أوسلو في 12 نوفمبر 2002
المنطقة المحرّمة في الفكر العربي والاسلامي تكاد تبسط هيمنتها على العقل كله، ثم تترك كوّة صغيرة لإطلالة لا تسمن ولا تغني من جوع.
والمحرمات كثيرة وعديدة وتبدو كأنها هي الأصل في الحياة العربية والاسلامية، أما المسموحات فلا تنطلق في الهواء الطلق بدون مرور على عملية غربلة جديدة لعل فيها المكروه والمشتبه به والمسكوت عنه والفتنة النائمة!
المثقفون العرب يختارون مسبقا قبل عرض أي قضية جانب الأمن واáig;السلامة, ويتجنبون الصدام بكل أنواعه، مع السلطة، ومع الجماعات الدينية، ومع الفكر المتطرف والمتزمت والمتشدد خشية الدخول في معارك غير مأمونة الجانب من القضاء أو الدستور أو القوانين أو مفاجآت الأحكام العجيبة الخارجة من رحم العصور الوسطى.
تعكير البحيرة الراكدة مهمة شاقة في عالم من المحرمات يختلط فيه المازوخي بالسادي لينتج عنهما سوط يتلذذ به الاثنان معا، الضارب والمضروب.
ونحن نعلم مسبقا أن الماء الجاري أكثر نقاء وطهارة من الماء الراكد الآسن، وأن العقل العربي الذي أفرز هزائم وفسادا وجمودا ونهبا لوطن وزعامات مستبدة وشعوبا تخرج في مظاهرات غاضبة على رسم كاريكاتيري لمجلة أمريكية في طبعتها الهندية، لكن نفس الجموع تقابل المهانة والطغيان والقسوة والمعتقلات والتعذيب والظلم ببلادة لا مثيل لها.
المرأة هي الشغل الشاغل لفكر التدين الجنسي الذي اجتاح عالمنا العربي في العقود الثلاثة المنصرمة، فهي الشهوة والفتنة ونقص العقل والدين وأكثر أهل النار من النساء!
والرجل الشرقي والعربي والمسلم بوجه عام يعاني من صراع مع قوى الاستبداد في العمل والشارع وقسم الشرطة والضرائب والفواتير وصناديق الاقتراع وقوانين الطواريء والتهميش الكلي من جانب القصر المعمور بذئاب السلطة.
فكرة النقاب التي تحولت إلى نموذج للعفة قامت في الواقع على انحراف مزاجي شاذ لقوى الفساد التي رأت في المجتمع المفتوح والصحي والصريح كشفا وتعرية لها، ولم يكن من الممكن أن يتنفس الفساد، وتتوسع دائرة الرذيلة في محيط يعرف كل المقيمين به أفراده، من نساء ومن رجال وأطفال وأغراب وزائرين وعابرين.
وتفتق ذهن شيطاني مهووس بالجنس عن أهمية وضرورة تغطية وجه المرأة حتى لا يتعرف أحد عليها وهي تسير بجانب زوجها أو شقيقها أو عشيقها أو صديقها، ونفس الأمر ينسحب على الرجل الذي يمكن أن يسير مرفوع الرأس أمام الجيران وسكان المنطقة ورجال الأمن وشرطة الآداب ولو كان بصحبة امرأة لم تستغرق معرفته بها أكثر من سويعات قليلة.
الاسلام العظيم أمر باشهار الزواج حتى يعلم كل فرد حدوده، ويتعرف الناس والجيران والأصدقاء والمعارف على الزوجين، وتتراجع فرص الخيانة الزوجية، وتدخل المرأة في حماية أهل منطقتها ورجالها وذوي الشهامة ممن يعرفون آداب وسلوك العلاقات المستقيمة في الاسلام.
والنقاب ليس فقط تغطية للوجه، لكنه اعتراض على واحدة من أروع وأجمل وأكبر معجزات العلي القدير الذي جعل الوجه مرآة لمئات المشاعر والأحاسيس من غضب وفرح وسعادة وبهجة وحزن وازدراء وطيبة وقسوة وتوسل وكبرياء ومكر وحب واسترحام واستعطاف وحسم وحزم وصحة ومرض وغيرها الكثير.
