ßÊÇÈ حق المرأة فى رئاسة الدولة الإسلامية :
المرأة تحكم من وراء ستار

في السبت ٢٣ - نوفمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

ثانيا : المرأة تحكم من وراء ستار:

 1ـ لم يتيسر للمرأة أن تحكم  من وراء ستار خلال الدولة الأموية ، تلك الدولة العربية ذات الإيقاع السريع فيما بين دمشق وأطراف الدولة ، من بين حدود الصين والهند إلى حدود فرنسا وحواف البحر المتوسط الأروبية . إلا أن سطوة المرأة السياسية ظهرت فى الدولة العباسية التى سيطرت على مساحة أقل مما سيطرت عليها الدولة الأموية ، والتى كان إيقاع التاريخ فيها متمهلاً مما أتاح لنساء القصور أن يلعبن دوراً سياسياً حتى لو كن من الج&rave;وارى المحظيات ، بل أن أكثرهن جوارى محظيات . ومعظم الخلفاء العباسيين من أبناء الجوارى المحظيات . ومعظمهم من نسل الخيزران أم هارون الرشيد ، وهو أبو كل الخلفاء العباسيين الذين جاءا من بعده .

 2- على أن هناك امرأة مجهولة كان لها الفضل فى إقامة الدولة العباسية ، وكان لها نفوذها فى هذه الدولة حين قامت ، ولكن تسجيل التاريخ وتدوينه خلال العصر العباسى أوقع المؤرخين فى حرج فإكتفوا بالإشارة إليها بين السطور ، خصوصا وقد كان زوجها هو أبو العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين.

والمؤرخ المسعودى الذى عاش فى العصر العباسى وتحرر جزئيا من الخوف هو الذى أشار فى كتابه "مروج الذهب" إلى زوجة الخليفة أبى العباس السفاح .  وهى أم سلمة بنت يعقوب المخزومية ، تزوجها عبدالعزيز ابن الخليفة الأموى الوليد بن عبد الملك ، ثم مات عنها فتزوجها بعده الخليفة هشام بن عبد الملك ، ومات عنها ، فورثت الأموال الطائلة . وظلت عزبا تتوق للزواج بمن تريد شبابا وحبا وجمالا ، ومر بها أبو العباس فى شبابه وجماله فرغبت أن تتزوجه، وكان فقيرا مملقا صاحب طموح وعلى رأس دعوة سرية مع أخيه للقضاء على الدولة الأموية . واستطاع بأموالها تدعيم دعوته ، ونجحت الدعوة فى إقامة الدولة العباسية. وكانت قد اشترطت عليه ألا يتزوج عليها وألا يتخذ محظية من الجوارى . ووصلت إليه الخلافة وأصبحت له الدولة ، فصار لها السلطان فى خلافته . يقول المسعودى :" غلبت عليه غلبة شديدة حتى ما كان يقطع أمرا إلا بمشورتها وبتأثيرها . فلم يكن يدنو إلى النساء دونها لا إلى حرة ولا إلى أمة " أى جارية (-مروج الذهب 2/ 207 :206).. أى أن الخليفة السفاح الذى استأصل الأمويين وأباد البلاد وقتل العباد كان يتحول إلى قط أليف بين يدى زوجته أم سلمة.

3 ـ والخيزران هى أم الخلافة العباسية منذ عصر الخليفة المهدى ثالث الخلفاء  العباسيين وحتى انقراض الخلافة العباسية فى القاهرة بالفتح العثمانى لمصر سنة 1517م .

تزوجها الخليفة المهدى ابن الخليفة المنصور . وأنجبت له الهادى ثم الرشيد وكلاهما تولى الخلافة . ومن نسل هارون الرشيد جاء كل الخلفاء العباسيين ، ومن ثم فهى أم الخلفاء العباسيين . وقد تحكمت فى الخلافة العباسية ردحاً من الزمان كانت فيها الدولة العباسية فى أوج قوتها وأزدهارها ، وفى سبيل احتفاظها بهذا النفوذ لم تتورع عن قتل ابنها الآكبر الخليفة الهادى .

