بسم الله الرحمن الرحيم.
*******
ومن يدري ؟
لعل الأغلبية من المرشدين والوعاظ ما زالوا محبوسين في بطن الحوت ؟
********
لا أتذكر بالضبط السبب أو تداعي المعاني التي سافرت بي في كل الدنيا، والتي جعلتني أحـدّق - إن جاز هذا التعبير- في بعض جزئيات أو إشارات حول القصة المثيرة لذلك الرجل الذي ذكـره سبحانه وتعالى عدة مرات في حديثه المنزل، حيث أشار إليه:
1) مرة إلى صاحب الحوت، في سورة القلم ، الآية رقم 48.
2) ومرة إلى: ذا النون، في سورة الأنبياء، الآية رقم 87.
3) ومرة إلى: (فالتقمه الحوت وهو مليم)، في سورة الصافات، الآيتان رقم: 139/148..
وهكذا، وبعد أن جالت عدة أفكار وصالت تساؤلات، ولَعَتْ إحداها وتميزت، ولسانُ حالها يقول: من الراجح أن "يونس" الذي هو من المرسلين، تكون قضيته حُبلى، تحمل تعليمات تعليمية مصيرية لأولى الألباب والأبصار، فشرعتُ في استعراض تلك الآيات التي جاء فيها ذكر هذا الرسول، ومنها تلك التي كانت موجهة الأمر بصفة خاصة لخاتم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والتسليم جميعا، وأن عليه التذرعَ بالصبر لحكم ربه حتى لا يلقى مصير صاحب الحوت :
1- (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين ). سورة القلم – الآيتان رقم: 48/52.
2- (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين ). سورة الأنبياء – 87/88.
3- (وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين). سورة الصافات – 139/148
ويمكن أن يُفهم أن يونس، ذلك الرجل الذي بعثه الله رسولا، عرف شتى الإنفعالات وأيما انفعالات من جراء قلة اهتمام قومه به وبرسالته، ولم يتسع صبره لكل ذلك، فذهب مغاضبا متأثرا، إلى درجة أن بلغ به التأثر والظن وعزة النفس والغرور مبلغا، بل إلى درجة أن كل ذلك جنح به إلى اقتناعه ولو لطرفة عين أنه لا توجد هناك قدرة تصمد أمامه وتستطيع مواجهته، بل لقد ظن ( أن لن نقدر عليه ) ونسي أن تصرفه ذلك تصرف آبق متجاهل إذن ربّه، وبالتالي لم يكن يعلم أن توجهه إلى الفك المشحون لم يكن إلا لمواجهة مصيره وعقابه الذي قد تقرر بعد أن تحوّل بفعلته وموقفه إلى عبد مليم، وهكذا حتى وجد نفسه في ظلمات مُرَكّبَة، في ظلمات ذلك الحبس الرهيب ذي الهول والغم، الذي فجّر ما بالرجل من الفطرة المطهرة ومن الإرادة القوية والتواضع اللامحدود، ليعلنها صريحة صافية مدوية مناديا في عالم تلك الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين، مصرحا مقرا بوحدانية الله ومقرا بالمخالفة التي اقترفها بصفته رسول الله .
وعليه فإن ما يمكن الإستفادة من هذه الحادثة تكمن في أن مهمة أولئك البشر الذين اختارهم الله العظيم لتبليغ رسالته تنحصر فقط في تبليغها إلى المعنيين لا أكثر ولا أقل، وبصدر رحب، هادئ، وبرباطة جأش، ثم ولأمر ما قرن الله أمره وتعليماته ونصحه الذي وجهه إلى خاتم الأنبياء والرسل عليه الصلاة والتسليم، حتى لا يقترف نفس الخطأ الذي صدر من سالفه يونس، وأن يصبر لحكم ربه.
وهنا بالضبط ولعتْ فكرة أخرى وتساؤل آخر كبير، بل هو خطير جدا، يتمثل أو يعني أولئك الذين صدّقوا أنفسهم في ما سولته لهم، وصدّقوا أولئك الذين نعتوهم ووصفوهم، أو نصّبوهم بطريقة أو بأخرى ليكونوا للناس مرشدين ووعاظا ودعاة ومثالا يقتدى به، ولا نستبعد ما يمكن أن يكون فعله الشيطان الرجيم من أفاعيل ووسواس، لاسيما الأغلبية منهم، أولئك الذين ينبغي عليهم أن يحدقوا مليا في أنفسهم ويتساءلوا وبكل شجاعة، ماذا عساهم أن يفعلوه حتى يتطهروا من تلك "الفيروسات" الماكرة ؟ من تزكية النفس والغرور والتنصل من الشرك الظاهر والخفي، ابتداء من تمييز أنفسهم ظاهريا بتلك البذلات المختلفة ؟ وكأنها تقليد لبذلات رجال الدّين في مختلف المناهج الأخرى، وعليهم بصفة أخص أن ينبذوا كل احتقار أو هجاء للآخرين ويتخلصوا من الحكم على الآخر، وأن لا ينسوا أن استخلافهم في الأرض لم يقصد منه أبدا أن يكونوا ربانيين أكثر منه سبحانه وتعالى، وأن لا يطلقوا العنان لأحكامهم على الآخرين بالكفر، وبازدراء الدين، وبالمرتدن وما إلى ذلك، من كونهم ضمن تلك الفرقة الوحيدة الناجية المشفقة على الفرق السبعين الأخريات.
ثم، فلهم أن يتساءلوا بكل شجاعة وإخلاص، ألا يمكن أن يكونوا من حيث يدرون أو لا يدرون واقعين في فخ ؟ ومحبوسين في سجن رهيب مهول له شبه بسجن يونس في بطن الحوت ؟ وأن يستلهموا منه نص وروح تسبيحه ذلك، المشهور؟ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
*******