والعلاقة بين الرجل والمرأة المنقبة تقوم على شكوك وأوهام وخرافة الفتنة التي لم يجعلها الله، عز وجل، في الوجه مهما بلغ سحره وجماله وجاذبيته، لكن النفس المريضة التي تعفّنت في أصحاب التدين الجنسي توهم المسلمين الأصحاء بأن طريق العفة يبدأ بتغطية الوجه، والحقيقة أن الفساد والرذيلة والأعمال المخجلة تنطلق من تغطية وجه المرأة لتتم التغطية على تحايل الرجل لخلق فرص الخيانة الزوجية في غياب التعرف على المرأة من قبل المجتمع والأقارب والمعارف والجيران.
الاسلام الحنيف بريء من الفكرة المريضة للنقاب، والذين يتحدثون عن الفتنة إنما يُخرجون ما في نفوسهم من خيالات وأوهام وهراء، فالأصل أن المرأة مخلوق كالرجل تماما، وأن تنقية المجتمع من الفساد وحمايته لا تستقيم إلا بعلاقة جميلة وأخوية وصحية وصريحة يرى فيه كل منهما وجه الآخر، ويكتشف ما لم يصرح به اللسان في النقاش والجدال والأحاديث الودية والأعمال الوظيفية والزمالة في الدراسة والعمل والشارع والمحل وفي كل مكان يضع فيه المجتمع ضوابطه السلوكية انطلاقا من فرضية البراءة وليس من الاتهام الموجه من المتطرفين والمتشددين.
أما على المستوى الأمني فالنقاب سلاح لا يختلف مطلقا عن البندقية والمتفجرات، بل قد يكون أشد فتكا. وهناك عمليات ارهابية ضد الأبرياء تخفى خلالها المجرمون والارهابيون والقتلة خلف النقاب.
سذاجة وحماقة الأمن في دول عربية كثيرة جعلتهم يفسحون المجال للارهاب تحت سمع وبصر الجميع بحجة أنَّ التي تسير أو تقود السيارة أو تمشي في الأسواق وتختفي خلف نقاب لا تنتمي لعالم الشر الذي تمثله قوى الارهاب، والنتيجة الطبيعية كانت مزيدا منه، وحماية من فقهاء الفتاوى الفجّة في غياب تام للعقل العربي والاسلامي الذي يرفض رفضا قاطعا الاصطدام مع أباطرة الفتوى وأرباب التحريم.
الأمن في العالم العربي الذي تعلّم أفراده أبسط قواعد التعرف على مرتكبي الجرائم من الوجه أو بصمات الأصابع ( وسوينا بنانه ) يغمض عينيه ويغض الطرف عن جريمة الجرائم في اخفاء الوجه واليدين وكأن أجهزة الأمن العربية تشارك الارهابيين والقتلة والمجرمين واللصوص في أعمالهم أو تتستر عليهم.
عندما تقف المرأة المنقبة أمام الرحمن الرحيم يوم لا ينفع مال ولا بنون لن تستطيع أن تبرر هذا العمل المناهض لمعجزة الخلق، ولن تجيب على سؤال من رب العزة عن أسباب حجب معجزته ونعمته في الوجه ليكون الانسان خليفة على الأرض وتستقيم الحياة والعلاقات بين أبناء وبنات آدم وحواء.
نعم، النقاب حرام .. حرام .. حرام.
إنه الاسلام الحنيف والعظيم الذي أحببته، وآمنت به، وتعرّفت عليه منذ طفولتي، ولم أتراجع يوما واحدا أمام الهجمة الشرسة لقوى التطرف التي تسعي للفساد بتغطية وجه المرأة.
مرة أخرى حتى لا يُساء الفهم: النقاب كما أراه، أي تغطية وجه المرأة بالكامل، دعوة للفساد والرذيلة، ويتعارض مع تعاليم الدين الاسلامي الحنيف، وهو اختيار إما أحمق وساذج من منطلق عقل توقف العمل به منذ زمن بعيد، أو خيار واعٍ لقوى الفساد لمنع المبدأ الاسلامي بالتعرف والاشهار.
هكذا خلقنا العلي القدير لنكون شعوبا وقبائل، ونتعارف، ويحب بعضنا بعضا، أو يبغض أحدنا الآخر، ولكن النقاب الذي فرضه الفكر المنغلق أو قوى الرذيلة حرَمَنا من نعمة التعارف، ووضع المرأةَ في خدمة التدين الجنسي، وأهال على عقلها التراب، وأوهمها بأنه يدافع عن عفتها، لكنه في الواقع يُدخلها في معصية الخالق عزو وجل.
النقاب، أي تغطية وجه المرأة بالكامل، حرام دينيا، وجريمة أمنية في حق الوطن، واخفاء لمعالمها، ولا علاقة له من قريب أو من بعيد بالاسلام الحنيف.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج