك الدور . وارتعب خوفا سكان القاهرة من تطور النهب ليصل الى بيوتهم فأُغلقت الأسواق وحصل هرج ومرج بسبب الاشاعات ، ثم هدأ الحال بعد أن دفع ناظر الجيش من ماله نصف مليون درهم .
2 ـ نلاحظ أن برسباى يبتز ناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بأن يقوم بزيارته أو يسلّط عليه المماليك الجلبان ، أي يبتزه رغبة ورهبة . كله من أجل معبودهم الأكبر : المال .
‏النيل
1 ـ ( وفى تاسعه - الموافق لسابع عشر توت‏:‏ وهو يوم عيد الصليب عند قبط مصر - نودي بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً وعشر أصابع‏. )
2 ـ ( وفي يوم الأربعاء‏:‏ هذا ( 17 صفر ) نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً وأحد عشر إصبعاً‏. وكان قد نقص بعد عيد الصليب عند ما فتحت جسور عديدة لري النواحي ، فرُدّ النقص في هذه المدة وزاد إصبعاً. وقد طبق الماء جميع أراضي مصر قبليها وبحريها ، وشمل الري حتى الروابي . ولله الحمد‏. ) .
3 ـ ( وفي يوم الخميس - ثامن عشره‏:‏ - نودي بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً ونصف‏. )
4 ـ ( وفيه ( 19 صفر ) بدأ النقص في ماء النيل وهو سابع عشرين توت‏. ) . العادة أن قياس النيل بالتقويم القبطى الفرعونى .
‏‏أسعار : (هذا تقرير عن شهر صفر كله )
1 ـ ( وفي هذا الشهر‏:‏ ارتفع سعر اللحم ، وقلَّ وجوده في الأسواق‏. وارتفع سعر الأجبان ، وعدة أصناف من المأكولات ، مع رخاء سعر الغلال‏.)
2 ـ ( وفيه طرح من شون السلطان عشرة آلاف أردب من الفول على أصحاب البساتين والمعاصر وغيرها من الدواليب ، بسعر مائة وخمسة وسبعين درهماً من الفلوس كل أردب‏. ) . يعنى إلزامهم بالسعر المفروض من قبل السلطان .
3 ـ ( ورسم ألا يحمي أحد ممن له جاه ، فلم يعمل بذلك‏. ونجا من الطرح من له جاه ، وابتلي به من عداهم‏. فنزل بالناس منه خسارات متعددة، لا من زيادة السعر، بل من كثرة الكُلف. ) . منع الأمراء من الاحتكار تم تطبيقه على صغار كبار المجرمين فقط دون الكبار منهم . وتحمّل الظلم المستضعفون في الأرض . طوبى لهم .!!
شهر ربيع الأول أوله الثلاثاء‏:
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( فيه خُلع على سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص جبة‏. واستقر على عادته‏. ) ألبسه السلطة خلعة الوظيفة ، وهى ( جبّة ).
2 ( وخلع على أخيه جمال الدين يوسف واستقر في الوزارة‏. وكانت منذ تغيب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم وسعد الدين ناظر الخاص يباشرها ويسدد أمورها من غير لبس تشريف ، فغرم فيها جملة مال لعجز جهاتها عن مصارفها . ) ( ‏وضبط الوزير أمور الدولة ونفذ أحوالها بقوة‏. وقطع عدة مرتبات من لحم ودراهم‏. ولم يفرج لأحد من أرباب الجهات عن شيء له عليه مقرر ، فهابه الناس ، وطلبت الغلال للبذر فارتفع السعر قليلاً‏. ). لا يجرؤ على قطع مرتبات المماليك الجلبان . يقطع فقط مرتبات الموظفين المدنيين في الوظائف الديوانية والدينية .
3 ـ ( وخلع أيضاً على ابن قطارة واستقر في نظر الدولة‏. ).
4 ـ إفراج من السجن بدفع غرامة مقدمها 20 ألف دينار : ( وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه‏:‏ أفرج عن الصاحب كريم الدين من ترسيم التاج فسار إلى داره بعد ما حمل نحو عشرين ألف دينار ، وضمنه فيما بقي جماعة من الأعيان. )
احتكار‏
( وطرحت من الغلال على الناس ما بلغت جملته بما تقدم ذكره ثمانية عشر ألف أردب فولاً وثمانية آلاف أردب قمحاً فنزل بالناس في هذا الشهر شدائد‏. ) . على الناس أن يشتروا بالسعر الذى يحدده سلفا أكبر أكابر المجرمين . وهو الذى يقيم دعائم الدين السُّنّى ، ومنه المولد النبوى ، وهذا في الخبر التالى :
‏المولد النبوى
( وفي ليلة الجمعة رابعه‏:‏ عمل المولد النبوي بين يدي السلطان بقلعة الجبل على العادة.)
عمارة الكعبة
( وفي هذا الشهر‏:‏ انتهت عمارة سقف الكعبة - شرفها الله تعالى - على يد سودن المحمدي ، وشرع في هدم المنارة التي على باب اليمني من المسجد الحرام ، فهدمت وبنيت بناء عالياً‏. )
تعليق
إسلاميا لا تقديس لبناء الكعبة ، هي أحجار ، ولا تقديس للبشر أو الحجر في الإسلام . وقد سقط بناء الكعبة مرارا وتم بناؤها وتجديدها مرارا . الكعبة بناء يحدد موقعا مُختارا من رب العزة ، وقد بُنى فيه البيت العتيق أول بيت وُضع للناس ، مذ كان هناك ناس . وحدّد رب العزة مانه لابراهيم وأمره برفع دعائمه . في الطواف حول الكعبة يحرم لمسها . هذا في الإسلام ، أما في أديان المحمديين فهم يعبدون ما ينحتون .!

‏شهر ربيع الآخر أوله الخميس‏:‏
إحتكار
( وفيه منع التجار بالإسكندرية من بيع البهار على الفرنج ، فأضرهم ذلك‏.) . السلطان هو البائع الوحيد ، وبلا واسطة .
وظائف أكابر المجرمين
( وفي رابعه‏:‏ قدم الأمير أرغون شاه المطلوب للوزارة من دمشق فأخذت تقدمته. ) أي قدّم هديته للسلطان فأخذها . تخيّل لو جاء بيد فارغة .! يا للهول .!!
أنواع من النكبات ، والسلطان يتنزّه
زلزال بالقاهرة
( في ثالثه - قبيل الظهر بقليل -‏:‏ حدثت زلزلة بالقاهرة اهتزت لها الدور هزة فلو قد طالت قليلاً لأخربت ما زلزلت‏. )
أمطار في الشام
( وفي هذا الشهر‏:‏ كثرت الأمطار ببلاد غزة وعامة بلاد الشام فانتفعوا بها‏. )
إرتفاع أسعار‏
( وفيه ارتفع بالقاهرة سعر اللحم والخبز والجبن واللبن والعسل وعدة من الأقوات ، حتى بلغ بعضها مثلي ثمنه ( أي ضعفى الثمن ) مع رخاء سعر القمح والشجر وغلاء الأرز أيضاً‏.)
إحتراق مركب
( وفيه احترقت مركب بساحل الطور تلف فيها بضائع كثيرة‏. )
‏نزهة السلطان
( وفي خامسه‏:‏ ركب السلطان من قلعة الجبل باكراً وشق القاهرة فمضى للصيد ورجع من آخر نهار يوم الأربعاء . وتكرر ركوبه لذلك مرتين أُخريين ، يبيت في كل مرة ثم يعود . ). برغم كل هذه الكوارث فالسلطان يتنزّه ، والمستضعفون يتألمون .
شهر جمادى الأولى أوله الجمعة‏:‏
نزهة السلطان
( في ثانيه‏:‏ ركب السلطان إلى الصيد وشق القاهرة وعاد آخر يوم الثلاثاء خامسه وهذه رابع ركبة له للصيد‏. ).
1 ـ ( وفي سابعه‏:‏ سافر الأمير غرس الدين خليل بن شاهين نائب الإسكندرية وناظرها بعد ما حمل خمسة آلاف دينار ذهباً سوى قماش وغيره بألف دينار‏. وكان قد قدم من الثغر في الشهر الماضي. )
2 ـ ( وفي خامس عشره‏:‏ خلع على دولات خجا والي القاهرة واستقر في ولاية منفلوط وكاشف القبض‏. ). دولات خجا المشهور بظلمه يُعاد تعيينه، بالرشوة طبعا ، ولا عبرة بصرخات الضحايا من المستضعفين ، إذ لا تأبه بهم الشريعة السنية لأكابر المجرمين .!!
3 ـ ( وشغرت ولاية القاهرة إلى يوم الأحد سابع عشره فخلع على علاء الدين علي بن ناصر الدين محمد بن الطبلاوي ، وأعيد إلى ولاية القاهرة على أن يحمل ألفاً ومائتي دينار . وكان له منذ عزل من الولاية بضع عشرة سنة يتشحّط في أذيال الخمول‏. )
تعليق :
نعطى تقريرا تاريخيا عن أسرة الطبلاوى ( أحمد) ثم أخوه ( على الطبلاوى ) عسى أن يكون عبرة للصوص عصرنا البائس :
قبل عصر برسباى :
1 ـ في 21 رجب 810هـ أمر السلطان فرج بن برقوق باعتقال والي القاهرة حسام الدين وصادر أمواله وعين مكانه أحمد بن الطبلاوي ( السلوك جزء 4 قسم 1 ص 62 )
2 ـ في 15 ذي القعدة 811 هـ .. كان أحد الظلمة السابقين يعيش أيامه الأخيرة يقاسي الذل في محنته ويقوم بإذلاله ظالم جديد هو جمال الدين الاستادار . وذلك الظالم السابق هو ابن غراب ، الذي كانت له صولة في أيامه حين كان وزيراً يتحكم في السلاطين, وبعد أن غربت شمس نفوذه أمر السلطان بأن يتسلمه صاحبنا أحمد ابن الطبلاوي والي القاهرة ليقوم بتعذيبه , وقام ابن الطبلاوي بالمهمة خير قيام إلى أن لفظ الوزير السابق ابن غراب أنفاسه تحت التعذيب, وأخرجوه ميتاً من دار ابن الطبلاوي يوم الأربعاء أول ذي الحجة 811هـ .( السلوك 4 / 1 / 85 ، 87 )
وبعد أن أدى ابن الطبلاوي المهمة المطلوبة منه عزله السلطان في 10 ذي القعدة 812 هـ وولى مكانه أحد الأمراء المماليك, ولكن استطاع ابن الطبلاوي أن يقنع السلطان بأنه لا تزال لديه المقدرة على الظلم فأعاده السلطان واليا للقاهرة. ( السلوك 4/ 1 / 124 )
3 ـ واجتهد أحمد بن الطبلاوي في إرضاء السلطان، وانهمك في مصادرة أموال الناس فعينه السلطان كاشفاً، أي حاكماً ـ على الشرقية ، ولكن بعد أن استفاد منه السلطان بما يكفى أمر باعتقاله وعزله وسلمه للوزير ابن البشيري ليتولى تعذيبه وعقابه ، ليستخلص منه ما سرق من فلاحى الشرقية ( أجدادى )!.
4 ـ وفي ليلة الخميس 27 ذي القعدة 814 هـ ضرب السلطان فرج بن برقوق بنفسه عنق ابن الطبلاوي , بل قتل السلطان امرأة ابن الطبلاوي لأنها كانت تأتي إليه في السجن , وأمر السلطان أن يوضعا في لحاف واحد وأن يدفنا معاً في قبر واحد !! ويعلق المقريزي على مقتل ابن الطبلاوي – وكان يعيش في عصره – فيقول إن الناس استراحت من ظلمه وفسقه وعتوه .. !! ( السلوك 4 / 1 / 196 ).
5 ـ انتهى أحمد بن الطبلاوى ، ولكن لم يعتبر بنهايته أقرب الناس إليه ؛وهو أخوه علاء الدين (علي بن الطبلاوي) .. فقد سعى لأن يكون والياً على القاهرة هو الآخر، فتولاها في 2 ربيع الآخر 821 هـ فى سلطنة المؤيد شيخ. ( السلوك 4 / 1 / 441 ).
6 ـ وأدمن علاء الدين على بن الطبلاوى الظلم وتطرف فيه ، حتى منع الناس من دفن موتاهم إلا بإذنه. وازداد ظلمه حتى ضربه السلطان المؤيد شيخ بالمقارع ، ثم عزله وضربه في 11 جمادى الآخرة 823 هـ وأشهره في القاهرة عاري البدن على حمار ، إلى أن تسلمه زبانية السلطان ليعذبوه ويستخلصوا منه أمواله .( السلوك /4 / 1 / 530 )
في عصر برسباى
1 ـ وعاش على بن الطبلاوى حوالى خمسة عشر عاما خاملا يقتات على بعض ما تبقى لديه من أموال نهبها بظلمه وتعذيبه للناس حين كان فى السلطة .
2 ـ علم السلطان الأشرف برسباى أنه لا تزال أموال لدى على بن الطبلاوي ، وأنه لن ياخذها منه إلا بالحيلة ، فأوعز إليه أن يتولى ولاية القاهرة في نظير رشوة. ودفع ابن الطبلاوي رشوة قدرها 1200 دينار للسلطان ، فأعاده واليا للقاهرة فى 15 جمادى الأولى عام 838، يقول عنه المقريزى الخبر السابق : ( وكان له منذ عزل من الولاية بضع عشرة سنة يتشحط فى أذيال الخمول ) ( السلوك 4/2/ 936 ).
3 ـ جاء على بن الطبلاوى واليا للمرة الثانية للقاهرة، وهو يُمنّي النفس بأن يسترد ما دفعه من رشوة باغتصاب أموال الناس كالعادة ، ولكن سرعان ما عزله السلطان برسباى بعد عدة شهور، أى فى 15 شوال 838 . فعاش فقيرا مقهورا ملعونا، بينما نعم بالسلطة وولاية القاهرة ظالم آخر هو تاج الدين الشوبكى.
بعد موت الأشرف برسباى
1 ـ تولى السلطنة ابنه يوسف وكان فتى ضعيفا ، وكان تعيين أبناء السلاطين المماليك ــ فى أغلبه ــ يعتبر فترة انتقالية حتى يظهر أقوى قائد مملوكى ليعزل ابن السلطان ويتولى السلطنة مكانه. وفى هذه الفترة عاش على بن الطبلاوى أحلك أيامه فى الفقر و الضّعة ، إلى أن ولاه السلطان الضعيف يوسف بن برسباى ولاية القاهرة في يوم الخميس الخامس من ربيع الآخر عام 842 . وكان ابن الطبلاوى ـ على حد قول المقريزى : ( قد بلف الغاية من الفقر والفاقة و الضعة )( السلوك 4/3/1094 )
2 ـ ولم يلبث أن إستطاع القائد المملوكى جقمق انتزاع السلطنة من يوسف بن برسباى ، وتولاها مكانه ، وكان هذا من سوء حظ على بن الطبلاوى الذى عزله السلطان الجديد جقمق ضمن حركة تغيير وتعديل فى الوظائف الكبرى ، أى لم يتمتع ابن الطبلاوى بالسلطة سوى عدة أشهر، فعزل فى يوم الخميس الثالث من شوال عام 842. ويبدو ان شهر شوال هو شهر النحس لهذا الظالم المنحوس.
3 ـ وأفلح ابن الطبلاى فى سرقة ما يكفى خلال هذه الأشهر القليلة ، لذلك استطاع بعد أقل من عام أن يصل بالرشوة الى تولى منصب جديد هو كاتب الجيش ـ إذ ولاه السلطان جقمق هذا المنصب فى 28 رمضان عام 843 . ( السلوك 4/3/ 1183 ).
4 ـ وفى عام 844 أنهى المؤرخ العظيم تقى الدين أحمد بن على المقريزى كتابه ( السلوك ) وهو أعظم موسوعة تاريخية لمصر و الشام والحجاز خلال العصر المملوكى ، حيث كان المقريزى يسجل أحداث عصره باليوم و الشهر، ينقل نبض الشارع شاهدا على ما يحدث ، وما لبث المقريزى أن مات فى العام التالى 845 ( الموافق 1442.).
5 ـ وعاش على بن الطبلاوى ( علاء الدين ) بعد موت المقريزى، حيث ظل ابن حجر العسقلانى المشهور بلقب ( أمير المؤمنين فى الحديث ) ، يؤرخ للعصر على طريقة المقريزى ، وذلك فى تاريخه ( إنباء الغمر بأبناء العمر ) ولكن ابن حجر لم يذكر شيئا عما حدث لابن الطبلاوى بعد عام 843.
أى إختفى ابن الطبلاوى من سطور التاريخ ، وعاد للخمول و الفقر تلاحقه لعنات المظلومين الى أن مات مجهولا . وما أغنى عنه ماله وما كسب .!!
6 ـ هل يعتبر بذلك اللصوص الذين يحكمون مصر الآن ؟ لهذا نُنقّب في سطور التاريخ ـ ليس للتسلية ـ ولكن أملا في الإصلاح ، لعلّ وعسى .
عمارة الحرم ‏
( وفي هذه الأيام‏:‏ حمل إلى مكة - شرفها الله تعالى - من الرخام ما ذرعه ستون ذراعاً لحرمة الحجر وشاذروان البيت‏. وحمل من الجبس خمسون حملا لبياض أروقة المسجد الحرام ، ومن الحديد عشرة قناطير لعمل مسامير ، وأربعون قطعة خشب لشد أروقة المسجد الحرام‏. )
تعليق
1 ـ جهد مشكور هنا للمماليك في رعاية البيت الحرام . وهذا مع ملاحظة أن المماليك كانوا يبعثون بصدقات لسكان مكة والمدينة ( الحرمين ) ، وكثيرون كانوا يوقفون أوقافا خيرية وأهلية في هذا الشأن .
2 ـ تغير هذا مع سيطرة الأسرة السعودية على البيت الحرام ، فمنعت المحمل المصرى ، واستغلت فريضة الحج وسيطرتها على البيت الحرام في فرض أموال على راغبى الحج . ومع ثراء المملكة الآن وتكديسها مئات البلايين من الدولارات في الداخل والخارج ، ومع الاسراف في نفقات الملك وأسرته إلا إنهم لا يزالون يبتزون الحُجّاج ، ويفرضون عليهم رسوما باهظة .
3 ـ هذا يذكرنا بما كان يقوم به الأعراب من الهجوم على قوافل الحج ، وسلب الحُجّاج وقتلهم ، مما استدعى حصر الحج في وقت محدد بعد أن كان خلال الأربعة أشهر كما جاء في القرآن الكريم ، وبما استدعى تسيير حملة عسكرية لحماية حُجّاج البيت الحرام .
4 ـ من المضحك المؤسف أن يطلق الملك السعودى على نفسه ( خادم الحرمين ) ويجعله لقبا دينيا ضمن مبتدعات دينه السنى ، وليس خادما ل ( الحرمين ) بل هو يسلب القادمين لهما ، ويتخذ من سيطرته عليهما مكانة في كوكب المحمديين .
‏حملة مملوكية على أعراب الصعيد
( وفي سلخه‏:‏ برز الأمير تمراز رأس نوبة النوب وصحبته عدة مائتي مملوك وخجا سودن رأس نوبة من أمراء الطبلخاناه وأمير أخر من أمراء العشرات ، ليتوجهوا إلى الوجه القبلي . وذلك أن الأمير تغري برمش - أمير أخور - خرج إلى سرحة الوجه القبلي لأخذ تقادم العربان وغيرهم ، فلقيه علي بن غريب على ناحية دهروط ، وهو يومئذ يلي أمر هوارة البحرية ليحضر تقدمته على العادة‏. وحضر ملك الأمراء بالوجه القبلي - وهو محمد الصغير - وجاءت طائفة من محارب وطائفة من فزارة ليقدموا تقادمهم ، فاقتضى الحال إرسال ملك الأمراء وعلي ابن غريب معهم لأخذ التقادم منهم ، فغدروا بهم ، وثاروا عليهم ، فقاتلهم ملك الأمراء وعاد مهزوماً ، وقد جرح ، وقتل عدة من جماعته‏. ثم إن السلطان عين لكشف الوجه القبلي الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ . )
تعليق
الأعراب هم القوة المسلحة الوحيدة التي كانت تنافس الحكم العسكرى المملوكى. هم بقايا القبائل العربية في مصر ، ومنهم من أتى من غرب مصر . وقد استوطنوا أطراف وادى النيل ، وقاموا بتخريبه . تراوحت علاقاتهم قبائلهم بالمماليك بين الحرب وبين المهادنة . ودفع الثمن الفلاح المصرى ، كان ضحية الفريقين معا .
2 ـ هنا حملة مملوكية حربية ضد أعراب الصعيد ، حيث برز عرب هوّارة ومعهم قبائل فزارة ومحارب ، وكانوا وقتها خاضعين للمماليك يقدمون لهم ( التقدمة ). جاء الأمير المملوكى ( ملك الأمراء بالوجه القبلى ) ليتسلم منهم ( التقدمة ) فغدروا به ، وقاتلوه وهزموه . فأرسل اليهم برسباى حملة لتأديبهم .
3 ـ عسكر مصر الخائب الخائن يستعرض قوته على أعراب سيناء المسالمين ، يقوم بإجلائهم قسريا لصالح إسرائيل ، ويقتل أبناءهم تحت شعار محاربة داعش ، وهو المستفيد الأكبر من وجود داعش ، وهو الذى خلقها في سيناء . ‏
حملة مملوكية على أعراب الوجه البحرى
( وفي يوم الأحد ثالث عشرينه‏:‏ توجه الأمير الكبير أينال الجكمي والأمير جقمق أمير سلاح والأمير يشبك حاجب الحجاب والأمير قانباي الحمزاوب في عدة من الأمراء إلى العرب بالوجه البحري. وذلك أن لبيد عرب برقة قدم منهم طائفة بهدية ، وسألوا أن ينزلوا البحيرة ، فلم يُجابوا إلى ذلك ، وخلع عليهم، فعارضهم أهل البحيرة في طريقهم ، وأخذوا منهم خلعهم‏. وكان السلطان يلهج كثيراً بإخراج تجريدة إلى البحيرة فبلغهم ذلك فأخذوا حذرهم‏. واتفق مع ذلك أن شتاء هذه السنة لم يقع فيه مطر ألبته لا بأرض مصر ولا بأرض الشام فدفة دافة ( أي أتت طائفة ) من لبيد إلى البحيرة لمحل بلادهم ، وصالحوا أهل البحيرة ، وساروا إلى محارب وغيرها من العرب بالوجه القبلي لرعي الكتيح ( أي الأرض التي سفا عليها التراب ) من الأراضي البور‏. وكان قد كتب إلى الكاشف بألا يمكنهم من المراعي حتى يأخذ منهم مالاً ، فأنفوا من ذلك ، لأنه حادث لم يعهد قبل ذلك . وأظهروا الخلاف فخرجت إليهم هذه التجريدة‏. ).
تعليق
أعراب لبيد جاءوا من برقة غربا ليستوطنوا البحيرة بسبب قلة المطر لديهم ، رفض المماليك ذلك فيكفيهم متاعب الأعراب ( المصريين )، ولكن أعطوهم هدية . غضب أعراب البحيرة وهم مناوئون للمماليك ، فهاجموا وفد قبيلة لبيد وسلبوهم ما أعطاه لهم المماليك . ثم تصالح أعراب لبيد وأعراب البحيرة وأعراب محارب في الصعيد ، أغضبهم جميعا أن برسباى فرض عليهم مالا مقابل الرعى . وقد عرفوا من جواسيسهم عزم برسباى على ارسال حملة اليهم . ستأتى تفاصيل لاحقا في أخبار شهر رجب.

شهر جمادى الآخرة أوله السبت‏:
وظائف أكابر المجرمين وعقوباتهم
1 ـ ( فيه خلع على الأمير الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ واستقر كاشف الوجه القبلي‏. )
2 ـ ( ورسم أن يستقر محمد الصغير المعزول عن الكشف دواداره وأمير على الذي كان كاشفاً بالوجه القبلي والوجه البحري رأس نوبته‏. ونزل من القلعة إلى داره في موكب جليل‏. ). مرة في ( موكب جليل ) ، وأخرى في تشهير وتحقير .
3 ـ ( وفي سادسه‏:‏ خلع على الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم ، واستقر شريكاً لعبد العظيم بن صدقة في نظر الديوان المفرد‏. )
4 ـ ( ‏وفي يوم الأحد سادس عشره‏:‏ قبض السلطان على سعد الدين ناظر الخاص وأخيه الوزير جمال الدين يوسف ، وأوقع الحوطة على دارهما ، ثم أفرج عنهما من الغد‏. ).
تعليق
الحوطة على الدار يعنى تفتيشه للعثور على المال المسروق المخبّأ فيه .
الخبر التالى فيه تفصيلات :
5 ـ ( وخلع على ناظر الخاص باستمراره على عادته‏. وعزل أخوه عن الوزارة وألزما بحمل ثلاثين ألف دينار فنزلا وشرعا في بيع موجودهما وإيراد المال المذكور. ) .
تعليق
شيء معتاد ، عزل ومصادرة ، ثم عودته الى عمله مقابل دفع غرامة . ذلك أن ( الحوطة ) على الدار لم تسفر عن العثور على المخبّأ من المال ، لذا أعيد سعد الدين ناظر الخاص مقابل 30 ألف دينار . وحتى لا يدفعها ( كاش ) باع ممتلكاته ليؤكد للسلطان فقره . هي لعبة القط والفأر المعتادة .
6 ـ ( وفيه ألزم تاج الدين عبد الوهاب بن الشمس نصر الله الخطير بن الوجيه توما ناظر الاصطبل بولاية الوزارة ، وخلع عليه من الغد يوم الثلاثاء ثامن عشره‏.). هنا إلزام بالتعيين .
7 ـ ( وفيه خلع على الأمير التاج الشويكي واستقر مهمنداراً عوضاً عن الأمير أقطوة ، المتوجه رسولاً إلى شاه رخ‏. )
8 ـ ( وفي يوم الأربعاء تاسع عشره‏:‏ رسم بإقطاع أركماس الجلباني التِمْراز المؤيدي‏. ) ( وأنعم بطبلخاناه تمراز على الأمير سنقر العزي نائب حمص ، واستقر عوضه طغرق أحد أمراء دمشق‏. )
9 ـ ( وفي العشرين منه‏:‏ خلع على شمس الدين أبي الحسن ابن الوزير تاج الدين الخطير ، واستقر في نظر الاصطبل عوضاً عن أبيه‏. ). تولية الابن منصب أبيه ، في مقابل مال . فأكبر أكابر المجرمين لا يعطى منصب الأب مجانا للابن .
تسليم سيف الأمير بعد وفاته
( وفيه قدم سيف الأمير أركماس الجلباني أحد مقدمي الألوف بدمشق ، وقد مات‏. ).
تعليق
1 ـ المحارب المملوكى إذا مات كان يتم تسليم سيفه الى السلطان . هذا تقليد عسكرى في دولة عسكرية تحترف الحرب وتنتصر فيها في الأغلب .
2 ـ عسكر مصر اليوم يشترون سلاحا ــ بالبلايين ــ لا يعرفون استعماله ، ويدفعون البلايين من قروض يعجزون عن سداد فوائدها ، وستسددها الأجيال المصرية القادمة سيئة الحظ . يشترون هذا السلاح وهم لا يحاربون سوى الشعب المصرى ، ولا ينتصرون إلا عليه . يشترون السلاح ليحصلوا على العمولات . بالتالى فإن ورثة الجنرال منهم عند موته لا يتسلمون ( السيف ) كما كانت ثقافة الحربية للمماليك . يتسلم الورثة بديلا عن السيف بعض البلايين فقط .!
‏محاولة فاشلة لاصلاح الأوقاف
( وفي هذا الشهر‏:‏ رسم أن يكشف عن شروط واقفي المدارس والخوانك ويعمل بها‏. وندب لذلك قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر الشافعي . فبدأ أولا بمدرسة الأمير صرغتمش بخط الصليبة وقرأ كتاب وقفها‏. وقد حضر معه رفقاؤه الثلاث قضاة القضاة ، فأجل في الأمر ، فلم يعجب السلطان ذلك ، وأراد عزل جماعة من أرباب وظائفها ، فروجع في ذلك حتى أقرهم على ما هم عليه‏. وأبطل الكشف عما رسم به . فسر الناس بهذا ، لأنهم كانوا يتوقعون تغييرات كثيرة‏. ).
تعليق
1 ـ المثل المصرى يقول ( أعطوا القط مفتاح الكرار ) بمعنى أن يقوم السارق بالتحقيق في سرقة هو نفسه الجانى فيها .
2 ـ ابن حجر قاضى القضاة الشافعى كان المُقدّم على بقية القضاة بحكم كونه شافعيا أولا ، ثم لكونه أكثرهم شهرة وفسادا . وقد عهد اليه برسباى بإصلاح أوقاف المدارس والخوانق وغيرها ، حيث كان الوقف الأهلى يستوجب تعيين مدرسين مختلفى التخصصات في الفقه والعلوم الشرعية في دينهم السُّنّى ، مع وظائف أخرى مساعدة ، ويتم تسجيل قواعد تعيينهم وصرف مرتباتهم ، من خلال مبلغ الوقف المخصص لذلك . ووثائق الوقف ـ وقد سبق لنا فحصها ودراستها ولا تزال محفوظة في دار الوثائق ـ كانت تفصّل هذا. ولكن التطبيق كان فسادا ، وشاعت أخباره ، فأراد أكبر أكابر المجرمين إصلاح الأمر ، وعهد لأكبر فاسد من الفقهاء بالمراجعة ، وهو (إبن حجر العسقلانى ) ومعه زملاؤه قُضاة القضاة الثلاثة . وطبيعى أن ينتهى الأمر الى لا شيء . وفرح ( الناس ) بهذا على حدّ قول المقريزى ، والمقصود بالناس هنا هم المستفيدون من هذا الفساد .
3 ـ ضابط المخابرات ــ الذى يترأس دولة العسكر في مصر الآن ــ لا يشبع من السرقة ، وقد وضع الأوقاف المصرية تحت يده لأول مرة في تاريخ الأوقاف المصرية ، وهو تاريخ مستمر قبل وبعد العصر المملوكى . إذا كان برسباى أكبر أكابر المجرمين يقلق على الأوقاف في عهده ، فماذا عمّا حدث للأوقاف المصرية ( الخيرية والأهلية ) الآن ؟ تعجز الكلمات عن التعليق .! نكتفى بقول الله جل وعلا : ( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) ق )
مناخ ‏
( وفيه اشتد قلق الناس لقلة البرد في فصل الشتاء وعدم المطر وهبوب رياح حارة في أوقات عديدة ، خوفا على الزرع ، ولله الأمر. ).
تعليق
يظهر في تعبير المقريزى القلق الذى كان يشعر به المصريون ، حيث كان أي تغيير في المناخ يجعلهم يتوهمون من تأثيره على النيل . هذا النيل هو الذى فرّط فيه عسكر مصر الخائن الخائب ..
شهر رجب أوله الاثنين‏:
محمل الحاج‏
( في ثامنه‏:‏ أدير محمل الحاج بمصر والقاهرة . وكانت العادة ألا يدار إلا بعد النصف من رجب ، فأدير في هذه الدولة قبله غير مرة‏.)
تعليق
هذا تشريع سُنّى تحكمه العادة ، وما وجدوا عليه آباءهم . وقد جرى خرق العادة حسب تعليق المقريزى . أيها المقريزى : إنه دين أرضى شيطانى يملكه أصحابه ، ويغيرون فيه ما يشاءون .
وظائف أكابر المجرمين
( وفي ثامن عشره‏:‏ خلع على الأمير تمرباي الدوادار الثاني ، واستقر أمَير الحاج )
( وخلع على الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله محتسب القاهرة ، ليكون أمير الركب الأول‏.)
صراع المماليك وأعراب الوجه البحرى
( وفي حادي عشرينه‏:‏ ورد الخبر بأن العرب - من محارب - لما علموا نزول الأمير أينال الجكمي على الفيوم ساروا إلى جهة الواحات‏. ثم بدا لهم فنزلوا بالأشمونين ، فركب الأمير كريم الدين الكاشف والأمير تغري برمش أمير أخور والأمير تمراز رأس نوبة النوب ، وقاتلوهم وهزموهم ، وظفروا منهم بستمائة جمل ، غير ما نهب لهم، وإن ذلك كان في يوم الثلاثاء سادس عشره . ).
إنتصر المماليك ـ كالعادة ـ على الأعراب . فالمماليك هم الأقوى . كل استطاعة الاعراب هو إقتناص نصر سريع ، ثم يعقبه حملة تأديب مملوكية .
صراع في الحبشة بين المحمديين والمسيحيين لم يوقفه انتشار الوباء
‏( وفي هذا الشهر‏:‏ بعث الملك شهاب الدين أحمد بدلاي بن سعد الدين سلطان المسلمين بالحبشة أَخاه خير الدين لقتال أمحرة الكفرة ، ففتح عدة بلاد من بلاد الحطي ملك الحبشة ، وقتل أميرين من أمرائه ، وحرّق البلاد ، وغنم مالاً عظيماً وأكثر من القتل في أمحرة النصارى ، وخرب لهم ست كنائس‏.).
تعليق
هنا صراع بين أكابر المجرمين في الحبشة ( محمديين ومسيحيين ) . وانتصر من أسماه المقريزى ( سلطان المسلمين ) ، وجعل مسيحيي الحبشة كفرة . طبقا لما قاله المقريزى فان المعتدى هو ( سلطان المسلمين ) ، والمعتدى عليهم هم ( الكفرة ). وقد بالغ المعتدى في القتل والنهب والتحريق والتخريب حتى للكنائس . والمقريزى المتعصب دينيا ضد النصارى يحكى ذلك مفتخرا، فماذا لو حدث العكس ؟ هو الكيل بمكيالين ، والذى لا يزال شريعة في أديان المحمديين ، يبررون جرائمهم حتى فيما بينهم ، ويتصارخون إذا فعل غيرهم بهم بعض هذه الجرائم .
2 ـ ( ‏هذا وقد شنع بعامة بلاد الحبشة الوباء العظيم فمات فيه من المسلمين ومن النصارى عالم لا يحصى ، حتى لقد بالغ القائل بأنه لم يبق ببلاد الحبشة أحد‏. وهلك في هذا الوباء الحطي ملك الحبشة الكافر وأقيم بدله صبي صغير‏. ).
تعليق
لم يتعظ ولم يرتدع ( ملك المسلمين ) هناك من هذا الوباء الذى أهلك كثيرين من الفريقين .

شهر شعبان أوله الأربعاء‏:‏
عودة الحملة المملوكية من الصعيد
( وفي سادسه‏:‏ قدم بقية المماليك والأمراء المجردين إلى العرب بالوجه القبلي‏.)
تنقلات في وظائف أكابر المجرمين
( وفى سادس عشره‏:‏ خلع على الأمير قانباي الحمزاوي أحد الأمراء الألوف‏. واستقر في نيابة حماه عوضاً عن الأمير جلبان‏. ونقل جلبان إلى نيابة طرابلس عوضاً عن الأمير طراباي بعد موته‏. وأنعم بإقطاع قانباي وإمرته على الأمير خجا سودن أحد أمراء الطبلخاناه‏. ووفرت إمرة خجا سودن وأُضيف إقطاعه إلى الدولة للوزير تقوية للوزير تاج الدين‏. )
تقرير تاريخى للمقريزى عن سكّ النقود والتعامل بها
قدّم المقريزى هذا التقرير ، وهو موجز من كتابه الصغير الرائع : ( شذرات العقود في ذكر النقود ) . وكان جزءا من كتابه ( إغاثة الأمة بكشف الغُمّة ) عن المجاعات في مصر .
يقول :
1 ـ في البداية : ( وفي يوم الجمعة سابع عشره‏:‏ نودي بمنع الناس من المعاملة بالفلوس وألا يتعامل الناس إلا بالفلوس التي ضربها السلطان‏.). أمر بالتعامل بالفلوس التي ضربها برسباى ونهى عن التعامل بغيرها .
2 ـ ثم يذكر أصل الحكاية التاريخى من عام 759 : ( وكان من خبر ذلك أن الفلوس الجدد لما ضُربْ في سنة تسع وخمسين وسبعمائة ،عُمل زنة كل فلس منها مثقال على أن الدرهم الفضة المعاملة يعد فيه منها أربعة وعشرون فلساً ، فكانت زنة القفة الفلوس مائة وثمانية عشر رطلاً عنها خمسمائة درهم من الفضة الظاهرية معاملة مصر والشام‏. والمثقال الذهب الهرجة المضروب بسكة الإسلام يصرف بعشرين درهماً من هذه الدراهم ويزيد تارة ثمن درهم على العشرين درهماً وتارة ربع درهم عليها‏. ثم تزايد صرف الدينار في آخر الأيام الظاهرية برقوق حتى بلغ نحو خمسة وعشرين درهماً‏. ) . أي وقتها كانت الفلوس ( العملة النحاسية ) بالوزن ، و ( قفة الفلوس ) وزنها 118 رطلا تساوى 500 درهم من الدراهم الفضية الظاهرية ، وكان الدينار الذهبى المملوكى يساوى حوالى 20 درهما ، ثم زاد سعره في عصر الظاهر برقوق الى حوالى 25 درهما مقابل الدينار.
3 ـ ويذكر المقريزى أهم أنواع النقد الرائجة وهو الدرهم الذى أصدره الظاهر برقوق ، ولم يكن فضّة خالصة بل ثلثه من النحاس ، ثم يليه الدينار الذهبى : ( وكان النقد الرائج بديار مصر وأرض الشام الفضة المذكورة ، ويعمل ثلثها نحاس وثلثاها فضة‏. ثم يلي الفضة المذكورة في المعاملة الذهب المختوم الإسلامي ولا يعرف دينار غيره‏. )
4 ـ وعن الفلوس النحاسة اقل النقود قيمة قال : ( وكانت الفلوس أولاً إنما هي برسم شراء المحقرات التي لا تبلغ قيمتها درهم‏. )
5 ـ وراجت الفلوس في عصر برقوق حتى طغت على الدراهم الفضية بسبب الاستادار جمال الدين أبن اصفر عينه : ( فلما كانت الأيام الظاهرية برقوق وقام بتدبير الأموال الأمير جمال الدين محمود بن علي بن أصفر عينه أستادار، أكثر من ضرب الفلوس الجدد المذكورة حتى صارت هي النقد الرائج بديار مصر، وقلت الدراهم‏. )
6 ـ وفى عهد الناصر فرج بن برقوق زاد طغيان الفلوس النحاسية حتى كادت أن تقضى على الدراهم الفضية والدنانير المملوكية ، مما جعل الدينار الافرنجى يروج على حساب الدينار المملوكى . يقول المقريزى : ( فلما كانت الأيام الناصرية فرج بن برقوق تفاحش في دولته أمر نقود مصر وكادت الدراهم الفضة المعاملة التي تقدم ذكرها أن تعدم ، وصارت تباع كما تباع البضائع ، فبلغت كل مائة درهم منها إلى ثلاثمائة وستين درهماً من الفلوس ، التي يعد عن كل درهم منها أربعة وعشرون فلساً‏. وزاد سعر الذهب وراج منه الدينار الأفرنتي وهو ضرب الفرنج حتى عدمت الدنانير الذهب الهرجه المختومة بسكة الإسلام وبلغ الدينار الأفرنتي المذكور مائتين وستين درهماً من الفلوس المذكورة. )
7 ـ أدى هذا الانتشار للفلوس النحاسية أن ساد التعامل بها بين الناس في شتى معاملاتهم ، وحتى في تعامل السلطان مع الناس ، يعطيهم فلوسا لا دراهم ولا دنانير . وصارت الفلوس تُباع القنطار ( 100 رطل ) ب 600 درهم ، وبالوزن وليس بالعدّ ، وصار الدينار والدرهم يتم تقييمهما بالفلوس ، هذا مع تعدد الدينار المملوكى ووجود الدينار الافرنجى ، يقول المقريزى : ( وفسدت مع ذلك هذه الفلوس فعملت كل قنطار مصري - وهو مائة رطل مصرية - بستمائة درهم وصارت معاملة الناس بها في ديار مصر كلها بالوزن لا بالعدد فيحسب في كل رطل منها ستة دراهم وصارت قيم الأعمال وثمن المبيعات كلها - جليلها وحقيرها - وأجرة البيوت والبساتين وسجلات الأراضي كلها ومهور النساء وسائر إنعامات السلطان إنما هي بالفلوس وصار النقدان - اللذان هما الذهب والفضة - ينسبان إلى هذه الفلوس فيقال كل دينار بكذا أو كذا من الفلوس وكل درهم من الفضة إن وجد - ولا يكاد يوجد - بكذا من الفلوس فلم يبق للناس بديار مصر نقد سوى الفلوس‏. ثم بعد الفلوس الذهب الأفرنتي أو الذهب السالمي أو الذهب الناصري وهو بأنواعه إنما ينسب إلى الفلوس‏. وصار الذهب مع ذلك أصنافاً الهرجة وهو قليل جداً والأفرنتي وهو من الذهب النقد الرائج ، والسالمي وهي دنانير ضربها الأمير يلبغا السالمي أستادار زنتها مثقال كل دينار، والناصري وهي دنانير ضربها الملك الناصر فرج بن برقوق‏. )
8 ـ إرتفع شأن الدرهم حين ضرب المؤيد شيخ الدرهم الفضى ( المؤيدى ) واستحسنه الناس ، ومع ذلك ظلت الفلوس هي الرائجة : ( فلما كانت الأيام المؤيدية شيخ ضرب دراهم عرفت بالمؤيدية تعامل الناس بها عدداً مدة أيامه ، وحسُن موقعها من الناس ، فصارت النقود بمصر الفلوس والذهب بأنواعه والفضة المؤيدية‏. والنقد الرائج منها إنما هو الفلوس وإليها تنسب قيم الأعمال وثمن المبيعات كما تقدم‏.)
9 ـ ثم جاء عصر برسباى المشهور بالاحتكار والفساد والتدخل في أسعار العُملات بأوامر متناقضة وبفرض الرسوم ، وسبق التعرض لهذا من قبل . ويوجزه المقريزى في قوله : ( فلما كانت الأيام الأشرفية برسباي رد الدراهم إلى الوزن وأبطل المعاملة بها بالعدد فإنه كثر قص المفسدين منها فتعنت الناس في أخذها‏. واستمرت المعاملة بالدراهم وزْناً‏. وضرب أَيضاً دراهم أشرفية يصرف كل درهم وزناً بعشرين درهماً من الفلوس‏. ثم تزايد سعر الفلوس حتى بلغ كل قنطار منها ألفاً وثمانمائة فتعامل الناس بها من حساب كل رطل بثمانية عشر درهمًا فلوسا‏. وما زالت تقل لكثرة ما يحمل التجار منها إلى بلاد الهند وغيرها وما يضرب منها بالقاهرة أواني كالقدور التي يطبخ فيها ونحوها من آلات النحاس‏. وصار على من يتولى ضرب الفلوس أواني ضْماناً مقرراً لديوان الخاص في كل شهر خمسة عشر ألف درهم‏. ثم زاد مبلغ الضمان عن ذلك ، فاقتضى رأي السلطان بعد اختلاف واضطراب كثير في مدة أيام أن يضرب فلوساً ، يعد في كل درهم من دراهم الدينار ثمانية فلوس ،على أن الدينار الأشرفي بمائتين وخمسة وثمانين درهماً والدينار الأفرنتي بمائتين وثمانين‏، فتكون هذه الفلوس الأشرفية كل رطل منها بسبعة وعشرين درهماً‏ ، ويؤخذ في كل دينار أشرفي ألفان ومائتا فلس وثمانون فلساً‏. فلما ضربت الفلوس على هذا الحكم نودي أن يتعامل الناس بها وألا يتعاملوا‏ بما في أيديهم من الفلوس القديمة بل يحملوها إلى دار الضرب على حساب كل رطل بثمانية عشر‏. وما أحسن هذا لو استَمر‏. ).
تعليق
1 ـ كان برسباى يغشُّ العُملة ، ويستخدم سلطته في فرض عُملته المغشوشة وتحريم غيرها من العُملات الأجنبية. ومع هذا كان السوق يغلبه . لم تكن هناك عُملة ورقية ، ولم تكن هناك بنوك خارجية يُخفى فيها أكابر المجرمين أموالهم السُّحت .
2 ـ في كوكب المحمديين أبواب واسعة لتهريب الأموال وغسيل الأموال ، والتلاعب بسعر العُملة المحلية بالتعويم وغيره ، والذى يُسفر في النهاية عن التضخُّم وارتفاع الأسعار ، وتدنّى قيمة العُملة المحلية مقارنة بالعملات الأجنبية .
3 ـ انظر الى سعر الجنيه المصرى مقابل الدولار والاسترلينى قبل عام 1952 ، وسعره الآن .! قارن بين سعر الجنية المصرى الورقى وسعر الجنيه المصرى الذهبى وقتها ، حين كان الجنيه المصرى الورقى أغلى من الجنيه المصرى الذهبى ، وحين كان للجنيه المصرى غطاء ذهبى . أضاع كل هذا عسكر النحس من عام 1952 ، وافقروا المصريين بينما تضاعف بلايين أكابر المجرمين في الخارج . . . ثم يموتون وسيموتون ويتركون ما جمعوه من مال سُحت ، وسيأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم على ظهورهم ، ألا ساء ما يزرون .!

شهر رمضان ، أوله الخميس .
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( في خامسه‏:‏ خلع على محمد الصغير وأعيد إلى كشف الوجه القبلي عوضاً عن الصاحب كريم الدين‏. ) ( وفي خامس عشره‏:‏ قدم الصاحب كريم الدين من الوجه القبلي فنزل داره‏. )
2 ـ ( وفيه توجه الأمير قانباي إلى محل كفالته من نيابة حماة ، بعد ما اقترض نحو خمسة آلاف دينار بفوائد حتى تجهز بها لقلة ذات يده‏. وهذا من نوادر ما يحكى عن أمراء مصر‏. ) .
تعليق
دفع ما يملك في شراء هذا المنصب ، واحتاج الى الاقتراض بربا ، وسيكون السداد على حساب المستضعفين من أهل حماة .!
3ـ ( في رابع عشره‏:‏ خلع على علاء الدين علي بن التلواني أحد أجناد الحلقة ، واستقر في نيابة دمياط عوضاً عن سودن المغربي أحد المماليك الظاهرية برقوق‏. ).
4 ـ ( وفي خامس عشره‏:‏ خلع على الأمير تاج الدين الشويكي أحد ندماء السلطان وجلسائه وأعيد إلى ولاية القاهرة عوضاً عن ابن الطبلاوي بحكم عزله‏. فأقام أخاه الأمير عمر يتحدث في الولاية عنه‏. ) .
تعليق
سبق تقديم تقرير تاريخى عن إبنى الطبلاوى . هنا عزل ابن الطبلاوى بعد أن إستنفد برسباى أغراضه منه ، وعاد الشوبكى واليا للقاهرة ، واستناب أخاه عمر المجرم العتيد مكانه ، كما كان الأمر سابقا . أي كان تعيين ابن الطبلاوى جملة إعتراضية مفيدة للسلطان . ‏
أمطار غزيرة ونادرة بالقاهرة ‏
( وفي هذه الأيام - وموافقتها من شهور القبط برمودة‏:‏ - وقع بالقاهرة ومصر مطر كثير غزير دلفت منه سقوف البيوت وسال جبل المقطم سيلاً عظيما أقام منه الماء بالصحراء عدة أيام‏. وهذا أيضاً في هذا الوقت مما يندر وقوعه بأرض مصر‏. )
‏خروج المحمل
1 ـ ( وفي ثامن عشره‏:‏ خرج محمل الحاج صحبة الأمير تمرباي الدوادار فنزل بركه الحاج‏. )
2 ـ ( ورحل في ثاني عشرينه الركب الأول صحبة الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ، وفيهم خوند فاطمة بنت الملك الظاهر ططر زوجة السلطان‏. وقد أذن لوالده الصاحب بدر الدين أن يتحدث في الحسبة حتى يقدم من الحج ‏. ورحل الأمير تمرباي بالمحمل وبقية الحاج في يوم الأحد ثالث عشرينه. )
تعليق
لم يلبث برسباى أن طلّق ( الحاجّة ) خوند فاطمة بنت السلطان الظاهر ، وانتقلت الى القاهرة تعيش حياة منطلقة في مجتمع القاهرة المملوكية المُتخم بالانحلال الخلقى تحت النقاب والتدين السطحى المظهرى . وقد تعرضنا لقصتها في بحث تاريخى منشور هنا بعنوان :( بنت السلطان التي أحبت فضيلة الشيخ ) .
أخبار النيل ‏
1 ـ ( وفي هذا الشهر‏:‏ زاد ماء النيل نحو أربعة أذرع قبيل أوان الزيادة فأغرق كثيرًا من مقاتي البطيخ‏. واستمرت الزيادة إلى ثالث بؤونة، وهذا مما يستغرب وقوعه فتلف للناس مال عظيم . ).
2 ـ ( وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرينه - وهو سابع عشرين بؤونة‏:‏ - ابتدأ بالنداء على النيل فزاد إصبعين وجاءت القاعدة أحد عشر ذراعاً وعشر أصابع وهذا مما يندر وقوعه ولم ندرك مثله‏. )
3 ـ ( وفي سادس عشرينه‏:‏ لم يناد على النيل إلى سلخه ونقص ستة عشر إصبعا‏. )
تعليق
معاناة من زيادة الفيضان ومن شُحّ الفيضان، ولكن كان النيل وقتها موجودا .. وجوده الآن أصبح مثار شكّ عظيم .!! . كانت مصر (هبة النيل ) . اثيوبيا ستأخذ ( النيل ) وسيبقى للمصرين السيدة ( هبة ).!
ملاحظة
أخبار شهرى شوال وذى القعدة تدخل في صراعات برسباى وشاه رُخ ، والامارات التركمانية . ولها كتاب خاص قادم .
‏شهر ذي الحجة أوله الأربعاء
صراعات أكابر المجرمين المسيحيين في أسبانيا في هذا العام ، وأكابر المجرمين من المحمديين ينغمسون في هذا الصراع
يقول المقريزى :
1 ـ ( وفيها كانت بينِ إفرنج حروب ، سببها أن ألفنش ( ألفونسو ) الذي يقال له ألفنت صاحب مملكة أرغون ، وهو الذي غزا مدينة أغرناطة من الأندلس وأخذ من المسلمين النقيرة وغيرها ، وكان وصياً على ولد أخيه بقشتالة ، فلما هلك قام من بعده ابنه بترو بن ألفنت صاحب برشلونة وبلنسية وغير ذلك من مملكة أرغون، حتى هلكت ملكة نابل ( نابلى ) فاستضاف الجنويون مملكة نابل إلى مملكتهم ، فشق ذلك على بترو بن ألفنت ، وسار إليهم في أربعين قطعة في البحر ، ونزل على قلعة كايات وحصرها ، إلى أن أخذها عنوة ، وخرّبها بعد أن صلب ثلاثة من رؤسائها على السور وأسر جميع من فيها . وتوجه إلى جزيرة غيطلة وهي من أجل مملكة نابل ، وأقام عليها مدة . )
2 ـ ( فبعث الجنويون إلى المنتصر أبي عبد اللهّ محمد صاحب تونس ومملكة إفريقية رجلاً من أخواله، فإن أمه جنوية ، يستنجدونه على بترو، فأمدهم بمال ، وجهز لهم اثني عشر مركبة حربية‏. فلما قدمت عليهم مع رسولهم نجدة صاحب تونس ساروا في خمسة وأربعين مركبا - منها ثمانية عشر كباراً وخمسة عشر غرابا - وقد اشتد الأمر على أهل غيطلة وكثرت محاربتهم لبترو ، فلقوه وحاربوه، فانتخب ألفاً من عسكره ، ونزل في مركب عظيم ليخالفهم إلى بلادهم‏. ففطنوا به فأدركوه وحاربوه حتى غلبوه، وأسروه وأخويه ومن معه في آخر يوم من ذي الحجةَ‏. وعادوا بهم إلى بلادهم وسجنوه وأخويه . وردوا إلى المنتّصر مراكبه الخمسة عشر‏.)
صراعات أكابر المجرمين المحمديين في شمال أفريقيا في هذا العام
( وفيها قوي عرب إفريقية وحصروا مدينة تونس‏. وذلك أن المنتصر أبا عبد الله محمد ابن الأمير أبي عبد الله محمد ابن السلطان أبي فارس عبد العزبز لما قام في سلطنة أفريقية بعد موت جده عبد العزيز بن أبي العباس أحمد في سفره بنواحي تلمسان قدم إلى مدينة تونس دار ملكه في يوم عاشوراء، وأقام بها أياماً ثم خرج إلى عمرة ونزل بالدار التي بناها جده أبو فارس ، وضيّق على العرب ومنعهم من الدخول إلى بلاد إفريقية‏. وكان مريضاً فاشتد به المرض . وفر من عنده الأمير زكريا ابن محمد ابن السلطان أبي العباس وأمه ابنة السلطان أبي فارس عبد العزيز بن أَبي العباس ، ونزل عند العرب المخالفين على المنتصر‏. فسار عند ذلك المنتصر من عمرة عائدا إلى تونس ، وقد تزايد مرضه فتبعه زكريا ومعه العرب حتى نزلوا على مدينة تونس ، وحصروها عدة أيام ،فخرج عثمان أخو المنتصر من قسنطينة وقدم تونس فسر به المنتصر هذا . والفقيه أبو القاسم البرزلي مفتي البلد وخطيبها يجول في الناس بالمدينة ويحرضهم على قتال العرب ويخرجهم فيقاتلون العرب ويرجعون مدة أيام ، إلى أن حمل العرب عليهم حملة منكرة ، هزموهم ، وقتَل من الفريقين عدد كبير‏. كل ذلك والمنتصر ملقى على فراشه لا يقدر أن ينهض للحرب من شدة المرض. )
أخبار النيل
( في سادسه‏:‏ نودي بزيادة إصبع من النقص واستمرت الزيادة في كل يوم‏.)
وظائف أكابر المجرمين
( وفي تاسعه‏:‏ أضيف إلى زين الدين عمر بن شهاب الدين أحمد بن صلاح الدين محمد بن السفاح كاتب السر بحلب نظر الجيش بها عوضاً عن جمال الدين يوسف بن أبي أصيبعة بمال وعد به . )
أخبار الحج
أعراب عنزة يهاجمون مبشرى الحجاج
يقول المقريزى : ( وفي سابع عشره‏:‏ خرج على مبشري الحاج طائفة من عنزة فأخذت جميع ما معهم وقتلوا منهم مملوكاً وتركوهم حفاة عراة بادية عوراتهم ، فمشوا إلى أن لقوا أرباب الأدراك من جهينة بأرض السماوة ، فآووهم وذبحوا لهم الأغنام وأضافوهم وكسوهم من ملابسهم ، وحملوهم إلى القاهرة . وقد قلق الناس بهذا لتأخرهم عن عادة قدومهم عدة أيام‏. )
تعليق
1 ـ قبيلة عنزة كانت تنتشر بين نجد والحجاز . واليهم تنتمى الأسرة السعودية . طبعا لا تزر وازرة وزر أخرى ، غير أن الوهابية التي إعتنقها آل سعود وأقاموا بها دولتهم الأولى والثانية والحالية ــ تجعل القتال الإعرابى دينا وجهادا ، وبه توسعت أملاك الأسرة السعودية ، ولا يزال دينها الوهابى يُشوّه الإسلام ويقتل الناس . كان أسلافهم الأعراب الذين يقطعون الطريق أقل جُرما . كانت غارات ( علمانية ) ، هم أول من يعرف أنها مخالفة للإسلام . الوهابية توسعت في القتل ليصل ضحاياها الى ملايين ، والأفظع أنها جعلته دينا ، بحيث يقتل أحدهم نفسه ليقتل الأبرياء عشوائيا معتقدا أنه بهذا سيدخل الجنة . أعراب عنزة كانوا يقطعون الطريق على الحُجّاج ، أحفادهم من آل سعود المسيطرين على البيت الحرام يقطعون الطريق على الحُجّاج بطريقة مبتكرة ، هي فرض رسوم عليهم ، أي يسلبون أموالهم من البداية ، يصدّون الناس عن المسجد الحرام الذى جعله رب العزة للبشر جميعا سواء ، لا فارق بين المقيم في مكة والذى يأتي اليها من كل فجّ عميق . قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج ) . لاحظ التعبير بالمضارع في قوله جل وعلا ( ويصُدُّون ) ، وهو ينطبق الآن على المملكة السعودية فهى تصُدُّ عن سبيل الله وكتابة تمسكا بدينها الأرضى وتصدُّ أيضا عن بيت الله الحرام بالتحكم فيه وفيمن يريد الحج اليه .
‏ملك جزيرة جنوب الهند يؤدى الحج
( وحج في هذه السنة الملك الناصر حسن بن أبي بكر بن حسن بن بدر الدين ، متملك ديوة - التي تسميها العامة دينة وهي جزائر في البحر تجاور سيلان‏. )
بسيطرتها على الحجاز والبيت الحرام والمدينة تزعمت الدولة المملوكية كوكب المحمديين وقتها ، ولكن كانت تقوم بواجبها في رعاية البيت وحماية الحُجّاج دون أجر. هذا خلافا للأعراب السعوديين من عنزة الذين يصدون عن سبيل الله جل وعلا والمسجد الحرام ، والذين إغتصبوا الأوقاف المصرية وغير المصرية من أراض تحيط بالبيت الحرام وأقاموا عليها فنادق فاخرة ضخمة ، أصبحت بها الكعبة غير مرئية تقريبا .
وباء في المشرق :
( وفيها وقع وباء عظيم ببلاد كرمان‏.( وسط ايران ). وأبتدأَ في مدينة هراة من بلاد خراسان في شهر ربيع الأول وشنع فمات فيه عالم عظيم ، يقول المكثر ثمانمائة ألف . )



الفصل الخامس عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 839
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى في التأريخ لسنة 839
( سنة تسع وثلاثين وثمانمائة )
شهر اللّه المحرم أوله يوم الخميس‏:‏
النيل
( في خْامسه - الموافق ثامن مسرة‏:‏ - كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً وأربعة أصابع ، فركب المقام الجمالي يوسف ابن السلطان حتى خلق المقياس ، وفتح الخليج على العادة‏. )
تعليق
كان تخليق المقياس للنيل بفتح الخليج مناسبة لابن السلطان ليكتسب شعبية .
ملاحظة
بقية أخبار شهر محرم وصفر تأتى في صراعات الشرق في الكتاب القادم .
شهر ربيع الأول ، أوله يوم الأحد‏:
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( ‏وفي يوم الاثنين ثانيه‏:‏ خلع على شرف الدين أبي بكر الأشقر نائب كاتب السر واستقر كاتب السر بحلب ، عوضاً عن عمر بن أحمد بن السفاح ، بعد ما امتنع من ذلك أشد الامتناع ، وهُدّد بالقتل‏. وسبب ذلك أن ابن السفاح كتب مراراً بالحطّ على الأمير قرقماس نائب حلب ، وأنه يريد الخروج عن الطاعة، ويخامر على ( يتآمر أو يخون ) السلطان ، وآخر ما ورد كتابه في ذلك في نصف صفر . فطُلب الأمير قرقماس ليحضر ، وتوجه النجاب بذلك ، وقد حصل القلق خوفاً من عدم حضوره لامتناعه ، فلم يكن بأسرع من مجيء نجاب نائب حلب في خامس عشرينه ، يستأذن في القدوم ، وقد بلغه شيء مما رمى به من المُخامرة‏. فغضب السلطان على ابن السفاح ، ورسم بعزله ، واستقرار شرف الدين المذكور عوضه . لأنه علم أنه لو كان قرقماس مخامراً لما استأذن في الحضور ، وسُرّ بذلك ، وكتب بحضوره‏. وكان هو عندما ورد عليه المثال الأول خرج على الفور من حلب ، فقدم خارج القاهرة في سادس ربيع الأول هذا‏. ).
تعليق :
ابن السفاح كاتب السّر للأمير قرقماس نائب حلب يتآمر عليه ، يتهمه بخيانة برسباى ، وعزله برسباى عندما تأكد من إخلاص قرقماس .
2 ـ ( وفي ثامنه‏:‏ خلع على الأمير جقمق أمير سلاح واستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر‏ ، عوضاً عن الأمير أينال الجكمي‏. واستقر الأمير أينال المذكور في نيابة حلب عوضاً عن الأمير قرقماس‏. واستقر قرقماس أمير سلاح عوضاً عن جقمق هذا‏. ).
تعليق
حتى يهدأ برسباى بالا أجرى حركة تنقلات ؛ اصبح قرقماس أمير سلاح ، نقله برسباى من حلب وجعله قريبا منه في القلعة ، بينما اصبح جقمق الأمير الكبير أتابك العسكر ( قائدا للعسكر المملوكى )، وبهذا أصبح الطريق ممهدا لجقمق لكى يستولى على الحكم فيما بعدُ . هذا ، وقد تعيّن إينال الجكمى نائبا لحلب مكان قرقماس .
3 ـ ( وفيه قدم الأمير طوغان حاجب غزة ، وقد عين أن يستقر في نظر القدس والخليل ، فقام الأمير تغري برمش أمير أخور في الاعتناء بمتوليها ، فأعيد طوغان إلى غزة على حجوبيته‏. )
4 ـ ( وفي عاشره‏:‏ خُلع على معين الدين عبد اللطف ابن القاضي شرف الدين أبي بكر ابن العجمي المعروف بالأشقر كاتب السر بحلب ، واستقر في وظائف أبيه‏.) وراثة الوظائف لأكابر المجرمين ضمن المعروف من الدين السُنّى بالضرورة ، وكانت هذه الوراثة للمنصب تتم بدفع الرشوة ، كالمعتاد .
5 ـ ( ‏وفيه ( 13 ربيع الأول ) برز الأمير أينال الجمكي نائب حلب ليتوجه إلى محل كفالته ، وصحبته القاضي شرف الدين كاتب السر بحلب . ) . سفر نائب حلب الجديد ومعه كاتب السّر الخاص به ، بعد عزل ابن السفاح .
6 ـ ( وفي سابع عشره‏:‏ خلع على الأمير الكبير جقمق بنظر المارستان المنصوري ،على العادة في ذلك‏. ).
7 ـ ( وفي رابع عشرينه‏:‏ خلع على الأمير عمر ، واستقر في ولاية القاهرة ، بعد موت أخيه التاج‏. ) . كان الفاسد عمر يقوم بولاية القاهرة ( مدير الأمن ) نيابة عن أخيه ، فلما مات أخوه أصبح هو الوالى رسميا .
النيل
( أوله يوم الأحد‏: الموافق لسابع عشر توت: إبتدأ نقص ماء النيل ، وذلك قبل انقضاء أيام الزيادة ، ثم رد في ثالثه . واستمرت الزيادة إلى يوم الخميس خامسه ، وهو أول بابه. وقد بلغت الزيادة إلى عشرين ذراعاً وعشرين إصبعاً ، فثبت أياماً ثم انحط بخير‏. ولله الحمد‏. )
( ‏وفي ثالث عشره - الموافق لثامن بابة‏:‏ - ابتدأ نقص ماء النيل ، وقد انتهت زيادته كما تقدم إلى عشرين ذراعاً وعشرين إصبعاً‏. وقد بلغ الله به المنافع على عوائد لطفه بخلقه. )
وباء في الدولة العثمانية
(وفي هذا الشهر‏ ربيع الأول:‏ كثر الوباء بمدينة بروسا - التي يقال لها برصا - من مملكة الروم ( العثمانيين )، واستمر بها وبأعمالها نحو أربعة أشهر‏. )
شهر ربيع الآخر
أخبار أكابر المجرمين
1 ـ ( ‏وفي يوم السبت سادسه‏:‏ خلع على ولي الدين أبي اليمن محمد بن تقي الدين قاسم ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد القادر الشيشيني ثم المحلي ، مضحك السلطان ونديمه وجليسه ، واستقر في نظر الحرم الشريف بمكة عوضاً عن سودن المحمدي وفي مشيخة الخدام الطواشية بالمسجد النبوي عوضاً عن الطواشي بشير التنمي‏. ولم نعهد مشيخة المسجد النبوي يليها دائماً - منذ عهد السلطان صلاح الدين في يوسف بن أيوب - إلا الخدام الطواشية‏. فكانت ولاية ابن قاسم هذا حدثاً من الأحداث ، وبليّة تساق إلى أهل الحرمين‏. ).
تعليق
1 ـ برسباى يُعيّن المُضحك الخاص به ناظرا للحرم في مكة عوضا عن الأمير المملوكى سودون المحمدى . ولعل برسباى قد ضجر من هذا المُضحك وأراد أن يستريح منه فأرسله ناظرا على مكة والحرم . بل وجعله شيخ الخدم الطواشية في مسجد المدينة ، وهذا المسجد له قداسة في الدين السُنّى ـ ولا تزال .
2 ـ المقريزى يعبّر عن ضيقه فيقول : ( ولم نعهد مشيخة المسجد النبوي يليها دائماً - منذ عهد السلطان صلاح الدين في يوسف بن أيوب - إلا الخدام الطواشية‏. فكانت ولاية ابن قاسم هذا حدثاً من الأحداث ، وبلية تساق إلى أهل الحرمين‏. ). ينسى المقريزى أن السلطان هو مالك التشريع السُنّى ، وقضاة الشريعة السنية وفقهاؤها خدم له .
2 ـ ( وفي حادى عشره‏:‏ قدم سيف الأمير قصروه نائب الشام بعد موته ، على يد أمير علي بن أينال باي ، أحد الحجاب بدمشق‏. ). برسباى يتسلم سيف نائب الشام بعد موته . التقليد المعروف للعسكر المملوكى المُحترف للحرب .
3 ـ ( وفي ثاني عشره‏:‏ قدم الأمير ناصر الدين محمد بن قَصْروه ، وقَراجا دواداره . فقُرّر عليهما مالا يحملاه من تركة قَصْروه . وهو من النقد مائة ألف دينار وغلال وبضائع وخيل، وغير ذلك ، ما قيمته نحو مائة ألف دينار ، وعاد إلى دمشق‏. )
تعليق
يتسلم السلطان جزءا من تركة قصروه نائب الشام . هو مبلغ هزيل ، حوالى 200 ألف دينار من عرق المستضعفين في الأرض . في الشريعة السُّنّية ليس هذا حراما وليس من المال السُّحت ، بل هو من المعلوم عندهم من دينهم بالضرورة . ومن يعترض فليشرب من البحر الأبيض والبحر الأحمر ، والبحر الأسود أيضا .
4 ـ ( فيه قدم جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي ، ناظر الجيش بدمشق مطلوباً ، وهو مريض بضربان المفاصل ، ومعه تقدمة جليلة . فقُبلت تقدمته ، وأُمر بالإقامة في منزله حتى يبرأ‏. ) .
تعليق
جىء بأحد أكابر المجرمين مطلوبا للتحقيق أو العقاب ، فكان مريضا ، ومع هذا فقد اصطحب معه ( تقدمة ) أي هدايا للسلطان ، فقبلها السلطان . وأمر بإقامته في بيته بالقاهرة الى أن يبرأ .
أخبار أكابر المجرمين
حادث أليم لناظر الجيش عبد الباسط :
1 : ( وفي سادس عشره‏:‏ أصيب القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش بضربة فرس على ركبته اليمنى ، وهو سائر مع السلطان إلى الرماية ، عند جامع المارديني خارج باب زويلة ، فتجلّد ، حتى وصل ناحية كوم أشفين من البلاد القليوبية‏ ، ثم عجز فألقى نفسه عن الفرس ، فأُركب في محفّة إلى داره . ولزم الفراش ثلاثة عشر يوماً‏. ) .
2 : ( وفى ثامن عشرينه ركب القاضي زين الدين عبد الباسط الى القلعة ، وقد عوفى مما كان به . ) .
تعليق
يتتبع المؤرخ أخبار أكابر المجرمين في نزهاتهم ، وحتى لو تعرّض أحدهم لحادث عارض . أما المستضعفون في الأرض فلا إهتمام بهم إلا عند الكوارث من أوبئة ومجاعات ومذابح وسلب ونهب . ويذكر المؤرخ أعدادهم بعشرات ومئات الألوف . وفى هذا الكفاية ، لا يستحقون أكثر من هذا ، فهم ( ملح الأرض ) الذى يدوسه أكابر المجرمين بنعالهم .
حركة تنقلات بسبب ما يحدث شرق الدولة المملوكية
1 : ( وفي يوم السبت عشرينه‏:‏ خلع على الأمير تغري برمش أمير أخور ، واستقر في نيابة حلب ، عوضاً عن الأمير أينال الجكمي‏. وكتب بانتقال الجكمي إلى نيابة الشام عوضاً عن قصروه بحكم وفاته ، وجهز له التشريف والتقليد‏. ).
2 : ( وفي حادي عشرينه‏:‏ سار الأمير تغري برمش إلى محل كفالته بحلب‏. ).
ارتفاع الأسعار ، والجوعى يتظاهرون بسبب الغلاء ، وبرسباى لا يهتم بهم ، مع وجود الغلال في مخازنه
قال المقريزى
1 ـ ( هذا ، وقد ارتفعت الأسعار بالقاهرة، فبلغ الأردب القمح ثلاثمائة وستين ، والبطة الدقيق مائة وعشرة ، والخبز نصف رطل بدرهم ، والأردب من الشعير أو الفول مائتي درهم وعشرة دراهم ، ولحم الضأن ثمانية دراهم ، ولحم البقر خمسة دراهم ونصف. وكل ذلك من الفلوس . وبلغ الزيت الطيب - وهو زيت الزيتون - أربعة عشر درهماً الرطل‏. وبلغ الشيرج اثني عشر درهماً الرطل‏.)
2 ـ ( وفي رابع عشرينه‏:‏ ركب السلطان للرماية ، فضجّ العامة ، واستغاثوا من قلة وجود الخبز في الأسواق، مع كثرة وجود القمح بالشون . فلم يلتفت إليهم‏. ).
تعليق
1 ـ لا يجب أن نغضب كثيرا ــ جدا ـ من برسباى لعدم اهتمامه بمظاهرة العوام الجوعى ، يكفى أن تركهم يتظاهرون . ضابط المخابرات الذى يحكم مصر الآن لا يسمح للمصريين بالتظاهر بسبب الجوع أو القهر أو الاخلاء القسرى من البيوت أو الإخفاء القسرى للأبرياء في السجون ، أو حتى بيع الجزيرتين المصريتين ، أو بيع النيل .
2 ـ مصر تتقدم بكل ثبات الى الخلف .. الى العصر الحجرى .
الاحتكار : يقول المقريزى
1 ـ ( وقد حُكّر الفلفل ، فلا يباع إلا للسلطان فقط ، ولا يشترى إلا منه خاصة‏. )
2 ـ ( وفي هذا الشهر‏:‏ قدمت طائفة من أعيان التجار بدمشق إلى القاهرة وقد طُلبوا ، فإنه بلغ السلطان أنهم حملوا مما اشتروه من جدة من البهار عدة أجمال إلى دمشق‏. وقد تقدم مرسوم السلطان من سنين بأن من اشترى بهاراً من جدة لا بد أن يحمله إلى القاهرة سواء كان المشتري شاميُاً أو عراقياً أو عجمياً أو رومياً‏. وأنكر على المذكورين حملهم بضائعهم من الحجاز إلى دمشق ‏. وختم على حواصلهم بالقاهرة وغيرها‏. ثم أفرج لهم عنها بعد ما صالحوا ناظر الخاص بمال قاموا به‏. ).
تعليق
جىء بهم معتقلين ، من دمشق الى القاهرة ، ووضعت مخازنهم تحت الحراسة ، وتعرضوا للتأنيب ، وأنقذهم من السجن أن دفعوا الأموال لناظر الخاص المشرف على ثروة السلطان .
شهر جمادى الأولى أوله يوم الثلاثاء
وظائف أكابر المجرمين
في جدة :
1 ـ (وفي ثالثه‏:‏ خلع على الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ ، واستقر في نظر جدة‏. )
2 ـ ( وخلع على الأمير يَلْخُجا أحد رءوس النوب من أمراء الطبلخاناه ، واستقر شاد جَدّة‏. )
تنقلات في دمشق
1 ـ ( وفي خامسه‏:‏ خلع على الجمال يوسف بن الصفي واستقر في كتابة السر بدمشق عوضاً عن يحيى بن المدني . ورسم لقاضي القضاة بهاء الدين محمد بن حجي بنظر الجيش بدمشق عوضاً عن الجمال المذكور، وجهز له التشريف والتوقيع في يوم الإثنين سابعه‏. )
2 ـ ( وفيه رسم باستقرار السيد الشريف بدر الدين محمد بن علي بن أحمد الجعفري في قضاء القضاة الحنفية بدمشق ، عوضاً عن الشريف ركن الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد المعروف بالدخان. وكان قد شغر قضاء الحنفية بدمشق من حين توفي الدخان في سابع عشر المحرم، مدة ثلاثة أشهر وخمسة وعشرين يوماً . وكانت ولايته بغير مال‏. ). لأنه من النادر تعيين أحدهم بلا مال ، فقد ذكر المقريزى ، ونسى أن يكتب علامة التعجب . نكتبها نحن .!!
( وفي خامس عشره‏:‏ خلع على الطواشي جوهر اللالا واستقر زمام الدار ، عوضاً عن الأمير زين الدين خُشْقَدم بعد موته. وكانت شاغرة منذ مات‏. )
( وفي تاسع عشرينه‏:‏ استعفى الوزير الصاحب تاج الدين الخطير على عادته، وقُوّي بمال ، إعانة له‏. ). أي دفع مالا ليقبل السلطان استقالته .
الحج
( في 3 جمادى الأولى ) (ونودي بسفر الناس إلى مكة صحبتهما ، فسُرُّوا بذلك ، وتأهبوا له‏. ). أي السفر صحبة شاد جدة .
طرد الفرنج
( وفي هذه الأيام‏:‏ رسم بإخراج الفرنج المقيمين بالإسكندرية ودمياط وسواحل الشام ، فأخرجوا بأجمعهم‏. ). هؤلاء تُجّار مسالمون ، طردهم برسباى ، ربما لأنهم يكسرون إحتكاره للتوابل الهندية .
شهر جمادى الآخرة . أوله يوم الأربعاء
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( ‏وفي حادي عشره‏:‏ قدم الأمير غرس الدين خليل بن شاهين نائب الإسكندرية بهدية ، فخُلع عليه من الغد يوم الإثنينْ ثاني عشره‏ ، ونزل من القلعة ، فأدركه من خلع عنه الخلعة وأعادها إلى ناظر الخاص . وذلك أنه بلغ السلطان عنه أنه أفرج للتجار عدة أحمال فلفل حتى باعوها للفرنج بمال أخذه منهم، وكان قد تقدم مرسوم السلطان بمنع التجار من بيع الفلفل ، وأن الفرنج لا تشتريه إلا من الديوان السلطاني‏. ).
تعليق
إبن شاهين نائب السلطان في الإسكندرية كرّمه برسباى بالخُلعة ، ثم علم السلطان إنه خانه في موضوع الاحتكار فسلب منه الخُلعة . برسباى يسامح الموظف المفسد لأنه يشاركه في ربحه من الفساد ، لكن لا يسامح فيمن يختلس منه مالا ، وهو يعتبر نفسه صاحب الحق الوحيد في البيع والشراء . تسبب هذا في عزله عن نيابة الإسكندرية وعن نظرها ، ثم سيأتى فيما بعد أن برسباى قلّد ابن شاهين وظيفة ، مع علمه بفساده، فدولة العسكر مؤسسة على الفساد .! . كانت ولا تزال .!
2 ـ ‏( وفي عشرينه‏:‏ خلع على أقباي البشْتكَي أحد الدوادارية ، واستقر في نيابة الإسكندرية عوضاً عن خليل، وجهزت خلعة إلى جمال الدين عبد الله بن الدمامينى باستقراره على عادته في قضاء الإسكندرية‏. ).
3 ـ ( وخلع على شرف الدين بن مفضَّل واستقر في نظر الإسكندرية عوضاً عن خليل المذكور‏. ).
تعليق
عزل السلطان برسباى نائبه على الإسكندرية ( غرس الدين خليل بن شاهين ) وعين مكانه أميرا مملوكيا . وعزل خليل من نظر الإسكندرية ، وولى مكانه ابن مفضل .
الحج
( وفي يوم السبت ثامن عشره‏:‏ برز الصاحب كريم الدين والأمير يلخجا بمن معهم من المعتمرين إلى ظاهر القاهرة . ثم ساروا في تاسع عشره إلى مكة . )
( وفي تاسع عشره‏:‏ خلع على رجل أَسود من المغاربة - يقال له سرور - لم يزل يدخل فيما لا يعنيه ، ويناله سبب ذلك المكروه . فاستقر في قضاء الإسكندرية ونظرها ، على أن يكفي أجناد الثغر معاليمهم ( أي اجورهم ) ، ويقوم للمرتبين بمرتباتهم ، ويقوم بالكسوة السلطانية ، ويقوم بعد ذلك كله بمائة وثلاثين ديناراً في كل يوم‏. وكُتب عليه بذلك تقرير قرره على نفسه‏. ونزل بالقلعة . فلم يقم سوى أياماً ، وطلع في يوم الثلاثاء حادي عشرينه ، واستعفى من وظيفة النظر فضُرب‏. ورُسم بنفيه ، فأُخرج في الترسيم من القاهرة في ثالث عشرينه‏. )
تعليق
1 ـ هذا خبر طريف ظريف ، يؤكد مقولة أن العُملة الرديئة تطرد العُملة الجيدة ، وفيه تأكيد على أن دولة الفساد لا تقبل إلا من كان فاسدا . هنا رجل طموح للوظيفة تولى نظر الإسكندرية وفى قضائها بلا رشوة ، ولكن تعهّد بالقيام بالمرتبات والكسوة وسائر المتطلبات ، ثم أن يدفع كل يوم 130 دينارا . فشل بعد عدة أيام ، وطلب الإقالة ، فعوقب بالضرب والنفى . المسكين لم تكن له خبرة بالسرقة . لو سرق كالآخرين لكسب ولظل في الوظيفة مدة أطول .
2 ـ هو رجل برىء ، ولكن المقريزى يحتقره ، يقول عنه : ( رجل أَسود من المغاربة - يقال له سرور - لم يزل يدخل فيما لا يعنيه ، ويناله سبب ذلك المكروه ) ، هذا بينما نجد المقريزى يمتدح أصدقاءه من كبار الموظفين المدنيين في الوظائف الديوانية والوظائف الدينية ، وهو يعلم وصولهم للمناصب بالرشوة ، وانهم يحصلون على أضعاف ما يدفعون في شراء المنصب . هذا الرجل البرىء شذّ عن الوضع فاحتقره المقريزى ، ولم يتعاطف معه وهو يتعرض للضرب والنفى .
3 ـ ليس هذا ببعيد عمّا يحدث في مصر الآن تحت العسكر الخائن الخائب الفاسد . لا يمكن للعسكر المصرى أن يسمح بالشرفاء أن يدخلوا في زمرته . إذ لا بد لمن يتولى منصبا مدنيا أن يكون متورطا في قضايا فساد ، وعليه ملفات فساد ، يهددونه بها . ولا بد لمن يترقّى في الجيش بعد رتبة عميد أن يكون عريقا في الفساد . وضابط الجيش يتعلم الفساد على أصوله ، من أول سنوات خدمته ، يبدأ بسرقة تعيين الجنود ، فلا يأخذون كفايتهم من الطعام ، والتلاعب بفواتير ( الكانتين ) أي محلات البيع داخل الوحدات ، وإذا ترقى زعم إصلاحات وهمية ليستخلص منها أموالا ، ويحصل بلا حق على مميزات ، ويستخدم الجنود في خدمته ومشرعاته الخاصة . يتعلم الضباط أصول السرقة من البداية ، والذى لا يكون فاسدا بما يكفى لا يتم التجديد له في الرتب العليا . مؤسسة عسكرية مؤسسة على الفساد والاستعباد للمجندين . هذا ، في الوقت الذى يطارد فيه ضابط المخابرات الذى يحكم مصر ـ الشرفاء والأحرار بالاعتقالات والتعذيب . ألا لعنة الله جل وعلا على أكابر المجرمين من المستبدين ورجال الدين .!!
مناخ ( جليد في القاهرة )
( وفي هذه الأيام‏:‏ اشتد البرد بالقاهرة وضواحيها ، حتى جمدت برك الماء ومقطعات النيل ونحوها ، وأُبيع الجليد في الأسواق مدة أيام . ولم نعهد هذا ولا سمعنا به‏. )
تعليق
ماذا لو عاش المقريزى جنون المناخ في عصرنا ، حيث ظهر الفساد في البر والبحر والجوّ بما كسبت أيدى الناس .!
شهر رجب ، أوله الجمعة
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي سابعه‏:‏ خُلع على شيخ الشيوخ محب الدين ابن قاضي العسكر شرف الدين عثمان الأشقر بن سليمان بن رسول بن الأمير يوسف بن خليل بن نوح الكراني التركماني الحنفي ، واستقر في كتابة السر عوضاً عن القاضي كمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن البارزي‏. ).
تعليق
1 ـ تبديل ابن البارزى ( كمال الدين ) من اسرة البارزى المتخصصة في خدمة العسكر المملوكى ب ( شيخ الشيوخ ) ابن قاضى العسكر التركمانى الأصل . ليس هذا موقفا ضد اسرة البارزى ، وليس انحيازا لأسرة التركمانى شيخ الشيوخ . هو فقط تبديل يعود بأموال على السلطان برسباى .
2 ـ سؤال برىء : اين ذهبت كل تلك الأموال التي جمعها برسباى ومات وتركها ؟ سؤال أكثر براءة : هل يطمع المستبدون الذين يسرقون شعوبهم أن يحملوا معهم الى قبورهم بلايينهم ؟ . الإجابة : لن يحملوا منها إلا أوزارا فوق ظهورهم ، تتحول الى نار في بطونهم ، يتعذبون بها خالدين مخلدين في الجحيم .
2 ـ ( وخلع على ولده شهاب الدين أحمد ، واستقر شيخ الشيوخ .).
تعليق
1 ـ شيخ الشيوخ رتبة دينية في الدين السُّنّى الذى يملكه السلطان ، وهو الذى يعيّن شيخ الشيوخ . وهذا يعتبره المقريزى إسلاما ، لأن برسباى عنده هو ( سلطان الإسلام ).
2 ـ وكم من الموبقات يرتكبونها باسم الإسلام العظيم . كان هذا ولا يزال ، وسيستمر طالما يقومون باهانة الإسلام ، يجعلونه لافتة يمارسون تحتها الفجور والفساد والظلم والاستعباد .