وقد جئ بالخيزران فى بدايتها جارية إلى قصر الأمير ولى العهد المهدى ابن الخليفة المنصور ، وكانت العادة أن الجارية تتقلب بين أيدى الرجال منذ اختطافها من أهلها على أيدى العصابات إلى أن تتناولها أيدى تجار الرقيق من أدناهم إلى أعلاهم ، وأثناء هذه الرحلة تتعلم الجارية فنون الإغراء الأنثوى ، وكل المعارف من فقه وأدب وشعر وفلسفة وحكمة وغناء ورقص وعزف ، علاوة على خبرة بالحياة والمجتمع من أدنى مستوياته إلى أعلاها . فإذا وصلت إلى قصور الخلافة لتعرض للشراء كانت فى تمام لياقتها الأنثوية والعقلية والإنسانية . وهكذا كانت الخيزران حيث استسلمت ليد الأمير المهدى الشاب وهو يتفحص جسدها كما جرت العادة عند شراء الجوارى . وفى النهاية رغب الأمير عن شرائها قائلاً لها :" والله يا جارية أنك لعلى غاية التمنى ، ولكنك خمشة الساقين  " أى خشنة الساقين ، وردت عليه الخيزران بجواب أشعل غرائزه ، إذ قالت له عن ساقيها : أيها الأمير  . إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما.." فاشتراها وحظيت عنده مع أنه تزوج عليها عدة حرائر .وقد استطاعت بنفوذها أن تجعله يعتقها ويتزوجها ، ثم جعلته أخيرا يفضل أبناءها على أبناء الأخريات ، فيعقد ولاية العهد لإبنيها الهادى ثم الرشيد .

إلا أن ابنها الهادى ـ وهو ولى العهد فى حياة أبيه ـ لم يكن يستريح لعلو نفوذ أمه السياسى وتدخلها فى شئون الدولة وتوافد مواكب أصحاب الحوائج عليها . وأحست الخيزران بنفور ابنها من نفوذها ، وخشيت على استمرار نفوذها إذا  تولى ابنها الخلافة فى حياتها ، لذا عولت على أن تجعل ولا ية العهد لابنها لرشيد (الخاضع لسلطانها )أولاً ، ثم للهادى بعده . وأقنعت كالعادة زوجها المهدى بتقديم الرشيد الأصغر سناً على الهادى الأكبر سناً .

وفى محرم 169 هـ  كان المهدى قد صمم على تنفيذ رغبة الخيزران ، وأعلن الهادى العصيان ، وتطورت الأمور بصورة غامضة ولقى الخليفة المهدى حتفه ، وتولى الهادى الخلافة  ، وبدأت بوادر الأزمة بين الهادى والخيزران .

 وكان الهادى شابا قوى البنية رشيق الحركة غيورا شديد البطش حازما يقظا ، ويبدو أنه قرر عقد هدنة مع والدته إذ سمح لها طبقا لما يقوله الطبرى باربعة أشهر تمارس فيها نفوذها ،إلا أنه ما لبث أن ثار وصاح فى وجهها قائلا : إنه ليس من قدر النساء الاعتراض فى أمر الملك وعليك بصلاتك وتسبيحك " إلا أن المواكب استمرت فى التوافد على بيت الخيزران ، ولجأت الخيزران إلى ابنها تسأله فى قضاء حاجة لعبد الله بن مالك ، فرفض قائلا : والله لا أقضيها له . فقالت له ، والله لا أسألك حاجة أبدا .فقال : والله إذن لا أبالى .فقامت عنه غاضبة ولكنه استوقفها صارخا ، والله لئن بلغنى  أنه وقف أحد ببابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله ، فمن شاء فليلزم ذلك .ما هذه المواكب التى تغدو وتروح إلى بابك كل يوم ؟ أما لك مغزل يشغلك ؟ أو مصحف يذكرك؟ أو بيت يصونك ؟ ثم إياك وإياك إن فتحت بابك لمسلم أو ذمى.!.

وانتهى بذلك نفوذ الخيزران فى خلافة ابنها الهادى.

وأسرع الهادى يخطط لخلع أخيه الرشيد من ولاية العهد ليجعل ابنه جعفر بن الهادى مكانه. وتحركت الخيزران لدرء هذا الخطرعن ابنها الرشيد الأمل الباقى لها فى استمرار نفوذها ، ولم يكن لها أن تنجح فى إيقاف الهادى إلا بطريقة وحيدة هى الاغتيال .إلا أنه ليس من المنتظر أن تقدم الخيزران على قتل ابنها لهذا السبب وحده، لذلك أتت المبادرة من الهادى نفسه إذ أقنعها بأنه عازم على قتلها وقتل أخيه الرشيد. إذ بعث لها بأوزة مشوية مسمومة ، وكانت على وشك أن تأكل منها لولا أن جاريتها خالصة حذرتها ، وجاءوا بكلب أكل من الطعام فتساقط لحمه ومات.

