يبدأ الإنسان طفولته بطرح أعظم الأسئلة وأهمها عن ماهية وجوده وسبب وجود العالم والحياة والموت وغيرها من الأسئلة التى احتار فى بحثها الفلاسفة ولا يزالون.
وبينما يظل الفيلسوف يجرى بعقله محاولاً الإجابة على سؤال "لماذا" فإن باقى البشر سرعان ما ينسون تلك القضايا المعضلة التى كانت تلح على نفوسهم وهى لا تزال على فطرتها ونقائها، والسبب أن الجسد شغل النفس بفتوته وغرائزه وبدلاً من أن تستمر النفس فى التفكير فى الفلسفة العليا يأخذها الجسد شيئاً فشيئاً إلى الانكفاء على العالم المادى بما يعنيه من شهوات وطموحات تهدف كلها إلى تحقيق أكبر قسط من اللذة المادية والمتعة الحسية.. حتى إذا ضعف الجسد ووهن منه العظم واشتعل الرأس شيباً كانت النفس قد تم تسييسها بالطواف حول متع الدنيا، وبدلاً من أن تعود النفس إلى براءتها الأولى وفطرتها السامية فإن ضعف الجسد يدفعها للتباكى على أطلال الماضى والشباب الذى ولى والذى لن يعود والصحة التى ارتحلت إلى غير رجعة.. حتى إذا نام الإنسان على فراش الموت تركزت عليه الأنظار، أقصد تركزت على جسده على أنه هو نفس الشخص، وقلما يتذكر أحدهم أن ذلك الجسد الواهن مجرد ثوب انتهى عمره الافتراضى وقد آن للنفس أن تغادره لتعود من حيث أتت..
قلما يفكر أحدهم فى الشخص المحتضر بمعزل عن الجسد، بل يحسبون الجسد حتى فى وهنه وخفوت بريق الحياة فيه هو نفس الذات.. القرآن يسمى الجثة فى حالة الحياة وحالة الموت "سوأه" ونحن لا نرى فى هذه "السوأه" إلا الإنسان نفسه والكائن العاقل ذاته، ونحن نتخيل الجسد المادى هو ذلك الكائن العاقل الذى مات وانطفأ نور الحياة فيه، ومن طول معاشرتنا له فى الحياة الدنيا وتعاملنا معه على المستوى الجسدى المادى لا نرى له ماهية أخرى غير ذلك الجسد الذى عايشناه ولا نعرف غير ذلك الوجه المادى الذى كنا نفرح بمرآه أو نكره رؤيته.. أى أن كل خبراتنا محصورة فى ذلك الجسد وننسى أننا فى الحقيقة كنا نتعامل مع "نفس" هى التى كانت تسيطر على ذلك الجسد وتقوده، وحين كانت تأخذ منه أجازة فى الليل كان ذلك الجسد ينام ولا يصبح صالحاً للتعامل معه بالتفاهم أو بالنقاش.. ننسى أن النفس التى تنظر إلينا من خلال العينين هى بمثابة قائد السيارة.. والجسد هو السيارة التى تقودها. تظل السيارة واقفة مجرد هيكل مادى ميت لا يحس ولا يتحرك، فإذا دخل فيها السائق دبت فيها الحياة، ولمعت عيناها، أى مصابيحها، علا صوتها، تلاحقت أنفاسها، ثم سارت فى الطريق كأى كائن عاقل يسرع ويبطئ ويعى الإشارات الضوئية والصوتية ويداور ويناور ويتحرك ويتوقف ليحمل محتاجاً، أو يجرى ليصدم إنسان ويقتله.. هل تفعل السيارة كل ذلك بذاتها، أم أن السائق فى داخلها هو الذى يجعلها تعبر عما يريده هو؟..
هذا هو حال النفس بالنسبة للجسد. الجسد هو السيارة والنفس هى السائق والقائد
ولكننا ننسى القائد ونركز اهتمامنا على هيكل السيارة، أقصد ننسى النفس ونهتم بالجسد ونراه عين الذات للإنسان وإنه هو الماهية..