( وخلع على الأمير غرس الدين خليل بن شاهين الذي ولي نيابة الإسكندرية ، واستقر في نظر دار الضرب ، وكان بيد ابن قاسم المتوجه إلى الحجاز ، وقد أقام فيه أخاه ، واستقر أيضاً أمير الحاج‏. )
تعليق
خليل بن شاهين عاقبه برسباى بالعزل من وظيفتيه في الإسكندرية ، ثم أعاده لوظيفة أخطر ، وهى أن يكون ناظرا لدار الضرب ، أي ( مصلحة سكّ النقود ) بتعبير عصرنا . خليل بن شاهين قدّم من قبل مُسوّغات تعيينه عريقا في الفساد ، فكوفىء بمنصب أساس في الفساد ، يقوم فيه بتزييف العُملة لمصلحة السلطان . ولا نتصور أن تعيينه كان مجّانا ، بل لا بد من دفع المعلوم طبقا للمعلوم من الدين السُّنّى بالضرورة .
احتكار
( وفي هذا الشهر‏:‏ طرح على التجار بالقاهرة ودمشق ألف حمل فلفل بمائة ألف دينار، حساباً عن كل حمل مائة دينار. نزل بهم منها بلاء لا يوصف‏. ).
تعليق
كالعادة يفرض برسباى على تجار القاهرة ودمشق الفلفل الأسود الهندى ، بالسعر الذى يحدده ، ولا يملكون الرفض أو المساومة . ويصف المقريزى هذا بالبلاء الذى لا يوصف ، دون توجيه نقد لبرسباى الذى يعتبره ( سلطان الإسلام ).!
ملاحظة
كتب المقريزى هذه الأخبار وهو بعيد عن القاهرة . لم يُزعج القارىء بأخباره الشخصية كما كان يفعل ابن حجر في تاريخه ( إنباء الغمر ) . جاء بالخبر التالى عن حدث مأساوى ، ونفهم منه بين السطور أنه كان في مكة ، ولكن كانت تأتيه أخبار مصر عبر مراسلين له ، فيقوم بتسجيلها في أوقات حدوثها . ولعل هذه هو أن تسجيله لهذا العام لم يكن بالاتساع المعتاد في كتابه ( السلوك ).
غارات الأعراب على المسافرين بين مكة والمدينة ( خبر ينقله المقريزى شاهدا عليه )
( وفي ليلة الأربعاء ثالث عشره‏:‏ بعث الشريف زين الدين أبو زهر بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة بعثاً لمحاربة بشر من بطون حرب إحدى قبائل مدحج‏ ، ‏ ومنازلهم حول عسفان، نزلوها من نحو ستة عشر وثمانمائة ، وقد أخرجهم بنو لام من أعمال المدينة النبوية ، فكثر عبثهم وأخذهم السابلة من المارة إلى مكة بالميرة‏. وجعل على هذا البعث أخاه الشريف علي بن حسن بن عجلان ، ومعه من بني حسن الشريف ميلب بن علي بن مبارك بن رميثة وغيره‏ ، والوزير شكر في عدة من الناس‏ . وسار معهم الأمير أرنبغا أمير الخمسين المركزين بمكة من المماليك السلطانية ، وصحبته منهم عشرون مملوكاً . فنزلوا عسفان يوم الخميس رابع عشره ، وقطعوا الثنية التي تعرف اليوم بمدرج علي ، حتى أتوا القوم ، وقد أُنذروا بهم ، فتنحوا عن الأرض ، وتركوا بها إبلاً مع خمسة رجال ‏. فأول ما بدأوا به أن قتلوا الرجال الخمسة وامرأة حاملاً كانت معهم وما فى بطنها أيضاً ، واستاقوا الإبل ، حتى كانوا في نحو النصف من الثنية المذكورة ، ركب القوم عليهم الجبلان ، يرمونهم بالحراب والحجارة . فانهزم الأمير أرنبغا في عدة من المماليك ، وقد قتل منهم ثمانية ، ومن أهل مكة وغيرهم زيادة على أربعين رجلاً ، وجرح كثير ممن بقي‏ . وغنم القوم منهم اثنين وثلاثين فرساً ، وعشرين درعاً ، ومن السيوف والرماح والتجافيف ( هي البقول المجففة ) ، ونحو ذلك من الأسلحة‏. ومن الأسلاب والأمتعة ما قيل أنه بلغ قيمته خمسة آلاف دينار وأكثر‏. فلما طلعت شمس يوم الجمعة النصف منه دخل أرنبغا - بمن بقي معه من المماليك – مكة ، وهم يقولون : " قتل جميع من خرج من العسكر‏ " . فقامت عند ذلك صرخة بمكة من جميع نواحيها ، لم نر مثلها شناعة‏. وأقبل المنهزمون إلى مكة شيئاً بعد شيء في عدة أيام‏. وحمل الشريف ميلب في يوم السبت ميّتاً‏. ومات بعده بأيام شريف آخر من جراحة شوهت وجهه ، بحيث ألقته كله من أعلا جبهته إلى أسفل ذقنه‏. )
تعليق
1 ـ ‏ يتضح من سياق هذا الخبر أن المقريزى كان يقيم في مكة وقتئذ ، يقول : ( فقامت عند ذلك صرخة بمكة من جميع نواحيها ، لم نر مثلها شناعة‏. ). ونفهم أن الأخبار من مصر وغيرها كانت ترد اليه حيث يقيم . ويتميز تأريخه هنا بالاهتمام بأخبار المشرق ، وواضح أنها كانت تصله عبر الحجاج الآتين من هناك .
2 ـ نفهم أن أعراب قبيلة ( بشر ) كانوا يقطعون الطريق ، ويسلبون قوافل المؤن الآتية الى مكة ، ممّا أغضب ابن عجلان أمير مكة ، فبعث حملة للقضاء عليهم ، يقودها إثنان من ( الأشراف ) وبعض الأمراء المماليك . وصلت الأنباء الى أعراب ( بشر ) فاستعدوا بخطّة مدروسة، غادروا مكانهم وتركوا فيه بعض الابل وخمسة رجال وامرأة حبلى . بنفس منطق السلب والنهب الذى يتبعه الأعراب قتلت الحملة الرجال الخمسة والمرأة الحامل ، وساقوا معهم الابل . وكمن لهم الأعراب في الطريق ، وهاجموهم من حيث لا يتوقعون ، فهزموهم وقتلوا وجرحوا معظمهم ، وسلبوا ما معهم. ودخل ارنبغا الأمير المملوكى مكة مهزوما بمن بقى معه ، وشهد المقريزى هذا ، ووصف ما حدث .
3 ـ بغض النّظر عن أحداث هذا الفيلم الأكشن الذى يذكرنا بأفلام هوليود عن الصراع بين الأمريكيين والهنود الحُمر ــ فان الدين الأرضى ( السُّنّة ) يجمع بين الفريقين المتحاربين ( الأشراف والأعراب ) ، أي تشابهت قلوبهم . الفارق الوحيد أن الاشرف من أكابر المجرمين ويحتمون بزعم أنهم اشراف ، بينما الأعراب مجرمون ، ولا ينتحلون لقب ( الأشراف ).
محمل الحج
( وفي يوم الإثنين خامس عشرينه‏:‏ أدير محمل الحاج‏. ورسم أنه إذا وصل إلى الجامع الجديد خارج مدينة مصر ( مصر هنا تعنى الضواحي القديمة المحيطة بالقاهرة ) يرجع به ، والقضاة أمامه إلى الخانكاه الشيخونية بالصليبة خارج القاهرة فقط ، ويمضي الفقراء معه إلى تحت قلعة الجبل ، ثم منها إلى الجامع الحاكمي . وأبطلت الرماحة من الركوب مع المحمل في هذه السنة‏. )
تعليق
1 ـ مدينة مصر تعنى هنا الضواحي القديمة المحيطة بالقاهرة مثل الفسطاط التي بناها عمرو بن العاص ، والعسكر التي بناها العباسيون ، والقطائع التي بناها أحمد ابن طولون . ثم أسّس الفاطميون القاهرة ، ومالبث أن اتصل العمران بين بتلك المدن ، ولكن تميزت تلك المدن القديمة عن القاهرة باسم (مصر ). فيما بعد توسعت ( القاهرة ومصر ) والتحقت بها قرى مجاورة من الشمال ومن الجنوب ، وازداد توسعها في عهد الخديوى إسماعيل الذى جعلها قطعة من أوربا ، بتعمير وسطها وتشجيرها فتحولت من قرية كبرى من العصر العثمانى الى مدينة أفخم من مدن أوربية كثيرة ، عجز الحكم العسكرى المصرى عن تنمية الريف فقام الفلاحون بهجرات الى أطراف القاهرة ، فأصبحت متخمة بالعشوائيات ، مما جعل المترفون يبتعدون عنها الى أحياء راقية خاصة بهم . ولا يزال المصريون خارج القاهرة الكبرى يطلقون عليها : ( مصر ).
2 ـ لمجرد التذكير : محمل الحج المملوكى كان شعيرة سُنّية سلطانية رسمية ، يحضرها القضاة الأربعة وأعلام الفقهاء وكبار الفقراء ( أي الأولياء الصوفية )، وكان لها تقليد شرعي في سير موكبها . ولأنه دين يملكه أصحابه يخترعون فيه ما يشاءون ، فقد كان يحدث بعض التعديل وفقا للظروف ، كما أشار اليه المقريزى في هذا الخبر .
شهر شعبان
أخبار مكة
1 ـ ( في أوله‏: قدم ركب العمار إلى مكة - شرفها الله تعالى - وفيهم ولي الدين محمد ابن قاسم مضحك السلطان ، والصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ ، والأمير يَلْخجا ، ومعه عدة مماليك بدل من بمكة من المماليك الذين صحبة أَرَنبغا . وبلغ ركبهم نحو ستمائة جمل‏. ).
2 ـ ( وفي يوم الخميس خامسه‏:‏ قدم الشريف بركات إلى مكة ، فقرئ بحضوره في الحجر الأسود توقيع ابن قاسم باستقراره في نظر الحرم الشريف وعمارته ، وتوقيع باستقرار الصاحب كريم الدين في نظر جدة ، وأن إليه أمر قضائها وحسبتها‏. وتوقيع باستقرار الأمير يَلْخُجا في شد جدة‏. )
تعليق
1 ـ طبقا لشريعتهم السُنّية يتمسحون بالكعبة والحجر الأسود في توثيق تعيين أكابر المجرمين في الحجاز.
2 ـ المقريزى يتكلم من داخل مكة ، شاهدا على من أتى اليها من الحُجّاج.
3 ـ ( وفي ليلة الأربعاء حادي عشره‏:‏ توجه الصاحب كريم الدين من مكة إلى جدة ومعه الأمير يلخجا‏. ومضى الشريف بركات لمحاربة حرب‏. ثم خرج الأمير أرنبغا بمن بقي من المماليك المركزين معه من مكة يريد القاهرة وقد تأخر منهم - سوى من قتل ـ أربعة لعجزهم من شدة جراحاتهم عن الحركة‏ ، فنزل جدة ، ثم مضي منها على الساحل ، خوفاً من العرب‏. )
تعليق
1 ـ المقريزى يؤرخ هنا من مكة حيث يقيم وقتها ، يسجل قدوم المماليك وأعوانهم الى مكة ، وخروج بعضهم ، وتفاصيل ما يحدث في مكة . وهو بالطبع يعرف من القادمين من مصر أخبار مصر ، كما يعرف من القادمين لمكة أخبار بلادهم ، ويسجل هذا .
2 ـ من الخبر السابق نعلم خروج الشربف بركات لحرب الأعراب ، ورجوع الأمير المملوكى المهزوم ( أرنبغا ) للقاهرة يجرُّ معه أذيال الفشل بالإضافة الى من تبقى حيا من حملته المهزومة ، ولم يستطع اصطحاب الجرحى الميئوس منهم .
3 ـ هذا يذكرنا برجوع جيش العسكر المصرى منكوسا مجللا بالعار بعد هزيمة 1967 ، لا تزال ذكرى من رأيتهم يؤرق القلب . وما أروع قصيدة أحمد فؤاد نجم التي تغنّى بها الشيخ إمام : ( الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يا محلى رجعة ظباطنا من خط النار) ( يأ هل مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر معدن والأشيا أخر أشيا ، بدام جنابه والحاشية بكروش كبار .. ) .
تأريخ بأثر رجعى يكتبه المقريزى عن وباء في اليمن ( عدن ) وينتشر منها الى الحبشة وأفريقيا
( وكان قد وقع بعدن - من بلاد اليمن وباء استمر أربعة أشهر آخرها شعبان‏. هذا بعد ما طبق بلاد الحبشة بأسرها وامتد إلى بربرة‏. وقد شنع ببلاد الزنج‏. ثم كان بعدن فمات بها - أعني عدن - عالم عظيم. )
ويبيّن لنا المقريزى وصول الأخبار له عن طريق ( مراسلين له ) ، يقول :
( قدم علينا منها بمكة كتاب موثوق به ، يخبر أنه مات بعدن في هذه الأربعة أشهر - خاصة ممن عرف اسمه - سبعة آلاف وثمانمائة‏. وفي كتاب آخر أنه مات بها ثلاثة أرباع الناس ، ولم يبق إلا نحو الربع من الناس‏. وفي كتاب آخر أنه خلا بعدن نحو ثلاثمائة دار، مات من كان بها ، وأن الوباء ارتفع منها آخر شهر شعبان ، وأنه انتقل من عدن إلى نحو صعدة‏. ).
تعليق
1 ـ المقريزى يكتب بعض الأخبار الآتية له من ( المراسلين في الخارج ) عندما تصل اليه ، وعادة أن تصل اليه متأخرة بعد وقوعها بزمن . وهذا حسب وسائل الاتصال وقتها . وكان المقريزى يؤكد على صُدقية ( خطأ أن يقال : مصداقية ) مراسليه ، وينقل عنهم مشيرا الى تأخر تسجيله للخبر عن وقت حدوثه . وهذه أمانة علمية نشكرها له .
2 ـ لم تكن وقتها رقابة على ما يكتبه المؤرخون ، ولا على ما يصل اليهم من أخبار عبر وسائل الاتصال ، بالبريد ، التابع للدولة ، وكانت الاتصالات به مستمرة ومستقلة . لم يتدخل السلطان برسباى فيما يكتبه المقريزى وفيما يصل اليه من رسائل عبر البريد المملوك للدولة ، ولم يسلّط عليه القُضاة ولا المحتسب ، وهو الذى كتب ناقدا له ولأمرائه . بل إن كتاب السلوك للمقريزى ــ والذى ننقل عنه هنا ، ونحلله ـ وصلت شهرته الى خارج الدولة المملوكية ، والى أعدائها ، وقد كتب المقريزى أن شاه رخ ـ غريم برسباى ـ طلب نسخة من تاريخ السلوك للمقريزى . لم يتهمه برسباى بالعمالة لجهات أجنبية ، ولم يلفق له تهمة ( بالانضمام الى جماعة محظورة مع العلم بأهدافها ) ، كما يفعل ضابط المخابرات الذى يحكم مصر الآن ..
3 ـ هذا يؤكد أن مصر تتقدم بكل ثبات الى الخلف .. الى العصر الحجرى .!!
‏شهر رمضان ، أوله يوم الثلاثاء‏:
وظائف أكابر المجرمين
( وفي سابعه‏:‏ خلع على الأمير غرس الدين خليل بن شاهين واستقر في الوزارة، عوضاً عن تاج الدين بن الخطير. وسبب ذلك أن مماليك الطباق بالقلعة رجموا في رابعه الوزير تاج الدين حتى كاد أن يهلك ، فسأل أن يُعفي من المباشرة ، فرُسم بطلب كريم الدين ابن كاتب المناخ من جدة ليلة الوزارة ، فتهيأت لغرس الدين هذا‏. )
تعليق
تهيأت الظروف لتولى خليل بن شاهين الوزارة ليكون بجانب برسباى أكبر أكابر المجرمين . السبب أن المماليك الجلبان كادوا أن يقتلوا الوزير تاج الدين ، فسأل إعفاءه من منصبه . والى أن يأتي من جدة ابن كاتب المناخ ليتولى الوزارة جاء تعيين خليل بن شاهين ـ مؤقتا .
حركة تنقلات
( وفيه جهز لطوغان حاجب غزة خلعة بنيابة القدس ونظر الخليل وكشف الرملة ونابلس ، عوضْاً عن حسن التركماني ، وعمل حسن حاجباً بحلب عوضْاً عن الأمير قنصوه‏ ، وأُنعم على قنصوه بتقدمة ألف بدمشق ، عوضاً عن جانبك المؤيدي ، بحكم وفاته‏. )
تعليق
الذى لا شكّ فيه ــ ولم يذكره المقريزى في غربته في مكة ــ أن السلطان برسباى كسب الكثير من حركة التنقلات هذه .
أخبار الحجاز
( فيه تسلم الشريف أميّان بن مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيِحة الحسيني ٍ امرأة المدينة النبوية ، عوضاً عن أبيه بعد قتله‏. وقد قدم تشريف ولايته وتوقيع استقراره‏. )
تعليق
وصل الى مكة تقليد بامارة الشريف أميان على المدينة مكان أبيه المقتول . ورصد المقريزى هذا وهو في مكة.
استمرار الوباء في اليمن
( وفي هذا الشهر‏:‏ وقع الوباء بمدينة تعز من بلاد اليمن ، وعمّ أعمالها‏. )
شهر شوال : أوله يوم الخميس
وظائف أكابر المجرمين
( وفي ثامنه‏:‏ عُزل الوزيرغرس الدين خليل عن الوزارة، وأُلزم الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم ناظر الدولة لسد أمور الدولة ، ومراجعة القاضي زين الدين عبد الباسط في جميع أحوال الدولة ، فتمشت الأحوال . وتوجه النجاب في تاسعه بطلب الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ ليلى الوزارة بعد فراغه من أمر جدة‏. )
تعليق
لم يهنأ خليل بن شاهين بالوزارة سوى شهر واحد . ظهر وبان عجزه للسلطان برسباى فعزله ، وألزم ابن الهيصم ناظر الدولة بالوزارة مؤقتا ، ويساعده الزينى عبد الباسط ، وهو ناظر الجيش الذى يحظى بثقة برسباى ، والذى يصفه المقريزى بعظيم الدولة والمستشار الأكبر للسلطان ، والذى لم يكن محبوبا من المؤرخ المملوكى ابن تغرى بردى ( أبى المحاسن )، ويصفه بأنه مستشار سوء لبرسباى . هذا ، وقد توجّه النجّاب ( أي الرسول الرسمي السريع ) الى ابن كاتب المناخ ليأتى ليتولى الوزارة.
حركة تنقلات بين أكابر المجرمين المماليك في الشرق
1 ـ ( وفي سابع عشرينه‏:‏ رسم بطلب الأمير أينال الأجرود نائب الرها‏. واستقر الأمير شاد بك الذي توجه لأخذ الأمير جانبك الصوفي من ابن دلغادر عوضه‏. )، ستأتى تفصيلات هذا في الباب القادم .
2 ـ ( وعزل الأمير أينال الششماني من نيابة صفد وإقامته بطالاً بالقدس‏. وأن يستقر عوضه في نيابة صفد الأمير تمراز المؤيدي‏. )
وباء اليمن : أنباء اليمن ترد الى المقريزى في مكة من مراسلين يكاتبونه
( وفي هذا الشهر‏:‏ شنع الوباء بمدينة تعز من بلاد اليمن ، فورد علينا منها كتاب الى مكة ، بأنه صُلّى في يوم واحد بجامع تعز على مائة وخمسين جنازة‏. وفي كتاب آخر أنه مات بها في ثلاثة أيام ألفان ، وخلت عدة قرى من سكانها‏. فشمل الوباء جميع بلاد الحبشة كافرها ومسلمها ، وسائر بلاد الزنج ومقدشوه إلى بربرا وعدن وتعز وصعدة، والجبال‏. ).
تعليق
1 ـ اختلافات في تقدير أعداد الموتى حتى في مدينة تعز اليمنية . أما موتى القرى وسُكّان الجبال فلا تعداد لهم . ونفس الحال مع الموتى في الحبشة والصومال وأفريقيا . لو مات في الوباء حاكم لاسرع المقريزى بذكره . أما المستضعفون فلا ( بواكى لهم ).!!
2 ـ الوباء لا يفرّق بين المحمديين والمسيحيين والوثنيين ، كما إنه لا يمنع التقاتل بينهم . كان هذا في الماضى ، ولا يزال حتى الآن ، فالمحمديون يتقاتلون تحت قصف كورونا ، في اليمن والصومال وليبيا وسيناء وسوريا وأفغانستان.. الخ .
3 ـ الشيطان لم ولن يقدم استقالته .! مهما تكاثر أتباع الشيطان عددا ــ وهم بالفعل أكثرية البشر ـ ففي جهنم متّسع لهم جميعا . قال جل وعلا : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) ق ) . يحتجّون بأكثريتهم العددية ، وأننا أهل القرآن أقلية ، ولا يعلمون أن الله جل وعلا وصف الأكثرية بأنها لا تؤمن ولا تعقل ولا تعلم .!! هنيئا لهم بوصف الأكثرية ، فمن ضمن الأكثرية من يعبد بوذا والبقر والشجر والحجر والموتى في القبور ! .
شهر ذي القعدة : أوله يوم الجمعة ‏
وظائف أكابر المجرمين
( في ثاني عشره‏:‏ رسم باستقرار شمس الدين محمد بن علي بن عمر الصفدي في قضاء الحنفية بدمشق ، عوضاً عن بدر الدين الجعفري ، بمال وعد به‏. )
تعليق
1 ـ فضيلة القاضي ( وعد بمال ) ليتولى الوظيفة . فضيلة القاضي ليس معه وقتها ( كاش ) ، ولكنه متأكّد أنه سيدفع الرشوة لاحقا حين يتولى الوظيفة قاضيا لقضاة الحنفية في دمشق . سيجنى الكثير من وظيفته ، وسيدفع منها القليل لأكبر أكابر المجرمين برسباى ، الذى يلقبه المقريزى بسلطان الإسلام !.
2 ـ ويا أيها الإسلام العظيم كم من الجرائم يرتكبونا باسمك .!!. ليس مثل الإسلام دين ظلمه المنتسبون اليه .!!
احتكار
( وفي رابع عشره‏:‏ مُنع الناس بالقاهرة من ضرب أواني الفضة وآلاتها ، وأن يحمل ذلك إلى دار الضرب ليُضرب دراهم‏. )
تعليق
1 ـ وصلت شراهة برسباى الى المنع من تصنيع أدوات البيوت من الفضة ، وألزمهم بتسليمها الى ( دار سكّ النقود ) لتصنيعها دراهم ( مغشوشة ) .
2 ـ لا ينطبق هذا بالطبع على قصور أكابر المجرمين ، والمتاع فيها بالذهب وليس الفضة فقط ، بل إن خيولهم ــ المُعدّة للمواكب ــ كان يتم تحليتها وتزيينها بالذهب ، يقال ( كنبوش من ذهب ).! .
3 ـ هذا يذكرنا بالمترفين البتروليين الذين يصنعون من الذهب دورات مياههم ومقاعدهم ، ويطرزون به عباءاتهم . يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله جل وعلا بل يصدون عن سبيل الله جل وعلا يبغونا عوجا . تفوقوا في هذا على الكهنوت الكافر من أهل الكتاب ، وقد قال جل وعلا للمؤمنين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة )
4 ـ تفوّق على برسباى في جشعه وكراهيته للفقراء ضابط المخابرات الذى يحكم مصر الآن . هو الذى يسرق مناجم الذهب المصرى ، ويبنى لنفسه وأكابر المجرمين القصور والمُدُن المُحصّنة ويهدم مساكن الفقراء ، ويقوم باجلائهم من بيوتهم ليبيع أرضها بالبلايين . هو الذى يسرقهم بالفواتير والضرائب ويقفل أبواب الرزق في وجوههم ، ويغلق المصانع ، ويحتكر كل شيء ، يعلن بلسان المصريين أنهم ( فقراء أوى ) ، وهو يهرب مئات البلايين الى الخارج . ويؤيده في كل جرائمه شيخ الأزهر .
5 ـ عليهم جميعا لعنة الله جل وعلا والملائكة والناس أجمعين .!
اعتقال رسل ملك بنجال الهندى
( وفي تاسع عشرينه‏:‏ قبض بمكة على رسل ملك بنجاله من بلاد الهند ، وسبب ذلك أن السلطان جهز في سنة خمس وثلاثين هدية من القاهرة إلى السلطان جلال الدين أبي المظفر محمد بن فندوا صحبة بعض الطواشية ، فوصل بها إلى بنجالة ، وقدمها إلى السلطان جلال الدين ،فقبلها ، وعوض عنها بهدية قيمتها عندهم اثنا عشر ألف تنكة حمراء. ومات في أثناء ذلك . وقام من بعده ابنه المظفر أحمد ، فأمضى هدية أبيه ، وزادها من عنده هدية أخرى ، فيها ألفا شاش وعدة ثياب بيرم وخدام طواشيه وطُرف‏. وجهز الجميع ، وبعث معهم عدة من خدامه الطواشية ، وعلى أيديهم خمسة آلاف شاش ، ليبيعوها ويشتروا له بها أمتعة‏ . فركبوا في البحر فحيرهم الريح وألقاهم إلى بعض جزائر ذيبة، فمات بها الطواشي المجهز من مصر‏. وبلغ صاحب ذيبة أنه عتيق غير السلطان ، فأخذ ما تركه ، ولم يتعرض لشيء من الهدية . فاتفق مع ذلك قتل ملك بنجالة أحمد الذي جهز الهدية الثانية ، وقام آخر بعده‏ . فلما اعتدل الريح ، ساروا عن ذيبة إلى أن قاربوا جدة ، غرق مركبهم بما فيه عن آخره‏. فنهض الصاحب كريم الدين من مكة ، وقد بلغه الخبر ، حتى نزل جدة ، وندب الناس ، فأخرج من تحت الماء الشاشات والثياب البيرم بعد مكثها في الماء ستة أيام‏. وتلفت المراطبينات ( أوانى خزف ) التي بها الزنجبيل المربا والكابلي المربا ونحو ذلك‏. فسلم الشاشات والبيارم إلى القصَّارين حتى أعادوا جدتها‏. وكتب إلى السلطان بذلك‏. فكتب بالقبض على طواشية ملك بنجالة ، وأخذ الخمسة آلاف شاش منهم ، ومنعهم من المجيء إلى القاهرة‏. وأن من ورد ببضاعة إلى جدة من ذيبة أخذت للديوان بأسرها ، فندب أبو السعادات ابن ظهيرة قاضي مكة الشافعي ، ومعه أبو البقاء بن الضياء قاضي الحنفية ، لإيقاع الحوطة على الشاشات‏. ورسم على الطواشية حتى أخذت منهم بأسرها ، بعضها صنفاً ، وثُمّن ما باعوه منها ، وضمت إلى مال الديوان‏.)
تعليق
1 ـ هذا ( فيلم هندى ) ميلودرامى . !
2 ـ السلطان برسباى المشهور بشراهته وبُخله أرسل في عام 835 هدية ـ لا نعرف نوعها ولا مقدارها ـ للسلطان الهندى البنغالى جلال الدين أبي المظفر محمد بن فندوا ، حملها بعض الخدم ( الطواشية ) . وصل الطواشية بالهدية ، وفرح السلطان الهندى البنغالى ، وأرسل مع الطواشية المماليك هدية لبرسباى ، ذكرها المقريزى . ومات السلطان بعدها .!
2 ـ تولى بعده ابنه ( المظفر أحمد ) فأرسل الى برسباى هدية أبيه الراحل ، وزاد هدية من عنده من الثياب والتحف والعبيد ( الطواشية ) ، ورآها فرصة ليستفيد تجاريا فأرسل أيضا ــ مع خدمه حاملى الهدية ــ بضائع هندية ليبيعوها ويشتروا له بها من مصر أمتعة‏ .
3 ـ في سفرهم بحرا ، تتصاعد الأحداث الدرامية ( الهندية ) إذ يموت الطواشى المصرى المبعوث من برسباى ، ويموت الملك الهندى البنغالى سريعا وفجأة ، وتتدخّل الرياح وتتلاعب بالسفينة وتُلقى بها الى جزيرة من جزر ( ذيبة ) التي لا نعرفها ، ولا نرغب في ذلك . حاكم ( ذيبة ) سلب بعض ما كان مع الطواشى الراحل ، ثم اعتدل الريح فأقلعوا نحو جدة ، ولكن تتصاعد الأحداث ثانيا ، ويتدخّل الريح فيُغرق المركب . ومن تفصيلات لاحقة نعرف أنه قد نجا بعض الطواشية الهنود ، ووصلوا الى جدة وأبلغوا السُّلُطات المملوكية فيها .
4 ـ بوصول الخبر الى مكة أسرع الوزير كريم الدين من مكة جدة ، معه معاونون ، ويستخرجون بعض المتاع الغارق بعد أن ظل ستة أيام تحت الماء . وقام بإصلاح بعض ما تلف . وأرسل بالخبر الى برسباى ، فأمر بالقبض على الطواشية الهنود ، ومنعهم من المجىء للقاهرة ، ومصادرة أي بضاعة تأنى من جزر ذيبة الى جدة. برسباى يتسامح في أي شيء ، إلّا ما يخصُّ المال . هذه صلة قرابة بينه وبين جنرالات الهبش في مصر . الاستبداد أخ شقيق للفساد . وانتهى الفيلم الهندى .
شهر ذي الحجة أوله يوم السبت‏:
النيل
( في يوم الخميس سادسه وسابع عشرين بؤونة‏ :‏ نودي على النيل بزيادة خمسة أصابع‏. وقد جاءت القاعدة ستة أذرع وثمانية عشر إصبعاً واستمرت الزيادة‏. ولله الحمد‏. ) . وصلت أخبار النيل الى المقريزى حيث يقيم .
بقية أخبار شهر ذي الحجة في الكتاب القادم .



الفصل السادس عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 840
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى في التأريخ لسنة 840
ملاحظة
يتوقف أحيانا المقريزى في بعض السنوات فيبدا بذكر الحُكّام وأعوانهم في الدولة المملوكية ، وحُكّام الدول المعروفة له في العالم وقتها . وهم من نسميهم بأكابر المجرمين . وفى هذا العام 840 أعطى المقريزى تفصيلات هامة ، نذكرها مع التعليق .
عن وظائف أكابر المجرمين يقول المقريزى عن سنة 840
أولا : الخليفة العباسى والسلطان المملوكى : ( أهلت ، وخليفة الوقت والزمان أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على اللّه أبى عبد اللّه محمد ، وسلطان الإسلام بديار مصر وبلاد الشام وأراضى الحجاز مكة والمدينة وينبع وجزيرة قبرس السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباى الدقماقى‏. )
تعليق :
هنا (الخليفة وهو خليفة الزمان أمير المؤمنين ) ، ونعيد التذكير بأن الدولة المملوكية هي دولة دينية عسكرية وليست عسكرية دينية ، لذا فالخليفة بمركزه الدينى يأتي رسميا ( وبالبروتوكول ) قبل السلطان . هذا مع إنه في الواقع تابع ذليل للسلطان ، تقتصر مهمته على مبايعة السلطان ، وإعطائه شرعية دينية سُنّية للحكم والاستبداد والظلم . ولهذا يأتي وصف السلطان بعدها بأنه ( سلطان الإسلام ). ونعرف أنه يحكم مصر والشام والحجاز وقبرص.
ثانيا : كبار الأمراء المماليك في القلعة والقاهرة
( والأمير الكبير أتابك العساكر جقمق السيفى رأس الميمنة‏. والمقام الجمالى يوسف ولد السلطان رأس الميسرة‏. وأمير سلاح الأمير قرقْماس الشعبانى‏. وأمير مجلس أقبغا التمرازى‏. والدوادار الأمير أَرْكُماس الظاهرى‏. ورأس نوبة النوب الأمير تمراز القَرْمِشى‏. وحاجب الحجاب الأمير يشبَك‏. و أمير آخور جاثم أخو السلطان‏. وبقية المقدمين : الأمير تغرى بردى البكلمشى المؤذْى ، وخُجا سودن ، وقراقُجا الحسنى ، وأينال الأجرود نائب الرها ، والأمير تنبك . فهم ثلاثة عشر بعدما كانوا أربعة وعشرين مقدما‏. )
تعليق
1 : تدرّج جقمق حتى أصبح الثانى بعد السلطان ، ممّا يرشحه فيما بعد لكى يكون القائم بسلطان ابن السلطان حين يتولى السلطة .
2 : ويلاحظ وضع الصبى ابن السلطان (المقام الجمالى ) أي جمال الدين يوسف بن برسباى تاليا للأمير جقمق . وهى إشارة لأنه ولى العهد . وسبق تكليفه بمهام شرفية مظهرية ثم فتح مقياس النيل .
3 ـ ونلاحظ بين أسماء كبار الأمراء المماليك الأمير جاثم أخ برسباى . وكانت عادة السلاطين الجراكسة استقدام أهاليهم ، وتقليدهم مناصب هامة. بدأ بهذا السلطان برقوق ، حين تمهّد له الأمر .
ثالثا : حُكّام الولايات المملوكية : ( نُواب السلطان )
‏( ونواب السلطنة بالممالك : الأمير أينال الجمكى نائب الشام‏. والأمير تغرى برمش الجقمقى نائب حلب ، والأمير قانباى الحمزاوى نائب حماة‏. والأمير جلبَان المؤيدى نائب طرابلس ، والأمير تمراز المؤيدى نائب صفد ، والأمير يونسْ نائب غزة ، والأمير عمر شاه نائب الكرك ، والأمير أقباى البْشبَكى نائب الإسكندرية‏. والأمير أَسَنْدمر الأسعردى نائب الوجه القبلى ، والأمير حسن بيك الدكرى التركمانى نائب الوجه البحرى . ولم يعُد ( يقصد لم يكن ) في الدول الماضية أن يستقر أحد من النواب تركمانيا إلا فيما بعُد عن بلاد حلب ، فاستجد في هذه الدولة الأشرفية ولاية عدة من التركمان ولايات ونيابات وإمريات‏. ( إمارات ) ، بمصر والشام‏. وأمير مكة المشرفة الشريف زين الدين أبو زهير بركات بن حسن بن عجلان الحسنى‏. وبالمدينة النبوية الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام الشريف وميان ابن مانع بن على بن عطة بن منصور بن جاز بن شيحة الحسينى ، وبالينبع الشريف عقيل بن وبير بن نخبار بن مقبل بن محمد بن راجح بن إدريس بن حسن بن أبى عزيز قتاده الحسنى‏. وهؤلاء الأشراف الثلاثة نواب عن السلطان‏. )
تعليق
1 : كانت الدولة المملوكية كتلة واحدة في دولة مركزية ، يديرها السلطان من قلعة الجبل في القاهرة ، ويمثّله نُوّاب عنه في أقسام في الدولة ، بمثل المحافظات في عصرنا .
2 ـ وقسموا هذه الدولة المركزية الى ولايات ، بحسب أهميتها الحربية والسياسية للسلطان . ومع إن مصر هي المركز والأصل في الدولة إلا إنه جرى اقتطاع أجزاء منها ، وتعيين نواب للسلطان عنها ، فهناك نواب عن السلطان في الاسكندرية والوجه القبلى والوجه البحرى .
3 ـ ونفس الحال في الشام ، حيث كان للسلطان نواب في حلب وحماة وطرابلس وصفد وغزة والكرك ( وهى الأردن الآن ). هذا مع كون دمشق هي العاصمة الرئيسة للشام المملوكى.
4 ـ وكان للحجاز المملوكى وضع خاص ، تفرضه طبيعة الدولة الدينية السُّنيّة ، لذا حكمه باسم المماليك حُكّام منتسبون لبيت النبى محمد عليه السلام ، أو من كانوا يحملون زورا وبهتانا لقب ( الأشراف ). وجرى تقسيم الحجاز الى مكة والمدينة وينبع ، وكانت جدة تتبع ينبع .
رابعا : حُكّام دول العالم المعروف لديه وقتها ، أو بتعبير المقريزى : ( وفي بقية ممالك الدنيا وهم ):
1 : القان ( الخان ) معين الدين شاه رخ سلطان ابن الأمير تيمور كوركان ، صاحب ممالك ما وراء النهر وخراسان وخوارزم وجرجان وعراق العجم ومازندران وقندهار ودله من بلاد الهند وكرمان وجميع بلاد العجم إلى حدود أذربيجان التي منها مدينة تبريز ) ( ومتملك تبريز إسكندر بن قرايوسف بن قرا محمد وهو مشرد عنها خوفا من القان شاه رخ‏. )
تعليق
1 ـ شاه رخ يتمتع بلقب دينى ( معين الدين ). ومملكته تمتد من غرب ايران ( العراق العجمى ) الى شمال الهند ، الى آذربيجان . وقد ضمّ اليه تبريز التي كان يحكمها إسكندر بن قرا يوسف ، وهو في ذلك الوقت لاجئ هارب من شاه رخ .
2 : ( وحاكم بغداد أخو أصبهان بن قرايوسف. وقد خربت بغداد ، ولم يبق بها جمعة ولا جماعة ولا أذان ولا أسواق‏. وجف معظم نخلها ، وانقطع أكثر أنهارها ، بحيث لا يطلق عليها اسم مدينة بعدما كانت سوق العلم‏. )
تعليق
هذه سطور حزينة تصف ما آلت اليه بغداد تحت حكم أصبهان بن قرا يوسف . تم تخريبها اقتصاديا ودينيا وثقافيا . الثقافة الدينية للمقريزى تجعله يذكر توقف صلاة الجمعة والجماعة في بغداد .
3 : ( وعلى حصن كيفا الملك الكامل خليل بن الأشرف أحمد بن العادل سليمان بن المجاهد غازى بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن الموحد عبد اللّه ابن السلطان الملك المعظم توران شاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب بن شادى . )
تعليق
العادل الأيوبى هو الذى حكم مملكة أخيه صلاح الدين الأيوبى ، وتوارثها من بعده ذريته ، وتنازعوا ، واستعان بعضهم على بعض بالصليبيين ، وانتهى أمرهم بتولى مماليكهم ( البحرية ) على معظم أملاكهم في الشام ، بقى منهم الكامل خليل صاحب حصن كيفا .
4 : في آسيا الصغرى ( تركيا الآن )
4 / 1 : الدولة القرمانية في الجنوب: ( وعلى بلاد قرمان من بلاد الروم إبراهيم بن قرمان‏. ) . وكانت إمارة بنى قرمان في خصومة مع جارتها إمارة بنى عثمان ، التي لم تكن قد تحولت الى امبراطورية بعدّ ، ثم مالبث أن خضعت لمراد الثانى المعاصر لبرسباى . قال المقريزى عن إمارة بنى عثمان وقتئذ :
4 / 2 : ( وملك الإسلام ببلاد الروم خوندكار مراد بن محمد بن كُرْشجى بن بايزيد يلدَريم بن مراد بن أُرخان بن أرِدن على ابن عثمان بن سليمان بن عثمان صاحب برصا وكالى بولى‏.) كانت الدولة العثمانية وقتها تجاور البيزنطيين ، وتتوسّع على حسابهم . لذا وصف المقريزى حاكمها في هذا الوقت بأنه ( ملك الإسلام ببلاد الروم ) لأن دولته كانت تمثل الصراع بين ( دار الإسلام ودار الحرب ). عاصر مراد الثانى العثمانى السلطان برسباى إذ حكم عام 824 . واستمر يحكم بلاده بعد موت برسباى ، وحتى عام 855 .
4 / ثم إمارة أخرى ، قال عنها المقريزى : ( وبجانب من بلاد الروم أسفنديار بن أبى يزيد .) . مالبث أن ضم مراد الثانى العثمانى كل الامارات التركية / التركمانية الى حوزته . وسنعرض للصراعات المعقدة في الشرق في باب خاص قادم .
5 : ( وعلى ممالك إفريقية من بلاد المغرب :
5 / 1 : ( أبو عمرو عثمان بن أبى عبد اللّه محمد بن أبى فارس عبد العزيز الحفصى صاحب تونس وبجاية وسائر إفريقية‏. ). هذا في تونس وجنوبها .
5 / 2 : ( وعلى مدينْة تلمسان والمغرب الأوسط أبو يحيى بن أبى حمو ) . هذا فيما يُعرف الآن بالجزائر ، وتمتد الى أجزاء من المغرب .
5 / 3 ( وبمملكة فاس ثلاثة ملوك :
5 / 3 / 1 : ( أجلُّهم صاحب مدينة فاس وهو أبو محمد عبد الحق بن عثمان بن أحمد بن إبراهيم ابن السلطان أبى الحسن المرينى وليس له أمر ولا نهى ولا تصرف في درهم فما فوقه‏. والقائم بالأمر دونه أبو زكريا يحيى بن أبى جميل زيان الوِطَاسى . ) ( وقد ضْعفت مملكة بنى مرين هذه ويزعم أهل الحدثان أن الشاوية تملكها وقد ظهرت إمارات صدق ذلك‏. )
5 / 3 / 2 ( وبعد صاحب فاس صاحب مكناسة الزيتون ، على نحو نصف يوم من فاس‏. )
5 / 3 / 3 : ( والآخر بأصِيلا ،على نحو خمسة أيام من فاس ، وهما أيضا تحت الحجر ممن تغلب عليهما‏. ) . المغرب تحت إسم ( فاس ) منقسم الى ثلاث ممالك صغيرة وضعيفة ، فاس ومكناس وأصيلا .
6 ـ ( وبالأندلس : أبو عبد اللّه محمد بن الأيسر ابن الأمير نصر ابن السلطان أبى عبد اللّه بن نصر المعروف بابن الأحمر صاحب أغرناطة‏. ). غرناطة هي آخر إمارة عربية تحتضر في أسبانيا .
7 ـ ( وببلاد اليمن :
7 / 1 : ( الملك الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل صاحب تعز وزبيد وعدن‏. )
7 / 2 : ( وعلى صنعاء وصعدة الإمام على بن صلاح الدين محمد بن على الزينى‏. ). مملكتان في اليمن .