وتناهت إلى أسماعها أنباء مؤامرة أخرى على الرشيد ، لذا أسرعت الخيرزان فأمرت بعض الجوارى فقتلن ابنها الهادى خنقا وهو نائم سنة 170 هجرية بعد أن تولى الخلافة أربعة عشر شهرا فقط. .!  قتلته وهو فى صيحة الصبا والشباب والفتوة، وبعثت إلى يحيى بن خالد البرمكى ليتولى عقد الخلافة للرشيد فى نفس الليلة التى مات فيها الهادى .

وفى خلافة الرشيد كانت الخيزران هى الناظرة فى الأمور بمساعدة يحيى بن خالد البرمكى وفقا لما يقوله الطبرى فى تاريخه . وظلت تتمتع بنفوذها فى خلافة الرشيد إلى أن ماتت في سنة 173 هجرية  فى مكة ، وحضر ابنها الرشيد جنازتها ومشى فيها حافيا  باكيا ..!!(تاريخ الطبرى8/72، 121 ،188 ، 205 ، 206 ،210 ،212 ،223 ،230، 238 ،2520 ).

 4- ومن الخيزران إلى قبيحة أم الخليفة المعتز العباسى

كانت قبيحة أجمل جوارى الخليفة المتوكل العباسى ، كان المتوكل مشغوفا بها لا يطيق الابتعاد عنها، وقد ارتفعت مكانتها لديه حين أنجبت له ابنه المعتز المشهور فى عصره بابن قبيحة .وكان المعتز فى صباه شديد النبوغ والذكاء مما جعل أباه المتوكل و بتأثير قبيحة يفكر فى تقديمه فى ولاية العهد على أخيه المنتصر ، وساءت العلاقات بين المتوكل وابنه المنتصر ولى العهد ، وتآمر المنتصر مع القواد الأتراك وقتل أباه المتوكل  حين كان يشرب الخمر مع وزيره ونديمه وصديقه الفتح بن خاقان . وبدأت سيوف الغلمان الأتراك بذلك تعرف طريقها إلى رقاب الخلافاء العباسيين ، فكان من ضحاياهم المنتصر نفسه، ثم المستعين ، ثم المعتز وأمه قبيحة .

ولقد عاشت قبيحة أيام عزها فى كنف المتوكل وتحكمت فى الخلافة العباسية حين تولاها ابنها المعتز. وأدّت سياستها الخرقاء إلى هلاك ابنها المعتز وإلى إذلالها فى أخريات حياتها. وما بين بدايتها ـ  محظية للمتوكل ـ  إلى نهايتها ـ  ذليلة تحت أقدام القواد الأتراك ـ  شهدت قبيحة عظمة الخلافة العباسية فى عهد المتوكل ثم انحدار شأنها فى أخريات حياتها . وربما كانت قبيحة نفسها من عوامل هذا الإنحدار .

وقد تحدث المؤرخون عن شغف المتوكل بقبيحة والحفلات الضخمة التى أقامها المتوكل حين أتم ابنه المعتز حفظ القرآن ، وقالوا أن المعتز تولى الخلافة سنة 251هجرية  حين كان فى التاسعة عشرة من عمره ، وكان أصغر من ولى الخلافة وأول من ركب بحلى الذهب وأكثر من وقع تحت السيطرة التامة لأمه التى استخدمت القادة الأتراك فى قتل الخليفة السابق المستعين بعد أن عزلته من الخلافة ،ثم خططت لابنها كى يتخلص من منافسيه من أمراء البيت العباسى ، ثم تستغل الشقاق بين القادة الأتراك لتحكم سيطرتها عليهم .

