مسلسل الحُمق في ذرية (على بن أبى طالب ) : ثورة محمد النفس الزكية عام 145 ( 1 )
مقدمة
1 ـ في خلافة أبى جعفر المنصور شهد عام 145 ثورة محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم من ذرية الحسن بن على بن أبى طالب ، وانتهت الثورة بفشلهما وقتلهما .
2 ـ نعطى تحليلا وتفصيلا :
أولا : صراع كهنوتى
1 ـ خلافا للدولة الأموية التي لا ترفع شعارا دينيا كانت الدولة العباسية كهنوتية مؤسسة على النسب للنبى محمد وما يترتب عليه ممّا أسموه ( ميراث محمد ) ، وهو التعبير الذى صاغه (على بن أبى طالب ) وزعم أن له الحق في الخلافة وثروات الفتوحات، والتي من أجلها دخل ( على ) في الفتنة الكبرى .
2 ـ الجديد هنا أنه تشاجر العباسيون والعلويون في هذه الثورة على ( ميراث محمد ) كل منهما يرى نفسه الأحق ، كما يظهر من الرسائل المتبادلة بين محمد النفس الزكية ( أمير المؤمنين الثائر ) وأبى جعفر المنصور ( أمير المؤمنين القائم في السُّلطة ). وهى خطابات ايدلوجية دينية .
2 : تقول الرواية : ( لما بلغ أبا جعفر المنصور ظهور محمد بن عبد الله المدينة كتب إليه : ( بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله . ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) . ولك عليّ عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك : أن أؤمنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم ، وأسوغك ما أصبت من دم ومال ، وأعطيك ألف ألف درهم وما سألت من الحوائج ، وأنزلك من البلاد حيث شئت ، وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك ، وأن أؤمن كل من جاءك وبايعك واتبعك أو دخل معك في شيء من أمرك ، ثم لا أتبع أحدا منهم بشيء كان منه أبدا ، فإن أردت أن تتوثق لنفسك فوجه إلي من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تثق به.) وكتب على العنوان من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله ).
نلاحظ :
2 / 1 : أبو جعفر المنصور يصف نفسه بأمير المومنين ، و لا يجعل لغريمه ( محمد النفس الزكية ) سوى إسمه ( محمد بن عبد الله ).
2 / 2 : يبدأ خطابه بالتهديد بآية قرآنية يتهم بها غريمه بما يُعرف بالحرابة وعقوبتها القاسية إن لم يتُب .
2 / 3 : بعد التهديد يعرض عليه الأمان ورشاوى مختلفة .
3 ـ : فكتب إليه محمد بن عبد الله ( النفس الزكية ) :
( بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله المهدي محمد بن عبد الله إلى عبد الله بن محمد: ( طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) . وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي عرضت عليّ ، فإن الحق حقنا ، وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا ، وخرجتم له بشيعتنا ، وحظيتم بفضلنا ، وإن أبانا عليا كان الوصي وكان الإمام ، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء ؟ ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا . لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء ، وليس يمت أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل ، وإنا بنو أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية ، وبنو بنته فاطمة في الإسلام دونكم. إن الله اختارنا واختار لنا ، فوالدنا من النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن السلف أولهم إسلاما علي ، ومن الأزواج أفضلهن خديجة الطاهرة ، وأول من صلى القبلة ، ومن البنات خيرهن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وإن هاشما ولد عليا مرتين ، وإن عبد المطلب ولد حسنا مرتين ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين من قبل حسن وحسين ، وإني أوسط بني هاشم نسبا وأصرحهم أبا ، لم تعرق في العجم ، ولم تنازع فيّ أمهات الأولاد ، فما زال الله يختار لي الآباء والأمهات في الجاهلية والإسلام حتى اختار لي في النار، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة وأهونهم عذابا في النار ،وأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار ، وابن خير أهل الجنة وابن خير أهل النار. ولك الله عليّ : إن دخلت في طاعتي وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك ومالك وعلى كل أمر أحدثته إلا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد ، فقد علمت ما يلزمك من ذلك . وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد . لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالا قبلي ، فأي الأمانات تعطيني ؟ أمان ابن هبيرة ؟ أم أمان عمك عبد الله بن علي ؟ أم أمان أبي مسلم ؟ . )
نلاحظ :
1 ـ محمد بن عبد الله يصف نفسه بالمهدى ويخاطب أبا جعفر المنصور باسمه المجرد ( عبد الله بن محمد )، أي لا يعترف بخلافته .
2 ـ ثم يبدأ بجعل ابى جعفر المنصور فرعونا ، مستشهدا بأوائل سورة القصص .