8 ـ ( وبممالك الهند الإسلامية عدة ملوك‏. ).
9 ـ ( ومماليك الفرنج بها أيضًا نحو سبعة عشر ملكا ، يطول علينا إيرادهم‏. )
10ـ ( وببلاد الحبشة : الحطى الكافر ، ويحاربه ملك المسلمين شهاب الدين أحمد بدلاى بن سعد الدين أبى البركات محمد بن أحمد بن على بن صبر الدين محمد بن ولخوى بن منصور بن عمر بن ولَسْمَع الجبرتى‏. ).
المقريزى يصف ملك الحبشة بالكفر ، لأنه في حرب مع من أسماه المقريزى ( ملك المسلمين ). هذا لأن الحبشة وقتها كانت تمثل الصراع بين ( دار الإسلام ودار الحرب ).
ملاحظة
هنا نرى المقريزى مؤرخا عالميا ، مع جعل مصر مركز تاريخه ، وعنده حقُّ في هذا ، فقد كانت مصر ( المملوكية ) مركز العالم وقتها .. يا حسرة على مصر الآن ، وقد قام بتقزيمها ضابط ( قزم ).!!
خامسا :
المناصب الديوانية : ( وأرباب المناصب بالقاهرة : ( الأمير جانبك أستادار‏. ) ( والقاضي محب الدين محمد بن الأشقر كاتب السر‏. ) ( وناظر الجيش عظيم الدولة زين الدين عبد الباسط ولا يبرم أمر ولا يحل ولا يولى أحد ولا يعزل إلا بمشورته‏. ) . المقريزى معجب بناظر الجيش يصفه بأوصاف العظمة ويُضخّم في نفوذه ، وهذا ما يتفق فيه معه المؤرخ أبو المحاسن في تاريخه ( النجوم الزاهرة ). ولكن أبا المحاسن لا يحمل حبّا لناظر الجيش عب الباسط ويجعله مستشار سوء للسلطان برسباى .
( وناظر الخاص سعد الدين إبراهيم بن كاتب حكم‏. )
هذه هي المناصب الخاصة بأقرب الناس الى السلطان في قلعة الجبل . وهم الاستادار وكاتب السّر وناظر الأملاك الخاصة بالسلطان .
المناصب الدينية : ( وقاضى القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن على ابن حجر، وإليه المرجع في عامة الأمور الشرعية لسعة علمه وكثرة إطلاعه لاسيما علم الحديث ومعرفة السنن والآثار ، فإنه أعرف الناس بها فيما نعلم‏. ) ( وقاضى القضاة الحنفي بدر الدين محمود العيني‏. ) ( وقاضى القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي‏.) ( وقاضي القضاة الحنبلي محب الدين أحمد بن نصر اللّه البغدادى‏.).
تعليق
المقريزى يمتدح ابن حجر ، ويجعله مرجعية في الشريعة السُّنّية . ولأنه القاضي الأكثر علما ونفوذا وسيطرة فهو أكبر أكابر المجرمين من القضاة الفقهاء الداعمين لكل الجرائم التى يرتكبها السلطان بموافقته وبتأييده . أكثر من هذا فقد كان ابن حجر أكثر القُضاة فسادا ، وكان السلطان برسباى ــ أكبر أكابر المجرمين ــ يتدخل أحيانا لإصلاحه وإصلاح القضاء ، وهذا وفق ما ذكره المقريزى نفسه . إبن حجر مؤرخا في كتابه ( إنباء الغُمر بأبناء العُمر )لم ينتقد برسباى ، ولم ينتقد من سبق برسباى ، بمثل ما فعل المقريزى. لم يفعل لأنه كان أحد أعمدة النظام الفاسد المجرم ، هذا يذكرنا بشيوخ الأزهر في عصر العسكر .
المناصب الأمنية : ( والمحتسب الأمير صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله‏. ) المحتسب هو الذى يراقب الشوارع والأسواق ، وله سٌلطة الضبط وسلطة اصدار الحكم وسلطة تنفيذ الحكم ، أي يجمع السُّلُطات الثلاث ، وليس وقاض وجلّاد . ويستخدمها في جمع الأموال. والشيخ العينى تولى هذا المنصب مرارا ، كما تولى منصب قاضى القضاة الأحناف . ( ووالى القاهرة عمر الشويكى‏. ). أي مدير الأمن .
شهر الله المحرم ، وأوله يوم الاثنين‏:‏
المحمل
( وفي رابع عشرينه‏:‏ قدم المحمل الحاج مع الأمير طوخ مازى أحد أمراء الطبلخاناه وأحد رؤوس النوب ، وكنتُ صحبة الحاج ، فساءت سيرته في الحاج ، وفي ذات نفسه‏.‏ ) . كان المقريزى حاضرا ، وكان شاهدا على سوء سيرة الأمير المملوكى طوخ مازى .
أخبار أكابر المجرمين
1 ـ القبض ابن الخطير استادار ابن السلطان وعزله ، وتولية ابن كاتب جكم بدلا منه : (وفيه قبض على الصاحب تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير أستادار المقام الجمالى يوسف ولد السلطان ، ثم أُفرج عنه‏. ) ( وخُلع من الغد على الصاحب جمال الدين يوسف ابن كريم الدين بن عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف والده بابن كاتب جكم‏. واستقر عوضه في الأستادارية‏. )
النيل
( وفى يوم الأحد تاسع عشرينه الموافق لتاسع عشر مسرى‏:‏ نودى على النيل بزيادة عشر أصابع فوفى ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع. وركب المقام الجمالى يوسف ولد السلطان حتى خُلق المقياس ، وفتح الخليج بين يديه على العادة‏. )
الحروب البحرية بين المماليك والفرنجة
( وأنه في حادى عشرينه‏:‏ طرق ميناء بوقير خارج مدينة الإسكندرية ثلاثه أغربة من الفرنج الكيتلان ، وأخذوا مركبين للمسلمين ، فخرج إليهم أقباى اليشبكى الدوادار نائب الثغر ، ورماهم حتى أخذ منهم أحد المركبينِ ، وأحرق الفرنج المركب الآخر، وساروا‏. )
تحارب بحرى بين الكيتلان والجنويين الايطاليين ، والمماليك يعاونون الجنويين ‏
( وأن في ثاني عشرينه‏:‏ عند هذه الوقعة ، طرق ميناء الإسكندرية مركب آخر للكيتلان ، وكان بها مركب للجنوية ، فتَحاربا ، وأعان المسلمون الجنوية حتى إنهزم الكيتلان‏. )
تعليق
المال هو معبودهم الأكبر مع اختلاف أديانهم ومذاهبهم الأرضية الشيطانية ، في سبيله يتحاربون أو يتحالفون . كان هذا ، ولا يزال .!!
ضمن هذا يدخل الخبر التالى عن حروب المحمديين في شمال أفريقيا ‏
( وفي هذا الشهر‏:‏ خرج من مدينة بجاية بإفريقية أبو الحسن على ابن السلطان أبى فارس عبد العزيز ، حتى نزل على قسنطينة، وحصرها‏. ).
تعليق
لم تمنع حروبهم مع عدوهم المشترك من تحاربهم مع بعضهم . هي عادة سيئة ، كانت ولا تزال . فالمال هو معبودهم الأكبر .!
‏شهر صفر ، أوله يوم الثلاثاء‏:
أخبار أكابر المجرمين
( وفي خامسه‏:‏ استقر خُشكَلْدى أحد الخاصكية فى نيابة صهيون ، عوضا عن الأمير غرس الدين خليل الهذْبانى بحكم وفاته‏. ثم عزل بعد يومين بأخى المتوفى‏. ). تولية ثم عزل بعد يومين ، والسبب شراء المنصب .‏
( وفي ثامن عشرينه‏:‏ قدم الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ من جدة ، وصحبته الأمير يلخجا ، والمماليك المركزة بمكة‏. )
تقاتل المحمديين في شمال أفريقيا ‏
( وفي هذا الشهر‏:‏ سار أبو عمرو عثمان بن أبى عبد اللّه محمد ابن السلطان أبى فارس عبد العزيز من مدينة تونس يريد قسنطينه، لقتال عمّه أبى الحسن على‏.)
‏تعليق
لم تمنع حروبهم مع عدوهم المشترك من تحاربهم مع بعضهم داخل الأسرة الحاكمة وحدها . هي عادة سيئة ، كانت ولا تزال ، فالمال هو معبودهم الأكبر !.
شهر ربيع الأول ، أوله يوم الخميس‏:
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي رابع عشرينه‏:‏ خلع على سعد الدين إبراهيم بن المرة، وإستقر فى نظر جدة على عادته من قبل‏. )
2 ـ ( وفي سابع عشرينه‏:‏ خلع على الأمير جانبك الناصرى ، رأس نوبة الأمير إبراهيم ابن المؤيد وحاجب ميسرة‏ ، وإستقر أمير المجردين إلى مكة ، ويتحدث مع إبن المرة في أمر جدة ، وتعين معه مائة وعشرة مماليك ، سوى ثلاثين مملوكًا في خدمته‏. وأنعم عليه بألف دينار أشرفية وقطارى جمال وخمس عشرة ألف فردة نشاب وأربعة أفراس‏. )
تنقلات
( وفيه رسم بعزل الأمير تمراز المؤيدى عن نيابة صفد، واستقراره فى نيابة غزة عوضا عن الأمير يونس الأعور ، واستقرار يونس فى نيابة صفد ، وتوجه بذلك دولت بيه أحد رؤوس النوب‏. )
الحج
( وفْيه نودى في الناس بالإذن في السفر إلى مكة صحبة المجردين‏. )‏
أحوال الوزارة
( وفيه قدم الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ تقدمة قدومه من جدة، فخلع عليه فى يوم السبت ثالثه ، ونزل إلى داره، فسأل فى يوم الأحد رابعه القاضى زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش السلطان فى إستقرار الصاحب كريم الدين المذكور فى الوزارة على عادته‏. وكان السؤال على لسان الأمير صفى الدين جوهر الخازندار، فأجيب باًن :‏"‏ هذا الأمر متعلق بك ؛ فإن شئت إستمريت على مباشرتك للوزارة ، وإن شئت تعين من تريد ‏"‏‏. فتكلم من الغد يوم الإثنين مع السلطان مشافهة في ذلك ، فتوقف السلطان خشيهْ ألا يسد لقصور يده‏. فمازال بالسلطان حتى أجاب إلى ولايته ، ونزل إلى داره ، فاستدعى الصاحب كريم الدين وقرر معه ما يعمل‏ ، وأسعفه باًن عين له جهات يسد منها كلفة شهرين‏ ، وأنعم له بألفى رأس من الغنم ، وأذن له أن يوزع على مباشرى الدولة كلفة شهرين آخرين‏. فلما كان الغد يوم الثلاثاء سادسه‏:‏ خلع على الصاحب كريم الدين واستقر في الوزارهْ على عادته ، ونزل إلى داره فى موكب جليل‏. وسُرّ الناس به ، فصَّرف الأمور ونفّذ الأحوال‏. وخُلع معه على الصاحب أمين الدين إبراهيم ابن الهيصم ناظر الدولة خلعة استمرار ، فنزل في خدمته ، وجلس بين يديه كما كان أولا . وكانت الوزارة منذ عزل الأمير غرس الدين خليل عنها في شوال سنة تسع وثلاثين لم يستقر فيها أحد ، وإنما كان القاضى زين الدين عبد الباسط ينفذ أمور الوزارة ، وقررها على ترتيب عمله ، وهو أنه أحال مصروف كل جهة من جهات المصروف على متحصل جهة من جهات المتحصل فإن لم تف تلك الجهة‏ مما أحيل به عليها قام بالعوز من ماله‏. وندب للمباشرة عنه الصاحب أمين الدين بن الهيصم ، وهو يلى نظر الدولة ، فتمشت أحوال الدولة فى هذه المدة على هذا‏. ).
تعليق
1 ـ من جدة جاء الصاحب ( أي الوزير ) ابن كاتب المناخ الى القاهرة يحمل تقدمة ، أي هدية / رشوة للسلطان . طبعا ممّا سلبه من هناك، فكوفىء بأن خلع عليه السلطان ، أي ألبسه رداء التشريف .
2 ـ توسّط أصدقاء كريم الدولة ابن كاتب المناخ ليعود الى منصبة وزيرا ، وبعد تردد وافق برسباى ، مع بعض تدابير ، منها أن يكون ناظر الدولة ابن الهيصم معاونا له . وخُلع عليه بمنصب الوزير يوم الثلاثاء 6 من هذا الشهر ، وأقيم له موكب حافل في القاهرة .
3 ـ بذلك تم حل مشكلة الوزارة بعد عزل خليل بن شاهين ، وضياعها بين ناظر الجيش عبد الباسط وآخرين .
المولد النبوى
( وفي اليلة الجمعة عاشره‏:‏ عُمل المولد النبوى بين يدى السلطان على العادة فى كل سنة‏. )
تعليق
1 ـ المولد النبوى شعيرة سُنّية أساس (لا يقال : أساسية ) في الدين السُّنّى ، كانت ولا تزال. يتخذها أكابر المجرمين من المستبدين ورجال الدين فرصة للنفاق الدينى والضحك على المستضعفين .
2 ـ لم يسأل أحد نفسه : إذا كان المولد النبوى شعيرة إسلامية فهل كان النبى محمد عليه السلام يحتفل به ؟ يزعمون في دينهم أن الصحابة هم خير القرون ، فهل احتفل أولئك الصحابة بالمولد النبوى ؟
3 ـ ثم أضاف الدين الصوفى احتفالات بموالد الأولياء ، بل يوجد للولى الصوفى عدة مقابر مقدسة ، وتوجد له موالد مختلفة مثل ( السيد البدوى ) . في النهاية فهى أديان ملّاكى يملكها أصحابها ، يشرعون فيها ما تشاء لهم شياطينهم .!
4 ـ المؤسف والعجيب
4 / 1 : إن رب العزة جل وعلا ذكر في قصص إبراهيم عليه السلام أن قومه كانت لهم موالد ( أعياد ) يجتمعون عندها : ( وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) العنكبوت ) .
4 / 2 : أن المحمديين يتطرفون في موضوع الخنزير فيحرمون الأكل منه جميعا ، مع إن المحرم هو لحم الخنزير فقط ، هذا بينما يأكلون من الطعام الرجسى الذى يذبحونه عند قبورهم وأنصابهم المقدسة وفى موالدهم الدينية . ينسون قوله جل وعلا : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ )(3) المائدة )
جريمة قتل وتوابعها : ( فيلم هندى )
1 ـ( وفي يوم الجمعة‏‏ المذكور ( 10 من هذا الشهر ) عدا رجل من الهنود على رجلين فقتلهما ، بعد صلاة الجمعة ، تجاه شبابيك المدرسة الصالحية بين القصرين‏ ، بمشهد من ذلك الجمع الكثير‏. فأُخذ وقُطعت يده ثم قُتل . فكانت حادثة شنعة‏. )
2 ـ( 13 من هذا الشهر ) ( ونودى في الشوارع بخروج الهنود من القاهرة ، فلم يخرج أحد‏.).
تعليق
1 ـ فى التشريع السنّى لأكابر المجرمين أن يؤاخذ البرىء بجُرم غيره . هذا يناقض القاعدة التشريعية القرآنية التي تكررت في القرآن الكريم : ألّا تزر وازرة وزر أخرى .
2 ـ العسكر الحاكم في مصر ألان يغطّى على فشله بأن أحدث تطورا شيطانيا في هذا الخصوص ؛ أن يسجن البرىء بالتلفيق ، ثم يعاقب أهله أيضا ، كما يفعل مع أهل القرآن . المافيا الكولومبية والمكسيكية تفعل ذلك .!
حملة مملوكية على أعراب الوجه البحرى
( وفي يوم السبت حادى عشرة‏:‏ توجه الأمير قُرْقماس أمير سلاح والأمير جانم أمير أخور في جماعة إلى الوجه البحرى ، من أجل أن أولاد بكار بن رحاب وعمهم عيسى من أهل البحيرة ، وأفسدوا .).
تعليق
صراع عادى ومتكرر بين الأعراب والمماليك ، يتحاربون حينا ويتحالفون أحيانا ، وهم سواء في ظُلم الفلاحين المصريين المستضعفين .
( وفي يوم الإثنين تاسع عشرة‏:‏ نودى ألا يلبس أحد زمط أحمر، ثم نودى من الغد لا يحمل أحد سلاحًا‏. )
تعليق
1 ـ ( الزمط ) هو رداء للرأس . ولا نعرف لماذا أعلن جهاز الاعلام التابع لبرسباى هذا النداء عن منع ( الزمط ) .
2 ـ مفهوم منع حمل السلاح ، حتى ينفرد المماليك الجلبان بأهل القاهرة شغبا وسلبا ونهبا واغتصابا . كان هناك سلاح عادى مع العبيد المملوكين لبعض الميسورين في القاهرة ، وكانوا يتصدُّون لحماية أسيادهم من عدوان المماليك الجلبان . بهذا تم منعهم ، أي لا بد ان يكون سكان القاهرة بلا سلاح ليعتدى عليهم المماليك الجلبان بلا مشاكل .
3 ـ يعتاد البوليس المصرى الآن أن يعتدى على من يشاء من المصريين المستضعفين في الأرض ، يوقفهم في الكمائن ، ويفتشهم ، ويتحرش بالنساء ، ويرمى في السجن من يشاء ، ويهجم على البيوت ، ويعتقل من يشاء ، ويلفق لهم التهم ما يحلو له ، ويخضع لهم القضاء ، والنيابة العامة والتي تسارع بالاتهام بالتهمة المعتادة الآن : الانتماء الى جماعة محظورة .! ويتم تجديد سجن البرىء المظلوم حسب الهوى . إذا كان المماليك الأجانب ( الأجلاب / الجلب ) يعتدون على سكان القاهرة ، فلا ننتظر خيرا من جنود أجانب ، ولكن ما هو المبرر لقلة من المصريين أن يظلموا أهلهم بهذا الشكل ؟ إن أغلبية المصريين مستضعفون ، ومن يرفع صوته منهم إنما يمارس حقه في التعبير وفق الدستور ، ومفروض حمايتهم وليس قهرهم وظلمهم ..
4 ـ إن ظلم السيسى وعصابته فاق الحدود ..اللهم حقق فيه دعوات المظلومين .!.
5 ـ اللهم لعنتك على الظالمين في كل زمان ومكان .!!
محاولة ‏هروب أمير عثمان استضافه برسباى : ( مسلسل تركى أكشن )
يقول المقريزى :
1 ـ ( وفي ليلة الاثنين خامسه‏:‏ فُقد سليمان بن أَرْخُن بك بن محمد كُرشجى ابن عثمان وأخته شاه زاده وجماعته ، وكانوا يسكنون بقلعة الجبل ، وتمشى سليمان هذا فى خدمة المقام الجمالى ولد السلطان‏.)
2 ـ ( ومن خبره أن مراد بن كُرشجى صاحب برصا وغيرها من بلاد الروم ، قبض على أخيه أَرْخُن بك وكحله وسجنه مدة ، فكان يقوم بخدمته ـ وهو فى السجن ــ مملوك من مماليكه ، يقال له طوغان‏ ، فأدخل إليه جارية إلى السجن ، وهى متنكرة ، فاشتملت من أَرْخن على هذا الولد وغيره‏. ومملوكه هذا يخفى أمرهم حتى مات أرخُن فى سجنه‏. ففر المملوك بهذين الولدين وهما سليمان وأخته شاه زاده وأمهما إلى مدينة حلب ، وأقاموا بها حتى قدم السلطان ( برسباى ) حلب فى سنة ست وثلاثين وقف بهما إليه ، فاًكرمهم وأنزلهم بقلعة حلب ، ثم سيّرهم إلى القاهرة ، وأسكنهم فى الدار التى كانت قلعة الصاحب من قلعة الجبل ، وكساهم ورتب لهم فى كل شهر إثنين وعشرين ألف درهم من معاملة القاهرة ، ولم يحجر عليهم فى النزول إلى القاهرة‏. وأضاف هذا الصبى سليمان بن أرخُن إلى خدمة ولده المقام الجمالى ، فكان يركب معه إذا ركب ، ويظل بين يديه ويبيت إذا شاء عنده ، إلى أن فُقدوا‏.)
3 ـ ( وفي ثالث عشرة‏:‏ وصل الأروام ( العثمانيون ) الهاربون ، وعدتهم خمسة وستون شخصا ، منهم ثمانيهْ من مماليك السلطان، فوسّطوا الثمانية ( المماليك ) تحت المقعد السلطانى بالإصطبل من القلعة بين يدى السلطان‏. ووُسّط طوغان لالا ( خادم ) سليمان بن أرخن، ورجل آخْر لتتمة عشرة‏. وقطعت أيدى سبعة وأربعين رجلا ، وضرب رجل بالمقارع‏. فكانت حادثة شنعة‏. وكان من خبرهم أن طوغان المذكور قصد أن يفرّ‏ بموسى إلى بلاد الروم‏ ( دولة العثمانيين ). ونزل فى غراب قدم فى البحر ، ومعه جماعة ، منهم المماليك الثمانية وعدة من الأروام‏ ( العثمانيين ). ورافقهم فى المركب جماعة من الناس ، ليسوا مما هم فيه في شيء، إنما هم ما بين تاجر وصاحب معيشة ومسافر لغرض من الأغراض‏. وانحدروا فى النيل ليلا يريدون عبور البحر ، فأدركهم الطلب من السلطان ، وقد قاربوا رشيد‏. وكانت بينهم محاربة في المراكب على ظهر النيل ، قُتل فيها عدة‏. وتخلصوا ، حتى عبروا بغرابهم من النيل إلى بحر الملح ، فخرجت عليهم ريح ردتهم ، حتى نزلوا على وحلة ، فلم يقدروا أن يحركوا غرابهم من شدة الوحل ، فأدركهم الطلب وهم كذلك ، فقاتلوا ليدافعوا عن أنفسهم، وقد جاءهم نائب الإسكندرية في جمع موفور‏. فمازالوا يقاتلون حتى غُلبوا وأُخذوا ، فسيقوا في الحديد ، إلى أن نزل من البلاء ما نزل‏. وسجن سليمان بن أرخن مدة ، ثم أفرج عنه. )
تعليق
1 ـ كان ــ ولا يزال ـ من المتعارف عليه بين المستبدين أن يكيد أحدهما للآخر باستضافة المعارضين واستعمالهم ضد الطرف الآخر ، حدث هذا في الماضى ، ويحدث الان ، وسيحدث غدا طالما بقى في العالم نُظُم حكم استبدادية . وفى باب قادم سنعرض لجانبك الصوفى غريم برسباى الهارب منه الى الشرق ، وقد إستغله خصوم ـ بل وحلفاء برسباى ــ ضده ، حسب تقلُّب الأحوال . وأيضا هروب دلغادر وجانبك الصوفى الى مراد الثانى العثمانى في عام 839 . أي تبدلت علاقة العثمانيين والمماليك الى عداء بعد وداد .
2 ـ عانت الأسرة العثمانية الحاكمة أكثر من هذه المشكلة بسبب نظام التوارث في الحكم داخل الأسرة ، وتأثر بها تاريخهم في الحقبة الأولى ، إذ كان الأمراء ( أخوة السلطان ) في تآمرهم يستعينون بآخرين خارج دولتهم ليقفزوا على السلطة، وقد يهرب بعضهم للخارج ليستعين بعدو لبلده ليكون سلطانا . وأخيرا لجأ العثمانيون الى تقليد جعله ( الخليفة العثمانى ) شريعة تحظى بموافقة الكهنوت السُّنّى لديه ، وهو أن يقوم السلطان الجديد بقتل كل أخوته ، وينفرد بالحكم ، ثم يموت تاركا كثيرين من الأبناء ، والذى يتولى السلطنة منهم يقتل أخوته ، وتتكرر القصة . وبها إستمر الحُكم العثمانى قرونا ، بلا انشقاق من داخل الأسرة .
3 ـ ونعطى خلفية تاريخية لهذه الأحداث التي رواها المقريزى :
3 / 1 مراد الثانى ــ المعاصر للسلطان برسباى ـ هو الذى وطّد الدولة العثمانية بعد هزيمتها على يد تيمورلنك ، وقد حكم مرتين ( 824 ك 844 ) ثم ( 849 : 855 ) ، وحاول فتح القسطنطينية فلم يفلح ، واكتفى بالزام الأمبراطور البيزنطى بدفع الجزية ، ثم تمكن ابنه محمد الفاتح من فتحها عام 857 ، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية بدلا من برصا . تقع برصا الآن بين أنقرة والقسطنطينية . وقد فتحها السلطان العثمانى أورخان غازى قبل قرن من هذا الوقت ، ثم صارت عاصمة لهم ، واصبح الحاكم العثمانى يُقال عنه ( صاحب برصا ) في وقت المقريزى .
3 / 2 : مراد الثانى هو الذى أخضع الامارات التركمانية في الأناضول ، وأهمها امارة بنى قرمان التي دخلت طوعا في حكمه بعد تاريخ من العداء. كان الذى يؤرق مراد الثانى هو خروج عمه الشاه زاده مصطفى بن بايزيد ، والذى لجأ الى القسطنطينية ، وكان هذا السبب في حصاره القسطنطينية .
4 ـ ونسترجع ما قاله المقريزى من أن مراد بن كُرشجى صاحب برصا وغيرها من بلاد الروم قبض على أخيه ( أَرْخُن / ارخان ) وسجنه ، وأعمى عينيه بالحديد المحمى ، أو ( كحله ) . في السجن كان يخدمه مملوك له اسمه ( طوغان‏ ) ، أدخل طوغان إلي سيده أرخان جارية إلى السجن ، ، فعاشرها وولدت ولدا ثم بنتا . مات ( أرخان ) في السجن فهرب طوغان بالولد ( سليمان ) والبنت ، الى حلب ( المملوكية ) .
5 ـ نجح ( طوغان ) في مقابلة برسباى حين زار برسباى حلب عام 836 . أنزلهم برسباى مؤقتا بقلعة حلب ، ثم جىء بهم الى قلعة الجبل بالقاهرة . ‏وأكرمهم ، وجعل الأمير العثمانى الصغير تابعا لابنه جمال الدين يوسف المنتظر تعيينه سلطانا فيما بعد.
6 ـ لا نتصور أن حاكما قويا مثل مراد الثانى ليس له عيون وجواسيس داخل وخارج مملكته ، خصوصا وهو مُحاط بأعدائه المحمديين والأوربيين المسيحيين . أي إنه لا بد قد عرف بهرب طوغان خادم أخيه المسجون ، وبأن طوغان هرب بطفلين لأخيه بعد موت أخيه ، وان طوغان لجأ الى ( حلب ) وأنه قابل فيها برسباى ، وان برسباى بعثه بالطفلين الى قلعة الجبل . وأن برسباى سيستغل هذا ضده ردا على استضافة مراد الثانى لجانبك الصوفى . ونتصور أنه أرسل عملاءه الى طوغان يُمنُّونه بالرجوع بالولد والبنت ، وان طوغان استجاب ، واستمال اليه ثمانية من المماليك ، وعدهم ومنّاهم . كل هذا بدون علم برسباى الذى فوجئ بإختفاء ( سليمان بن أَرْخُن بك بن محمد كُرشجى بن عثمان وأخته شاه زاده وجماعته ،) وكان هذا عام 840 . ‏
7 ـ كانوا 65 شخصا في السفينة الى أقلّتهم ، يتزعمهم طوغان ومعه ثمانية من المماليك ، وجواسيس مراد الثانى العثمانى ، وبعض التجار والمسافرين الى آسيا الصغرى . الأمير الطفل المخطوف سليمان لا حول له ولا قوة ولا إختيار ، ولا يعلم إن عمه مراد سيقتله حال العثور عليه .
8 ـ طبقا لخطة مُعدة سلفا ، هرب طوغان وأتباعه المماليك ، وكان في انتظارهم مركب ( غُراب )، ركبه طوغان والأمير والأميرة والمماليك والعثمانيون ، وسمحوا أن يرافقهم بعض الناس من مسافرين عاديين وتُجّار ، ليبدو المركب برىء المظهر ، مجرد مركب مدنى . سار بهم المركب في النيل قاصدا ميناء رشيد على البحر المتوسط .
9 ـ وصل النبأ سريعا الى برسباى ، فبعث حملة سريعة أدركتهم قبيل وصولهم رشيد .وحدثت مواجهة انهزم فيها المماليك مما يدلُّ على قوة الفرقة العثمانية في المركب. نجحوا في الإفلات وركبوا البحر، وكان ممكنا أن يشقوا طريقهم فيه ، ولكن عصفت بهم الريح وألجأتهم الى منطقة وحلة ، وادركتهم حملة بحرية مملوكية أخرى ، هزمتهم ، واعتقلتهم ، وجىء بهم الى برسباى في قلعة الجبل .
10 ـ حكم برسباى بتوسيط طوغان والمماليك الثمانية بين يديه ، وتوسيط شخص آخر معهم لمجرد تكملة العدد الى عشرة.!، وقطع أيدى 47 رجلا ، وضرب آخر بالمقارع ، كانوا من المسافرين بالصدفة في هذا المركب. وسجن الأمير الصغير ثم أفرج عنه ، وما لبث أن مات بعدها . يقول المقريزى في وفيات عام 841 : ( ومات الأمير سليمن بن أورخان بك بن محمد كرشجى بن عثمان. ملك جدة محمد كرشجى بلاد الروم، وقبض عمه مراد بن محمد كرشجى ملك الروم على أبيه أورخن بك، وسجنه حتى مات، وقد ولد سليمان ففر به مملوك أبيه، حتى قدم على السلطان الأشرف برسباى فأكرمه ورباه. ثم فر به مملوك أبيه، يريد بلاد الروم، فقبض عليه برسباى وسجنه، ثم أفرج عنه، وتزوج السلطان بأخته شاه زاده. ).
11 ـ لم تنته حلقات ( هذا المسلسل التركى ). الحلقة القادمة موعدها في شهر شعبان القادم .
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة‏:‏
نزهة السلطان
( في سادس عشرة‏:‏ ركب السلطان من قلعة الجبل وشق القاهرة وخرج من باب القنطرة للصيد‏. وهذه أول ركبة ركبها فى هذه السنة للصيد‏.)
احتكار
( وفيه جمع الأمير جوهر الخازندار الجزارين ، وأشهد عليهم ألا يشتروا اللحم إلا من أغنام السلطان التي تذبح‏. وصار يذبح لهم من الأغنام ما يبيعوا ( يبيعون ) لحمه للناس، ولم يسمع بمثل ذلك‏. ).
تعليق
1 ـ وصل الاحتكار الى شراء وبيع اللحوم . الشراء من عند برسباى وحده ، وبالسعر الذى يحدده ، وهذا تشريع لا سابقة له ، أو بتعبير المقريزى ( ولم يسمع بمثل ذلك‏. ).
2 ـ لم يعترض ابن حجر وبقية الكهنوت السُنّى . ونفس الحال الآن في العسكر المصرى المحتكر ، ومعه كهنوت الأزهر الذى لا يعترض على إحتكار العسكر للموارد المصرية وأرزاق المصريين .
‏شهر جمادى الأولى ، أوله السبت‏:
نزهة السلطان
( وفي هذا الشهر‏:‏ كثر ركوب السلطان للصيد‏. )
رسول من مراد الثانى العثمانى بهدية الى برسباى
( فيه قدمت رسل مراد بن محمد كرشجى بن بايزيد بن عثمان ملك الروم بهدية‏.)
هل لهذا صلة بوجود ابن أخ مراد الثانى في حوزة برسباى ؟
الحج
( وفي سادسه‏:‏ برز الأمير جانبك وإبن المرة إلى ظاهر القاهرة ، وتلاحق بهما جماعة ، إلى أن إستقلوا بالمسير إلى مكة في عاشرة‏. )
وظائف أكابر المجرمين
( وفى ثالث عشرة‏:‏ خلع على دمرداش وأعيد إلى نيابة الوجه البحرى، عوضًا عن حسن بيك التركمانى‏. )
عزل التركمانى اللاجىء الى برسباى ، وتعيين غيره في الضيعة التي يملكها برسباى ، واسمها ( مصر ).
رجوع الحملة على أعراب البحيرة
( وفيه أيضا ، قدم الأمير قرقماس الشعبانى أمير سلاح ، والأمير جانم أمير أخور ، والأمير قراجا شاد الشرابخاناه ، والأمير تمرباى الدوادار الثانى ، من تجريدة البحيرة ، وصحبتهم الأمير حسن بك بن سالم الدكرى التركمانى، وقد عُزل ، ومحمد بن بكار إبن رحاب وقد دخل فى الطاعة‏. ).
تعليق
تصالح زعيم أعراب البحيرة مع المماليك ، وجاء للسلطان يُعلن الطاعة . يتحاربون ويتصالحون فوق أجساد وجثث الفلاحين المصريين المستضعفين في الأرض .في أرضهم .!
عزل قاضى القضاة الحنفى بدر الدين العينى بسبب سرقاته
‏ قال المقريزى : ( وفيه رُفعت يد قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى الحنفى عن وقف الطرحاء من الأموات ، وفُوّض إلى الأمير صفى الدين جوهر الخازندار، ورُسم له أن يسترفع حساب الوقف فْيما مضى. ثم نُقصْ ذلك ، وإستمر بيد قاضى القضاة على العادة‏. )
تعليق :
1 ـ قاضى القضاة الحنفى كان يسرق من الوقف الخاص بالصرف على دفن الموتى الذين لا أقارب لهم. في الأوبئة والمجاعات كان من المعتاد عجز الفقراء عن دفن ذويهم فتمتلىء بجثثهم الطرقات تنتظر من يدفنها . تكفلت بعض الأوقاف الخيرية في دفنهم ، وكانت وقتها بيد قاضى القضاة الحنفى ، العينى ( بدر الدين ) ، وهو الذى تكفل بسرقة ايراده ، وعلم برسباى بذلك فعزله ، واستبدل به اميرا مملوكا رأى أنه أقلّ فسادا من العينى ، لم يتم هذا ، ورجع العينى للوقف يسرقه ( على العادة ).
2 ـ نعيد التأكيد على أن هذا العينى اللّصّ :
2 / 1 : كان أثيرا لدى أكابر المجرمين من السلاطين . كان يدخل على السلطان المؤيد شيخ وقتما يشاء . وكتب العينى ينافقه في كتاب ( السيف المهند في سيرة الملك المؤيد ) ، ومن بعده كتب ينافق السلطان الظاهر ططر ( الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر : ططر ) . وكان نديم السلطان برسباى ، وربما كان برسباى يطمع أن يؤلف العينى كتابا في مناقبه كما فعل مع المؤيد شيخ والظاهر ططر
2 / 2 : كتب في الحديث وفى الفقه والنحو، وهى كالعادة في هذا العصر ليست مؤلفات أصيلة ، بل شروح لكتب السابقين أو تلخيص لها ، ثم شرح التلخيص ، وهو جهد عقيم يؤدى الى لا شىء . من أهمّ ما كتب :
2 / 2 / 1 : ( عُمدة القارى في شرح صيح البخارى ) وفيه ينافس رفيقه ابن حجر قاضى القضاة الشافعى صاحب كتاب ( فتح البارى بشرح صحيح البخارى )
2 / 2 / 2 : ( البناية في شرح الهداية ) في الفقه الحنفى .
2 / 2 / 3 : ( منحة السلوك في شرح تحفة الملوك )
2 / 2 / / ( رمز الحقائق في شرح كنز الدقائق )
2 / 2 / 5 : ( فرائد القلائد في مختصر شرح الفوائد ) في النحو .
2 / 2 / 6 : ( شرح خطبة كتاب فرائد القلائد ) في النحو.
3 : لم يستطع برسباى محاسبة العينى على سرقاته ، لأن العينى وابن حجر وأضرابهما هم الركيزة الدينية التي يستند عليها برسباى في حكمه . يكفى أنه قال عن العينى ينافقه : ( لولا القاضي العينى ما حسُن اسلامنا ، ولا عرفنا كيف تسيّر المملكة ).! هذا هو الإسلام الحسن الذى تعلمه برسباى ( سلطان الإسلام ) من شيخه بدر الدين العينى . وهذا يذكرنا بقول ضابط المخابرات الذى يحكم مصر الآن لشيخ الأزهر : ( يا فضيلة الامام ) .
4 ـ وليس مثل الإسلام دين ظلمه أكابر المجرمين الذين ينتسبون اليه ظلما وعدوانا وبهتانا .
. محاولة فاشلة لإصلاح القضاء السُنّى الفاسد
قال المقريزى : ( وفي سابع عشرينه‏:‏ نودى بأن من كانت له ظلامة فعليه بالوقوف إلى السلطان‏.) ( ورسم أن تجتمع قضاة القضاة الأربع‏ بمجلس السلطان للحكم في يومي الثلاثاء والسبت‏. ثم إنتقض ذلك ولم يعمل به‏. وجلس السلطان للحكم في يوم السبت تاسع عشرينه‏. وحضروا عنده‏. ثم بطل ، وإستمر على عادته من غير حضور القضاة‏. )
تعليق
بسبب سوء سُمعة القُضاة وقُضاة القضاة اضطر برسباى أن يتصدى بنفسه للحكم . وليست هذه سابقة ، مثله فعل سلاطين مماليك سابقون في دولة بنى قلاوون ، ومثله فعل فيما بعد السلطان قايتباى الذى عزل القضاة جميعا ، وتصدّر هو للحكم . وتنتهى النتيجة الى لاشىء . لكن تظل الحقيقة التاريخية مؤكدة ، وهى أن القُضاة السنيين وكبراءهم كانوا الأكثر فسادا من السلاطين ، بحيث يتولى السلطان الحكم بين الناس بدلا منهم .‏
شهر جمادى الآخرة ، أوله يوم الإثنين‏:‏
احتكار
1 ـ ( في ثالثه‏:‏ ركب الأمير تمرباى الدوادار النيل إلى الإسكندرية ، حتى يبيع الفلفل المحمول من جدة على الفرنج الواردين الثغر ببضائعهم ، بعدما عين لذلك القاضى زين الدين عبد الباسط ، ثم أعفى منه‏. ).
تعليق
أمير مملوكى يتوجه بأحمال الفلفل الهندى المجلوب من جدة الى الإسكندرية ليبيعه الى تجار الفرنجة المنتظرين هناك ، والذين كانوا مُجبرين على الشراء بالسعر الذى يحدده برسباى . وكانت معهم بضائع يشتريها منهم السلطان بالسعر الذى يريده السلطان .
2 ـ ( وفي ثامن عشرة‏:‏ قدم الأمير تمرباى الدوادار من الإسكندرية بعدما باع بها ألف حمل من الفلفل ، بحساب مائة دينار الحمل ، وقيمته دون ذلك بكثير. بلغ ثمن ذلك مائة ألف دينار). رجع هذا الأمير تمرباى من الإسكندرية بعد أن باع ألف حمل من الفلفل بالسعر المفروض .
3 ـ ( وفي هذا الشهر‏:‏ رسم أن يشترى من الغلال ثلاثون ألف أردب ، ليخزن، فأخذ الناس في شراء الغلة من القمح والشعير والفول خوفا من غلاء السعر‏. ).
تعليق
فرض برسباى سعرا محددا يجمع به الغلال من الناس ، ليقوم هو بتخزينه ، ثم يبيعه وقت الغلاء . جعل هذا الناس الميسورون يسارعون في شراء الغلال وتخزينها أيضا خوفا من الغلاء . أي أن برسباى يتاجر بأقوات الناس وبآلامهم .. فإذا كان من يملك المال يستطيع شراء الغلال وتخزينها كما يفعل السلطان ، فما هو حال المستضعفين الذين لا يجدون ما ينفقون ؟ انهم المساكين الذين تكرر في القرآن الكريم الأمر باطعامهم والانفاق عليهم ورعايتهم .
‏أخبار أكابر المجرمين
1 ـ ( وفي تاسع عشرة‏:‏ قدم القاضى شرف الدين أبو بكر الأشقر المعروف بابن العجمى كاتب سر حلب ، وقدم من الغد السلطان تقدمة جليلة ، ما بين ثياب حرير ووبر وخيل وبغال‏. ) . جاء لتقديم الولاء مع الهدايا ، من حرير وصوف وخيل وبغال .
حفر خليج الإسكندرية
2 ـ ( وفي عشرينيه‏:‏ رسم للأًمير يشبك حاجب الحجاب والأمير أينال الأجرود الوارد من الرها ، بالتوجه لحفر خليج الإسكندرية‏. ) ( وتوجه القاضى زين الدين عبد الباسط ليرتب الأحوال في ذلك ثم يعود‏. فتوجه في رابع عشرينه ، وسار الوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ أيضا للنظر في أمر الحفير‏. ).
تعليق
تكلفة الحفر كانت على ( أهل النواحى ) .. وليس من جيب برسباى ، وستأتى التفاصيل فيما بعدُ في أخبار شهر رجب .