وقد يقول قائل أن الجسد هو الذى يحس وهو الذى يتعذب ويتألم ويتلذذ. وذلك خطأ.. فالجسد هو الوسط الذى تحس به النفس باللذة والألم ، أو هو الوسيط الذى ينقل للنفس الاحساس باللذة والألم. المخ هو المقعد المادى للنفس وبه تسيطر على الجسد.
ففى العملية الجراحية نقوم بالتأثير على المخ. أو حجرة التحكم المركزى التى يتحكم فيها ذلك الكائن المسمى بالنفس ويسيطر بها على الجسد، وحينئذ يفقد الإنسان الإحساس الكلى أو الموضوعى..
ونفس الحالة فى اللذة..
فى اللذة الجنسية لابد من تهيئة النفس ولابد أن يكون الدافع نابعاً منها، وحين ينهمك الجسد فى اللقاء الجنسى فالحقيقة أنه ليس لقاءاً جسدياً، بل هو لقاء نفسين من خلال المجال الجسدى لكليهما، والتركيز على ذلك الجانب النفسى العاطفى هو الذى يجعل اللذة الجنسية تصل إلى قمة الإحساس باللذة.. أما عدم الاهتمام النفسى فيؤدى دائماً إلى البرود والنفور، والكراهية من أحد الطرفين للآخر..
النفس هى العامل الأول والأخير فى اللذة والألم، والجسد هو الوسيط المادى الذى تنفعل به النفس فى اللذة والألم..
ولكننا- كالعادة- ننسى النفس ونركز على الجسد..
ولكن ما صلة هذه المقدمة الطويلة بعذاب القبر؟!
إن تركيز الانتباه على الجسد وإهمال النفس يجعلنا نسئ فهم الموت ويجعلنا على استعداد لتصديق الأساطير عن الموت وعذاب ما يعرف بعذاب القبر..
الذين تتعلق عيونهم بالمحتضر على فراش الموت ولا يرون فيه إلا مجرد جسد يموت يتعاظم لديهم الإحساس بفظاعة الموت ومنها يترجمون حركات الذى يجود بأنفاسه الأخيرة، ويحسبون تقلصات وجهه على أنها ألم شديد ومعاناة هائلة، وكلهم يخشى على نفسه تلك اللحظة..
هذا مع أن الموت كما يقرر القرآن هو نوم أو سكرة أو إغماءة، وفى كل الأحوال فلا مجال للشعور بالألم.. مع ذلك فالذى ترسب فى مشاعر الناس عبر تراثهم وتاريخهم أن الموت كريه وقاس بشع مؤلم خصوصاً وهو تجربة جديدة لكل إنسان، أن تخرج نفسه نهائياً من جسده، ولم يحدث أن عاد إنسان بعد تجربة الموت الحقيقى ليحكى للأحياء مشاعره بالضبط . إن الذى يحدث أن الذى يموت لا يعود ليخبرنا بمشاعره، لذلك يظل كل منا ينتظر دوره بفزع ويتعامل مع الموت الذى ينتظره من خلال الأساطير التى تحكى عن الموت، وليس من خلال حقائق القرآن الكريم عن الموت، وحتى حقائق الطب عن الموت لا تختلف عما أشار إليه القرآن من قبل..
ولكن يظل الوهم أوقع فى التأثير لأنه أكثر التصاقاً بالمشاعر.. لو أنهم عرفوا أن النفس تفارق جسدها وتتحرر منه بنفس ما تعودت فى النوم، ولكن الفراق هنا أبدى- لو عرفوا ذلك لاستراحوا ولتخففوا من كثير من الكوابيس.
وينطبق نفس الوضع على أساطير وكوابيس عذاب القبر.. فبسبب التركيز على الجسد واعتباره هو ذات الشخص تتقافز أمام عقولهم عفاريت الليل، فذلك الشخص- أى ذلك الجسد- دخل القبر وهو حفرة فى باطن الأرض مظلمة كئيبة، وينام فيها وحده محشوراً محاطاً بعظام وأموات، حيث لا رفيق ولا صديق ولا حبيب..!!
وحين يضعون ذلك الجسد فى تلك الحفرة لا يعلمون أنهم يضعون ثوباً بالياً كانت فيه النفس وتركته، ولا يعلمون أن الشخص الحقيقى أو الذات الحقيقية للإنسان قد غادرت ذلك الجسد أو تلك السوأة، وأن مصير ذلك الجسد هو العودة للتراب، والصورة المثلى لعودته للتراب أن يكون جزءاً من التراب، أى دفنه فى التراب..
لا يعلمون ذلك، ويغيب عنهم ذلك..
ويرون الجثة الميتة هى نفس الشخص بأحاسيسه ومشاعره وذاتيته ويتصورون الشخص العزيز لديهم وقد أصبح أسير حفرة فى باطن الأرض ويتخيلون ما يحدث له فى هذا السجن الضيق الانفرادى الذى يخنق الأنفاس..
ومن هذا التخيل تولدت حكايات وأساطير وخرافات.. ولذلك تحفل أدبيات التراث بصور أسطورية كثيرة لعذاب القبر فالكافر فى قبره يتعرض لتسعة وتسعين تنيناً ولكل تنين سبعة رؤوس وتلدغه حتى تقوم الساعة، والكافر يضرب بمطارق من حديد وبمرزبة تكفى الضربة منها لإحالة الجبل إلى تراب، والنساء تعلقن من أثدائهن.. والشفاه تقرض بمقارض من حديد.. إلخ هذه الصورة البشعة لعذاب القبر، ولأنها حكايات عن المجهول فقد تلقفها الناس بالشغف والقبول، لأنها تشبع رغبتهم الفضولية فى معرفة ذلك المجهول الذى ينتظرهم.. ولأنه أمر غيبى ومنسوب لله تعالى ورسوله – بزعمهم – فلا بد أن يتلقاه الناس بالقبول والتسليم ولابد أن يصبح ديناً..
وطالما أصبح ديناً فقد صار له أولياؤه وأصحابه الذين يأخذون من هذه الأساطير مادة خصبة للترغيب والترهيب، فالقبر يتحول إلى روضة من رياض الجنة، أو يتحول إلى حفرة من حفر النار، ثم لا يلبث أن يتحول ذلك الدين الأرضى إلى مجالات التجارة والارتزاق والاستخدام السياسى.
فإذا كنت تريد أن يتحول قبرك إلى فندق خمس نجوم فتبرع يا أخى بكذا.. وإلا فإن الثعبان الأقرع فى انتظارك!!
ومنذ العصر الأموي استحدث بنو أمية وظيفة الراوي في المسجد أو من كان يسمى بالقصاص ـ بثشديد الصاد ـ ، وكان يجلس فى المسجد بعد الصلاة للدفاع عن السلطة الأموية وتبرير فظائعهاولكن بصورة غير مباشرة وتحت ستار الوعظ . لذا كان منهج صاحب القصص أن يجذب إليه عقول السامعين بالأساطير والحكايات , وكلما توغل في الكذب ازدادت جماهيريته وازداد تأثيره..ولقد كان العصر الأموى عصر الروايات الشفهية التى تم تدوينها فيما بعد فى العصر العباسى منسوبة للنبى بعد ان دخل فيها الكثير من التحريف والتخريف . دونهاكثيرون أبرزهم "ابن برزويه " صاحب الانتماء المزدكى والأصل المجوسى، وهو المشهور بيننا بلقب البخارى المتوفى سنة 256.