3 ـ يعرض عليه الأمان ، ثم يدخل مباشرة في تأكيد أنه له الحق دون العباسيين في الخلافة ، ويُسهب في ذلك مفتخرا بنسبه ، ويُعرّض بأن أم ابى جعفر المنصور كانت جارية مملوكة ،
4 ـ ثم يتندر بالأمان الذى عرضه عليه أبو جعفر المنصور ، لأن أبا جعفر المنصور إشتهر بنكث العهود والمواثيق ، أعطى عهودا لابن هبيرة وأبى مسلم الخراسانى وعمه عبد الله بن على ، ونكث بها.
ثانيا : صراع عسكرى :
1 ـ ليس مُهمّا من هو صاحب الحُجّة . الأهم هو صاحب القوة .
2 ـ كانت الحُجّة مع العلويين ، فابن عباس كان تابعا لابن عمه ( على ) ، ولم ينازع بنو العباس ورثة على في طموحهم السياسى . وبدأت الكيسانية المنتمية لابن محمد بن على بن أبى طالب ( محمد بن الحنفية ) الدعوة السرية تحت شعار ( الرضى من آل محمد ) ، وليس معلوما رأس الدعوة ومكانه . ثم أدّت ظروف الى انتقالها سرّا الى العباسيين ، فأعطوها زخما لتنتشر أكثر في خراسان على أن صاحبها من ذرية ( على بن أبى طالب ) . وقت تغلغل الدعوة العباسية في خراسان عقد بنو هاشم مؤتمرا سرّيا قرّر البيعة بالخلافة لمحمد النفس الزكية ، وشارك فيه العباسيون أصحاب الدعوة السّرّية حتى لا ينكشف أمرهم ، وبايع عبد الله بن محمد الذى أصبح إسمه فيما بعد ( أبو جعفر المنصور ) محمدا النفس الزكية بالخلافة . ثم كانت المفاجأة الكبرى بإقامة الخلافة العباسية على أنقاض الدولة الأموية عام 132 . ظل محمد النفس الزكية ساكنا الى أن توطّدت الدولة العباسية في خلافة أبى جعفر المنصور ثم ــ في الوقت الضائع ــ أعلن ثورته في المدينة وبعث أخاه إبراهيم ليثور في العراق الى جانب أبى جعفر المنصور ، ليضيف حُمقا إضافيا الى المتوارث من أغلب بنى (على بن أبى طالب ).
3 ـ أي هي صُدفة تاريخية ( إنتقال الدعوة العلوية الكيسانية السرية الى العباسيين ) ، وبدونها لم يكن للعباسيين طموح لمنافسة بنى عمومتهم . وترتب على هذا الصُّدفة التاريخية تأسيس الدولة العباسية ، ولجأ محمد النفس الزكية للثورة بكل ما يملك من حُمق ، أهلك به نفسه والآخرين .
4 ـ مبايعة ( عبد الله بن محمد ) ( أبو جعفر المنصور ) لمحمد النفس الزكية كانت نقطة ضعف خطيرة في أحقية المنصور بالخلافة . واستغلها ضده خصومه الذين شايعوا محمدا النفس الزكية وأخلصوا له حتى بعد فشله وهزيمته ومقتله . منهم ( عثمان بن محمد بن خالد ) ، جىء به أسيرا الى أبى جعفر المنصور فقال له : ( " يا عثمان أنت الخارج على أمير المؤمنين والمعين عليه " ؟ قال : " بايعت أنا وأنت رجلا بمكة فوفيت ببيعتي وغدرت ببيعتك " ... فأمر به فضربت عنقه .) . ورواية أخرى تقول إن أبا جعفر سأله : ( " أين المال الذي عندك ؟" قال : " دفعته إلى أمير المؤمنين رحمه الله ." قال : " ومن أمير المؤمنين ؟ " قال : " محمد بن عبد الله. " قال : " أبايعته ؟ " قال : " نعم كما بايعته أنت " . قال : " يابن اللخناء " . قال: " ذاك من قامت عنه الإماء " قال : " اضرب عنقه " ...فأخذ فضربت عنقه .) هنا يُضاف سبب الى تحقير أبى جعفر المنصور ـ في الثقافة العربية السائدة وقتها ـ وهى أن أبا جعفر المنصور كانت أُمُّه من الإماء .
5 ـ كان أبو جعفر المنصور يتحسّب لثورة محمد النفس الزكية ، وهو لا ينسى أنه بايعه من قبل بالخلافة ، أو بالتعبير السائد وقتها إن في عنقه بيعة لمحمد بن عبد الله ، وقد غدر به وبها. وحين تراخى محمد بن عبد الله في اعلان ثورته مكر به أبو جعفر المنصور يشجعه على اعلان ثورته قبل أن يستكمل الاستعداد. تقول الرواية : ( كان أبو جعفر يكتب إلى محمد عن ألسن قواده يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه. ) وانخدع محمد ( فكان يقول لو التقينا مال إليّ القواد كلهم .) . ولما إنخدع محمد وأعلن ثورته مبكرا قال أبو جعفر المنصور مفتخرا : ( أنا أبو جعفر استخرجت الثعلب من حجره ).!
6 ـ هذا في الوقت الذى إستعد فيه أبو جعفر :
6 / 1 : إستوثق من جيشه وولاء قوّاده ، بل إستوثق من جهازه السّرّى الدعائى الذى يصنع له الأحاديث وينسبها للنبى تُبشّر بخلافة بنى العباس ، وكان زعيم هذا الجهاز الدعائى الأعمش ( سليمان بن مهران ـ 148 ) الرفيق السابق لأبى جعفر في مجالس العلم . تقول الرواية : ( كتب أبو جعفر إلى الأعمش كتابا على لسان محمد يدعو إلى نصرته فلما قرأه قال : " قد خبرناكم يا بني هاشم فإذا أنتم تحبون الثريد . " فلما رجع الرسول إلى أبي جعفر فأخبره قال : " أشهد أن هذا كلام الأعمش."). أي إختبر أبو جعفر ولاء الأعمش بكتاب مزور منسوب لمحمد بن عبد الله ، وفهم الأعمش اللعبة فتندّر على أبى جعفر المنصور.
6 / 2 : واستشار أبو جعفر المنصور أصحاب الخبرة في الحروب ، حتى من أعدائه السابقين :
6 / 2 / 1 : كان منهم عمُّه عبد الله بن على العباسى ، والذى إنقلب عليه وحاربه ، فأعطاه المنصور الأمان ثم غدر به وسجنه ( ثم فيما بعد قتله ) . أرسل أبو جعفر وفدا يستشيره في أمر محمد النفس الزكية ، فطلب عبد الله بن على اطلاق سراحه قائلا : "إن المحبوس محبوس الرأي فأخرجني حتى يخرج رأيي. " فأرسل إليه أبو جعفر : " لو جاءني حتى يضرب بابي ما أخرجتك ، وأنا خير لك منه ، وهو ملك أهل بيتك. " ) فنصحه عبد الله بن على بأن يحاصر الكوفة لأنها شيعة العلويين ، ويمنع الدخول اليها والخروج منها ، ومن دخل أو خرج فليضربنّ عنقه ، وأن يستقدم جنوده من فارس وأن يستعين بأهل الشام ، لينضموا اليهم وأن يفرّق فيهم الأموال .
6 / 2 / 2 : وكان جعفر بن حنظلة البهراني من أتباع الأمويين وقد حارب مع مروان بن محمد ضد العباسيين ، ثم إعتزل وكان مشهورا بالخبرة الحربية . واستشاره أبو جعفر المنصور ، فقال له : " قد ظهر محمد فما عندك ؟ قال : " وأين ظهر ؟ " قال : " بالمدينة ؟. قال : " فاحمد الله . ظهر حيث لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا كراع ، إبعث مولى لك تثق به فليسر حتى ينزل بوادي القرى فيمنعه ميرة الشأم فيموت مكانه جوعا ، ففعل . )
6 / 3 : وزرع أبو جعفر المنصور المدينة بجواسيسه ينقلون له أخبار محمد النفس الزكية ، بحيث يكون أول من يعلم به إذا خرج ثائرا . وبمجرد أن أعلن ثورته أسرع أحدهم فوصل ليلا الى قصر أبى جعفر المنصور بعد سفر إستغرق تسع ليال ، وصمّم على أن يرى أبا جعفر ، وأيقظوا الخليفة وجىء به اليه فأسرع الرجل يقول : (" يا أمير المؤمنين خرج محمد بن عبد الله بالمدينة " ) واستجوبه الخليفة ، ثم حبسه ليتيقن صدقه. ولما تبين صدقه كافأه بألف درهم عن كل ليلة سارها .
6 / 4 : وهناك جواسيس لأبى جعفر المنصور كانوا قريبين من محمد النفس الزكية ، منهم ابن القسرى الذى غدر بمحمد ثم لحق بأبى جعفر المنصور . والحديث في هذا يطول .
7 ـ أي نحن هنا بين جانب يملك ( الحُجّة السياسية ) ومعها حُمق ، وجانب لا يملك ( الحُجّة السياسية ) ولكن معه المكر والدهاء والقوة والعتاد . أي هي قضية محسومة سلفا .