وكانت قد استحوذت على الأموال والجواهر وحفظتها فى أماكن سرية ، وكان هناك تنافس بين الأتراك  والجنود  المغاربة والجنود الشراكسة ، واستغلت قبيحة هذا التنافس لصالحها ، وأثارت المغاربة على الأتراك ، فاتهم المغاربة الأتراك بقتل الخلفاء وعزلهم ، وحدثت فتن بين الفريقين ، وقتل الأتراك زعيمى الجند المغاربة . وجربت قبيحة أسلوبا آخر فجعلت ابنها يمسك يده عن دفع مرتبات الجنود وكانت تبلغ مليون دينار سنة 252هجرية أى ما يساوى دخل المملكة سنتين . وتحقق امل قبيحة لأن الجنود ثاروا على وصيف زعيم القواد الأتراك وقتلوه سنة 253هجرية بسبب تأخر رواتبهم، واستراحت قبيحة وابنها من سطوة وصيف. وأعطى الخليفة المعتز مناصب وصيف إلى زميله "بغا" ليؤجج العداء بين "صالح بن وصيف" و"بغا" ، وفى نفس الوقت أرادت قبيحة أن تجرب نفس اللعبة مع" :بغا"بان تمسك الرواتب عن الجند لتثيرهم عليه .ولكن بغا فهم اللعبة فهجم بأتباعه على أموال قبيحة وأحتملها على عشرين بغلة ، منتهزا فرصة ركوب الخليفة للنزهة . ولكن حرس الخليفة كان يترصد بغا وأوقعوه فى كمين وقتلوه ، وأمر الخليفة بإحراق جسده واعتقال بعض اتباعه سنة 254 هجرية. وبذلك لم يبق أمام المعتز وقبيحة إلا صالح بن وصيف زعيم الجند الأتراك. وخططت قبيحة للقضاء على صالح بن وصيف ، فأرسلت تستدعى موسى بن بغا إلى بغداد ليحل محل أبيه ، وفى نفس الوقت اتفقت مع الوزير احمد بن اسرائيل على ألا يعطى شيئا من الأموال إلى صالح بن وصيف ليعجز عن دفع رواتب الجند فيثور عليه الجند  ويقتلوه ، وفطن صالح بن وصيف للخطة فدخل بقوة عسكرية على الخليفة والوزير ليجعل الجنود شهودا على منع الوزير والخليفة للمرتبات ، وحدثت مشادة بين الوزير وابن وصيف ، وتأكد الجند من سلامة موقف صالح بن وصيف فضربوا الوزير أمام الخليفة واعتقلوا الوزير وعذبوه مع رفيقيه حتى يرشدهم إلى الأموال المخبأة ، بينما انكمش الخليفة مذعورا وقد عجز عن حماية وزيره .

وأرسلت قبيحة إلى ابن وصيف تأمره بإطلاق سراح الوزير ولكنه أهمل أمرها ، ونجح فى جمع طوائف الجند حوله وأعلمهم أن قبيحة وابنها الخليفة يمنعان الأموال عنهم ، ولأن ابن وصيف يعلم أن الخليفة لا حول له  ولا قوة وأن الخزائن السرية فى حوزة قبيحة ، فإنه أرسل وفدا من الجند إلى الخليفة يسأله فى صرف المرتبات ، فأرسل الخليفة إلى أمه قبيحة يطلب منها خمسين ألف دينار ، فقالت له ما عندى شئ . واستمهلته حتى يقدم عليها موسى بن بغا لتستعين به فى القضاء على صالح بن وصيف ، ولكن أسرع ابن وصيف فاعتقل الخليفة وقام الأتراك بتعذيبه وخلعوه وعينوا مكانه الخليفة المهتدى فى رجب 255هجرية وسارعت قبيحة بالاختفاء خلال سرداب يصل من حجرة نومها إلى الخارج .

وقام البحث عنها فى كل بغداد،  وفى النهاية ظهرت قبيحة ووقعت فى يد غريمها صالح بن وصيف الذى عثر على كنوزها المخبأة وكانت بالملايين . ويبدو أن صالح بن وصيف قد اغتصبها وعذبها ثم نفاها إلى مكة ، وظلت فيها إلى أن اعادها الخليفة المعتمد الى سامرا وماتت سنة264هجرية(تاريخ الطبرى :9/175 ،224 ،349 ،387 ،388 ،393 ،395 ،406 ،441 ،442 ،533 تاريخ المنتظم لابن الجوزى 12/251-:تاريخ ابن كثير 11/ 11 : 160).

 5-" والسيدة" هو اللقب الرسمى للجارية "شغب " التى أنجبت الخليفة المقتدر بالله ، والذى تولى الخلافة العباسية فى الثالثة  عشرة من عمره ، فأسلم قيادته لأمه "شغب" ، فظلت تحكمه وتحكم الخلافة إلى مقتل ابنها سنة 320هجرية أى ربع قرن من الزمان ، ثم كانت نهايتها مؤلمة وحزينة .