‏فساد القضاة : تعيين من لا يستحق بالرشوة
قال المقريزى : ( وفي هذا الشهر‏:‏ اتفقت نادرة لم نر ولا سمعنا بمثلها ، وهى إستقرار الأمير صفى الدين جوهر الخازندار فى قضاء دمياط . وكانت العادة أن يفوض قاضى القضاة الشافعى قضاء دمياط لمن يقع اختياره عليه من الفقهاء ، فلما إتصل ولى الدين محمد بن قاسم المحلاوى بالسلطان شره في المال ، وأخذ قضاء عدة بلاد منها دمياط‏. وقرر على من أقامه فى قضاء البلاد التى وليها مالا ، يحمله على سبيل الفريضة في كل شهر أو كل سنة كما هى ضرائب المكوس ، سوى ما يتبع ذلك من هدايا الريف‏. وكان الجاه عريضا ، فما عفّت نوابه ولا كفّت ، فلما ذهب إلى الحجاز نزل عن قضاء دمياط للقاضى جلال الدين عمر والقاضى كمال الدين محمد بن البارزى كاتب السر‏ ، بمبلغ خمسين ألف درهم مصرية‏. فجرى على عادة ابن قاسم في ذلك ، إلى أن عين السلطان القاضى كمال الدين لقضاء دمشق ، سأله الأمير صفى الدين جوهر الخازندار أن ينزل له عن قضاء دمياط ، فلم يجد بدًا من إجابته ونزل له عن ذلك‏. فأمضى قاضى القضاة النزول رغمًا ، وصار أحد نواب الحكم العزيز بدمياط ، فإستناب عنه على العادة في هذا . وإستمر‏. وصار يكتب في مكاتبته إلى نائبه بدمياط ‏"‏ الداعى جوهر الحنفى ‏"‏، كما كان قاضى القضاة يكتب‏. وحمد أهل البلد سيرته بالنسبة لمن كان قد ابتدأ ذلك‏. ولم يعهد فى مثل ذلك نزول ولا ما يشبهه. فلله الأمر‏. )
تعليق
1 ـ يعتبرها المقريزى نادرة لم تحدث من قبل ، وهى تعيين أمير مملوكى عسكرى قاضيا في دمياط . المفترض في القاضي أن يكون فقيها مدنيا ، وليس عسكريا مقاتلا .
2 ـ المقريزى لو عاش عصرنا لفتح فمه على آخره من الاستغراب ، وربما سيرفض إغلاق فمه ، فالعسكر المصرى الخائب الفاشل الذى لا يستطيع الحرب اصبح الآن يحترف الأعمال المدنية ، ويتعين منهم القُضاة والمهندسون والقانونيون والمديرون في المصالح الحكومية ، وتراهم يفتون في كل شيء ، ويفشلون في كل شيء . الضابط الذى يحكم مصر الآن لا مثيل له في السرقة ، في التاريخ المصرى الممتد عبر عشرات القرون . من النوادر أنه يغتصب الشركات التي يمتلكها المدنيون بسلطاته ، ومن يرفض منهم يضعهم في السجن بتهمة تمويل الإرهاب ، ويساومهم حتى يشتروا منه حريتهم . برسباى السلطان المملوكى لم يصل الى هذه العبقرية في الاجرام . تعجز قواميس اللسان العربى عن وصف دناءة وإجرام هذا ( السيسى ).!! هذه شهادتنا للأجيال القادمة على ( السيسى ) مقابل شهادة المقريزى على برسباى .
3 ـ نعود للمقريزى : تعيين قاضى في دمياط هو من سُلطة قاضى القُضاة الشافعى ( ابن حجر في هذا الوقت )، وهو الذى يختار من يشاء ، وبالطبع يعيّن من يدفع له أكثر من الفقهاء .
4 ـ كانت للفقيه ابن قاسم المحلاوى صلة بالسلطان برسباى ، أراد الاستفادة منها فدفع رشوة لبرسباى ليتولى قضاء عدة بلاد منها دمياط . وصار يعيّن نوّابا عنه قُضاة بالرشوة ، أو بتعبير المقريزى : ( وقرر على من أقامه فى قضاء البلاد التى وليها مالا ، يحمله على سبيل الفريضة في كل شهر أو كل سنة ، كما هى ضرائب المكوس ، سوى ما يتبع ذلك من هدايا الريف‏. ). أي يجمعون له الأموال وخيرات الريف من الفلاحين ، بمثل ما يجبى السلطان الجمارك والمكوس من التجار . تمتع هؤلاء القضاة بنفوذ هائل ، استغلُّوه شرّا ، فتطرفوا في السّلب والنهب بلا ضمير ، أو بتعبير المقريزى : ( وكان الجاه عريضا ، فما عفّت نوابه ولا كفّت . )
5 ـ ذهب القاضي ابن قاسم المحلاوى الى الحجاز فباع منصبه للقاضى جلال الدين عمر والقاضى كاتب السّر ابن البارزى مقابل 50 ألف درهم . واستمر العمل بطريقة ابن قاسم المحلاوى في السلب والنهب ، لتعويض الرشوة المدفوعة .
6 ـ ثم عيّن برسباى القاضي ابن البارزى قاضيا لقضاة دمشق ، وكان لا بد أن يترك قضاء دمياط . وطمع الأمير المملوكى جوهر الخازندار في ايراد منصب القضاء في دمياط ، فسأل ابن البارزى أن ينزل له عنه مقابل مال بالطبع ، وحدث . ولم يستطع ابن حجر الاعتراض . وهو لم يعترض من قبل على فساد قضاته وسلبهم الفلاحين المستضعفين لأنه استاذهم في الفساد وظلم العباد .!.
7 ـ بهذا صار الأمير المملوكى جوهر الخازندار نائبا عن قاضى القضاة الشافعى في دمياط . واصبح مُخوّلا بتعيين قُاض عنه هناك بحكم العادة ، مع إقامته في القاهرة . وصار يكتب لنائبه القاضي يصف نفسه ب( الداعى جوهر الحنفى ) مثلما يكتب قاضى القضاة ابن حجر العسقلانى .
8 ـ المفاجأة أن هذا الأمير المملوكى الذى تولى منصب القضاء كان خيرا من سابقيه ، وشكره الناس . هذا مع أن تعيينه هذا المنصب ليس معهودا من قبل . يقول المقريزى ( وحمد أهل البلد سيرته بالنسبة لمن كان قد ابتدأ ذلك‏. ولم يعهد فى مثل ذلك نزول ولا ما يشبهه. فلله الأمر‏. ).هذا يدّلُّ الى أي حد إنحطّ القضاة الفقهاء ، وكبيرهم ابن حجر العسقلانى .!!
9 ـ ولكن مهما بلغ انحطاطه فلا يصل الى أسفل السافلين ، هذا الدرك من الحضيض الذى وصل اليه القضاء في عهد السيسى في هذا العصر .
10 ـ ألا لعنة الله جل وعلا على أكابر المجرمين .!
شهر رجب ، أهل بيوم الثلاثاء‏:‏
تعيين ابن البارزى قاضيا للقضاة في دمشق بلا رشوة بسبب شيوع فساد قاضى دمشق سراج الدين الحمصى .
قال المقريزى : ( وفيه ( أول رجب ) خلع على القاضى كمال الدين محمد ابن القاضى ناصر الدين محمد بن البارزى‏ ، وأعيد إلى قضاء القضاة بدمشق ، عوضا عن سراج الدين عمر الحمصى ، بغير مال يحمله ولا سعى منه‏. وإنما كثرت القالة السيئة في الحمصى ، فعين السلطان عوضه القاضى كمال الدين ثم ولاه‏. ) .
تعليق
نعلم فساد القاضي ابن البارزى من الخبر السابق . ولكن نعرف هنا من هو أكثر منه فسادا وهو القاضي الحمُّصى .
دوران المحمل
( وفي ثالثه‏:‏ أدير محمل الحاج بالقاهرة ومصر ، ولم نعهد فيما تقدم أنه أدير قبل النصف من شهر رجب ، إلا فى هذه الدولة الأشرفية فإنه أدير غير مرة قبل النصف منه‏. )
تعليق
دوران المحمل تشريعى سُنّى محدث ، وهم يملكون تغيير موعده ، وتغيير مسار موكبه ، فهو ( دين ملّاكى ) يملكه أصحابه ، وكبيرهم هو أكبر أكابر المجرمين .
استطالة المماليك الجلبان على المصريين المستضعفين في دوران المحمل .
يقول المقريزى : ( ونْزل بالناس في ليلة إدارته من المماليك السلطانية بلاء كثير ، من صفع أقفية المارة في الشارع، ومن حرق لحاهم بالنار ، وخطف عمائمهم ، إلى غير ذلك مما لا نستجيز ذكره‏.)
تعليق
1 ـ في هذه الشعيرة الدينية السنية ( دوران المحمل ) أُتيح للمماليك الجلبان ممارسة هوايتهم في التطرف في إيذاء المصريين المستضعفين . رجع المماليك الجلبان منتصرين فأرادوا الاحتفال بالنصر ، والتسلية على حساب المصريين . وتنوّع الأذى ، مثل صفع أقفيتهم ، وحرق لحاهم بالنار ، وخطف عمائمهم ، وكان كشف الرأس من أساليب العقوبة والتحقير , ثم يقول المقريزى عبارة موجزة : ( إلى غير ذلك مما لا نستجيز ذكره‏.). وهذا يعنى الاغتصاب للنساء والصبيان ، وكان هذا من المعلوم من دينهم السنى بالضرورة . وعفّ المقريزى عن شرحه والاستفاضة فيه ، مكتفيا بهذا الايجاز المُخلّ .
2 ، تخيل أناسا مسالمين في الشارع يتسلّط عليهم الجنود ، يصفعون أقفيتهم ويحرقون وجوههم ويغتصبون صبيانهم ونساءهم . ويحدث هذا في موكب عام يأخذ شكل طقس دينى ، ويحضره قضاة القضاة وعموم الأكابر من الفقهاء ، يرونه رأى العين ، ولا يجد المستضعفون نصيرا منهم ، بل يتطرف الجنود في الاعتداء متمتعين بموافقة قُضاة القُضاة ، ورئيسهم ابن حجر العسقلانى ، وهو القاضي المؤرخ الذى لم يكتب يعترض على ما كان يشاهده في تاريخه لعصره في كتابه ( إنباء الغُمر بأبناء العُمر ) .
3 ـ علينا أن نتذكر أن المماليك الجلبان كانوا يتصرفون بضوء أخضر من أكبر أكابر المجرمين الذى يسميه المقريزى ( سلطان الإسلام ) والذى تعلم الإسلام من شيخه بدر الدين العينى .
4 ـ وحتى لا نكتفى بلعن الماضى وأكابر مجرميه علينا أن نتذكر أيضا أن أولئك المماليك الجلبان جىء بهم كبارا الى وطن لا ينتمون اليه ، ولكن يمتلكونه ويعتبرون أهله ملكية خاصة لهم . هم ( مماليك غرباء ) ولكنهم يملكون الأحرار المصريين أصحاب البلد ، وهذا تناقض عجيب الشأن .
5 ـ الأعجب أن العسكر المصرى الحاكم الآن ـ والمولود في مصر ـ يتصرف بنفس العقلية . معه تسليح حربى للجيش المحارب ، ويستخدمه ضد المصريين العُزل المسالمين . والويل لمن يقع تحت أيديهم في السجون مكبّلا .. يمارسون عليه إنتصارا أكبر من انتصارت المماليك الجلبان في عصر برسباى . وأيضا يحدث هذا بمباركة شيخ الأزهر وزمرته ، لاعقى أحذية العسكر .
6 ـ عليهم ــ جميعا ــ لعنة الله جل وعلا والملائكة والناس أجمعين .!
وظائف أكابر المجرمين
( ‏ وفيه خُلع على الأمير الوزير غرس الدين خليل ، واستقر أمير الركب. )
تنقلات في الوظائف ودفع أموال
( وفي سابعه‏:‏ توجه جكم خازندار المقام الجمالى وخاله إلى طرابلس ، بإنتقال الأمير الكبير بها‏ ، وهو تمربغا المحمودى إلى الحجوبية الكبرى بها‏. وإنتقال الأمير آق قجا العلاى من الحجوبية إلى الإمرة الكبرى‏. وأن يقوم تمربغا بأربعة آلاف دينار وللمسفر المذكور بألف دينار‏. ورسم لجكم المذكور أن يكون مسفر قاضى القضاة كمال الدين ابن البارزى ، فبعد جهد حتى أخذ منه في يومه ثلاثمائة دينار‏. ولم تجر العادة بمثل ذلك‏. ) .
تعليق
1 ـ انتقل الأمير جكم خال ( ولى العهد ) ( جمال الدين يوسف بن برسباى ) الى طرابلس ( الشام ) تابعا للأمير تمربغا الذى تولى الحاجب الأكبر فيها . وانتقال الأمير آق قجا من الحاجب الأكبر ليتولى كبير الأمراء . ويدفع الأمير تمربغا 4 آلاف دينار لمن يصحبه في سفره .
2 ـ المسفّر أي المصاحب للأمير في سفره ، وياخذ ما يُسمّى الآن بدل سفر . وكان الأمير بجكم هو ( مُسفّر ) قاضى القضاة ابن البارزى ، واستطاع جكم بجهد جهيد أن يحصل منه على 300 دينار عن كل يوم .
تنقلات في الوظائف بدون دفع أموال
1 ـ ( وفي عاشرة‏:‏ خلع على الأمير أينال العلاى الأجرود وإستقر في نْيابة صفد عوضا عن الأمير يونس ، ورسم ليونس أن يقيم بالقدس بطالا . وخلع على الأمير طوخ بن بازق الجكمى رأس نوبة ، ليخرج مسفر الأمير أينال إلى صفد‏. )، أي ليكون مصاحبا للأمير أينال العلاى الأجرود في السفر.
2 ـ ( وفي رابع عشرة‏:‏ أنعم بإقطاع الأمير أينال الأجرود وإمرته على الأمير قراجا شاد الشرابخاناه‏. وإستقر أينال الخازندار أحد الأمراء الطبلخاناه شادا عوضا عن قراجا ، وإستقر على باى الأشرفى الساقى الخاصكى خازندارا عوضا عن أينال‏. )
عودة التركمانى كاشفا للبحيرة
( وفي تاسع عشرة‏:‏ خلع على حسن بيك بن سالم الدكرى التركمانى ، وأعيد إلى كشف البحيرة عوضا عن دمرداش‏. )
تصليح قناطر خربة في الفيوم
( وفي يوم السبت خامسه‏:‏ توجه القاضي زين الدين عبد الباسط لكشف قناطر اللاهون من عمل الفيوم ، وقد خربت‏. )
حفر خليج الإسكندرية وتكلفة حفره على حساب الفلاحين
1 ـ قياس خليج الإسكندرية قبل حفره:
( وفي سادسه‏:‏ قدم الأمير يشبك الحاجب والصاحب كريم الدين والأمير أينال الأجرود ، وقد قاسوا خليج الإسكندرية ، فإذا عرضه عاشرة قصبات فى طول ثلاث وعشرين ألف قصبة ، منها ستة آلاف وأربعمائة قصبة ، تحتاج إلى أن تحفر ، وبقيتها تحتاج إلى الإصلاح‏. )
2 ـ تعيين أمير مملوكى ليتولى الاشراف على الحفر :
( وخلع على الأمير أقبغت التمرازى ، ليلى حفر خليج الإسكندرية‏. )
3 ـ تحديد تكلفة الحفر فريضة على أهالى الغربية والمنوفية والبحيرة :
( وفي هذا الشهر‏:‏ جبى ما فرض على نواحى الغربية والمنوفية والبحيرة برسم حفر خليج الإسكندرية ، وهو عبارة كل ألف دينار نصف راجل ، يؤخذ عنه مبلغ ألفين وخمسمائة درهم ، من معاملة القاهرة‏. )
4 ـ عدد العمال وأجورهم :( وندب للحفر ثلاثمائة رجل ، تصرف أجورهم من هذا المتحصل . )
5 ـ تجهيز أدوات الحفر :
(وعُمل بالميدان تحت القلعة بين يدى السلطان من الجراريف والمقلقلات مائتي قطعة وعشر قطع‏. وعُيّن من البقر ستمائهْ وعشرين رأسًا‏. وجهز ذلك لحفر الخليج المذكور‏. )
تعليق
هدم كنيسة في شبرا الخيمة ونهبها واحراق عظام رهبانها
قال المقريزى : ( وفي سابع عشرينه‏:‏ ركب الأمير جانبك أستادار إلى ناحية شبرا الخيام من ضواحى القاهرة، وهدم كنيسة النصارى بها ، ونُهبت حواصلها ، وأُحرقت عظام رمم كانت بها ، يزعمون أنها رمم شهداء منهم‏. ).
تعليق
1 ـ المقريزى لا يحتجُّ على هدم الكنيسة ، بل يصف ما تبقى من جثث الرهبان بأنها ( رمم ) وهذا وصف صحيح لكل جُثّة بشرية ، وهو ينطبق أيضا على ( رمم ) الأولياء المقدسين للمحمديين . ويقول عن تلك الكنيسة وبقايا الجثث فيها : ( يزعمون أنها رمم شهداء منهم‏. )، فهل يجرُؤ أن يقول هذا عن القبور المقدسة لدى المحمديين ؟ وهل يرضى بهدم وحرق مساجد وقبور مقدسة للمحمديين ونهب حواصلها وحرق رفات المقبورين فيها ؟ اضطهاد اهل الكتاب من المعلوم من الدين بالضرورة في أديان المحمديين الأرضية ، خلافا لدين الإسلام العظيم .
2 ـ في الشريعة الإسلامية حصانة لبيوت العبادة من مساجد وبيع وصوامع لأهل الكتاب وصلوات لأى طائفة دينية ، بغضّ النظر عن معتقد أصحابها إن كان متفقا أو مخالفا للقرآن الكريم . هذا يقع ضمن تشريع الحرية الدينية المطلقة في الدولة الإسلامية ، وهو بذلك مقصد من مقاصد تشريع القتال في الإسلام . قال جل وعلا : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج )
شهر شعبان ، أهل بيوم الخميس‏:
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( في ثانيه توجه قاضى القضاة كمال الدين محمد بن البارزى الى محل ولايته بدمشق . )
2 ـ ( ‏ وفي ثالثه‏:‏ خلع على القاضى معين الدين عبد اللطف أحد موقعى الدست وشيخ خانكاة قوصون‏ . وإستقر في كتابة السر بحلب عوضًا عن والده القاضى شرف الدين أبى بكر الأشقر المعروف بإبن العجمى الحلبى .)
3 ـ ( وخلع على القاضى شرف الدين المذكور ليكون نائب كاتب السر على ما كان عليه، قبل إنتقاله إلى كتابة السر بحلب‏. )
4 ـ ( وأُنعم على الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك ، بتقدمة أرغون شاه وإقطاعه بدمشق‏. )
5 ـ ( وأضيف إلى الأمير طوغان العثمانى نائب القدس أستادارية الشام ، والتحدث في الأغوار عوضًا عن أرغون شاه‏. )
بقية المسلسل التركى
( وفي يوم الأربعاء رابع عشرة‏:‏ نودى بإحتماع الجماعة التى قطعت أيديهم عندما أخذوا من الغراب ليفرق فيهم السلطان مالًا‏. فلما إجتمعوا جىء بهم ليأخذوا صدقات السلطان، حتى صاروا بقلعة الجبل قُبض عليهم ، وساقهم أعوان الظلمة بأسوأ حال‏. وأنزلوا في مركب ليسيروا إلى بلاد الروم ، وقد جعل كل إثنين منهم في قُرمة خشب ، فكان هذا من شنيع الحوادث ، ولو شاء ربك ما فعلوه‏. ).
تعليق :
1 ـ خدع السلطان أولئك الذين قطّع أيديهم . دعاهم لأخذ الصدقات ، فلما جاءوا عنده الى القلعة إعتقلهم أعوانه وكبّلوهم بالأغلال ، كل إثنين منهم في قُرمة خشب وأرسلوهم بهذا الشكل الى بلادهم العثمانية . تخيل معاناة شخص مقطوع اليد في هذا التكبيل .!! السبب : هو أن برسباى أراد الانتقام من السلطان العثمانى مراد الثانى فأوقع الانتقام بهؤلاء المساكين .
2 ـ تعليق المقريزى : (، فكان هذا من شنيع الحوادث ، ولو شاء ربك ما فعلوه‏. ). عادة المقريزى أن ينسب ظلم البشر لرب العزة جل وعلا ناسيا حرية البشر في الطاعة أو المعصية ، وأن الله يزيد المهتدى هُدى ويزيد الضال ضلالا ، ثم تكون مسئوليتهم عن هذه الحرية يوم الحساب .
شهر رمضان ، أهل بيوم الجمعة‏: 840
( وفي هذا الشهر‏:‏ كثر عبث المماليك السلطانية بالناس في الليل‏. )
تعليق
عبارة مُقتضبة تعنى هجوم المماليك السلطانية ( الجلبان ) على الناس ليلا في بيوتهم . ليس هذا لتبادل الحديث والسّمر والأنس ، بل هو للإغتصاب والسلب والنهب . وهذا هو احتفالهم بشهر رمضان . نتذكر أن أكابر المجرمين مع سلطانهم يحضرون ميعاد البخارى يتلونه كما يتلون القرآن الكريم بينما يتسلى صغار المماليك الأوباش بالسطو على بيوت المستضعفين يسلبون ويغتصبون النساء والصبيان .! ‏
شهر شوال أوله الأحد‏:‏
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ ( في خامسه‏:‏ خُلع على قاضى القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى ، وأعيد إلى قضاة القضاة عوضًا عن الحافظ شهاب أحمد بن حجر‏. )
تعليق
ضاق برسباى بفساد ابن حجر العسقلانى فعزله ، وعيّن بدلا منه صالح ابن ( شيخ الإسلام ) سراج الدين البلقينى الذى كان من مشاهير القضاة في عصره .
2 ـ ( وفي سادسه‏:‏ خُلع على القاضى نور الدين عمر بن مفلح ناظر المارستان ، وإستقر وكيل بيت المال ، عوضًا عن شمس الدين محمد بن يوسف بن صالح الحلاوى بعد موته‏. ). ناظر المستشفى ( المارستان ) ينتقل وكيلا لبيت المال .
المحمل
1 ـ ( وفي تاسع عشرة‏:‏ خرج محمل الحاج ، صحبة الأمير غرس الدين خليل‏. )
2 ـ ( ورحل من بركة الحاج في ثالث عشرينه ، بعدما رحل الركب الأول في أمسه صحبة الأمير ناصر الدين محمد ولد الأمير أركماس‏. ).
تعليق
( بركة الحاج ) هي المحطة التي تبدأ منها رحلة المحمل ، واليها تأتى رحلة الحُجّاج القادمة . وكانت تقع شرق القاهرة . وكان سفر الحجاج يتم بمراحل .
أخبار جدة في هذا الشهر
1 ـ ( وفي هذا الشهر‏:‏ نزلت صاعقّة بجدة بندر مكة فأتلفت شيئا كثيرا ، وهلك نحو المائة نفس‏.)
2 ـ ( وفيه كانت بجدة أيضًا وقعة بين القواد والأمير جانبك قتل فيها وجرح عدة‏. ثم قدم الشريف بركات بن حسن بن عجلان ، فساس الأمر حتى سكنت الفتنة‏. ). تقاتل بين المماليك في جدة ، أخمده بركات .
شهر ذي القعدة ، أوله الثلاثاء
‏أخبار أكابر المجرمين
1 ـ ( فيه ( أول ذي القعدة ) قدم سيف الأمير تمرباى الدوادار بحلب، وسيف الأمير أقباى نائب الإسكندرية وقد ماتا‏. )
2 ـ ( تقررت ولاية زين الدين عبد الرحمن ابن كاتب السر علم الدين داود بن الكويز ، أحد دوادارية السلطان نيابة الإسكندرية ، وخلع عليه في ثانيه‏. )
‏شهر ذى الحجة ، أوله الخميس‏:
النيل
( في حادى عشرة الموافق له سابع عشرين بوؤنة‏:‏ نودى على النيل بزيادة ثلاثة أصابع .وإستقر الماء القديم على خمسة أذرع وإثنين وعشرين أصبعا ، وتسميها الناس اليوم القاعدة‏. وإستمرت زيادة النيل ولله الحمد‏. )
‏وظائف أكابر المجرمين
تولى صلاح الدين ( ابن نصر الله ) منصب كاتب السّر للسلطان برسباى بدلا من محب الدين ( ابن الأشقر )
1 ـ ( وفي يوم الخميس ثاني عشرينه‏:‏ خلع على الأمير صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه ، وإستقر كاتب السر عوضًا عن شيخ الشيوخ محب الدين محمد بن شرف الدين الأشقر ، مضافًا لما بيده من حسبة القاهرة ونظر دار الضرب ونظر الأوقاف ومنادمة السلطان ، فنزل في موكب جليل ، وقد لبس العمامة المدورة والفرجية هيئة أرباب الأقلام ، فسُرّ الناس به . )
تعليق
ابن نصر الله هذا كان يتولى محتسبا للقاهرة ، وناظرا ( للضرب ) أي ( سكّ العُملة ) ، وناظرا للأوقاف ، ونديما للسلطان . ثم أضاف اليه برسباى أهم وظيفة : كاتب السّر. واقترن هذا التعيين بتكريمه بموكب ( جليل )
2 ـ ويضيف المقريزى معلومات عن ابن نصر الله ، يقول عنه :
( وكان من خبره ، أنه نشاً من صغره بزى الأجناد ، وبرع في الحساب وكتب الخط المنسوب وصار أحد الحجاب في الأيام الناصرية فرج بن برقوق‏. وتقلب مع والده في مباشرة نظر الجيش ونظر الخاص والوزارة‏. وشُكرت مباشرته لذلك‏ ، مما طبع عليه من لين الجانب وطيب الكلام وبشاشة الوجه وحسن السياسة، فصار في الأيام المؤيدية شيخ من جلة الأمراء ، وولى أستادارية السلطان فى الأيام الظاهرية ططر وملك الأمراء‏. ثم عُزل عن ذلك ، وأُعيد إليه في الأيام الأشرفية برسباى. وكان ما كان من مصادرته ومصادرة والده الصاحب بدر الدين على مال كبير، أُخذ منهما ، حتى ذهب مالهما. إلا أنه لم يمسهما بحمد الله سوء ولا أُهينا فلزما دارهما عدة سنين‏. ثم تنبّه لهما الإقبال ، فولى الحسبة ، ومازال يترقى ، حتى عيّنه السلطان لمنادمته بعد ابن قاسم بن المحلاوى ، وصار يبيت عنده . وشُكرت خصاله ، و لم يسلك من الطمع وأخذ الأموال من الناس ما سلكه غيره ، بل عفّ وكفّ وأفضل وزاد في الأفضال ، إلى أن سعى بعض الناس في كتابة السر بمال كبير جدًا وأرجف بولايته ، فاقتضى رأى السلطان ولاية الأمير صلاح الدين وعرض عليه ذلك ليلا ، وهو مقيم عنده على عادته ، فاستعفى من ذلك، فلم يعفه وصمم عليه ، ورسم بتجهيز التشريف له ثم أصبح فخلع عليه وأقره على ما بيده‏. وإستمر به في منادمته والمبيت عنده ، فضبط أمره وصار يكتب المهمات السلطانية بخطه بين يدى السلطان ، لما هو عليه من قوة الكتابة وجودتها ومعرفة المصطلح ، والدربة بمعاشرة الملوك وتدبير الدول ومقالبة الأحوال‏. فتميز بذلك عمن تقدمه من كتاب السر بعد ابن فضل الله ، فإنهم منذ عهد فتح اللّه صارت المهمات السلطانية إنما يتولى كتابتها الموقعونْ بإملاء كاتب السر ، حتى باشر هو فاستبد بالكتابة ، وحجب كل أحد عن الاطلاع على أحوال المملكة بحسن سياسته وتمام معرفته‏. )
تعليق
1 ـ كان في بدايته يرتدى زىّ الأجناد ، وذلك هو السبب في تلقيبه بالأمير . وبعض المدنيين العاملين في المناصب الديوانية الخاصة بالجيش يحصلون على لقب ( أمير ). ولقد نشأ في ظلّ أبيه الذى تولى نظارة الجيش و( الخاصّ ) أي ( الأموال لخاصة بالسلطان ، مع الوزارة . وتعلّم أصول الكتابة الديوانية ، وتهذّب بأخلاق لم تكن شائعة في عصره ، فحاز على اعجاب المقريزى ، فوصفه ب ( من لين الجانب وطيب الكلام وبشاشة الوجه وحسن السياسة، ) ( وشُكرت خصاله ، و لم يسلك من الطمع وأخذ الأموال من الناس ما سلكه غيره ، بل عفّ وكفّ وأفضل وزاد في الأفضال ).
2 ـ تقلّب مع أبيه في الوظائف قبل سلطنة برسباى ، وتعرّضا للعزل ومصادرة المال ، ولكن دون إهانة أو تعذيب . واعتكفا بعيدا في سكون ، ثم تولى الحسبة وترقى في سلطنة برسباى حتى جعله نديما له . ثم عينه برسباى كاتبا للسّرّ .
3 ـ تميز ابن نصر الله بتفوقه في الكتابة الديوانية ، ولم يكن هذا معهودا في وقته . وقتها كان كُتّاب السّر دون المستوى المطلوب ، فكانوا يحتاجون لمساعدة من أعوانهم ، فيعرف الأعوان مضمون المكتوب ، وهذا لا يجوز فيمن يتولى منصب ( كاتب السّر ) أي سكرتير السلطان وكاتم أسراره . اختلف الوضع بتولى ابن نصر الله هذا المنصب . فكان يكتب بنفسه ، ولم يكن محتاجا لمن يساعده . يقول عنه المقريزى : ( وصار يكتب المهمات السلطانية بخطه بين يدى السلطان ، لما هو عليه من قوة الكتابة وجودتها ومعرفة المصطلح ، والدربة بمعاشرة الملوك وتدبير الدول ومقالبة الأحوال‏. فتميز بذلك عمن تقدمه من كتاب السر بعد ابن فضل الله ، فإنهم منذ عهد فتح اللّه صارت المهمات السلطانية إنما يتولى كتابتها الموقعونْ بإملاء كاتب السر ، حتى باشر هو فاستبد بالكتابة ، وحجب كل أحد عن الاطلاع على أحوال المملكة بحسن سياسته وتمام معرفته‏. )
4 ـ كانت للعصر المملوكى مصطلحاته الرسمية الأجنبية، والتي فرضها المماليك الغرباء ، وتميّز بهذا العصر المملوكى عن العصور السابقة . ونرى نماذج منها فيما ننقله عن المقريزى ، ولسنا في مجال شرحها . ولم يقتصر الأمر على هذا ، بل كانت هناك صيغ رسمية للمراسلات السلطانية مع الأمراء في الداخل ومع الحُكّام في الخارج . وكل منها مختلف في الخطاب وفى ألقاب التشريف . ولا بد لمن يتولى منصب كاتب السّر أن يكون ضليعا في هذا الفنّ ، وتأسّس له ما يعرف بديوان ( الانشاء ). أكثر من هذا لا بد أن تكون لديه ثقافة متخصّصة تاريخية وجغرافية يستعين بها في صياغة المراسلات الرسمية .
5 ـ والمقريزى يشير في عجلة الى ابن فضل الله العُمرى، أهم كُتاب السّر في العصر المملوكى ، يقول عن ابن نصر الله ( فتميز بذلك عمن تقدمه من كتاب السر بعد ابن فضل الله ). وهو مؤلف أشهر كتاب في هذا المجال ، وهو ( التعريف بالمصطلح الشريف ) . وقد قال المقريزى عن ابن فضل العُمرى في تاريخ السلوك في وفيات عام ( 749 ) : ( وتوفي كاتب السر بدمشق شهاب الدين أحمد بن محيى الدين بن فضل الله بن علي العمري، في تاسع ذي الحجة بدمشق؛ ومولده بها في ثالث شوال سنة سبعمائة. عرف الفقه على مذهب الشافعي، ودرس العربية؛ وبرع في الإنشاء والتاريخ، وقال الشعر الجيد، وصنف عدة كتب في التاريخ والأدب ، وباشر كتابة السر بديار مصر عن أبيه في حياته، ثم استقل في كتابة السر بدمشق . )
وهناك كاتب آخر مصري مشهور ، وهو أكثر علما من ابن فضل الله العمرى ، هو القلقشندى ، ويسميه المقريزى ( القرقشندى ) ، وله موسوعته الكبرى : ( صُبح الأعشى في صناعة الانشا ) هو الأكثر شهرة . وقد مات عام 821 . قال عنه المقريزى : ( ومات بالقاهرة شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن أحمد القرقشندي الشافعي ، في ليلة السبت عاشر جمادى الآخرة، عن خمس وستين سنة، وقد كتب في الإنشاء، وبرع في العربية، وشارك في الفقه، وناب في الحكم، وعرف الفرائض ، ونظم ونثر. وصنّف كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا، جمع فيه جمعاً كبيراً مفيداً، وكتب في الفقه وغيره. ) .
الحج
( ‏ وفي ثامن عشرينه‏:‏ قدم مبشرو الحاج‏. )
الوباء لم يمنع تقاتل المحمديين بعضهم بعضا ، كما هو الان مع كورونا .
يقول المقريزى : ( وفي هذه السنة‏:‏ شنع الموات بصعدة وصنعاء من بلاد اليمن ، بحيث ورد إلى مكة كتاب موثوق به ، أنه مات بصعدة وصنعاء وأعمالهما زيادة على ثمانين ألف إنسان‏. ).






الفصل السابع عشر : الحياة في ظل تطبيق الشريعة السنية عام 841
قراءة في تاريخ السلوك للمقريزى / المقريزى شاهدا على العصر
قال المقريزى في التأريخ لسنة 841
ملاحظة
هذا العام يتميّز بثلاثة أحداث : وباء الطاعون ، مرض برسباى ووفاته ، ثم تعيين ابنه يوسف سلطانا. هذا بالإضافة الى أنباء أخرى . ونتعرض لها بالتفصيل والتحليل .
يقول المقريزى : ( سنة إحدى وأربعين وثمانمائة ):
( شهر المحرم، أوله يوم السبت )
المماليك الجلبان ( السلطانية ) ينهبون بيوت ناظر الجيش والاستادار والوزير
( في ليلة الأحد تاسعه: بلغ القاضى زين عبد الباسط، والوزير كريم الدين، وسعد الدين ناظر الخاص، أن المماليك السلطانية على عزم نهب دورهم، فوزعوا ما عندهم، واختفوا. ثم صعدوا إلى الخدمة السلطانية على تخوف، وعادوا إلى دورهم، والإرجاف مستمر إلى يوم الأحد سادس عشرة، فنزل عدة من المماليك، فاقتحموا دار عبد الباسط ودار الأمير جانبك أستادار ودار الوزير، ونهبوا ما وجدوا فيها. )
تعليق
1 ـ كالعادة ، المماليك الجلبان ( المماليك السلطانية ( أرفع طبقة ) يهجمون على قصور أعيان الدولة ويسلبون ما فيها . وطبعا هذا برضى السلطان برسباى ( وهو أيضا مملوك جلبى ). ونفهم بين السطور رغبة برسباى في إبتزازهم .
2 ـ إذا كان هذا حال كبار رجال الدولة ، فما هو حال المستضعفين من المصريين ؟
الحج
قدوم الركب الأول من الحجاج
( وفي ثانى عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج. وقدم من الغد المحمل ببقية الحاج. )
صفر
وفاء النيل
( وفي رابعة الموافق له رابع عشرى مسرى: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعا، فركب المقام الجمالى يوسف ابن السلطان حتى خلق عمود المقياس بين يديه، ثم فتح خليج القاهرة على العادة، وعاد إلى القلعة. ).
تعليق
1 ـ هذا (المقام الجمالى يوسف ابن السلطان )، سيصير في نهاية هذا العام هو السلطان ( مؤقتا ) الى أن يعزله جقمق ويتولى مكانه . كان هذا الغدر شريعة سنية معتادة قبل برسباى ، وسيكون بعد جقمق .
2 ـ يتوالى المسلسل المعتاد في تآمر أكابر المجرمين بأنفسهم ، قال جل وعلا : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) الانعام ). مسلسل يتكرر ، وهو معلوم بالتكرار وبالعادة ، ومع ذلك فأكابر المجرمين لا يشعرون ، لا يشعرون في التاريخ الماضى ، ولا يشعرون في التاريخ الحاضر ، ولن يشعروا في المستقبل . فالمستبد يفقد عقله وهو على كرسى العرش ، يظن نفسه خالدا فيه ، ولو اقترب منه الموت يحرص على توريثه لابنه ، كما يورّث الشخص بيتا أو ضيعة . المستبد يرى إنه يملك الأرض ومن عليها ، ويتصرّف مع الناس على هذا الأساس ، ويريد نقل ملكية الأرض والناس لابنه . ينسى أنها لو دامت لغيره ما وصلت اليه .! يؤيده أكابر المجرمين من رجال الدين .
نائب الشام يرسل هداياه الى السلطان برسباى
( وفي سابعه: قدمت تقدمة الأمير أينال الجكمى نائب الشام، وهى ذهب عشرة آلاف دينار، وخيول مائتا فرس، منها ثلاثة أرؤس بسروج ذهب وكنابيش ذهب، وسمور عشرة أبدان، ووشق ( الوشق هو فراء من جلد الفهد ) عشرة أبدان، وقاقم عشرة أبدان، وسنجاب مائة بدن، وثياب بعلبكى خمسمائة ثوب، وأقواس حلقة مائة قوس، وجمال بخاتى ثلاث قطر، وجمال عراب ثلاثمائة جمل، وصوف مربع مائة ثوب، ذات ألوان. )
تعليق
1 ـ إينال الجكمى نائب برسباى في حكم الشام بعث ب ( تقدمة ) الى سيده برسباى ، هي بعض ما سلبه من أهالى الشام. تعبير( تقدمة وتقادم ) يعنى في العصر المملوكى الهدايا الإجبارية التي ( يقدمها ) الأمراء المماليك للسلطان.
2 ـ هي هدايا من ذهب وأنواع من الفراء باهظ الثمن ، ممّا كان يألفه المماليك في أوطانهم قبل مجيئهم الى مصر ، وثياب ثمينة ، مع أنعام .
استمرار قاضى مكة في منصبه بعد أن دفع رشوة للسلطان برسباى
( وفي يوم الإثنين سادس عشرة: خلع على جلال الدين أبى السعادات محمد بن ظهيرة قاضى مكة خلعة الإستمرار. وكان قد قدم من مكة صحبة الحاج بطلب. وأرجف بعزله، فقام بأمره القاضى صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر، حتى رضى عنه السلطان، وأقره على قضاء مكة، على مال قام به للسلطان، وهو نحو خمسمائة دينار، فكان ذلك من المنكرات التى لم ندرك مثلها قبل هذه الدولة. )
تعليق
1 ـ أشاع السلطان برسباى عزمه على عزل قاضى مكة ليستنزف أمواله . وتوسط القاضى كاتب السّر ( سكرتير السلطان ) حتى رضى عنه السلطان وأقره في وظيفته قاضيا في مكة بعد أن دفع رشوة للسلطان . وطبعا سيقوم قاضى مكة بسلب اضعافها من أهل مكة . أي إن برسباى إبتزّ قاضى مكة وإستقدمه ليدفع له الرشوة ، وهذا بتدبير سكرتير السلطان ( كاتب السر ) القاضي إبن نصر ..هنا تعاون ليس على البرّ والتقوى ولكن على الإثم والعدوان ، أبطاله السلطان والقضاة . والمظلومون هم الشعب الذى يدفع إتاوات للقاضى والسلطان .
2 ـ المقريزى يعتبر هذا من المنكرات غير المسبوقة ، مع إن دفع الرشوة من المعلوم من دينهم السُنّى بالضرورة . ومع هذا يرى المقريزى أن برسباى هو سلطان الإسلام .
3 ـ ويا أيها الإسلام العظيم : كم من الجرائم يرتكبونها باسمك .!
النيل
( وفي يوم الخميس سادس عشرينه: كان نوروز القبط. بمصر، وهو أول توت رأس سنتهم، فنودى على النيل بزيادة أصبعين لتتمة تسعة عشر ذراعًا وأصبع من عشرين ذراعا. وهذا في زيادة النيل مما يندر وقوعه، وللّه الحمد. )
وباء في حلب
( وفي هذا الشهر: والذى قبله كثر الوباء بحلب وأعمالها، حتى تجاوزت عدة الأموات. بمدينة حلب في اليوم مائة. )
تعليق
1 ـ هنا بداية الوباء ، ومن ( حلب ) سينتقل ، واثق الخطوة يمشى ملكا .
2 ـ جاءت الأخبار للمقريزى بكثرة الوباء في حلب وما حولها . ومن الطبيعى أن يمتد الى ( حماة ) . عرف بها السلطان ولم يهتم .!.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الثلاثاء:
وظائف أكابر المجرمين
1 ـ القاضي محمد إبن قاضى القضاة ابن حجر العسقلانى يتولى بالواسطة والمحسوبية ناظرا للجامع الطولونى :
( فيه ( أول ربيع الأول ) إستقر القاضى بدر الدين محمد ابن قاضى القضاة شيخ الإسلام شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر في نظر الجامع الطولونى ونظر المدرسة بين القصرين، نيابة عن قاضى القضاة علم الدين صالح بن البلقينى، بسؤال القاضى زين الدين عبد الباسط له في ذلك، فأذن له حتى إستنابه عنه. )
تعليق
1 . شهاب الدين إبن حجر ( أمير المؤمنين في الحديث ) لم يكن فقط يتولى القضاء بالرشوة بل كان أيضا يستخدم نفوذه لصالح أبنائه . إبنه بدر الدين اصبح نائبا، أي قاضيا يتبع قاضى القضاة الشافعى . وابن حجر كان اشهر من ولى منصب قاضى القضاة الشافعية . وإستخدم نفوذه أيضا في تعيين نفس الإبن ناظرا ( أي مديرا ) للجامع الطولونى ( جامع أحمد بن طولون ) وناظرا لمدرسة بين القصرين ، وتوسط في ذلك إثنان من كبار القضاة والفقهاء من زملاء ابن حجر . كانت الوظائف الكبرى ( دينية وديوانية ) تكون بالشراء ، وبالوراثة أيضا . ويتولى المنصب من ليس مؤهلا له سوى أن معه مالا ، أو كان ابنا لأحد الشيوخ ، أو هما معا .
2 ـ نفس الفساد العسكرى المملوكى نراه في دولة العسكر المصرى الذى يحتل مصر الآن . هم في مصر الآن ( أسياد البلد ) أي أسياد المصريين ، ,اصبح هذا واقعا ملموسا ومفروضا . وهم يتداولون المناصب في عائلاتهم ، بلا عبرة للكفاءة ، وبعض العباقرة من الشباب استبعدوه من التعيين في سلك النيابة فانتحر . أصبحت المناصب بالاختيار ، ولا يمكن أن يصل اليها أبناء المستضعفين مهما بلغت نباهتهم وكفاءتهم وتميّزُهم .
2 ـ ( وفي خامسه: خلع الأمير غرس الدين خليل الذى ولى الوزارة بعد نيابة الإسكندرية، و إستقر في نيابة الكرك ، وسار بطلبه وأثقاله من ساعته. ) .
تعليق
كان غرس الدين خليل نائبا للسلطان في الإسكندرية ثم اصبح وزيرا ، ثم وزيرا سابقا ، واصبح نائبا ( واليا ) للسلطان في حكم ( الكرك ) وهى الأردن الآن . المستفيد الأكبر من هذه التنقلات هو برسباى لأنه يأخذ رشوة في كل حركة تنقلات أو حركة تعيينات .
3 ـ ( وفيه توجه قاضى مكة الجلال أبو السعادات يريد مكة. ).
تعليق
القاضي ( المحترم ) بعد أن دفع الرشوة للسلطان عاد لمنصبه في سلام وأمان . غيره كان يصادره السلطان ويعذّبه ليستخلص منه الأموال التي سرقها . وبعد أن يدفع المعلوم يرفع عنه العذاب ، وربما يعود الى منصبه بعد حفل تكريم .!
4 ـ جمال الدين ابن كاتب جكم يرث منصب أخيه المتوفى سعد الدين ناظرا للخاص ( أملاك السلطان ) :
( وفي يوم السبت تاسع عشرة: خلع على الصاحب جمال الدين يوسف بن كريم الدين عبد الكريم بن بركة المعروف بإبن كاتب جكم ،وإستقر في نظر الخاص، بعد موت أخيه سعد الدين إبراهيم. )
تعليق
بعد موت ( ناظر الخاص ) أي المشرف على ممتلكات السلطان الشخصية إشترى أخوه المنصب .
النيل
1 ـ ( وفي يوم السبت ثاني عشرة: وهو يوم عيد الصليب عند قبط مصر نودى على النيل بزيادة أصبعين لتتمة عشرين ذراعًا وثمانية أصابع. هذا وقد فتحت السدود الصليبية في يوم الجمعة أمسه. وكان هذا أيضًا من نوادر زيادات النيل. ومازال يزيد حتى إنتهت زيادته في سادس عشرة، الموافق له حادى عشرين بابه، إلى عشرين ذراعًا وثلاثة عشر أصبعًا. )
2 ـ ( وفي سادس عشرينه وهو أول بابة: بلغ ماء النيل عشرين ذراعًا وخمسة عشر أصبعًا . ). قياس النيل كل عشرة أيام غالبا ,
شهر ربيع الآخر، أوله يوم الأربعاء:
النيل
( في هذا الشهر: ثبت ماء النيل إلى نحو النصف من شهر بابة فكمل رى الأراضى والحمد للّه . ثم إنحط ،( أي هبط ) فضرع الناس في الزرع. )
اكتمال جامع برسباى في سرياقوس ( الخانكة الآن )
( وفيه كملت عمارة الجامع الذى أنشأه السلطان بناحية خانكاة سرياقوس على الدرب المسلوك، وذرعه خمسون ذراعًا في خمسين ذراعًا. ورتب فيه إماما للصلوات الخمس، وخطيبًا وقراء يتناوبون القراءة في مصاحف .).
تعليق
1 ـ هنا التعاون على الإثم والعدوان بين أكابر المجرمين من المستبدين وأكابر المجرمين من رجال الدين . السلطان برسباى يجمع المال السُّحت ويبنى به هذا المسجد ، يديره له رجال الدين ، يقومون بالدعاء له ليزداد إثما ، فقد إشترى الجنة بأمواله الحرام . من المال السُّحت كان السلاطين المماليك يبنون المساجد والعمائر الدينية ويوظفون فيها دروسا ومدرسين في علوم دينهم الأرضى من تفسير وحديث وتصوف ، ويقوم الصوفية بالدعاء للسلطان ..
2 ـ هل يذكّرنا هذا بمسجد الفتاح العليم للسيسى ومساجد أخرى لأكابر المجرمين في عصرنا اللعين ؟
3 ـ لمجرد التذكير لم يقم السلطان بأى جهد لمواجهة الطاعون . إذ واصل زحفه فوصل حماة . قال المقريزى : ( وفي هذا الشهر( ربيع الثانى ) : شنع الوباء بحماة، حتى تجاوزت عدة الأموات عندهم في كل يوم ثلاثمائة إنسان، ولم يعهدوا مثل ذلك في هذه الأزمنة )
وباء في حماة
( وفي هذا الشهر: والذى قبله فشا الموت في الناس ، بمدينة حماة وأعمالها، حتى تجاوز عدة من يموت في كل يوم مائة وخمسين إنسانًا. )
تعليق
المقريزى يتابع مسيرة الطاعون وانتقاله من حلب الى حماه ، واثق الخطوة يمشى ملكا.!!
حروب وحرائق في اليمن جهادا في سبيل الشيطان كما هي العادة :
( وقدم الخبر بأن عدن من بلاد اليمن إحترقت بأًجمعها، وأحرقت دار الملك بزبيد مع جانب من المدينة، وأن الملك الظاهر يحيى ملك اليمن كانت بينه وبين المعازبة من عرب اليمن وقعة، وقتل فيها عدة من عسكره، ونجا بنفسه إلى تعز. وأن العرب اليمانية إنتقضت عليه من باب عدن إلى الشحر، وأنه قبض على كبير دولته الأمير سيف الدين برقوق وسلبه ماله وسجنه، ثم أفرج عنه. )
حروب بين ملك البرتغال وملك طنجة جهادا في سبيل الشيطان كما هي العادة :
( وفيه أيضًا كانت بين المسلمين وبين ملك البرتغال وقعة على مدينة طنجة ، من أعمال المغرب.).
شهر جمادى الأولى، أوله يوم الخميس:
نزهة السلطان :
برسباى يتنزّه برغم معرفته بالوباء القادم نحو مصر
1 ـ ( في ثالثه: ركب السلطان من قلعة الجبل، وشق القاهرة من باب زويلة، وخرج من باب القنطرة، فمضى إلى القليوبية لصيد الكراكى ، وهذه أول ركبة ركبها في هذه السنة للصيد. )
2 ـ ( وفي خامسه: قدم السلطان من الصيد، وعبر من باب القنطرة، وشق القاهرة حتى خرج من باب زويلة إلى القلعة، ولم يقع له صيد ألبتة. )
3 ـ ( وفي ثامنه: ركب السلطان ليصطاد من بركة الحجاج ومضى إلى جامعه بخانكاة سرياقوس، وعاد من يومه. ثم ركب في ليلة السبت عاشرة يريد أطفيح. فاصطاد، وعاد في يوم الإثنين ثانى عشرة. )
4 ـ ( وفي تاسع عشرة: ركب السلطان إلى الصيد بالقليوبية، وعاد من الغد. )
وظائف أكابر المجرمين
محنة الأمير تمراز نائب غزة : عزله وسجنه وتعيين غيره نائبا على غزّة :
1 ـ ( وفيه ( 3 جمادى الأولى ) قدم الأمير تمراز المؤيدى نائب غزة.)
2 ـ ( وفي سادسه: قبض على الأمير تمراز نائب غزة، وحمل مقيدًا إلى الإسكندرية فسجن بها. وإستدعى الأمير جرباش قاشق من دمياط، وهو مسجون بها ليلى نيابة غزة، فلم يتم له ذلك. ورجع إلى دمياط. )
3 ـ ( وفي سابع عشرة: خلع على الأمير آقبردى القجماسى، وإستقر في نيابة غزة. )
ملك الحبشة يتودد لبرسباى ليرفع الاضطهاد عن الأقباط
( وفيه ( 19 جمادى الأولى ) ورد كتاب الحطى ملك الحبشة، وهو الناصر يعقوب بن داود ابن سيف أرعد، ومعه هدية، ما بين ذهب وزباد وغير ذلك، فتضمن كتابه السلام والتودد، والوصية بالنصارى وكنائسهم. )
تعليق
1 ـ ملك الحبشة يلتمس من برسباى ان يترفق بالأقباط ، وإن كان هو الذى يضطهد ( المحمديين ) في مملكته .
2 ـ في عصرنا الردىء نرى موقفا مشابها للغرب ، الذى يمُدُّ المستبد الشرقى بالسلاح والعتاد ليقاتل مستبدين آخرين ، ويمُدُّه أيضا بتكنولوجيا التعذيب ليقهر بها الأحرار المناضلين سلميا . ثم يرتفع صوته داعيا المستبد بمراعاة حقوق الانسان وحرية التعبير واطلاق سراح المعتقلين الأبرياء . نفاق غربى لزج وحقير ورخيص .!!
3 ـ في الإسلام يكون من يوالى الظالم مشاركا له في ظلمه ، ومن يُظاهر ( أي يؤيد ) المعتدى يكون قرينا له في اعتدائه . لو كان الغرب مخلصا فيما يعلن من تضامنه مع الأحرار في بلاد المحمديين لأوقف إمداد طُغاة المحمديين بالسلاح وأدوات التعذيب .
وباء غير معتاد في حماة
( وفي هذا الشهر: شنع الوباء بحماة، حتى تجاوزت عدة الأموات عندهم في كل يوم ثلاثمائة إنسان، ولم يعهدوا مثل ذلك في هذه الأزمنة.)
تعليق
جاءت الأخبار للسلطان بكثرة الوباء في حلب وما حولها . و جاءته الأخبار بأن الوباء قد ( شنع بحماة )، وإنهم ( لم يعهدوا مثل ذلك في هذه الأزمنة.). ولم يهتم برسباى .
شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة:
تنقلات بين أكابر المجرمين في دمشق مع دفع رشوة
( فيه رسم بنقل جمال الدين يوسف بن الصفى الكركى كاتب السر بدمشق إلى نظر الجيش بها، عوضًا عن بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجى، على أن يحمل أربعة آلاف دينار. وأن يستقر بن حجى في كتابة السر، عوضًا عن ابن الصفى، على أن يحمل ألف دينار.).
تعليق
في حركة تنقلات لا ضرورة لها بين اثنين من أتباعه ، كسب السلطان خمسة آلاف دينار . على أية حال سيكسب كل منهما أضعاف ما دفعه للسلطان . حركة التنقلات هذه تشجيع من السلطان لهما على المزيد من السرقة .!
نزهة السلطان
كان يتنزّه مع ورود أخبار الوباء وانتقاله من حلب الى حماه ثم الى طرابلس ثم الى دمشق
1 ـ ( وفي ثانيه: توجه السلطان إلى الصيد في بركة الحجاج. وقدم الخبر بوقوع الوباء في مدينة طرابلس الشام. )
2 ـ ( وفي هذا الشهر: كثر ركوب السلطان إلى الصيد. وفيه وقع الوباء بدمشق، وفشا الموت بالطاعون الوحى.).الطاعون الوحى أي الذى يموت به البشر سريعا
شهر رجب، أوله الأحد:
المماليك السلطانية الجلبان يعتدون على القاهريين في موكب المحمل
( في خامسه: أدير محمل الحاج. وقد تقدم أنه إنما كاد يدار بعد النصف من شهر رجب، وأنه أدير في هذه الدولة قبل النصف، فجرت في ليلة الإثنين ويوم الإثنين خامسه شنائع. وذلك أن مماليك السلطان سكان الطباق بالقلعة نشأوا على مقت السلطان لرعيته، مع ما عندهم من بغض الناس، فنزل كثير منهم في أول الليل، وأخذوا في نهب الناس، وخطف النساء والصبيان للفساد. وإجتمع عدد كثير من العبيد السود، وقاتلوا المماليك فقتل من العبيد خمسة نفر، وجرح عدة من المماليك، وخطف من العمائم وأخذ من الأمتعة شىء كثير، فكان ذلك من أقبح ما سمعنا به. )
تعليق
1 ـ قلنا إن دوران المحمل شريعة سُنّية يملكها أصحاب الدين السُنّى وأكابر مجرميه ؛ السلطان ورجال الدين . ولهم أن يغيّروا في توقيته وفى مساره ما شاءوا .
2 ـ وعلى هامش شريعة دوران المحمل جدّت شريعة جديدة ، لم ينكرها رجال الدين السُنّى ، مع أنهم كانوا شهودا عليها ، ويمكنهم لو أرادوا أن يحتجُّوا عليها ، ولم يحتجُّوا عليها ، وهى قيام المماليك السلطانية ( الجلبان ) في نهب الناس ، وخطف النساء والصبيان لاغتصابهن وإغتصابهم ، واضطرار العبيد المملوكين لبعض الناس الى الدفاع عن أسيادهم .
3 ـ نلاحظ هنا نبرة جديدة للمقريزى في الاحتجاج ، هو هنا لا ينسب إجرام المماليك السلطانية الى رب العزة جل وعلا حسبما تعودنا منه من تأثره بعقيدة ( وحدة الفاعل ) الصوفية ، ولكن المقريزى هنا ينسب إجرام المماليك السلطانية الجلبان الى ما تعلموه من سلطانهم برسباى ، يقول : ( وذلك أن مماليك السلطان سكان الطباق بالقلعة نشأوا على مقت السلطان لرعيته، مع ما عندهم من بغض الناس،). أي إن برسباى ـ الذى جعله المقريزى سلطان الإسلام ــ كان يمقت ( الرعية ) ، لا يكرههم فقط ، بل يمقتهم . والمقت شعور مركب من البغض والكراهية والاحتقار . وعجيب أن تكون ( الرعية ) خاضعة خانعة مستكينة للمستبد ، ثم يكافئها المستبد بالمقت . هذا يذكّرنا بضابط المخابرات الذى يحكم مصر الآن ، وما رأينا مثله مقتا للمصريين المستضعفين ، وبسببه انقسم المصريون الى أقلية ضئيلة جدا تقهر الأغلبية الساحقة ، واتّضعت ــ من الوضاعة ــ أخلاق المصرين ، وصارت الشهامة والرجولة والشجاعة من أفلام الخيال العلمى .!
منع العبيد من حمل السلاح
( وفي تاسعه: نودى بألا يحمل أحد من العبيد السلاح، ولا سيفًا ولا عصى، ولا يمشي بعد المغرب. وأن المماليك لا تتعرض لأحد من العبيد. وذلك أنه لما وقع بين المماليك والعبيد في ليلة المحمل ما وقع، أخذ المماليك في تتبع العبيد، فقتلوا منهم جماعة، ففر كثير منهم من القاهرة، وإختفى كثير منهم. فلما نودى بذلك سكن ذلك الشر، وأمن الناس على عبيدهم، بعد خوف شديد. )
تعليق
دارت معارك غير متكافئة بين المماليك والعبيد ، تسلح المماليك بأسلحة قاتلة بينما لم يكن مع العبيد سوى سلاح بسيط . تتبع المماليك العبيد بالقتل فهرب كثير من العبيد من القاهرة ، واختفى منهم آخرون . ونودى بمنع الاشتباكات ، وشعر القاهريون ببعض الأمن مؤقتا .
ولم يستمر ذلك . يقول المقريزى :
( وفيه رُسم بمنع المماليك من النزول من طباقهم بالقلعة إلى القاهرة، وذلك أنهم صاروا ينزلون طوائف طوائف إلى المواضع التى يجتمع بها العامة للنزهة، ويتفننوا ( ويتفنّنون ) في العبث والفساد، من أخذ عمائم الرجال وإغتصاب النساء والصبيان، وتناول معايش الباعة، وغير ذلك، فلم يتم منعهم، ونزلوا ( أي استمروا ) على عادتهم السيئة. )
تعليق
محاولة لم تنجح لمنع المماليك من الاعتداء على أهل القاهرة . أمرهم السلطان بعدم الخروج من ثكناتهم العسكرية في قلعة الجبل ، ولم يطيعوا ، فقد أدمنوا الخروج في جماعات يغتصبون النساء والصبيان ، وهذا بعد أن هزموا العبيد وقاموا بتحييدهم .
2 ـ جاء الانتقام الالهى منهم بالوباء الذى قضى على المماليك الجلبان ، أو أغلبهم . ثم كان الانتقام الالهى من برسباى بالمرض العضال .!!
نزهة السلطان وبدء مرضه
( وفي يوم الأربعاء ثامن عشرة ( رجب ): ركب السلطان إلى خليج الزعفران من الريدانية خارج القاهرة وعاد من يومه. فأصبح موعك البدن، ساقط الشهوة للغذاء، ولزم الفراش. )
( وفي هذا الشهر ( رجب ) : وقع الوباء ببلاد الصعيد من أرض مصر )
ملاحظة
من هنا تبدأ دراما عام 841 ؛ مرض برسباى وإشتداد الطاعون في مصر ، وموت برسباى ثم تولية ابنه . ونقوم بتجميع أخبار الطاعون والمحن الأخرى المماثلة التي تفرقت بين حوادث عام 841 ، ونعلق عليها :
يقول المقريزى :
1 ـ ( وفي هذا الشهر( صفر ) : والذى قبله كثر الوباء بحلب وأعمالها، حتى تجاوزت عدة الأموات. بمدينة حلب في اليوم مائة ) .. جاءت الأخبار بكثرة الوباء في حلب وما حولها . ومن الطبيعى أن يمتد الى ( حماة )
2 ـ ( وفي هذا الشهر( ربيع الثانى ) : شنع الوباء بحماة، حتى تجاوزت عدة الأموات عندهم في كل يوم ثلاثمائة إنسان، ولم يعهدوا مثل ذلك في هذه الأزمنة ) .وباء حماة لم يكن معهودا مثله .
3 ـ ( شهر جمادى الآخرة : وقدم الخبر بوقوع الوباء في مدينة طرابلس الشام ) ( .. وفيه وقع الوباء بدمشق، وفشا الموت بالطاعون ) ، أي إمتد الطاعون زاحفا غربا فوصل طرابلس ثم دمشق .
الطاعون في شهرى : رجب وشعبان :
يقول المقريزى :
1 : ( وفي هذا الشهر وقع الوباء ببلاد الصعيد من أرض مصر وكثر بدمشق، وشنع بحلب وأعمالها، فأظهر أهلها التوبة، وأغلقوا حانات الخمارين، ومنعوا البغايا الواقفات للبغاء، والشباب المرصدين لعمل الفاحشة، بضرائب تحمل لنائب حلب وغيره من أرباب الدولة فتناقص الموت وخف الوباء، حتى كاد يرتفع. ففرح أهل حلب بذلك، وجعلوا شكر هذه النعمة أن فتحوا الخمارات، وأوقفوا البغايا والأحداث للفساد بالضرائب المقررة عليهم، فأصبحوا وقد مات من الناس ثمانمائة إنسان. وإستمر الوباء الشنيع، والموت الذريع فيهم، رجب، وشعبان، وما بعده.. )
التعليق
1 ـ : كان البغاء مُباحا يوافق عليه قضاة القضاة الأربعة ورئيسهم القاضي الشافعى إبن حجر العسقلانى . كان البغاء يشمل الزنا بأجر بالنساء والشذوذ بالشباب والصبيان أو بتعبير العصر ( الأحداث / المُردان في التعبير الصوفى ) . وكان هناك ديوان رسمي لتحصيل الضرائب من هذا النشاط . وكالعادة يتولى أحدهم أو إحداهن دفع مبلغ من المال للديوان، ثم يقوم بجباية أضعافه من طالبى المتعة الحرام من البغايا والصبيان المُستأجرين للفاحشة في الشوارع والميادين والحانات ، وكان للبغايا زى مخصوص ذكره المقريزى في ( الخطط ) . وإشتهرت وظيفة ( ضامنة المغانى ) ، ونظرا لكثرة الضرائب المفروضة على هذا النشاط ( الشرعى ) فبعض من كان يدخل الحانات أو الحارات المشهورة بالبغاء كانوا يرغمونه على الفسق ، أو أن يفتدى نفسه منهم بمال .
2 : بسبب فتك الطاعون بأهل حلب ( المملوكية ) تابوا ،قال المقريزى عنهم : ( .. وأغلقوا حانات الخمارين، ومنعوا البغايا الواقفات للبغاء، والشباب المرصدين لعمل الفاحشة، بضرائب تحمل لنائب حلب وغيره من أرباب الدولة، فتناقص الموت وخف الوباء، حتى كاد يرتفع. ففرح أهل حلب بذلك، وجعلوا شكر هذه النعمة أن فتحوا الخمارات، وأوقفوا البغايا والأحداث للفساد بالضرائب المقررة عليهم، فأصبحوا وقد مات من الناس ثمانمائة إنسان. ) . هذا معتاد في العُصاة ، عند المحنة يتوبون توبة وقتية ، ثم إذا انجلت المحنة رجعوا للعصيان .!
3 : عن إنتشار الوباء من حيث المكان يقول المقريزى ( وفي هذا الشهر وقع الوباء ببلاد الصعيد من أرض مصر وكثر بدمشق، وشنع بحلب وأعمالها، ) ، أي إنبثق في صعيد مصر ودمشق وحلب . ومن حيث الزمان قال المقريزى : ( وإستمر الوباء الشنيع، والموت الذريع فيهم، رجب، وشعبان، وما بعده. )
4 : ( وفيه قدم الخبر بأن الوباء شنع بدمشق، وأنه مات من الغرباء الذين قدموا من بغداد وتبريز والحلة والمشهد وتلك الديار ــ فرارا من الجور والظلم الذى هنالك وسكنوا حلب وحماة ودمشق ــ عالم عظيم، لا يحصرهم العادُّ لكثرتهم ). كان العراق وقتها يسوده الخراب بسبب حكامه المُتنازعين ، وكان ظلمهم يفوق ظلم المماليك بدليل أن الناس فروا من العراق الى الشام وسكنوا حلب وحماة ودمشق ، وكانوا ضحايا للطاعون ، مات منهم ما لا يمكن إحصاؤه .!
5 : ( وفيه أيضا حدثت بالقاهرة زلزلة عند أذان العصر، إهتز بى البيت مرتين، إلا أنها كانت خفيفة جدًا وللّه الحمد ) . حدث زلزال بالقاهرة ، إهتز المقريزى ببيته مرتين. أي : ( زلزال + طاعون ). المقريزى لا يتحدث عن نفسه الا اذا كان شاهدا على حدث جرى للجميع حوله .
6 : ( وفي يوم الجمعة تاسع عشرة: هبت بدمشق ريح شديدة في غاية من القوة. وإستمرت يوم الجمعة ويوم السبت، فاقتلعت من شجر الجوز الكبار ما لا يمكن حصره لكثرته. وألقت أعالى دور عديدة، وألقت بعض المنارة الشرقية بالجامع الأموى، فكان أمرًا مهولا، وعمت هذه الريح بلاد صفد والغور، وأتلفت شيئا كثيرا ) . في دمشق وغيرها : ( ريح عاتية + طاعون )
7 : ( وفي هذا الشهر: وقع في كثير من الأبقار داء طرحت منه الحوامل عجولاً وفيها الطاعون، وهلك كثير من العجاجيل بالطاعون أيضاً ) . إمتد الطاعون الى البقر .!
8 ـ ألا يذكرنا هذا بكورونا وما يتحوّر منها وعنها ؟!!
قال جل وعلا : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) الأعراف ).
ودائما : صدق الله العظيم .!
( شهر رمضان، أوله يوم الثلاثاء: )
1 : شيوع الطاعون في القاهرة ( وفيه كانت عدة الأموات التى رُفعت بها أوراق مباشرى ديوان المواريث بالقاهرة ثمانية عشر إنساناً، وتزايدت عدتهم في كل يوم ، حتى فشا في الناس الموت بالطاعون في القاهرة ومصر، لاسيما في الأطفال والإماء والعبيد، فإنهم أكثر من يموت موتاً سريعًا.)
تعليق
1: التركيز على ضحايا الطاعون في القاهرة ، وإمكانية حصر العدد لأن من يموت كان يتم غسله في مصليات ( جمع مصلى ) ، وكان يتم التبليغ عنهم الى ديوان المواريث . خارج القاهرة لا توجد إحصاءات عن الضحايا .! .
2 : أكثر الضحايا من الأطفال ومن الرقيق الآتين من الخارج حيث تناقص المناعة لديهم ، إذ كان الطاعون يحدث دوريا يقضى على بعض الناس ، وينجو منه بعضهم وقد إكتسب مناعة ، قد تصمد للطاعون التالى وقد لا تصمد . الأطفال والرقيق لم تكن لديهم هذه المناعة . لكن من ينجو منهم يكتسب مناعة قد تنجيه من الطاعون القادم .
3 ـ نفهم أن المماليك الجلبان كانوا ضمن الضحايا في القاهرة . كانوا في قلعة الجبل الحصينة ، ولم تُغن عنهم شيئا . هذه عبرة لأكابر المجرمين في عصرنا ونحن لا زلنا تحت قصف كورونا .!!
2 : شيوع الطاعون : ( هذا وقد عم الوباء بالطاعون بلاد حلب، وحماة، وطرابلس، وحمص، ودمشق، وصفد، والغور، والرملة وغزة، وما بين ذلك، حتى شنعت الأخبار بكثرة من يموت، وسرعة موتهم. وشناعة الموتان أيضًا ببلاد الواحات من أرض مصر، ووقوعه قليلا بصعيد مصر ). أي إستمر الطاعون ساريا من حلب الى الواحات والصعيد بمصر ، وتميز بسرعة الموت وكثرة الموت بدون إحصاءات .
3 : قراءة البخارى في ميعاده في حضور السلطان فى ليالى رمضان تحت قصف الطاعون :
( وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه: ختمت قراءة صحيح البخارى بين يدى السلطان بقلعة الجبل، وقد حضر قضاة القضاة الأربع، وعدة من مشايخ العلم وجماعة من الطلبة، كما جرت العادة من الأيام المؤيدية شيخ. وهو منكر في صورة معروف، ومعصية في زى طاعة. وذلك أنه يتصدى للقراءة من لا عهد له بمارسة العلم، لكنه يصحح ما يقرأه، فيكثر مع ذلك لحنه وتصحيفه وخطؤه وتحريفه. هذا، ومن حضر لا ينصتون لسماعه، بل دائما دأبهم أن يأخذوا في البحث عن مسأله يطول صياحهم فيها، حتى يمضى بهم الحال إلى الإساءات التى تؤول الى أشد العداوات. وربما كفّر بعضهم بعضًا، وصاروا ضحكة لمن عساه يحضرهم من الأمراء والمماليك. و اتفق في يوم هذا الختم أن السلطان ــ لما كثر الوباء قلق من مداخلة الوهم له ــ فسأل من حضر من القضاة والفقهاء عن الذنوب التى إذا إرتكبها الناس عاقبهم اللّه بالطاعون، فقال له بعض الجماعة: "إن الزنا إذا فشا في الناس ظهر فيهم الطاعون، وأن النساء يتزين ويمشين في الطرقات ليلًا ونهارًا في الأسواق." ، فأشار آخر : " أن المصلحة منع النساء من المشى في الأسواق." ، ونازعه آخر فقال : " لا يمنع إلا المتبرجات، وأما العجائز ومن ليس لها من يقوم بأمرها لا تمنع من تعاطى حاجتها." . وجروا في ذلك على عادتهم في معارضة بعضهم بعضاً، فمال السلطان إلى منعهن من الخروج إلى الطرقات مطلقًا، ظناً منه أن بمنعهن يرتفع الوباء. وأمر بإجتماعهم عنده من الغد، فاجتمعوا في يوم الخميس، وإتفقوا على ما مال إليه السلطان. فنودى بالقاهرة ومصر وظواهرهما ، بمنع جميع النساء بأسرهن من الخروج من بيوتهن، وألا تمر إمرأة في شارع ولا سوق ألبتة، وتهدد من خرجت من بيتها بالقتل . فامتنع عامة النساء، فتياتهن وعجائزهن وإمائهن من الخروج إلى الطرقات. وأخذ والى القاهرة وبعض الحجاب في تتبع الطرقات، وضرب من وجدوا من النساء، وأكدوا من الغد يوم الجمعة في منعهن، وتشددوا في الردع والتهديد، فلم تُر إمرأة في شىء من الطرقات. فنزل بعدة من الأرامل وربات الصنائع، ومن لا قيم لها يقوم بشأنها، ومن تطوف على الأبواب تسأل الناس ــ ضيق وضرر شديد. ومع ذلك فتعطل بيع كثير من البضائع والثياب والعطر، فإزداد الناس وقوف حال، وكساد معايش، وتعطل أسواق، وقلة مكاسب ) .
تعليق :
1 : كان البخارى ( كتابا وشخصا ) الإله الأكبر في دين التصوف السنى الذى ساد من عصر صلاح الدين الأيوبى بديلا عن دين التشيع . وفى البخارى أحاديث صوفية اشهرها حديث ( من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب ) . ومن مظاهر تقديس البخارى قيام بعضهم بشرحه مثل ابن حجر والعينى والقسطلانى . وفى الوقت الذى لم يكن فيه للقرآن الكريم إحتفال إعتادوا إقامة إحتفال رسمي حمل إسم ( ميعاد البخارى ) في رمضان من كل عام ، كما لو كان رمضان هو الذى أُنزل فيه البخارى وليس القرآن . . وفيه يقومون بتلاوة البخارى وليس تلاوة القرآن ، ويتم ختمه في 23 رمضان ، والمكان هو مقر الحكم وهو القلعة ، والحاضرون هم السلطان وكبار الأمراء المماليك والقضاة الأربعة ، ومنهم في هذا الوقت ابن حجر ، وبقية القضاة ، ويطلق عليهم نوّاب القضاة الأربعة ، وكبار الفقهاء . أي يجتمع في تقديس البخارى وعبادته أكابر المجرمين من المماليك ورجال الدين .
2 : المقريزى من وجهة نظره وبعقليته الناقدة يعلّق على ( ميعاد البخارى) قائلا : ( . وهو منكر في صورة معروف، ومعصية في زى طاعة. وذلك أنه يتصدى للقراءة من لا عهد له بمارسة العلم، لكنه يصحح ما يقرأه، فيكثر مع ذلك لحنه وتصحيفه وخطؤه وتحريفه. هذا، ومن حضر لا ينصتون لسماعه، بل دائما دأبهم أن يأخذوا في البحث عن مسأله يطول صياحهم فيها، حتى يمضى بهم الحال إلى الإساءات التى تؤول الى أشد العداوات. وربما كفّر بعضهم بعضًا، وصاروا ضحكة لمن عساه يحضرهم من الأمراء والمماليك. ). كان القُضاة والفقهاء مع جهلهم الرائع يتنافسون في تجهيل بعضهم البعض في حضور السلطان والأمراء ، ويصل بهم الجدل الى الشتم والتكفير ، فيصيرون كما قال المقريزى مضحكة للمماليك . ولأن المقريزى ينتمى الى نفس الفصيل فهو حانق على زملائه ، ويرى أن ميعاد البخارى بهذا الشكل غير لائق : أي هو : ( منكر في صورة معروف، ومعصية في زى طاعة. )
3 : في ميعاد البخارى في هذا العام كانت سطوة الطاعون ، فسأل السلطان برسباى القضاة الأربعة وغيرهم ، ومنهم ابن حجر والعينى عن الذنوب التي بسببها يأتي العقاب بالطاعون ، ولم يذكر المقريزى أسماء من أجاب السلطان ، ونفهم أنهم من أكابر القُضاة ، أي ابن حجر والعينى ، فلا نتصور أن يسبقهم في الإفتاء تلاميذهم التابعون لهم . وقد أفتى كبارهم للسلطان بأنه الزنا الفاشى في الناس . يتجاهلون أن الدولة فرضت الزنا وجعلت عليه ضريبة . ويتجاهلون شيوع الشذوذ الجنسى بالصبيان . وكالعادة ، وبالثقافة الذكورية وضعوا المسئولية على المرأة ، كما يجعل السلفيون اليوم المرأة مسئولة عن تحرش الذكور بها . في هذا المجلس جعلوا المسئولية على المرأة في موضوع الزنا كأنها هي التي تزنى بنفسها ، فقالوا إن النساء يمشين ليلا ونهارا ، ( وهذا يعنى الزنا ) وأنه يجب منعهن من المشى ( لوقف الزنا ) ، وإستثنى بعضهم العجائز من النساء . ورأى السلطان حظر التجول مطلقا على النساء حتى يرتفع الطاعون . وأُذيع بين الناس بمنع النساء من التجول وأن من تخرج منهن فعقوبتها القتل . ووافق ابن حجر والعينى على قتل من تخرج من النساء . وكان والى القاهرة ( أي مدير الأمن ) أرحم من أولئك القضاء ، فلم يقتل من تخرج من النساء ، كان يضربهن فقط ولا يقتلهن . فخلت الشوارع من النساء ، وتعطلت الأسواق والمصالح والمكاسب.
4 ـ كان مستحيلا سريان هذا الحظر الكلى المطلق على النساء ، فحدث تخفيف . يقول المقريزى : ( وفيه ( رمضان ) نودى بخروج الإماء لشراء حوائج مواليهن من الأسواق، وألا تنتقب واحدة منهن، بل يكن سافرات عن وجوههن، وأن تخرج العجائز لقضاء أشغالهن، وأن تخرج النساء إلى الحمامات، ولا يقمن بها إلى الليل، فكان في ذلك نوع من أنواع الفرج. ) . جاء التخفيف ليس بفتوى من شيوخ الشرع السُّنّى ، بل من السلطان .
تعليق
النقاب كان هو سيد الموقف ، وبه ينتشر الزنا ، العاهرة تتنقب وترتدى زيّا خاصا يعلن عنها وهى واقفة تعرض نفسها ، وقد وصف المقريزى زىّ العاهرات في الخطط . وبحماية النقاب أيضا تمارس الزنا النساء الأخريات ، وكانت المناسبات الدينية والمؤسسات الدينية فرصة للانحلال الخلقى ، فإلى الموالد وعند القبور المقدسة وفى القرافة ( مدافن القاهرة ) تأتى النساء منقبات ، فإذا وصلن خلعن النقاب ، وتصرفن كما يحلو لهن ، فلا أحد يتعرف عليهن . كما ذكر الفقيه ابن الحاج المغربى في كتابه ( المدخل ). والتفاصيل في كتابنا عن الانحلال الخلقى بتأثير التصوف ، وهو منشور هنا.
5 ـ : ( وفيه إبتدأ إنتشار الجراد الكثير بالقاهرة وضواحيها، وإستمر عدة أيام.). جراد + طاعون.
6 ـ انتشار الطاعون جعلهم يضطهدون الأقباط .
قال المقريزى :
6 / 1 : ( وفيه ( رمضان ) أُقيم بعض سفلة العامة الأشرار في التحدث على مواريث اليهود والنصارى، وخلع عليه، وكانت العادة أن بطرك النصارى ورئيس اليهود يتولى كل منهما أمر مواريث طائفته، فتوصل هذا السفلة إلى السلطان، والتزم له أن يحصل من هذه الطائفتين مالًا كبيراً، فجرى السلطان على عادته في الشره في جمع المال، وولّاه. )
6 / 2 : ( وفيه كشف عن بيوت اليهود والنصارى، وأحضروا ما فيها من جرار الخمر لتراق. )
6 / 3 : ( وفي هذا الشهر: هدم للنصارى دير المغطس عند الملاحات، قريب من بحيرة البرلس وكانت نصارى الإقليم قبليا وبحريا تحج إلى هذا الدير كما يحجون إلى كنيسة القيامة بالقدس، وذلك في عيده من شهر بشنس، ويسمونه عيد الظهور، وقد بسطت الكلام على هذا عند ذكر الكنائس والديارات من كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار.)
تعليق
1 ـ هذا تطرف في ظُلم أهل الكتاب ، استنكره المقريزى نفسه وهو المتعصب دينيا ضد أهل الكتاب ، في قوله : ( أُقيم بعض سفلة العامة الأشرار في التحدث على مواريث اليهود والنصارى، ).
2 ـ استغل هؤلاء السّفلة طمع برسباى فعيّنه السلطان قيّما على مواريث أهل الكتاب ليسلب مواريثهم ، يقول المقريزى عن برسباى ( فجرى السلطان على عادته في الشره في جمع المال، وولّاه.). ولم يعترض أكابر المجرمين من الفقهاء ، فالظلم أساس شريعتهم الشيطانية .
3 ـ هدموا أيضا دير المغطس المقدس عند الأقباط ، وكان معبدا مشهورا وقتها يحُجُّون اليه فيما يسمونه ب ( عيد الظهور ). لقد تشابهت مظاهر الحياة الدينية لدى المحمديين والمسيحيين ، كانت لهم قبورهم المقدسة التي يعكفون عليها ، والتي يقيمون عندها الموالد والأعياد . ما هو شعور المقريزى لو هدم الأقباط الأضرحة والقبور المقدسة للمحمديين مثل قبر الحسين والسيد البدوى والسيدة نفيسة ؟ ( ملاحظة : قبر السيدة زينب لم يكن قد تم إختراعه بعدُ ) .
7 : انتشار الطاعون شرقا وغربا ، يقول المقريزى : ( وفي هذا الشهر: شنع الموت بالطاعون في بلد عانة من بلاد العراق، بحيث لم يبق بها أحد. . وشنع الموت أيضاً في أهل الرحبة، حتى عجزوا عن مواراة الأموات، وألقوا منهم عددًا كثيراً في الفرات. وشنع الموت أيضًا في أزواق ( تجمعات ) التركمان، وبيوت العربان بنواحي بلاد الفرات، حتى صار الفريق من العرب، أو الزوق من التركمان، ليس به إنسان. ودوابهم مهملة، لا راعى لها. وأحصى من مات بمدينة غزة في هذا الشهر، فبلغوا إثني عشر ألفًا ونيف، ووردت الأخبار بخلو عدة مدن ببلاد المشرق لموت أهلها، وبكثرة الوباء ببلاد الفرنج ) .
6 ـ ( شهر شوال، أُهلّ بيوم الخميس ) : " يوم عيد الفطر وليلته ."
6 / 1 : ( وقد كلّ الناس بالقاهرة ومصر من القبض والأنكاد ما لا يوصف، وذلك من تزايد عدة الأموات في كل يوم، فكانت عدة من رفع ذكره من ديوان المواريث في هذا اليوم وهو يوم العيد من القاهرة مائة إنسان، ومن مصر إثنان وعشرون. هذا، وقد تعطل بيع كثير من البضائع وأمتعة النساء لإمتناعهن من المشي في الطرقات وإستوحش نساء الأمراء المجردين وأولادهم لغيبتهم عنهم، وقلق الناس من عسف متولى الحسبة، وشدة بطشه، ومن كثرة ما داخل الناس من الوهم خوفًا على أولادهم وخدمهم من الموت الوحى السريع بالطاعون، ومن نزول أنواع المكاره بالذمة من اليهود والنصارى، بحيث أنى لم أدرك في طول عمرى عيدًا كان أنكد على الناس من هذا العيد).
نلاحظ :
6 / 1 / 1 : العاصمة وقتها كان يطلق عليها ( القاهرة ومصر ) . القاهرة هي التي بناها جوهر الصقلى للخليفة الفاطمى المعز لدين الله ، ثم إتصلت المساكن بينها وبين المدن السابقة التي كانت عواصم من قبل ، وهى ( القطائع ) التي بناها أحمد بن طولون ، و ( العسكر ) التي بناها أول والى عباسى بعد قتل الخليفة الأموى مروان بن محمد ، ثم ( الفسطاط ) التي بناها عمرو بن العاص . بمعنى ان ( ضواحي القاهرة ) كان يطلق عليها ( مصر ). وحتى الآن يقال عن المصريون في الأقاليم عن القاهرة ( مصر ) .
6 / 1 / 2 : وواضح تركيز المقريزى على ضحايا الطاعون في القاهرة وضواحيها ( ممكن أن نقول القاهرة الكبرى ) ، وذكر عدد الموتى يوم عيد الفطر . وكما يحدث من كورونا الآن تعطل الاقتصاد . وقد تم فرض حظر التجول على النساء ، وهن أكثر من يشترى ، ثم هناك الشدة التي كان يعامل بها المحتسب المملوكى الأمير دولات خجا .
6 / 1 / 3 : ثم هناك ( قلق ) النساء المترفات زوجات المماليك ، لأن ازواجهن في مهمة عسكرية.
6 / 1 / 4 : سكان القاهرة الكبرى عمّهم الخوف لأن الطاعون يلتهم أولادهم وخدمهم ، ويضاف اليهم العسف الذى حلّ بأهل الكتاب .
6 / 1 / 5 : والمقريزى بإعتباره شاهدا على العصر يعبر عن شعوره فيقول : ( لم أدرك في طول عمرى عيدًا كان أنكد على الناس من هذا العيد ). كتب هذا في نهاية عمره .
6 / 1 / 6 : أي تعرّض المصريون لكارثتين ، إحداهما دورية وهى الطاعون ، والأخرى مستمرة وهى ظلم أكابر المجرمين من المماليك ورجال الدين .
6 / 1 / 7 : كان هذا عن العاصمة فقط ، فكيف بالأحوال التفصيلية للناس الغلابة المستضعفين في أقاليم مصر ، وفى بقية الدولة المملوكية ( الشام ) و ( الحجاز ).هذا (يمكن تخيله) أو ( لا يمكن تخيله ).!
