خُرافـــةُ احترامِ القوانين!
صناعةُ القوانين عمليةٌ سهلةٌ يستطيع أنْ يقوم بها طالبٌ متفوّقٌ في كلية الحقوق قبل تخرجه بأربع سنوات؛ لكن إزالةَ أسبابِ الفسادِ منها قبل سَنِّها يحتاج إلىَ رُبع قرنٍ بعد التخرج في نفسِ الكلية و.. المرور على الثقافة والآداب والعلومِ الإنسانية ودساتير حقوق الفرد في منظمات دولية ومحلية وإقليمية مع القراءة بالاثنين معا: ضمير يقظ، والتهام كل أنواع المعرفة والاستعانة بالخبرات من كل مكان حتى لو أتتك من أقصىَ الأرض.
أستطيع أنْ استعين بإبليس ليضع موسوعةً أو دستورًا أو قوانينَ بلدٍ يغوص حُكَّامُه في وحْلِ الفساد، ثم يبدأ الحديث عن احترام القوانين التي يكون قد وضع في كل مادةٍ منها ثغرةً يتسلل منها في وقتٍ لاحقٍ، وذلك عندما يبحث القضاءُ أو المحامون أو البرلمانيون أو مستشارو الديكتاتور عن تبرئة مجرم أو تحسين صورة لص أو إخفاء اعتداء أو.. هضم حقوق.
لا توجد قوانين في العالم الثالث تقضي علىَ الفساد؛ فالمطلوب القضاء على الفساد توطئة لصناعة و..سنِّ القوانين!
القضاءُ في عالمنا المتخلف جزءٌ من التخلف فلا تنتظر منه عدالة أو شرفاً أو ضميرًا أو كراهية للظلم أو انحيازًا للمستضعَفين.
يستيقظ القاضي في الصباح ويستعد للذهاب إلى المحكمة وفي ذهنه صورةُ قصر الحاكم وليس قصر العدل، والكلمة المُعَلــَّـقة على الحائط فوق رأسِه عن أمر الله له أن يحكم بين الناس بالقسط هي للاستهلاك المحلي، كالدجاج الـنـيّء من الجمعية التعاونية، تظن أنه يملأ بطنــَك، وتنسىَ أنه يضع فيها فضلات الأثرياء والسلطة.
القوانين في العالم الثالث لا تعترف بشاهد عيان؛ إنما بأقوال سلفٍ لا يستطيع أذكاهم وأتقاهم وأكفأهم أنْ يتخيل شكل العالــَم الذي سيستعين بهم بعدما تحولت هياكلهم العظمية في القبور إلى رماد اختلط به ترابُ الأرض.
كل القضاة والمستشارين يتواكلون على المجهول بزعم أنهم يتوكلون على الله، والكُتُب المقدّسة تحت تصرفهم، والإعلام الوصولي في خدمتهم، والبرلمان الجاهل يكمل مهمتهم، والحاكم الجبان يُخيــّـط مؤخرَته في كرسي الحُكْم بفضل كمية الفساد الهائلة التي صنعت قوانين لمساندة السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والعقائدية والدرويشية والمالية.
خرافة القضاء على الفساد بقوانين حافظتْ على الظلم والرشوة والفقر والاستغلال والجهل والمرض هي حائطٌ هشٌّ إذا لمستـَه سقط وتناثرتْ حجارته في كل مكان.
يستطيع مجرمٌ أنْ يحكم ثلاثة عقود، ويُفْسِد ويفشل ويصنع الصفر في كل المجالات، ويزيـّف الحقائق، ويستعين بقرَدَةٍ في الإعلام، وينهب أموالَ الفقراء ويقوم بتهريبها، وتتوثق أمام الجماهير آلاف الجرائم منه وعنه، فيجلس المستشار القاضي الذي يعرف كل جريمة خلال ثلاثين عاما ويقوم بتبرئة المتهم لأن النيابة لم تضع أمامه أدلة وبراهين وقرائن كأنه ومستشاريه قَــدَموا لتوّهم من كوكب عطارد ولم يتمكنوا من التعرف على جرائم المسكين المشتبه به!
يستطيع مجرم أن يبيع ويشتري في ممتلكات الوطن، ويأخذ أموال الفقراء ليبني بها استراحات وقصورًا، ويفرّط في أرض بلده في الوقت الذي يقف كبار ضباط الجيش فاغرين أفواههم كأنهم خُشُبٌ مُسَنّدة ويؤيدون أو يصمتون( التأييد والصمت متساويان)، ويتصرف بحماقة في مياه الشرب والزرع التي يُهديه للشعب النهرُ الخالد، لكن قوانين الظلم المصنوعة من خيوط الفساد جيلا بعد جيل، تسمح له أن يُغيّر الدستور ليطيل عُمرَه الحُكـْمي قبل تسليم القصر أو القصور لابنٍ من نسله.
يستطيع مهووسٌ دينيــًا أن يحكم باسم الله، ويأتي بالملائكة شهودًا( وفي الحقيقة فإنهم شياطين يضعون أجنحة ملائكة)، وتبدأ خرافة تديين القوانين وصبغِها بأقوال مجهولة، وتفسير الكتب المقدسة لتناسب وليَ الأمر، ويصغُر المجتمع حتى يصبح جماعة، وتهبط السماءُ حتى تلتصق بالأرض، وتأخذ القوانين صورة مَظــْهرية تُرهِب العامة لأنها ممهورة بتوقيع الله والرسل والأنبياء والملائكة ورجال دين عهد الجماعة.
خرافة احترام القوانين للقضاء على الفساد كوضع المركبـة أمام الحصان، فالقوانين ثابتة بغبائها، والفسادُ يتوالد، ويبيض، ويتكاثر، ويتناسل في كل عهدٍ، لهذا فإنْ حَكَمَ بلدًا في العالمِ المُتخلف ضفدعٌ يحتضر فهو قادرٌ على إحداث حالة من الصمت الجماهيري بنقيقه، فيُخضِع الأمةَ برمتــِها.
خرافة احترام القوانين المُقنَّــنة في عهود الفساد تكملةٌ للفساد وحفاظٌ على مكاسب السلطات اللانهائية في مؤسسات الدولة المربوطة خيوطها بقصر الحاكم.
هذا الموضوع ليس موجهــًا لجهةٍ معينةٍ أو لبلدٍ مُحدد؛ فالعالمُ الثالثُ المتخلفُ والذي نحن جزءٌ لا يتجزأ منه ينطبق كل شبر فيه على رأس المقال: خرافة احترام القوانين!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 26 سبتمبر 2020