كانت خرافات الترهيب وعذاب القبر المادة المفضلة للقصاص فى العصر الأموى، ثم جاء الفقيه " الأوزعى " الذي عاصر الخلافتين الأموية والعباسبة وخدمهما معاً ، وكان من أشهر القصاص في الدولتين ، وهو الذي اخترع حد الردة وهو أيضاً المصدر الأساسي لخرافات عذاب القبر ، وتحولت معظم أقاصيصه إلى مروايات وأحاديث يعززها بأن لها جذوراً فرعونية في عقول الناس من آلاف السنين.
ان بعض أنواع الماعز تعتقد أن الشيطان قد قدم استقالته بعد ظهور الاسلام وبعد موت خاتم الأنبياء وأن اهل البلاد المفتوحة قد دخلوا فى الاسلام أفواجا دفعة واحدة وبايمان عميق لا مجال للشك فيه ، وأنه حتى الآن فايمان أحفادهم المسلمين اليوم هوالتطبيق الحرفى المخلص للاسلام الذى كان عليه خاتم النبيين عليهم جميعا السلام. ولذلك تستهجن تلك الماعز أى دعوة لاصلاح المسلمين وتهاجم كل من حاول الاصلاح لأن الذى يجب اصلاحهم ودعوتهم للهداية هم الذين لم تبلغهم الدعوة فى مجاهل أفريقيا وأحراش الغابات الاستوائية والصحارى القطبية . وأنواع أخرى من الذئاب ترى أن الهدف الأسمى هو أن يخضع المسلمون لحكمهم طوعا او كرها لأقامة دولة الخلافة التى تعيد مجد السلف وتواصل الجهاد ضد دار الحرب الصليبية الى قيام الساعة.
هذه الماعز وتلك الذئاب تحتاج الى تغييب عقول الناس كى تسرق منهم الوعى والعقل ، وبعدها يصبح سهلا امتطاء الضحايا ـ أو المطايا لا فارق هنالك ـ . ولكى تسرق منهم الوعى والعقل ترهبهم باحاديث عذاب القبر وينسبون كل خرافاته للنبى حتى يقطعوا الطريق مقدما على كل من يفكر فى النقاش ، اذ يكون التحذير جاهزا أنه" لا اجتهاد مع وجود النص" فاذا أصر جاء الارهاب الفكرى يتهم المسكين بأنه ينكر السنة . بذلك الارهاب المسبق تخضع الجباه لشيوخ الثعبان الأقرع وهم يروعون الناس ويرهبونهم بتلك الخرافات المفزعة. والمحصلة النهائية لتلك الحملات الارهابية الفكرية أن السامعين الذين استمعوا اليها وآمنوا بها يشعرون شعورا خاصا نحو ذلك الذى أدخل تلك المعتقدات فى قلوبهم، يشعرون نحوه بالرهبة والاحترام الزائد فاذا خاض بهم فى موضوع دينى آخر ـ مثل تغيير المنكر بالقوة ـ أطاعوه، ثم اذا انتقل بهم بعدها الى أن الدولة القائمة هى منكر يجب ازالته كان حتما طاعته و الا فالثعبان الأقرع ينتظر فى القبر فاغرا فاه.
من هنا نفهم لماذا التركيز فى كتابات السلفيين على عذاب القبر دون التركيز على النصف الآخر من الأكذوبة وهو " نعيم القبر" لأن الهدف هو الأرهاب الفكرى المعنوى والذى يتفوق فى خطورته على الأرهاب المادى الدموى. فالمعنوي يقتل العقل والكرامة الانسانية واحترام الانسان لذاته وهو الذى جعله الله تعالى خليفة فى الأرض وسخر له ما فى الكون. وبهذا الارهاب الفكرى اغتالوا جيلا من المساكين اضاعوا عليهم الدنيا والاخرة معا. وسعد بهم الشيطان الذى أوهمهم انه استقال وترك لهم البلاد والعباد باحثا عن عقد عمل مع ثعبان أقرع آخر فى المريخ..