بدأت هذه الجارية بين سطور تاريخ الطبرى حيث ذكرها باسم ناعم ، وكانت جارية للسيدة أم القاسم بنت محمد بن عبد الله ، وقد رآها الخليفة المعتمد فأعجبته فاشتراها واتخذها محظية له لمدة قصيرة فحملت منه وولدت له ابنه جعفر الذى تولى الخلافة فيما بعد باسم المقتدر بالله ، إلا أن الخليفة سرعان ما انصرف عن جاريته ناعم إلى محظياته الأخريات ، ولم تكن ناعم الصفراء النحيفة تحتمل الغيرة ولم تكن تقدر على منافسة الجوارى الشقراوات الكثيرات اللاتى يحطن بالخليفة ، وكان عددهن أربعة آلاف ، فاستمرت مشاغباتها ومعاركها فى دهاليز الحريم العباسى ، فاشتد الخليفة فى عقابها وأطلق عليها لقب"شغب"الذى التصق بها منذ ذلك الحين .

 عاشت شغب فى حلقات شجار لا تنتهى ومكائد لا تنقطع ، وعلى يديها الكريمتين لقيت جوارى محظيات حتفهن ، ومنهن العروس المصرية الرقيقة الجملية قطرالندى بنت أحمد بن طولون التى لقيت حتفها سريعا ، ومنهن دريرة التى استأثرت ردحا من الزمان بقلب الخليفة المعتضد، وقد أنشأ لها حمام سباحة ، واستحق على ذلك هجاء فاحشا من الشاعر ابن بسام ، وحين ماتت دريرة بكاها الخليفة شعرا.

ومن ضحايا  شغب أيضا كانت الجارية الأخرى التى ولدت للخليفة ابنا تولى الخلافة باسم القاهر بالله .وقد اضطرت شغب لكفالة ذلك الوليد وتربيته مع ابنها ، ولكنه لم ينس ثأر أمه فانتقم من شغب أفظع أنتقام فيما بعد .

ولم يفطن الخليفة المعتضد للموت السريع لجواريه المحظيات خصوصا من تلد منهم ذكرا له ،وحين تنبه للأمر أشارت أصابع الاتهام إلى شغب إلا أن الأدلة لم تكن كافية فقرر قطع أنفها ثم عدل عن الأمر إكراماً لابنه منها( المقتدر بالله) وابنه الآخر (القاهر) وهما تحت رعاية شغب وكفالتها ، واكتفى الخليفة بعزلها فى بيت أصبح لها كالسجن ،حيث تربى ولدها المعتضد من حبيبها القاسى وتجتر فيه أحزانها وأحقادها ، ولا يؤنس وحدتها إلا رفيقتها الجارية "ثمل" التى كانت تأتى لها بالأخبار وتساعدها فى مؤامراتها.

وفى فترات العزلة هذه كانت شغب تخطط لتولية ابنها الخلافة بعد أبيه المعتضد . وبدأت خطتها بإحكام سيطرتها على ابنها بحيث أصبح لا يطيق فراقها ولا يستطيع التصرف بدون أمرها ، ثم عملت من خلال "ثمل" رفيقتها وساعدها الأيمن على التخلص من الجارية الحسناء جيجك أم على أكبر أولاد الخليفة المعتضد والمرشح وليا للعهد بعده ، وماتت جيجك بهدوء بحيث لم يتنبه الخليفة المعتضد للأمر. وكان المعتضد شديدا فى قسوته بحيث كان إذاغضب على أحد من قواده دفنه حيا . والغريب انه مع سطوته مات فجأة سنة 289 ، وتولى ابنه (على) الخلافة باسم "المكتفى".

وسمحت له شغب باعتلاء مقعد الخلافة لأن ابنها المقتدر كان لا يزال صبياً لا يصلح للخلافة .والغريب أنه فى الوقت نفسه الذى بلغ فيه المقتدر الحلم وأكمل عمره الثالثة عشرة فى نفس اليوم مات الخليفة الشاب "المكتفى " بالسم وتولى المقتدر ، أو بمعنى أخر تولت شغب مقاليد السلطة وظلت تتحكم فيها ربع قرن من الزمان .

وبدأت شغب سلطتها بتحريم النطق بلقب شغب الذى أطلقه عليها حبيبها القاسى المعتضد بالله ، وأصبح اسمها الرسمى "السيدة أم المقتدر" وكان القرار التالى هو مصادرة الجواهر التى كان المعتضد يزين بها جواريه الفاتنات من منافساتها السابقات ، وتحولت تلك الجواهر إلى أعوان شغب من الجوارى الخادمات اللائى ساعدنها فى المؤامرات ، وحصلت "ثمل" على النصيب الأكبر من جواهر الخلافة .