6 / 2 : ( وفي ليلة هذا العيد: إشتد برد الشتاء في بلاد الشام، فأصبح الناس من صفد إلى دمشق وحماة وحلب وديار بكر، إلى أرزن كان، وقد صقعت أشجارهم، بحيث لم يبق عليها ورقة خضراء إلا إسودت، ما عدا شجر الصفصاف، والجوز فتلفت الباقلاء المزروعة، والشعير والبيقياء والهليون وعامة الخضروات، فزادهم ذلك بلاء على بلائهم بكثرة الموتان الفاشى في الناس وهبت مع ذلك بصفد ريح باردة، هلك بعدها من الناس والدواب ما شاء اللّه. وتلفت بها الزروع والأشجار. وإتفق أيضًا في ليلة عيد الفطر أن هجم على مدينة فاس من بلاد المغرب الأقصى، سيل عظيم جداً، فأخذ خلائق وهدم عدة مساكن، فكان أمرًا مهولاً وحادثًا شنيعًا ).
نلاحظ :
6 / 2 / 1 : هنا : صقيع وريح قاتلة + تلف المحاصيل + طاعون أهلك الناس والأنعام. هذا في المشرق.
6 / 2 / 2 : يضاف الى ذلك سيل عظيم في المغرب أغرق الناس وهدم المساكن .!
6 / 3 :( وفي يوم الثلاثاء سادسه: خلع على الإمام الحافظ شهاب الدين أبى الفضل أسد ابن على بن حجر، وأعيد إلى قضاء الشافعية بديار مصر، عوضاً عن قاضى القضاة علم الدين البلقينى. وألزم أن يقوم لعلم الدين صالح بما حمله إلى الخزانة. هذا، وقد أظهر السلطان أنه لا يولى أحدًا من القضاة بمال، فإنه داخله وهم عظيم من كثرة تزايد الموت الوحى السريع في الناس، وموت كثر من المماليك السلطانية سكان الطباق من القلعة، وموت الكثير من خدام السلطان الطواشية، ومن جواريه وحظاياه وأولاده ) .
نلاحظ :
6 / 3 / 1 : تعيين القضاة بالرشوة ، لا بد للقاضى أن يدفع للسلطان مالا ليتولى المنصب ، يسرى هذا على قضاة القضاة ونوابهم من القضاء العاديين . وابن حجر العسقلانى كان يتولى منصبه بالرشوة ، وبعد أن يتولى لا بد أن يعوّض ما دفع بأخذ الرشوة من الناس ، ولا عيب ولا حرج في هذه ، فهى شريعة أكابر المجرمين . ولا يمكن أن يكون هناك عدل وقاضى القضاء يتعين بالرشوة ، وكذلك القضاة التابعون له . كان ابن حجر قاضى القضاة الشافعية فعزله السلطان برسباى وعيّن مكانه علم الدين البلقينى ، ثم عزل السلطان البلقينى وأعاد ابن حجر . وألزم السلطان برسباى قاضى القضاة الشافعى إبن حجر أن يدفع للبلقينى ما سبق أن دفعه البلقينى من رشوة للسلطان .
6 / 3 / 2 : لم يشعر ابن حجر بتأنيب الضمير وهو يدفع رشوة للقاضى السابق حتى يتولى مكانه ، ولكن الذى شعر بتأنيب الضمير هو السلطان برسباى . هذا شأن العاصى الذى يتعرض لإبتلاء فيتوب توبة وقتية . برسباى رأى الطاعون يفتك بالناس ويصل الى ( المماليك السلطانية) أي المماليك الذين إشتراهم السلطان بنفسه لحمايته ( مثل الحرس الجمهورى والحرس الملكى ) ويفتك بالمماليك (الطواشية ) القائمين بخدمة السلطان ، ويفتك بجواريه وحظاياه وأولاده . خاف أن يصل الطاعون اليه فأعلن أنه لن يولى القضاة بالرشوة ، ولم يأخذ لنفسه رشوة من ابن حجر ، فأمره أن يدفع الرشوة للقاضى المعزول. السلطان برسباى أصابه مرض ــ ليس الطاعون ــ بل أشد ألما من الطاعون . الطاعون يقضى سريعا على المريض فلا يتألم كثيرا ، أما السلطان برسباى فقد تصالحت عليه أمراض مزمنة مات منها بعد عذاب هائل .
6 / 4 : ( وإتفق مع ذلك كله حوادث مؤلمة منها أن امرأة مات ولدها بالطاعون، ولم يكن لها سواه ، فلما غُسل وكُفّن وأُخرج به ليوضع في التابوت ليدفن في الصحراء أرادت أمه أن تخرج وراء جنازته، فمنعت من ذلك لأن السلطان رسم ألا تخرج امرأة من منزلها. فشق عليها منعها من تشنيع جنازة ولدها، وألقت نفسها من أعلى الدار إلى الأرض، فماتت. وخرجت امرأة أخرى من دارها لأمر مهم طرأ لها، فصدفها دولت خجا متولى الحسبة، فصاح بأعوانه بأن يأتوه بها ليضربها، فما هو إلا أن قبضوا عليها، إذ ذهب عقلها وسقطت مغشيًا عليها من شدة الخوف، فشفع فيها بعض من حضر ألا يعاقبها، فتركها، وانصرف عنها. فحملت إلى دارها وقد إختلت وفسد عقلها فمرضت مع ذلك مدة ). من لم يمت بالطاعون مات بظلم أكابر المجرمين .!
6 / 5 : ( وفي يوم الجمعة تاسعه: إتفقت حادثه لم ندرك مثلها، وهو أن الخطيب بالجامع الأزهر رقي المنبر فخطب، وأسمع الناس الخطبة، وأنا فيهم ، حتى أتمها على العادة. وجلس للإستراحة بين الخطبتين، فلم يقم حتى طال جلوسه. ثم قام وجلس سريعًا، وإستند إلى جانب المنبر ساعة قدر ما يقرأ القارىء ربع حزب من القرآن، والناس في إنتظار قيامه، وإذا برجل من الحاضرين يقول: مات الخطيب. فإرتج الجامع وضج الناس، وضربوا أيديهم بعضها على بعض أسفًا وحزنا ، وأخذنى البكاء، وقد إختلت الصفوف، وقام كثير من الناس يريدون المنبر، فقام الخطيب على قدميه، ونزل عن المنبر، فدخل المحراب وصلى من غير أن يجهر بالقراءة، وأوجز في صلاته حتى أتم الركعتين، وقدمت عدة جنائز فلم أدر من صلى بنا عليها. وإذا بالناس في حركة وإضطراب، وعدة منهم يجهرون بأن الجمعة ما صحت. وتقدم رجل فأقام وصلى الظهر أربعًا، وجماعة يأتمون به. فما هو إلا أن قضي هؤلاء صلاتهم إذا بجماعة أخر قد وثبوا وأمروا فأذن المؤذنين على سدة المؤذنين بين يدى المنبر، ورقي رجل المنبر، فخطب خطبتين، ونزل ليصلى فمنعوه من التقدم إلى المحراب، وأتوا بإمام الخمس، فقدموه حتى صلى بالناس جمعة ثانية. فلما إنقضت صلاته بالناس ثار آخرون وصاحوا بأن هذه الجمعة الثانية لم تصح، وأقاموا الصلاة، وصلى بهم رجل صلاة الظهر أربع ركعات، وكان في هذا اليوم بالجامع الأزهر إقامة خطبتين وصلاة الجمعة مرتين، وصلاة الظهر مرتين، وإنصرف الناس، وكل طائفة تخطىء الأخرى، وتطيّر ( أي تشاءم ) كثير منهم على السلطان بزواله من أجل إقامة خطبتين في موضع واحد هذا، وقد كان الناس عندما قيل: مات الخطيب، قد ملكهم الوهم، فأرعد بعضهم، وبكى جماعة منهم، ودهش آخرون. وهبت عند ذلك ريح باردة، فظنوا أنهم جميعًا ميتون، حتى أنه لو قدر اللّه موت الخطيب على المنبر لهلك جماعة من الوهم. وللّه عاقبة الأمور ) .
نلاحظ:
6 / 5 / 1 : المقريزى كان حاضرا هذه الحادثة ، وهى تؤكّد على :
6 / 5 / 1 / 1 : الرُّعب الذى حلّ بالناس من الطاعون . أصيب الخطيب بإغماء فحدث ما يشبه الإغماء للحاضرين .
6 / 5 / 1 / 2 : سرعة الإختلافات الدينية ، وهى عادة سيئة في المجتمعات التي يسيطر عليها التدين السطحى الشكلى المظهرى الإحترافى . ظهر هذا في عدم الإعتراف بصلاة الجمعة ، وصلاتها أكثر من مرة مع صياح وشقاق .
6 / 5 / 1 / 3 : لأنهم صلوا الجمعة مرتين فقد إعتقدوا بموت السلطان برسباى عاجلا . كان هناك إعتقاد أنه إذا جاء يوم العيد في يوم الجمعة وصارت خطبتين للعيد والجمعة فالمعنى أنه نذير شؤم بقتل السلطان أو عزله . في هذه الحادثة ــ حيث أقيمت صلاة الجمعة مرتين في الجامع الأزهر ــ تشاءم الناس بزوال السلطان برسباى .!
6 / 6 : ( هذا، وقد شنع الموت بالدور السلطانية في أولاد السلطان الذكور والإناث، وفي حظاياه وجواريه، وجوارى نسائه، وفي الخدام الطواشية، وفي المماليك السلطانية سكان الطباق بالقلعة. وشنع الموت أيضاً في الناس بالقاهرة ومصر وما بينهما، وفي سكان قلعة الجبل، سوى من ذكرنا، وفي بلاد الواحات والفيوم، وبعض بلاد الصعيد، وبعض الحوف بالشرقية ) . المقريزى يذكر وصول وباء الطاعون الى قمته ، وهو كالعادة لا يفرّق بين أمير وأجير ، غنى أو فقير، ولا بين جوارى السلطان ولا زوجات السلطان ولا حظايا السلطان ! .
6 / 7 ( وفي هذا الشهر: ثار عشير بلاد الشام قيسها وتميمها وتحاربوا في سادسه، فقتل من الفريقين جماعات، يقول المكثر زيادة على ألف، ويقول المقل دون ذلك، فنزل بأهل الشام الخوف الشديد، مع ما بهم من البلاء العظيم بكثرة الموتان عندهم، حتى لا يكاد يوجد بها إلا حزين على ميت. ومع ما أصابهم من إتلاف فواكههم عن آخرها ).
مع وصول الوباء الى قمته ثارت حرب أهلية بين عشائر قبيلتى قيس وتميم في الشام ، كأن الطاعون وحده لا يكفى . ألا تجد شبها بين كورونا اليوم وإقترانها بحروب في اليمن وليبيا وسوريا مع كان يحدث في 6 شوال عام 841 ؟
لا جديد تحت الشمس في كوكب المحمديين.!
6 / 8 : ( وفي يوم الأربعاء حادى عشرينه: رفعت أوراق ديوان المواريث بعدة من مات في هذا اليوم بالقاهرة، فكانوا ثلاثمائة وأربعًا وأربعين ميتًا. وضبطت عدة من صلى من الأموات في المصليات، فبلغوا ما ينيف على ألف ميت ) . هذا تعداد للضحايا في القاهرة فقط وقت وصول الوباء الى قمته .
6 / 9 : ( وفي ثالث عشرينه: إستقل الحاج من البركة بالمسير ) . قوافل الحجاج خرجت من بركة ( الحاج ) خارج القاهرة الى الحجاز تحمل معها الطاعون .!
7 ـ ( شهر ذى القعدة، أهل بيوم السبت:)
( والناس في أنواع من البلاء الذى لم نعهد مثله مجتمعًا، وهو أن السلطان تزايدت أمراضه، وأرجف بموته غير مرة، وشنع الموت في مماليكه سكان الطباق، حتى لقد مات منهم في هذا الوباء نحو آلاف. ومات من الخدام الخصيان مائة وستون طواشي، ومات من الجوارى بدار السلطان زياده على مائة وستين جارية، سوى سبع عشرة حظية وسبعة عشر ولدًا، ذكورا وإناثًا ، وشمل عامة دور القاهرة ومصر وما بينهما الموت أو المرض، وكذلك جميع بلاد الشام من الفرات إلى غزة، حتى أن قفلًا ( مجموعة قوافل ) توجه من القاهرة يريد دمشق، فما نزل بالعريش حتى مات ممن كان سائرًا فيه زيادة على سبعين إنسانًا، منهم عدة من معارفنا. ومع هذا كساد المبيعات وتعطل الأسواق، إلا من بيع الأكفان وما لابد للموتى منه، كالقطن ونحوه، إلا أنه منذ أهل هذا الشهر أخذت عدة الأموات تتناقص في كل يوم ) .
نلاحظ :
7 / 1 / 1 : في شهر ذي القعدة إشتد مرض برسباى ، وإشتد الطاعون في إهلاك مماليكه السلطانية الجنود المحاربين ، والطواشية الخدم ، وجاء المقريزى بإحصاء للموتى منهم . أما الموتى خارج قصر السلطان وقلعته في مصر والشام فقد أهلك الطاعون معظم الناس ، وحلّ الكساد سوى ما يتصل بالموت مثل الأكفان .
7 /1 / 2 : بعدها بدأ إنحسار الوباء ، وبدأ العدد يتناقص بالتدريج .
7 / 2 : ( وفي هذا الشهر: أتلف الجراد بضواحى القاهرة كثيرًا من المقاتى، كالخيار والبطيخ والقثاء والقرع. ووقع الطاعون في الغنم والدواب. ووجد في النيل سمك كثير طاف قد مات من الطاعون. وأما الطاعون فإنه كما تقدم إبتدأ بالقاهرة من أول شهر رمضان، وكثر في شوال حتى تجاوز عدة من يصلى عليه في مصلى باب النصر كل يوم أربعمائة ميت، سوى بقية المصليات وعدتها بضع عشرة مصلى. ومع ذلك فلم تبلغ عدة من يرفع في أوراق ديوان المواريث قط أربعمائة. وسببه أن الناس أعدوا توابيت للسبيل، ومعظم من يموت إنما هم الأطفال والإماء والعبيد، فلا يحتاج أهلهم إلى إطلاقهم من الديوان. ).
نلاحظ :
7 / 2 / 1 : إنتقال الطاعون في الغنم والدواب والأسماك ، مع هجوم الجراد .
7 / 2 / 2 : يشير المقريزى الى أن الإحصاء طبقا لديوان المواريث لا يعبر عن الحقيقة لأن الموتى من العبيد والأطفال ليس لهم تركة ولا ورثة .
7 / 3 : ( ومن أعجب ما وقع في هذه الأيام أن رجلاً نادى على قباء في عدة أسواق، فلم يجد من يشتريه لكساد الأسواق. وكان سوق الرقيق قد أغلق وتعطل بيع الرقيق فيه لكثرة من يموت منهم، فإحتاج رجل إلى بيع عبد له، فأخذه بيده وصار ينادى عليه في شارع القاهرة: " من يشترى هذا العبد" فلم يجبه أحد، مع كثرة الناس بالشارع، وإنما تركوا شراءه خوفًا من سرعة موته بالطاعون ، وقد تناقصت عدة الأموات بالقاهرة ومصر منذ أهل هذا الشهر، كما تقدم ).
8 ـ ( شهر ذى الحجة، أُهلّ بيوم الإثنين:
8 / 1 : ( والناس بديار مصر من قلة الخدم في عناء وجهد، فإنه مات بالقاهرة ومصر وما بينهما في مدة شهر رمضان وشوال وذى القعدة زيادة على مائة ألف إنسان، معظمهم الأطفال، وأكثر الأطفال البنات، ويلي الأطفال في كثرة من مات الرقيق، وأكثر من مات من الرقيق الإماء، بحيث كادت الدور أن تخلو من الأطفال والإماء والعبيد. وكذلك جميع بلاد الشام بأسرها ) هذه إحصائية خاصة بالعاصمة فقط . وكادت بيوت القاهرة تخلو من الأطفال والرقيق .! والحال أفظع في الريف والأقاليم .
8 / 2 ( وفي هذا الشهر ذي الحجة: والذى قبله فشا الموت بالطاعون في الإسكندرية، ودمياط، وفوه، ودمنهور، وما حول تلك الأعمال، فمات بها عالم كبير. وتجاوزت عدة من يموت بالإسكندرية في كل يوم مائة إنسان ). هذا بعد موت برسباى ،
9 ـ يقول في تأريخه في نهاية هذا العام : ( ومات في هذه السنة بالطاعون وفي الحرب عالم عظيم جدًا من أهل الأرض،). مات بالطاعون وبالحروب ملايين . أكابر المجرمين من المماليك لم يفعلوا شيئا في مواجهة الطاعون ، بل أضافوا ضحايا في حروبهم .
تعليق :
1 ـ تجوّل الطاعون شرقا وغربا ، كان يتنقل كما يحلو له بلا رادع . هذا مع استمرار الحروب التي يشعلها أكابر المجرمين .
2 ـ ألا يذكرنا هذا بعصرنا البائس حيث تتعانق الحروب والقلاقل مع كورونا وما يتحوّر منها وعنها ؟!!
قال جل وعلا : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) الأعراف ).
ودائما : صدق الله العظيم .!
شهر شوال، أهل بيوم الخميس:
السلطان ينتقم من المتسولين . قال المقريزى :
( وفيه ( شوال 841 ) ركب السلطان من القلعة، وأقام يومه بخليج الزعفران خارج القاهرة. وعاد من آخره بعد أن فرق مالاً في الفقراء، فتكاثروا على متولى تفرقة ذلك، حتى سقط عن فرسه، فغضب السلطان من ذلك، وطلب سلطان الحرافيش، وشيخ الطوائف، وألزمهما بمنع الجعيدية أجمعين من السؤال في الطرقات، وإلزامهم بالتكسب، وأن من شحذ منهم يقبض الوالى عليه، وأُخرج ليعمل في الحفير. فامتنعوا من الشحاذة، وخلت الطرقات منهم، ولم يبق من السؤّال إلا العميان والزمناء وأرباب العاهات، ولم نسمع بمثل ذلك. فعم الضيق كل أحد، وانطلقت الألسنة بالدعاء على السلطان، وتمنى زواله، فأصبح في يوم الأربعاء سابعه مريضًا قد إنتكس، ولزم الفراش. ) .
تعليق
1 : عاقب برسباى الشحاذين بمنعهم من التسول ، وكانوا طوائف أهمهم كان يطلق عليهم إسم ( الجعيدية ) ، وكانت لهم ما يعرف الآن بالنقابة ، ولطائفة الحرافيش ( العوام ) كبير ، هو : ( سلطان الحرافيش ) وبقية المتسولين كانوا طوائف لهم شيوخ . هذا يدل على ارتفاع نسبة الفقراء وتعدّد طوائفهم . وكانت العادة أنه إذا وقف شخص يتبرع يتزاحمون عليه وقد يوقعونه من فوق فرسه . وحدث هذا مع الذى كان يفرّق صدقات برسباى . هددهم بالتسخير في الحفر .
2 : لم يكن هذا العقاب مسبوقا فسخط الناس على السلطان ، ودعوا عليه فازداد مرضه . قال المقريزى يعبّر عن مشاعره ومشاعر الناس الساخطة على برسباى : ( ولم نسمع بمثل ذلك. فعم الضيق كل أحد، وانطلقت الألسنة بالدعاء على السلطان، وتمنى زواله، فأصبح في يوم الأربعاء سابعه مريضًا قد إنتكس، ولزم الفراش. ).
3 : لا ننسى أن برسباى ( المشهور بالبخل والجشع ) إضطر للتصدق حين إشتد عليه المرض . وهكذا شأن أكابر المجرمين عند المحنة .
استمرار اضطهاد أهل الكتاب مع الطاعون ومرض السلطان .
قال المقريزى :
1 :( وفيه ( أول شوال ) خلع السلطان على الأمير أسنبغا الطيارى، وإستقر حاجب ميسرة، عوضاً عن جانبك الناصرى المتوفى بمكة، فأراق الخمور من دور النصارى وغيرهم. ). إفتتح عمله بالهجوم على بيوت الأقباط معتقدا أن هذا سيوقف الطاعون ، وبه سيتم شفاء السلطان .
2 :( وفي هذه الأيام: إشتد البلاء بأهل الذمة من اليهود والنصارى، وألزمهم الذى ولّى أمر مواريثهم أن يعملوا له حساب من مات منهم من أول هذه الدولة الأشرفية، وإلى يوم ولايته. وأخرق بهم وأهانهم. وألزمهم أيضًا أن يوقفوه على مستنداتهم في الأملاك التى بأيديهم، فكثرت الشناعة عليه، وساءت القالة في الدولة. ) .
تعليق
1 ـ سبق أنه في شهر رمضان قام برسباى بتعيين بعض سفلة العوام قيّما على مواريث أهل الكتاب ليسلب مواريثهم ، وهجموا على بيوتهم بحجة إراقة الخمور وهدموا دير المغطس للاقباط .
2 ـ مرض السلطان الشديد لم يمنعه من ظلم أهل الكتاب وسلب تركات من يموت منهم . بل أخذ في فحص وثائق ممتلكاتهم من بداية سلطنته حتى ذلك الوقت . كان ظلما هائلا إستوجب التشنيع عليه حتى من غير أهل الكتاب.
مرض السلطان يغلب السلطان
( وفي هذه الأيام: تزايد بالسلطان مرضه. ومنذ إبتدأ به المرض، وهو أخذ في التزايد، إلا أنه يتجلد، ويظهر أنه عوفي. ويخلع على الأطباء، ويركب وسحنته متغيرة، ولونه مصفراً، إلى أن عجز عن القيام من ليلة الأربعاء سابعه. ).
تعليق
الله جل وعلا يعذّب أكابر المجرمين في الدنيا قبل الآخرة . قال جل وعلا : ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) 123 ) النساء ) . المستبد الذى يقهر شعبه بالتعذيب لا بد أن يتعرض لآلام التعذيب في حياته ؛ نفسيا وجسديا . وهو يتحمل الألم حتى يبدو قويا أمام أصدقائه وأعدائه و (أعدقائه )، يتألّم وهو يبتسم حتى لا يظهر ضعفه ويطمع فيه الطموحون للسلطة . يظل المستبد يتظاهر بالقوة والعافية يكتم الآهات ويمنع نفسه من الصراخ إلى أن يقهره مرضه فيصرخ ويسقط .!. ضحاياه الذين يعذبهم هم أفضل حالا ، هم تحت التعذيب يخففون عن أنفسهم بالصراخ . في النهاية لم يتحمل برسباى ، وعجز ..وصرخ .!
الطاعون يطارد حُجّاج المحمل
( وفي يوم الإثنين تاسع عشرة: خرج محمل الحاج مع الأمير أقبغا الناصرى أحد الطبلخاناه ، ونزل بركة الحجاج على العادة، فمات عدة ممن خرج بالطاعون، منهم ابن أمير الحاج وأبيه، في هذا اليوم ومن الغد بعده. ) .
تعليق
إن كانت للطاعون فائدة فإنه قد قضى على أشرس المماليك ، وهم المماليك الجلبان السلطانية ( الأشرفية ). وكانوا يتسلطون على المصريين بالسلب والنهب والإغتصاب والإهانة .
السلطان يكرّم طبيبيه ثم يأمر بتوسيطهما
1 ـ ( وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: خلع على الأطباء لعافية السلطان.)، عافية مؤقتة فرح بها السلطان فكافأ الأطباء .
2 ـ ثم كانت الكارثة بعدها مباشرة، وهى توسيط إثنين من أكابر الأطباء . التوسيط هو قتل الضحية بقطعه نصفين ، أي يضربونه بالسيف في منتصف جسده ، فيصبح جسده نصفين منفصلين ، وتنهار أحشاؤه على الأرض ، ويظل يعانى الى أن يموت . موتة فظيعة إشتهر بها أكابر المجرمين المماليك. قطع الرقبة أخف ألما . يقول المقريزى :
( وفي يوم السبت رابع عشرينه: وسّط السلطان طبيبيه اللذين خلع عليهما بالأمس( يقصد أمس الأول )، وهما العفيف وزين خضر، وذلك أنه حرص على الحياة، وصار يستعجل في طلب العافية، فلما لم تحصل له العافية ساءت أخلاقه، وتوهم أن الأطباء مقصرون في مداواته، وأنهم أخطأوا التدبير في علاجه، فطلب عمر بن سيفا والى القاهرة، فلما مثل بين يديه، وهو جالس وبين يديه جماعة من خواصه، منهم صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر، والأمير صفى الدين جوهر الخازندار ...، وفيهم العفيف وخضر . أمره أن يأخذ العفيف ويوسطه بالقلعة. فأقامه ليمضي فيه ما أمر به، وإذا الخضر فأمره أن يوسط خضر أيضًا، فأخذ الآخر وهو يصيح. فقام أهل المجلس يقبلون الأرض، ومنهم من يقبل رجل السلطان، ويضرعون إليه في العفو، فلم يقبل، وبعث واحدًا بعد أخر يستعجل الوالى في توسيطهما وهو يتباطاً، رجاء أن يقع العفو عنهما. فلما طال الأمر بعث السلطان من أشد أعوانه من يحضر توسيطهما ، فخرج وأغلظ للوالى في القول. فقدم لعفيف فاستسلم، وثبت حتى وُسّط قطعتين بالسيف. وقدم خضر، فجزع جزعا شديداً، ودافع عن نفسه، وصاح، فتكاثروا عليه فوسّطوه توسيطًا شنيعا، لتلوّيه وإضطرابه. ثم حُملاً إلى أهليهما بالقاهرة. فساء الناس ذلك، ونفرت قلوبهم من السلطان، وكثرت قالتهم، فكانت حادثة لم ندرك مثلها.) .!
التعليق
1 ـ تعذيب برسباى بالمرض الفظيع أفقده عقله فظن أن طبيبيه أهملا علاجه فأمر بقتلهما شرّ قتلة . بالتوسيط.! . الطبيبان ــ وهما من أهل الكتاب ــ كانا في حضرته مع المقربين عنده فأمر بتوسيط أولهما ، ثم ظهر الآخر فأمر بتوسيطه أيضا. توسّل الحاضرون للسلطان أن يعفو عنهما فلا ذنب لهما ، ولكنه تمسّك برأيه . تباطأ ( والى القاهرة / مدير الأمن ) في التنفيذ لعل السلطان يقبل الشفاعة فيهما ، ولكن السلطان أرسل رسولا يشهد التنفيذ ، وأغلظ هذا الرسول للوالى ، فاضطر للتنفيذ. أحدهما إستسلم فكان حاله أهون ، الآخر ظلّ يتلوّى ويقاوم فأتعب نفسه .
2 : نقم الناس على برسباى ، وكثرت أقاويلهم فيه .
3 : تقبيل الأرض بين يدى السلطان المملوكى كان من المراسم . وهو سجود كامل له . وكان مفروضا على الشريف أمير مكة أن يسجد ليقبل حافر الجمل الذى يرسله السلطان المملوكى الى مكة ضمن ركب الحجّاج . قاضى القضاة ابن حجر ( أمير المؤمنين في الحديث ) يرى هذا شرعا مقبولا .!
السلطان يعقد إجتماعا مع أكابر معاونية
( ومن حينئذ تزايد البلاء بالسلطان إلى يوم الخميس تاسع عشرينه، فاستدعى السلطان الأمير الكبير جقمق العلاى الأتابك ومن تأخر من الأمراء المقدميِن، وقال لهم: انظروا في أمركم، وخوّفهم مما جرى بعد المؤيد شيخ من الإختلاف وإتلاف أمرائه، فطال الكلام، وإنفضوا عنه، على غير شىء عقدوه، ولا أمرًا أبرموه.).
تعليق
عاش برسباى تحت عذاب المرض حتى يوم الخميس 29 شوال حين أيقن بالموت فإستدعى قائد الجيش ( الأتابك ) جقمق و كبار القادة ( المجلس العسكرى في عصرنا ) ، وأمرهم أن ( ينظروا في حالهم ) وخوّفهم من الاختلاف والحروب بينهم كما حدث بعد المؤيد شيخ وصراعه مع رفيقه نيروز. ولكنهم إختلفوا .
شهر ذى القعدة، أهل بيوم السبت:
تنوع البلاء من الطاعون الذى يحصد المماليك الجلبان ، والسلطان مُشرف على الموت ، وما يعنيه هذا من فتن وثورات ويدفع ثمنها المستضعفون .
قال المقريزى :
( والناس في أنواع من البلاء الذى لم نعهد مثله مجتمعًا، وهو أن السلطان تزايدت أمراضه، وأرجف بموته غير مرة، وشنع الموت في مماليكه سكان الطباق ...) .
تعليق
1 ـ السلطان مريض والإشاعات كثيرة ، وفى العادة أن إقتراب موت السلطان مؤذن بوقوع الفتن والحروب ، والذى يدفع الثمن هم سكان القاهرة . ثم الطاعون منتشر ، ومن أفضاله أنه منتشر بين أسوأ أنواع المماليك ، وهم مماليك السلطان الأشرف برسباى ( الأشرفية ) . لذا قام بتعيين ابنه الطفل وليا للعهد ، وهو يوسف جمال الدين . يقول المقريزى : ( وفي يوم الثلاثاء رابعه: عهد السلطان إلى ولده المقام الجمالى يوسف. ).
2 ـ المقريزى يشمت في المماليك السلطانية الجلبان ( سكان الطباق ) والطاعون يحصدهم قتلا .
وأورد المقريزى التفصيلات في هذا الحدث الهام ، يقول :
2 ـ ( وذلك أنه لما تزايد به المرض، حدّث عظيم الدولة القاضى زين الدين عبد الباسط الأمير صفى الدين جوهر الخازندار في أمر المقام الجمالى، وأشار له أن يفاوض السلطان في وقت خلوته به، أن يعهد إليه بالسلطة من بعد وفاته، ويحسّن له ذلك، فإتفق أن السلطان أمر الأمير جوهر أن يحرر له جملة ما يتحصل من أوقافه على أولاده، فلما أوقفه على ذلك، وجد السبيل إلى الكلام، فأعلمه. بما أشار به القاضى زين الدين عبد الباسط من العهد إلى المقام الجمالى، فأعجبه ذلك، وأمر بإستدعائه ، فلما مثل بين يديه، سأله عما ذكر له جوهر عنه، فأخذ يحسّن ذلك، ويقول: في هذا إجتماع الكلمة، وسدّ باب الفتن، وعمارة بيت السلطان، ومصلحة العباد، وعمارة البلاد ، ونحو ذلك من القول.)
تعليق
1 : ( الخازندار ) هو الأقرب الى السلطان لأنه ( وزير مالية السلطان ) وهى غير مالية الدولة المملوكية . في الفتن بين أكابر المجرمين المماليك يكون هناك ضحايا خاسرين ، قد يفقد أحدهم حياته وأمواله، وربما يظل حيا ولكن تتم مصادرة أمواله .
2 ـ . الجناح المدنى من أكابر المجرمين من القادة العاملين في الوظائف الديوانية كالقاضى عبد الباسط والعاملين في الوظائف الدينية والتعليمية كالقاضى ابن حجر ــ إخترع أسلافهم حلا شرعيا يتمكن به الأمير أو السلطان المملوكى من تحصين ثروته من المصادرة حين ينهزم أو يموت تاركا ذرية ضعافا ينهب الآخرون تركاتهم . هذا الحلّ هو الأوقاف الأهلية . ( الأمير / السلطان) المملوكى يوقف ممتلكاته من أرض زراعية وحوانيت جارية على عمل خيرى مثل مدرسة أو خانقاة أو قُبّة أو مسجد ، ويعين فيها مجموعة من المدرسة والموظفين والطلبة ويجعل لهم مرتبات ومصاريف للشغل ، وهى بعض الفتات . ثم يعين نفسه أو إبنه قائما على الوقف . هذا هو ( الوقف الأهلى ) والذى به أقام المماليك عمائرهم الدينية في القاهرة وغيرها من المال السُّحت المنهوب . برسباى اقام له جامعا في القاهرة وآخر في الخانكة . وهو على فراش الموت كان يراجع إيراد الأوقاف التابعة له ، فطلب من الخازندار التابع له الأمير جوهر ( أن يحرر له جملة ما يتحصل من أوقافه على أولاده.) ، ورآها الخازندار فرصة ليفاتح برسباى في أن يعهد لإبنه جمال الدين يوسف.
3 : صاحب الإقتراح هو القاضي عبد الباسط أكبر رتبة في الجناح المدنى من أكابر المجرمين ، ولقبه ( عظيم الدولة القاضى زين الدين عبد الباسط ). مع هذا اللقب الفخم والمنصب الكبير فقد كان عبد الباسط ضحية مستمرة للمماليك السلطانية ، وهو يخشى موت السلطان برسباى ووقوع فوضى وفتن يكون هو من أبرز ضحاياها. لقد عانى عبد الباسط الكثير منهم ، منها ما ذكره المقريزى في أحداث شهر صفر عام 838 ، يقول: ( وفي يوم الخميس ثالث عشره‏:‏ ثارت مماليك السلطان سكان الطباق بقلعة الجبل وطلبوا القبض على المباشرين بسبب تأخر جوامكهم في الديوان المفرد، ففر المباشرون منهم ونزلوا من القلعة إلى بيوتهم بالقاهرة، فنزل جمع كبير من المماليك إلى القاهرة ، ومضوا إلى بيت القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش ، وهو يومئذ عظيم الدولة وصاحب حلِّها وعقدها ، فنهبوا ما قدروا عليه‏. ) .
لذا أوعز عبد الباسط للخازندار بإقتراح للسلطان أن يولى إبنه يوسف . يقول المقريزى :
( فأجاب السلطان إلى ذلك، ورسم له باستدعاء الخليفة والقضاة والأمراء والمماليك وأهل الدولة، وحضورهم في غد، فمضى عنه القاضى زين الدين ونزل إلى داره بالقاهرة، وبعث إلى المذكورين أن يحضروا غدًا بين يدى السلطان بكرة النهار، وتقدم إلى القاضى شرف الدين أبى بكر الأشقر نائب كاتب السر بكتابة عهد المقام الجمالى، وذلك أن القاضى صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر من حين وسط العفيف وخضر تغيّر مزاجه، وإشتد جزعه إلى أن حُمّ في ليلة الجمعة، ونزل من القلعة، ولزم الفراش ومرضه يتزايد، وقد ظهر به الطاعون في مواضع من بدنه، فبادر القاضى شرف الدين، وكتب العهد ليلاً. ).
تعليق :
كاتب السّر ( سكرتير السلطان ) ( القاضى صلاح الدين محمد بن نصر اللّه ) كان في أزمة نفسية بسبب حضوره مأساة توسيط الطبيبين ، وهو يخشى التوسيط ، ومن خوفه أصابته الحمى ولحقه الطاعون . والعادة أن كاتب السّر هو الذى يكتب عن السلطان ، وأهم ما يكتبه هو عقد ولاية العهد . لذا قام بالمهمة نائب كاتب السّر وهو أيضا قاضى .! ( القاضى شرف الدين أبى بكر الأشقر نائب كاتب السر ) فكتب ولاية العهد لابن السلطان .
مراسيم عقد ولاية العهد لابن السلطان
يقول المقريزى :
1 ـ ( وأصبح الجماعة في يوم الثلاثاء رابعه وهم بالقلعة، فأخرج السلطان إلى موضع يشرف على الحوش، وقد وقف به الأمير خشقدم الطواشى مقدم المماليك، ومعه جميع من بقى من المماليك السلطانية سكان الطباق بالقلعة، وجميع من هو أسفل القلعة، من المشتروات والمستخدمين.) .
تعليق
وصل الضعف بالسلطان برسباى أنه عجز عن الوقوف بنفسه، أوقفه مقدم المماليك ليرى من نجا من الطاعون من مماليكه (السلطانية ) الذين إشتراهم، وغيرهم من الموظفين في القلعة .
2 ـ ( وجلس الخليفة أمير المؤمنين المعتضد باللّه أبو الفتح داود، وقضاة القضاة الأربع على مراتبهم، والأمير الكبير جقمق العلائى أتابك العساكر، ومن تأخر من أمراء الألوف والمباشرون، ماعدا كاتب السر فإنه شديد المرض. ).
تعليق
تصدر الجلسة في عقد تولية السلطان لابنه أكابر المجرمين من الجناح المدنى : الخليفة العباسى وقضاة القضاة ( على مراتبهم ) أي يتقدمهم قاضى قضاة الشافعية ( إبن حجر العسقلانى ) ، وأكابر المجرمين من العسكر يتقدمهم الأتابك ( قائد الجيش ) الأمير جقمق العلائى . هذا بالإضافة الى برسباى ، وإبنه الصبى جمال الدين أبو المحاسن يوسف ، المراد تنصيبه سلطانا بعد أبيه .
3 ـ ( ثم قام القاضى زين الدين عبد الباسط وفتح باب الكلام في عهد السلطان من بعد وفاته لإبنه المقام الجمالى بالسلطنة، وقد حضر أيضًا مع أبيه، فاستحسن الخليفة ذلك وأشار به. ).
تعليق
تكلم القاضي عبد الباسط بالمطلوب ، وهو تولية ابن السلطان العهد بعد أبيه ، فإستحسن الخليفة العباسى هذا . وكانت مهمة الخليفة العباسى في الدولة المملوكية أن يكون ( الماذون ) الذى يعقد قران السلطان على السلطنة ، يعطيه شرعية دينية سُنّيّة .
4 ـ ( فتقدم القاضى شرف الدين الأشقر بالعهد إلى بين يدى السلطان، فأشهد السلطان على نفسه بأنه عهد إلى ولده الملك العزيز جمال الدين أبى المحاسن يوسف من بعد وفاته بالسلطنة، فأمضى الخليفة العهد، وشهد بذلك القضاة.) .
تعليق
القاضي شرف الدين الأشقر هو نائب كاتب السّر ( سكرتير السلطان ) وهو الذى كتب العقد ، وهو الذى قدّم العقد للسلطان برسباى في المجلس فأشهد السلطان على نفسه بأن يكون إبنه ( العزيز جمال الدين أبى المحاسن يوسف ) هو السلطان بعد وفاته . وقدم القاضي شرف الدين الأشقر العهد للخليفة العباسى فقام الخليفة بإمضائه والتوقيع عليه ، ووقّع القضاة الأربعة بشهادتهم على العقد . بهذا تمّت تولية الصبى ( العزيز جمال الدين أبى المحاسن يوسف ) ولاية العهد ، أي سيكون سلطانا بمجرد وفاة أبيه . ونرى هنا البطولة المطلقة لأكابر المجرمين من رجال الدين ، الخليفة والقضاة في المناصب الدينية والديوانية ، هم الذين يقومون بتولية السلطان المملوكى . وهى دولة دينية عسكرية ، وليست دولة عسكرية دينية .
5 ـ ( ثم إن السلطان التفت إلى مقدم المماليك وكلمه بالتركية ــ والمماليك تسمعه ــ كلاما طويلا ليبلغه عنه إلى المماليك، حاصله أنه إشتراهم ورباهم، وأنهم أفسدوا فسادًا كبيرًا، عدّد فيه ذنوبهم، وأنه تغيّر من ذلك عليهم ، ومازال يدعو اللّه عليهم حتى هلك منهم من هلك في طاعون سنة ثلاث وثلاثين، ثم إنه إشترى بعدهم طوائف ورباهم، فشرعوا أيضًا في الفساد، كما فعل أولئك الهالكون بدعائه، وأنه قد وقع فيكم الطاعون فمات منكم من مات، وقد عفوت عنكم، وأنا ذاهب إلى اللّه وتارك ولدى هذا وهو وديعتي عندكم، وقد إستخلفته عليكم، فإدعوا له وأطيعوه، ولا تختلفوا، فيدخل بينكم غيركم فتهلكوا. وأوصاهم ألا يغيروا على أحد من الأمراء وأن يبقوا الأمراء المجردين على أمرياتهم، ولا يغيروا نواب الممالك. فإشتد عند ذلك بكاؤهم، وبكى الحاضرون أيضاً ، ثم أقسم السلطان وأعيد إلى فراشه، وقد كتب الخليفة بإمضاء عهد السلطان، وشهد عليه فيه القضاة بذلك.)
تعليق
1 : الدهاء لم يفارق برسباى في مرضه ، فهو يعرف أن أكابر المجرمين العسكر هم الذين يملكون عمليا وفعليا ( الحلّ والعقد ) وأن ما قام به أكابر المجرمين من رجال الدين هو مجرد تمثيلية، تنجح فقط إذا إرتضاها كبار المماليك. الواقع إنهم سيتصارعون بعد موته لأنهم لا يقبلون أن يحكمهم صبى لمجرد أنه إبن سلطانهم ، فهم الأحق بالسلطة منه ، فالحكم للأقوى ، والصراع بينهم هو الذى سيحدد من هو الأقوى ، وهو الذى سيتولى السلطنة ، وقد حدث هذا بالفعل ، إذ فاز الأتابك جقمق وعزل الصبى ولى العهد ، وجىء بالخليفة والقضاة ليقوموا بنفس التمثيلية بلا أدنى خجل .!