بل إن شغب أصدرت قرارا بتحريم لقب "ثمل" وأعطتها لقبا جديدا هو أم موسى القهرمانة ، وجعلتها وصيفتها الخاصة ، وأوسعت لها فى نفوذها بحيث كانت تعزل الوزراء .

ثم وجهت شغب انتقامها واحتقارها للفقهاء وعلماء الدين فى عصرها ، وذلك فى سابقة لا مثيل لها فى التاريخ الإسلامى ، وذلك أنها أصدرت سنة 306هجرية قرارا بتعيين ثمل قاضيا للقضاة ، فأصبحت ثمل أو أم موسى القهرمانة تجلس فى الرصافة فى بغداد كل يوم جمعة لتنظر فى شكاوى الناس وقضاياهم ويجلس معها القضاة والفقهاء وكبار الموظفين والحجاب لتنفيذ أحكامها .  وفى هذه الآونة راج حديث " ما أفلح قوما ولوا أمرهم امرأة" صنع الناقمون ذلك الحديث لينتقدوا به ضمن أحاديث أخرى انفراد النساء بالسلطة. هذا بينما التزم كبار الفقهاء الصمت.

وكبار الأئمة المقدسين ـ الآن ـ  كانوا يعيشون فى هذا العصر، فقد مات فى عصر المقتدر وأمه شغب محمد بن أبى داود الظاهرى وابن شريح والجنيد وأبو عثمان الحيرى والنسائى والجبائى وابن الجلاء وأبو يعلى والأستانى والرواندى والطبرى والزجاج والأخفش الصغير وأبو بكر السجتانى وابن السراج وأبو عوانة والبغوى وقدامة . كما عاش فى عصر قبيحة وابنها المعتز أئمة مشهورون مثل البخارى ومسلم وأبى داود الترمزى وابن ماجة والمزنى وابن عبد الأعلى والزبير بن بكار والرياشى والذهلى وداود الظاهرى وابن مخلد وابن قتيبة وأبوحاتم الرازى وابن شبه وابن حنبل.

ونعود إلى شغب وهى تنتقم من خصومها ، ففى سنة299هجرية صادرت أموال فاطمة القهرمانة وعثروا على جثتها غريقة فى دجلة ، ولحقت بفاطمة القهرمانة بقية الجوارى المسنات اللاتى أصبحن وصيفات أو قهرمانات . ونال بعض الوزراء اضطهاد شغب ووصيفتها أم موسى ، كما حدث للوزير ابن الجراح الذى لم يبد كبير احترام للقهرمانة فتعرض للطرد والمصادرة. والتفتت شغب إلى كبار القوم تصادرهم وتتلاعب بهم ومنهم الوزير حامد بن العباس وعلى بن عيسى ، وكانت تتلاعب بالوزراء تعين هذا ثم تعزله وتصادره ، وهكذا.

ومع ذلك فقد كانت لها محاسن ، فقد أقامت مستشفى على نهر دجلة سنة 306هجرية وجهزت جيشا من أموالها للدفاع عن بغداد ضد القرامطة سنة315هجرية .

ولم تتوقف المؤامرات ضد شغب وابنها ، فقد حدث أن ثار الجند الأتراك وعزلوا المقتدر واعتقلوا شغب وعينوا أخاه القاهر خليفة ، إلا أن المؤامرة فشلت وعاد المقتدر للخلافة وعفا عن أخيه القاهر واستبقى حياته.

ولكن نجحت الثورة التالية فى قتل الخليفة المقتدر سنة 320 هـ بقيادة القائد التركى مؤنس الخادم، وتولى الخليفة القاهر الذى قام بتعذيب السيدة شغب بيديه حتى كان يعلقها من قدميها ويتركها تصرخ ، وكانت تبول فيغطى بولها وجهها ، وظل يعذبها حتى استخلص منها كل أموالها . ولم يقتنع مع ذلك فظل يعذبها إلى أن ماتت تحت العذاب .. (تاريخ الطرى 10/139،تاريخ ابن الأثير 6/119_تاريخ ابن كثير 11/175:169:105تاريخ الخلفاء للسيوطى 604-المنتظم لابن الجوزى 13/253الصفدى الوافى بالوفيات 16/167 ) .

6-وأخيرا تلك  بعض النماذج لنساء حكمن الخلافة العباسية من وراء ستار ، وأدى نفوذهن السياسى إلى خنق الفقهاء ، فأنطلقت فتاويهم تصادر  حقوق المرأة وتجلدها بالأحاديث المصنوعة .