2 : لذا خاطب برسباى المماليك بلسانهم التركى ، خطابا دينيا مؤثرا ، ذكّر مماليكه الجلبان السلطانية أنه إشتراهم ورباهم، وأنهم أفسدوا فسادًا كبيرًا، وعدّد فيه ذنويهم، وأنه دعا عليهم فأصابهم الطاعون عام 833 ، وإشترى غيرهم ( مماليك جلبانا أيضا ) فأفسدوا أيضا فدعا عليهم فوقع فيهم الطاعون أيضا ، وخاطبهم خطابا عاطفيا بأنه عفا عنهم : ( وقد عفوت عنكم، وأنا ذاهب إلى اللّه وتارك ولدى هذا وهو وديعتي عندكم، وقد إستخلفته عليكم، فإدعوا له وأطيعوه..) جعل برسباى نفسه وليا مقدّسا مستجاب الدعوة ، وأن الطاعون حدث بدعائه على مماليكه المجرمين . واسفر خطابه هذا على بكائهم ، وهو بكاء سياسى ، يتلاعبون فيه بالسلطان الذى يوشك على الموت ، ولكن لا يزال يملك شرعية قتل من يشاء منهم بمجرد كلمة ينطقها . نعرف من هذا أن الأخبار تأتى طازجة للمقريزى ، حتى ما كان منها ترجمة لكلام برسباى بالتركية .
6 ـ ( ثم كتب القاضى شرف الدين الأشقر إشهادًا على السلطان بأنه جعل الأمير الكبير جقمق العلاى قائما بتدبير أمور الملك العزيز، وأخذ فيه خط الخليفة بالإمضاء، وشهادة القضاة عليه بذلك، فألصقه بالعهد، وإنفضوا جميعهم.) . الخطوة التالية قام بها القاضي شرف الدين الأشقر وهو تعيين الأتابك ( الأمير الكبير جقمق العلاى قائما بتدبير أمور الملك العزيز).
تعليق
1 ـ وقّع على القرار الخليفة والقضاة ، وتم إلصاقه بالعهد .
2 ـ تعيين الأتابك قائد الجيش قائما بتدبير الأمور ، يعنى إنه الذى سيعزل ـ فيما بعدُ ــ السلطان الصغير ويتولى مكانه . وهذا ما حدث .
7 ـ ( وفي هذا اليوم: أنفق في المماليك السلطانية كل واحد مبلغ ثلاثين دينارا، فكانت جملتها مائة وعشرون ألف دينار. ).
تعليق
ثم كانت رشوة من ظل حيا من المماليك السلطانية إتّقاء شرّهم .
8 ـ (وفيه خلع على تغرى بردى ، أحد أتباع التاج الشويكى ، وإستقر في ولاية القاهرة، عوضًا عن عمر بن سيفا أخى التاج ، فإنه مرض بالطاعون ، من آخر نهار الجمعة. )
تعليق
مات بالطعون أحد أكابر المجرمين ، وهو عمر أخ تاج الدين ، وقد كان مشهورا بالفساد . وتولى مكانه أحد أتباعه الذى كان بالطبع مشاركا له في الفساد . الطاعون يلتهمهم وهم لا يتوبون ولا يتذكرون ، شأن ما يحدث الآن تحت قصف كورونا ، ولا يعتبر أكابر المجرمين في كوكب المحمديين .
9 ـ ( وفي يوم الجمعة سادسه: إستدعى الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه إلى القلعة. فلما مثل بين يدى مولانا السلطان أمر به، فخلع عليه، وإستقر به في كتابة السر، عوضًا عن ولده صلاح الدين محمد، وقد توفي. فنزل في موكب جليل على فرس رائع بقماش ذهب، أخرج له من الاصطبل السلطانى. وخلع معه أيضاً على نور الدين على بن السويفي، وإستقر في حسبة القاهرة، عوضًا عن دولت خجا، وقد مات في أول الشهر .).
تعليق
1 ـ برسباى لا يزال يمارس سلطاته رغم مرضه وتولية إبنه العهد .
2 ـ الطاعون لا يزال يتخطف أكابر المجرمين .
10 ـ ثم أسقط المرض برسباى . يقول المقريزى :
( ومن يوم السبت خامس عشرة: إشتد مرض السلطان، ثم حجب عن الناس، فلم يدخل إليه أحد من الأمراء والمباشرين عدة أيام، سوى الأمير أينال شاد الشربخاناه، والأمير على بيه، والأمير صفى الدين جوهر الخازندار، والأمير جوهر الزمام. فإذا صعد القاضى زين الدين عبد الباسط والمباشرون إلى القلعة، أعلمهم هؤلاء بحال السلطان. هذا، والإرجاف يقوى، والأمراء والمماليك السلطانية في حركة، وقد صاروا فرقًا مختلفة الآراء. والناس على تخوف من وقوع الحرب، وقد وزعوا في دورهم، وأخفى أهل الدولة أولادهم ونساءهم خوفًا من النهب، وأهل النواحى بالصعيد والوجه البحرى قد نجم النفاق فيهم، وخيفت السبل، شامًا ومصراً. وقد تناقصت عدة الأموات بالقاهرة ومصر منذ أهل هذا الشهر، كما تقدم. ) .
تعليق
1 : تغير الموقف حين منعت شدة المرض برسباى من الظهور للناس ، فإحتجب عن مقابلة أكابر المجرمين في دولته ، أحاط به أربعة من خواصّه ، من أكابر المجرمين ، ومنعوا القاضي عبد الباسط من الدخول عليه ، فإنتشرت الشائعات ، وبدأ المماليك في التحزّب كالعادة ، وتكوين مراكز قوى توطئة لصراع قادم ، يكون فيه السلطان الصغير إبن برسباى مجرد فترة إنتقالية ، حتى ينتصر الأقوى من المماليك ويتولى السلطنة مكانه . وهذا الصراع سيكون من ضحاياه أكابر المجرمين من الجناح المدنى ، لذا تحسبوا للأمر مقدما فأخفوا أولادهم ونساءهم خوف الإغتصاب ، وأخفوا أموالهم خوف السلب والنهب . والقائمون بالسلب والنهب والإغتصاب هم المماليك السلطانية ، وغيرهم أيضا ، فالوليمة حافلة ، والذئاب كثيرون .
2 : إذا كان هذا هو الحال عن صرعى الطاعون والانهيار الأمني في القاهرة ، فالوضع خارجها أفظع وأضل سبيلا ، ولكنها بعيدة عن مسامع المؤرخين ، ومنهم شيخنا المقريزى ، فقال كلاما عامّا فضفاضا : ( وأهل النواحى بالصعيد والوجه البحرى قد نجم النفاق فيهم، وخيفت السبل، شامًا ومصراً ).!
شهر ذى الحجة، أهل بيوم الإثنين:
يصف المقريزى أحوال الناس في مصر وغيرها ، فيقول :
( والناس بديار مصر من قلة الخدم في عناء وجهد، فإنه مات بالقاهرة ومصر وما بينهما في مدة شهر رمضان وشوال وذى القعدة زيادة على مائة ألف إنسان، معظمهم الأطفال، وأكثر الأطفال البنات، ويلي الأطفال في كثرة من مات الرقيق، وأكثر من مات من الرقيق الإماء، بحيث كادت الدور أن تخلو من الأطفال والإماء والعبيد. وكذلك جميع بلاد الشام بأسرها. )
تعليق
1 ـ هنا أكثر من 100 الف ضحية للطاعون في القاهرة وضواحيها ، أما في كل أنحاء مصر فلا تعداد لهم ، ولا وزن لهم أيضا . ونفس الحال في جميع بلاد الشام بأسرها ، ومعظم الضحايا من الأطفال والرقيق ، خصوصا البنات ، بحيث كادت تخلو البيوت منهم ومنهن .
وعن تطور مرض برسباى يقول : ( وأما السلطان فحدث له مع سقوط شهوة الغذاء مدة أشهر، ومع إنحطاط قواه ماليخوليا ، فكثر هذيانه وتخليطه، ولولا أن اللّه تعالى أضعف قوته لما كان يؤمن مع ذلك من إفساد شىء كثير بيده، إلا أنه في أكثر الأوقات غائب، فإذا أفاق هذى وخلط. ) .
تعليق
1 : دخل برسباى في الإغماء والهذيان بسبب شدة آلامه وإستمرارها . ومع تفاقم حالته وهذيانه صار ابنه هو السلطان الفعلى ، كما سيظهر في الأحداث التالية .
2 : ويكتب المقريزى تعليقا مؤلما وظريفا أيضا ، يقول : ( ولولا أن اللّه تعالى أضعف قوته لما كان يؤمن مع ذلك من إفساد شىء كثير بيده، ) غيابه العقلى وهذيانه كفّه عن الظلم والفساد ، لأنّه وهو حاضر الذهن يتفنّن في الظلم والفساد . هو الان إما في غيبوبة أو في هلوسة وهذيان .( ماليخوليا ).! المرض فقط هو الذى يمنعه من الظلم ، وهو مع ذلك يجعلونه سلطان الإسلام .!!
3 ـ مراعاة لحال المستضعفين المظلومين والمساجين الأبرياء الذين يتعرضون للتعذيب في عصرنا البائس ، نقول :
3 / 1 : متى يحلُّ المرض العضال بأكابر المجرمين ؟!!
3 / 2 : ماذا لو أصابهم شلل رعّاش يجعلهم عبرة لمن يخشى ؟!!
3 / 3 : أين كورونا ..!!؟
استمرار الطاعون
( وفي هذا الشهر: والذى قبله فشا الموت بالطاعون في الإسكندرية، ودمياط، وفوه، ودمنهور، وما حول تلك الأعمال، فمات بها عالم كبير. وتجاوزت عدة من يموت بالإسكندرية في كل يوم مائة إنسان. )
وقت إشراف السلطان على الموت انقسم المماليك الى حزبين .
يقول المقريزى :
( وصِار العسكر في الجملة قسمين: قسم يقال عنهم أنهم قرانصة، وهم الظاهرية والناصرية والمؤيدية، وكلمتهم متفقة على طاعة الملك العزيز، وأن يكون الأمير الكبير جقمق العلاى نظام الملك، كما قرره السلطان، وأنهم لا يصعدون إلى القلعة خوفًا على أنفسهم من المماليك الأشرفية. والقسم الآخر المماليك الأشرفية سكان الطباق بالقلعة ورأيهم أن يكون الملك العزيز مستبدًا بالأمر وحده، وأعيانهم الأمير أينال شاد الشرابخاناه، والأمير يخضى باى أمير أخور ثاني، والأمير على بيه الخازندار، والأمير مغلباى الجقمقى أستادار الصحبة، والأمير قرقماس قريب السلطان. وهذه الطائفة الأشرفية مختلفة بعضها على بعض. ).
تعليق
أصبحوا قسمين :
1 ـ المماليك الكبار القدماء الذين أعتقهم من قبل الظاهر برقوق والناصر فرج والمؤيد شيخ ( الظاهرية والناصرية والمؤيدية ) ، وأطلق عليهم لقب ( القرانصة ) . وهم يعيشون خارج القلعة. ورأيهم أن تكون السلطة للأمير جقمق ، وهو مثلهم يعيش خارج القلعة .
2 ـ المماليك السلطانية الجلبان الذين يعيشون في القلعة بجانب برسباى ، والذين اشتراهم الأشرف برسباى ( الأشرفية )، وهم يريدون أن يكون السلطان الصغير مستبدا بالأمر بلا وصاية وتدخل من جقمق . وبسبب سيطرتهم على القلعة فقد كان يخشى الحزب الآخر من الصعود للقلعة . وهؤلاء المماليك في الحقيقة يريدون الاستئثار بالسلطة في وجود السلطان الصغير ، ومنهم أقارب لبرسباى مثل الأمير قرقماس . ولا يخلو الأمر من خلاف بينهم في إطار التصارع على النفوذ. وهذا يُنبىء بفتنة .
ناظر الجيش عبد الباسط بإصلاح ما بين الفريقين لاخماد الفتنة
يقول المقريزى :
( فلما إشتهر أمر هذين الطائفتين وشنعت القالة عنهما، قام عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط في لمّ هذا الشعث، وإخماد نار الفتنة ليصلح بين الفريقين. ووافقه على ذلك الأمير أينال الشاد، فإستدعى سكان الطباق من المماليك إلى جامع القلعة، وأرسل إلى القضاة. فلما تكامل الجمع مازال بهم حتى أذعنوا إلى الحلف، فتوفى تحليفهم القاضي شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر، على الإقامة على طاعة الملك العزيز، والإتفاق مع الأمير الكبير جقمق، وألا يتعرض أحد منهم لشر ولا فتنة، ولا يتعرضوا لأحد من الأمراء المقيمين بديار مصر، ولا إلى الأمراء المجردين ولا إلى كفلاء ممالك الشام في نفس ولا مال ولا رزق. فلما حلف الأمير أينال والأمير على بيه، والأمير تمرباى الدوادار، وعامة المماليك، حلف القاضي زين الدين عبد الباسط أن يكون مع الفريقين، ولا يباطن طائفة على الأخرى، ثم قام الجميع، وقصد القاضي زين الدين دار الأمير الكير جقمق، ومعه عدة من أعيان الأشرفية، حتى حلفه، وحلف بعده من بقى بديار مصر من الأمراء. ثم نزل بعد ذلك الأمير أينال ثم الأمير على بيه إلى الأمير الكبير جقمق، وقبل كل منهما يده، فإبتهج بهما، وبالغ في إكرامهما. وسكنت تلك الثائرة. وللّه الحمد. )
تعليق
البطولة هنا للقاضى زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش . استدعى القُضاة الأربعة ونائب كاتب السّر ، والمماليك الأشرفية الجلبان في مسجد القلعة ، ومازال بهم حتى حلّفهم على طاعة السلطان الصغير ( الملك العزيز يوسف بن برسباى ) والاتفاق مع الأمير الكبير جقمق ، وألّا يتعرضوا لأحد ، وحلف عبد الباسط نفسه أن يكون مع الفريقين . ثم زار الأمير الكبير جقمق في بيته بالقاهرة ، ومعه أعيان المماليك الجلبان وجعله يحلف هو الآخر ، ثم كان تحليف بقية المماليك . وسكنت الفتنة .
السلطان الصغير يقوم بأول مهامه يوم عيد الأضحى
يقول المقريزى :
1 ـ ( وفي يوم الأربعاء عاشره: وهو يوم عيد النحر ، خرج الملك العزيز، فصلى صلاة العيد بجامع القلعة، وقد صعد إلى خدمته بالجامع الأمير الكبير جقمق، ومن عداه من الأمراء. ثم مشوا في الخدمة بعد الصلاة، حتى جلس على باب الستارة. وخلع على الأمير الكبير، وعلى من جرت عادته بالخلع في يوم عيد النحر. ونزلوا إلى دورهم. فقام الملك العزيز، ودخل، وذبح، ونحر الضحايا بالحوش . )
تعليق
السلطان الصغير يقوم بأول مهمة دينية في دولته الدينية العسكرية ، ينحر الذبائح يوم عيد الأضحى ، ويصلى صلاة العيد بجامع القلعة ، وفى خدمته الأمير الكبير جقمق ، ثانى رُتبة بعد السلطان . ثم يستكمل الإجراءات التالية من الخلع أو تكريم جقمق وكبار القادة .
برسباى يدخل في مرحلة احتضار طويلة مؤلمة .
يقول المقريزى :
( هذا، وقد توالت على السلطان نوب الصرع مرارًا، وتخلت قواه، حتى صار كما قيل. ولم يبق إلا نفس خافت ، ومقلة إنسانها باهت ، يرثى له الشامت مما به ، يا ويح من يرثى له الشامت. حتى مات عصر يوم السبت ثالث عشره. تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته. )
تعليق
السلطان ( السابق ) برسباى غائب عن الوعى يضربه الصرع من قوة الألم ، والمقريزى يصف حاله بين الاشفاق والشماتة . ثم مات عصر السبت 13 ذي الحجة .
مراسم التقليد الفعلى للسلطان ابن برسباى بعد موت برسباى
حمل لقب ( السلطان الملك العزيز جمال الدين أبو المحاسن يوسف ابن الأشرف برسباى) . يقول المقريزى :
( أقيم في الملك بعد أبيه، وذلك أن السلطان برسباى لما مات بادر القاضي زين الدين عبد الباسط، والأمير أينال الشاد، والأمير على بيه، والأمير تمرباى الدوادار، وقد اجتمعوا بالقلعة، وبعثوا في الحال القاضي شرف الدين الأشقر في إستدعاء الخليفة، وبعث القاضي زين الدين بعض غلمانه في طلب القضاة، فأتوا جميعًا. ودخل الأمير جوهر الزمام، فأخرج بالملك العزيز إلى باب الستارة، وأجلس هناك، وطلب الأمير الكبير جقمق وبقية الأمراء، ونزل الممالك من الطباق. فلما تكامل جمعهم، وحضر الوزير وكاتب السر، وناظر الخاص، فوض الخليفة السلطة للملك العزيز، وأفاض عليه التشريف الخليفتى، وقلده السيف ، وقد بقي لغروب الشمس نحو ساعة. وعمر السلطان يومئذ أربع عشرة سنة وسبعة أشهر، فقام من باب الستارة، وركب فرسه، ورفعت القبة والطير على رأسه، وقد حملها الأمير الكبير وسار، والكل مشاة في ركابه، حتى عبر إلى القصر، فجلس على تخت الملك وسرير السلطنة، وقبل الأمراء وغيرهم الأرض له. وقرأ العهد بالسلطنة الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه كاتب السر، فخلع على الخليفة، وعلى الأمير الكبير، وعلى كاتب السر. وخرجوا من القصر. )
تعليق
بموت السلطان قام ناظر الجيش بعقد مجلس عام في القلعة ، من الخليفة والقضاة الأربعة وكبار القادة المماليك وفى مقدمتهم جقمق الأمير الكبير ، والقضاة الأربعة ، والوزير وكاتب السّر وناظر الخاص . وجلس السلطان الصغير خلف ستارة . وأفاض الخليفة على السلطان خُلعة التشريف ، وفوّض السلطنة للصبى يوسف ( 14 سنة و 7 أشهر ) . بعدها وقف السلطان الجديد وركب فرسه ، وفوقه أعلام السلطنة ، وخلفه وفى خدمته الأمير الكبير جقمق وكبار القادة ، ودخل الى القصر ، وجلس على كرسى السلطنة ، وسجد الجميع ( بما فيهم قضاة الشرع ) أمام السلطان يقبّلون الأرض بين يديه ، وقرأ كاتب السّر العهد بالسلطنة للسلطان . وخلع السلطان على الخليفة والأمير الكبير جقمق ، وكاتب السّر .
جنازة برسباى .
قال المقريزى :
( وقد غسل السلطان الملك الأشرف برسباى وكفن، وأخرج بالجنازة من الدور إلى باب القلة فوضعت هنالك. وتقدم قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن حجر الشافعى فصلى بالناس عليها قبيل الغروب، وشيع الأمراء والمماليك وغيرهم الجنازة حتى دفنت بالتربة التى أنشأها رحمه اللّه خارج باب المحروق بالصحراء، تحت القبة. وقد إجتمع من الناس ما لا يحصيهم إلا خالقهم، سبحانه. )
تعليق
1 ـ بعد تغسيل الجثة وتكفينها خرجت جنازته ، وصلّى عليها ابن حجر العسقلانى ، وشيعوا الجنازة حتى دفنوه في قبر في مسجد أقامه في الصحراء . وشارك في تشييعه جماهير كثيرة .
2 ـ ابن حجر العسقلانى الفاسد هو الذى صلّى على برسباى . ونتذكر خبرا يخصُّ ابن حجر . يقول المقريزى :
( وفي يوم الثلاثاء سادسه: ( شوال ) : خلع على الإمام الحافظ شهاب الدين أبى الفضل أسد ابن على بن حجر، وأعيد إلى قضاء الشافعية بديار مصر، عوضاً عن قاضى القضاة علم الدين صاع البلقينى. وألزم أن يقوم لعلم الدين صالح بما حمله إلى الخزانة. هذا، وقد أظهر السلطان أنه لا يولى أحدًا من القضاة بمال، فإنه داخله وهم عظيم من كثرة تزايد الموت الوحى السريع في الناس، وموت كثير من المماليك السلطانية سكان الطباق من القلعة، وموت الكثير من خدام السلطان الطواشية، ومن جواريه وحظاياه وأولاده، فحمل إلى البلقينى من مال شهاب الدين بن حجر، لا من مال السلطان. ) . الطاعون الذى قضى على كثيرين من المماليك ، جعل برسباى يعيد ابن حجر قاضيا للقضاة بدون أن يأخذ منه رشوة ، مكتفيا بأن يدفع ابن حجر تعويضا من ماله الى قاضى القضاة المعزول ( علم الدين البلقينى ).
زيارة قبر السلطان في صباح اليوم التالى ، والتلاوة على قبره
قال المقريزى :
( وفي يوم الأحد رابع عشره: إجتمع أهل الدولة للصبحة عند قبر السلطان. وقد بات القراء يتناوبون القراءة، عند قبره ليلتهم، فختموا القرآن الكريم، ودعوا، ثم إنفض الجمع. وأقام القراء للقراءة عند القبر سبعة أيام. )
تعليق
هذا من إفك الأديان الأرضية للمحمديين ، إذ يؤمنون أن قراءة القرآن على قبر الميت تنفعه . لا يؤمنون بأنه ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن كتاب أعماله قد تم غلقه وقفله ، وهذا معنى الوفاة بالموت؛ توفية الموت وتوفية العمل . ولكن الكهنوت يسترزق من افك الطقوس .
رشوة المماليك ليستتب الأمن في القاهرة
قال المقريزى :
( والناس بالقاهرة في بيعهم وشرائهم بالأسواق في أمن ودعة وسكون. ونودى في القاهرة بالأمان والإطمئنان والبيع والشراء، وأن يترحموا على الملك الأشرف، والدعاء للسلطان الملك العزيز جمال الدين، أبى المحاسن ، وأن النفقة في يوم الإثنين مائة دينار، لكل واحد من المماليك، فإزداد الناس طمأنينة. ولم يكن شىء مما كان يتوقع من الشر، والحمد لله. )
السلطان الجديد يكافىء الخليفة والمماليك .
قال المقريزى
1 ـ ( وفيه عملت الخدمة السلطانية بالقصر، وحضر الأمير الكبير وسائر أهل الدولة على العادة، فزاد السلطان الخليفة جزيرة الصابونى زيادة على ما بيده. )
2 ـ ( وفيه كتبت البشائر إلى البلاد الشامية وأعمال مصر، بسلطة الملك العزيز.)
3 ـ ( وفى يوم الإثنين خامس عشره: جلس السلطان بالحوش من القلعة، وعنده الأمراء والمباشرون، وابتدئ في النفقة على المماليك، فأنفق فيهم مائة دينار لكل واحد. )
4 ـ ( وفي سادس عشره: أنفق فيمن بقى من المماليك. ).
بدء الخلاف بين خال السلطان الأمير جكم والأمير اينال شاد الشرابخاناه
قال المقريزى :
( وفي يوم السبت عشرينه: وقع بين جكم الخاصكى خال السلطان وبين الأمير أينال مفاوضة، آلت إلى شرّ . وسبب ذلك أن الكلام والتحدث فى أمور المملكة صار بين ثلاثة الأمير الكبير نظام الملك جقمق، والقاضي زين الدين عبد الباسط، والأمير أينال. ولزم السلطان السكوت، فلا يتكلم ، فأنكر جكم على أينال أمره ونهيه فيما يتعلق بأمر الدولة، وكونه أقام بالقلعة ، وصار يبيت بها، فغضب منه أينال، ونزل من القلعة إلى داره، فكان هذا ابتداء وقرع الخلف الذى آل إلى ما سيأتى ذكره، إن شاء اللّه تعالى. )
المماليك الجلبان يريدون الفتك بناظر الجيش عبد الباسط والأمير الكبير جقمق
1 ـ ( وفيه ( السبت عشرين من ذي القعدة ) تجمع كثير من المماليك تحت القلعة، وأرادوا أن يفتكوا بالقاضي زين الدين عبد الباسط ، فلما نزل من القلعة أحاطوا به، وجرت بينهم وبينه مقاولات، أغلظوا فيها عليه، ولم يقدروا على غير ذلك، وخلص منهم إلى بيته. )
2 ـ ( 29 ذي الحجة ) وفيه تجمع كثير من المماليك تحت القلعة، وأحاطوا بالأمير الكبير نظام الملك عند نزوله من الخدمة السلطانية بالقلعة إلى جهة بيته، ليوقعوا به، فتخلص منهم من غير سوء، هذا والقاضى زين الدين عبد الباسط من المماليك في عناء شديد. ) .
أخيرا
1 ـ باشر يوسف بن برسباى مهامه سلطانا في عيد الأضحى عام 841 ، ومشى في خدمته الأمير الكبير جقمق.
2 ـ بعدها بحوالي مائة يوم عزله جقمق ، وتولى السلطنة بدلا منه . يقول المقريزى عنه : ( فلما كان يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول: هذا، إستدعى الخليفة والأمراء والقضاة وجميع أرباب الدولة إلى الحراقة بالاصطبل، وأثبت عدم أهلية الملك العزيز يوسف لأنه لا يحسن التصرف، فخلعه الخليفة، وفوض السلطة للأمير نظام الملك جقمق في أخر الساعة الثانية، وتلقب بالملك الظاهر أبى سعيد، وأفيضت عليه الخلع الخليفتية، وقلد بالسيف. وركب من الحراقة، والجميع مشاة في خدمته، وقد دقت البشائر حتى صعد إلى القصر. وجلس على تخت الملك فقبل الأمراء الأرض وإنصرفوا. ونودى في القاهرة وظواهرها بالدعاء للملك الظاهر، وأن النفقة مائة دينار لكل مملوك. وسجن العزيز في بعض دور القلعة. )
3 ـ وتكررت نفس الحكاية . حين مات جقمق عهد لابنه عثمان بن جقمق بوصاية اينال ، فعزله أينال وتسلطن مكانه . وهكذا يمكرون بأنفسهم وما يشعرون .!.
4 ــ وصدق الله جل وعلا العظيم : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) الانعام ) .






الخاتمة
أولا :
نرجو ان يحقق هذا البحث الأهداف التالية :
1 ـ التعريف بالسلطان المملوكى برسباى ، وهو ليس معروفا ، بل كان بعض أتباعه أكثر شهرة منه ، مع انهم كانوا يسجدون له يقبلون الأرض بين يديه ، ومنهم ابن حجر العسقلانى وبدر الدين العينى ( العينتابى ). هذا السلطان المملوكى برسباى هو الذى احتل قبرص ، وهو الذى حمى دولته ووصل بنفوذه الى ما يعرف الآن ب ( أنقره ) ، وهو السبب المباشر في الكشوف الجغرافية ، إذ أن إحتكاره للتجارة الهندية الشرقية وفرض هذا الاحتكار على أوربا جعلهم ـ في سياق الحرب بين معسكرى المحمديين والصليبيين ـ يحاولون الوصول الى الهند بعيدا عن البحر الأحمر الذى يسيطر عليه المماليك ، فاتجه كولومبوس غربا ليصل الى الهند فاكتشف العالم الجديد ، وتتابعت الكشوف الجغرافية التي غيّرت تاريخ العالم . والسلطان برسباى هو السبب .
2 ـ التعريف بالشريعة السنية الحقيقية. انها ليست الكتابات الفقهية النظرية البعيدة عن الواقع والتي يختلف فيها الفقهاء في كل صغيرة وكبيرة ، بل هي ما يتم تطبيقه تحت إسم ( الشرع ) على يد السلطان ومعه قُضاة القضاة من المذاهب الأربعة . وقلنا إن اشهر فقيه في العصر المملوكى كان ابن حجر العسقلانى ، والذى كان يؤيد السلاطين المماليك الذين عاصرهم في كل جرائمهم ، والذى كان ـ كالآخرين ــ يتولى منصبه بالرشوة ،وبالرشوة يحكم هو أتباعه من القضاة على نحو ما كان سائدا ، ومعلوما لديهم من شريعتهم السنية بالضرورة . ومع ذلك فقد كتب عشرات الكتب في الفقه والحديث في كلام نظرى ، لا صلة له اطلاقا بالواقع .
3 ـ التعريف بالتناقض الهائل بين الإسلام الحقيقى ، وما كان ـ ولا يزال ـ يمارسه أكابر المجرمين من المستبدين وأعوانهم من رجال الدين . وكان اختيار عصر السلطان برسباى والفقيه السُّنّى ابن حجر العسقلانى مقصودا ، فابن حجر هو المشهور بأنه ( امير المؤمنين في الحديث ) ، وهو صاحب الكتاب المشهور ( في شرح البخارى ) ، وفى هذا العصر كان تقديس البخارى على أشُدّه ، فكان يُقام له ميعاد سنوي طيلة شهر رمضان يحضره السلطان ، أي هو دين البخارى وليس دين الإسلام .
4 ـ التأكيد على أن سوء الأحوال تحت حكم الاستبداد لا ينجو منه الحاكم والمحكوم ، فالظالم يدفع نتيجة ظلمه ، وأكابر المجرمين يمكرون بأنفسهم وما يشعرون ، ويحيق بهم مكرهم ، وتظل مسيرة المكر مستمرة . ونريد أن تنتهى هذه الدائرة الجهنمية بدون سفك دماء حرصا منا على المستضعفين في الأرض ، وهم الذين نحملهم في قلوبنا جُرحا داميا . ونحن نؤمن أن تسريع الإصلاح ممكن إذا جاء من الحاكم ، إذا أراد مخلصا الإصلاح ، لأن الله جل وعلا لا يُصلح عمل المفسدين ، أي لا بد أن يصل الحاكم المستبد الى توافق مع الشعب ، ولو بخروج آمن .
5 ـ تشجيع الباحثين في التاريخ على التعامل المباشر مع المصادر التاريخية الأصيلة ، وفهم مصطلحاتها وكيفية تحليل المادة التاريخية .
ثانيا :
أما هدفنا فليس حُطام الدنيا ومناصبها وغرورها . هدفنا هو رضا ربنا جل وعلا ورحمته وجنته . ولهذا فنحن نعمل على نشر الوعى بالآتى :
1 ـ التعريف بالتناقض بين دين الإسلام وأديان المحمديين الأرضية .
2 ـ التعريف بالتناقض بين الدولة الإسلامية الحقيقية التي أقامها خاتم النبيين عليه وعليهم السلام وبين دول المحمديين وحكامها من أكابر المجرمين من الخلفاء والسلاطين وأعوانهم من رجال الدين .
3 ـ الدولة الإسلامية مؤسّسة على :
3 / 1 : الحرية الدينية المطلقة في الدين وفى الرأي والفكر ، وتأجيل الحكم على البشر في اختلافاتهم الدينية لرب العزة جل وعلا يوم الدين . الحرية الدينية المطلقة هي التي تدمر تقديس الكهنوت ، وبالتالي يتدمر الاستبداد . الاستبداد يركب الكهنوت والكهنوت يركب الشعب . بممارسة الحرية الدينية المطلقة تتأسّس الديمقراطية النيابية التمثيلية ( بمجالس نيابية وتمثيلية تمثّل الشعب وتنوب عنه ) ثم تزدهر فتتطور الى الديمقراطية المباشرة .
3 / 2 : الديمقراطية المباشرة هي أساس الدولة الإسلامية التي أقامها النبى محمد عليه السلام . انها التي تعبّر عن ( لا اله إلا الله ) ، والذى يعنى أنه لا يعلو في قلوب الناس الا الله جل وعلا ، لأن العُلُوّ هو لله جل وعلا الكبير المتعال . بالديمقراطية المباشرة يكون البشر سواسية ، وتكون الأمّة مصدر السُّلُطات ، ومن يقودها من الخبراء يكونون فيها خدما للأمة وليسوا حُكاما لها . الديمقراطية المباشرة تطبقها بعض الدول في الغرب الآن . وتحقيقها ليس مستحيلا ، يمكن تحقيقها بالوعى الذى نعمل فيه ، تدبرا للقرآن الكريم وبحثا في تاريخ المحمديين وشرائعهم وأديانهم الأرضية إثباتا لتناقضها مع الإسلام العظيم ، وتبرئة لدين الله جل وعلا من أديان المحمديين الشيطانية.
3 / 3 : العدل الاجتماعى بكفالة حقوق الفقراء ، والعدل القضائى في الحكم بين الناس ، والعدل الأمني الذى يتولى حماية الناس جميعا على قدم المساواة . بالعدل ( القسط ) السياسى والاجتماعى والقضائى والأمنى يكون ضمان كرامة الانسان الذى كرّمه رب العزّة جل وعلا : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) الاسراء )
ثالثا :
كيف نقيم القسط ؟ الذى جاء في قوله جل وعلا : (لقد أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد ).
1 : أرسل الله جل وعلا كل الأنبياء بالكتاب لكى يقوم الناس ــ معا وجميعا ــ بتأسيس القسط أي العدل ، لأن بديل القسط هو الظلم ، والظلم يعنى الحرب وأسلحة الحرب حديد ، وبدون القسط والعدل يكون اللجوء للقتال والحرب واستعمال الحديد ، وكما أنزل الله جل وعلا الكتاب ميزانا للعدل فقد أنزل الله جل وعلا الحديد ـ وهو وافد الى الكوكب الأرضى ، وهذا يعنى أن القسط أساس كل الرسالات الإلهية واساس للسلام فلا يتحقق مع الظلم سلام ، ولا سلام بدون عدل .
2 : قيام الناس جميعا بالقسط يعنى أن يتأسّس فيهم وعى يتحقق به تغيير ما بأنفسهم من خنوع وخضوع ورضى بالذل الى قيم إيجابية من العزة والشهامة والنخوة والكرم والشجاعة والمبادرة للخير ومناصرة الحق والمظلوم ، والاستعداد بالتضحية بالنفس والمال في سبيل هدف أسمى هو إقامة القسط .
3 : الله جل وعلا لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، أي تأتى إرادة الله جل وعلا تالية ومؤكدة لإرادة البشر . قال جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (11) الرعد ) . إذا رضى الناس بالظلم وارتضوا حكم أكابر المجرمين رضى الله جل وعلا ما إرتضوه لأنفسهم . إذا قاموا بتغيير ما بأنفسهم من رضى بالهوان جاءت مشيئة الرحمن جل وعلا مؤيد ومؤكدة لمشيئتهم .
4 : هذا التغيير الى القيم الإيجابية له أساس في دين الإسلام العظيم . هناك حتميات لا مهرب منها ولن يحاسبنا رب العزة جل وعلا عليها ، وهى مايخصُّ:
4 / 1 : الميلاد . فليس لأحد خيار في موعد ميلاده أو والديه أو ملامحه .
4 / 2 : موعد ومكان الموت ؛ فلا توجد قوة في العالم تُميت إنسانا قبل موعد موته ، أو تمنع موته عند الأجل المحدد له سلفا ، فالله جل وعلا هو وحده الذى حدّد مكان الموت وموعده لكل نفس . وحين إعترض المنافقون بعد هزيمة موقعة أحد وقالوا: ( لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ) جاءهم الرد : ( قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) آل عمران ) وقالوا : ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) وجاء الرد الالهى عليهم : ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (154) فالذى مُقدّر عليه القتل في مكان لا بد أن يذهب اليه . فهذا حتمى لا مفر ولا مهرب منه .
4 / 3 : الرزق الأساس الذى تقوم به حياة كل كائن حى . قال جل وعلا : ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) هود) ( وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ )(60) العنكبوت). والرزق الوهمى فيما يملكه الانسان من أموال وعقارات وغيرها ، وفيه يتفاضل الناس في الرزق ، وهذا أيضا بيد الرحمن ، قال جل وعلا : ( اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) العنكبوت )
4 / 4 : المصائب الطارئة .قال جل وعلا :( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا )(51) التوبة ) ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ )(23) الحديد ) .
5 ـ لن يحاسبنا الله جل وعلا على هذه الحتميات ، ولكن سيحاسبنا على حريتنا في الطاعة أو المعصية في الايمان أو الكفر ، في الرضى بالهوان أو في رفضه . للبشر الحرية في الرضى بالظلم أو برفضه . ولكن الذى يرضى بالظلم يكون شريكا لمن يظلمه. ما صار الحاكم مستبدا إلا لأنه ( إستضعف قومه ). رآهم أنعاما خاضعين ينتظرون من يركبهم فركبهم . لو كانوا أعزّاء أقوياء مرفوعى الهامة ما جرؤ على ركوب ظهورهم . إن القوة في النفس المؤمنة ، وليس في الجسد المادى .
6 ـ لهذا أوجب الله جل وعلا الهجرة على المستضعفين في بلادهم . وتوعّد ــ بالعذاب ــ المستضعفين القادرين على الهجرة ولم يهاجروا ، جعلهم ظالمين لأنفسهم ، قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99) النساء). عسى الله جل وعلا أن يعفو ويغفر للعاجز عن الهجرة لأنه ليس ظالما لنفسه . إن لم تستطع الصمود أمام جبروت أكابر المجرمين فعليك بالهجرة ، وأمامك أرض الله واسعة . لقد قال جل وعلا : ( يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) العنكبوت ) هذه الكرة الأرضية لا نهاية لها لأنها كروية . تخيل نملة تدب على سطح برتقالة ، هل تصل الى نهاية هذه البرتقالة ؟ كذلك الكرة الأرضية ، هي لا نهائية . ولكن الذى له نهاية هو العمر الذى يعيشه الانسان على هذه الأرض ، فكل نفس ذائقة الموت . العمر محدد ويقترب الانسان من الموت بسرعة 24 ساعة ، فمن الظلم لنفسه أن يضيع عمره راضيا بالذل في وطن يملكه المستبد وأكبر المجرمين ، فيخسر الدنيا والآخرة معا .
7 ـ هناك من يتصدى في ( وطنه ) لأكابر المجرمين فيه ، عالما أنه شريك في هذا الوطن ، وأنه ليس مملوكا للمستبد ، هذا عليه :
7 / 1 : ألا يقع في ظلم الآخرين إيمانا بقوله جل وعلا : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الانعام ) فالذى لا يظلم الناس متقيا الله جل وعلا يعيش في أمن نفسى وهدى من ربه جل وعلا مؤمنا بقضاء الله جل وعلا وقدره.
7 / 2 : يعلم ويتعلم أن يخاف الله جل وعلا وحده ، فالعادة أن الشيطان يخيف أولياءه أكابر المجرمين الظالمين . قال جل وعلا : ( إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) آل عمران )
7 / 2 : يعلم ويتعلم أن المستبد يعيش في رعب قائم ومستمر. قال جل وعلا عن أكابر المجرمين : ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)) آل عمران ). هم في رعب مستمر يتوقعون سقوطهم في أي وقت ، فيلجأون الى حماية أنفسهم بالمزيد من الظلم ، وبمزيد الظلم يزدادون رعبا ، فيدفعهم الرعب المتزايد الى ظلم متزايد طلبا للحماية ، وهكذا يدورون في دورة جهنمية من الرعب والظلم الى السقوط اللعين .
8 : بالإصلاح السلمى ينجو الظالم والمظلوم لو تأسّس لهم هذا الوعى . من الخير للحاكم أن يعيش آمنا بين قومه يأكل الطعام ويمشى في الأسواق ويركب مثلهم وسائل المواصلات ، وبعد انتهاء فترته يعيش هانئا في شيخوخته ، وهذا ما يحدث في دول الديمقراطية . أما في نُظم الاستبداد فالشعب يخاف المستبد والمستبد يخاف الشعب ، ولا أمن ولا أمان ، بل شقاء وتعاسة للجميع .
9 ـ يمكن الخلاص من هذه التعاسة بأن يبادر المستبد الى أن يُقلع عن الفساد ، ويبدأ في الإصلاح ، ويتحول فيه من مفسد الى مصلح فالله جل وعلا ( لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) يونس ) ويبدأ في إصلاح تشريعى ( دستورى وقانونى ) مع اصلاح تعليمى وثقافى يتم به تحول ديمقراطى . هذا التحول الديمقراطى يحتاج وقتا طويلا ينتج جيلا يكتمل لديه الوعى فيحقق ما قاله رب العزة جل وعلا : ( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ). لو تأكد المستبد أن جموع الشعب عازمة على التضحية في سبيل العدل فلن يخاطر بحياته ، ويرى من الأفضل أن يخرج آمنا .
10 ـ هذه هي دعوة الإسلام السلمية للوعى بالقسط ، وبه يدعو من ينصر الله جل وعلا ورسله ، ورب العزة يعلم من ينصره ورسله بالغيب ، وهذا مفهوم من قوله جل وعلا : ( لقد أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد ).
11 : الذين كفروا بآيات الله وكتابه كانوا يقتل النبيين الآمرين بالقسط ، ويقتلون من يسير على طريقهم في أمر الناس بالقسط ، وقد توعدهم رب العزة جل وعلا بعذاب أليم . قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) آل عمران ). مفهوم من الآية الكريمة أنه بعد انتهاء عصور الأنبياء فهناك من يدعو بدعوتهم للقسط ، وأن أكابر المجرمين لا يتورعون عن قتل دُعاة العدل والقسط المسالمين . لا بد من تبشير أولئك المجرمين السفاحين الظالمين بعذاب أليم ( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) .
12 ـ وهنا نعيد التذكير بإنّ للمستبد أعوانه من أكابر المجرمين من رجال الدين ، الذين يؤيدونه بمفتريات أديانهم الأرضية تزين له الجريمة فريضة دينية ومعلوما عندهم من الدين بالضرورة ، وهذا هو أساس الشريعة السنية كما طبقها برسباى وقضاة شرعه . لذا يجب تبشير المستبد وكهنوته وأتباعه بعذاب أليم ، ويكون وعظهم بقوله جل وعلا : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) الانعام ). لعل الوعظ يجعلهم يفيقون من غرور السُّلطة الذى يجعلهم لا يشعرون . ولقد ظل كثيرون من أكابر المجرمين في عصرنا ينكرون الواقع لا يشعرون به حتى انتهوا الى السقوط المُهين .
أخيرا :
( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) غافر ).
ودائما : صدق الله العظيم .!!


اجمالي القراءات 4176