ماذا أقول لابنى الطبيب كى لا يهاجر؟

خالد منتصر في الخميس ٢٥ - يونيو - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

ابنى فى نهائى كلية طب ويعشق مصر حتى النخاع، ومنتهى طموحه أن يشارك فى العمل الاجتماعى ويخدم الناس، وكان يقول لى إن علاقاتك الطبية وظروفنا الاجتماعية كلها تشير إلى أن الاستقرار هنا فى وطنى هو الحل والأمل، لكن معظم أصدقائه يحلمون ويعدّون أنفسهم وهم فى الكلية للسفر إلى الخارج والاستقرار هناك. كان فى البداية غير متحمس للانخراط معهم ومشاركتهم، لكنه أمس أخبرنى بأنه مقتنع بما يفعلونه، وبأن الطبيب الشاب فى مصر يعانى من الإحباط الذى يجبره على الهجرة، فالتقدير المادى منعدم، وزاد عليه أن التقدير الأدبى هو أيضاً قد تبخّر، فلا المجتمع ولا المسئولون عادوا ينظرون إلى تلك المهنة بنفس التقدير أو الامتنان السابق، وإذا ضاع هذا وذاك فماذا يتبقى لكى أعافر هنا ولا أسافر أو أهاجر؟

زملاؤه الذين فى نفس عمره والذين كانوا يحسدونه على مجموعه فى الثانوية العامة قد تخرجوا منذ سنوات، منهم من تعين فى بنك، ومنهم من هو فى شركة أو مؤسسة، ومرتباتهم عالية وصاروا يعتمدون على أنفسهم ويتمتعون باستقلالية والأهم يتمتعون باستقرار وأسرة، وباتوا لا يحتاجون إلى وجع قلب لمدة سنوات أخرى «ماجستير ودكتوراه» لكى يبدأ كل منهم فى شم نفسه بعد أن يكون الشيب قد غزا رأسه والمفاصل قد تيبست، هل تستطيعون أن تجدوا رداً تساعدوننى به على إقناعه أن يظل معنا محققاً حلمه القديم فى خدمة وطنه وهو يسمع من يتهم زملاءه الذين تخرجوا قبله بالتقاعس؟!

أخبروه بأنه بعد التخرج لا بد أن يتعلم الجودو والكاراتيه وكل فنون القتال لأنه سيتعرّض يومياً للهجوم عليه واقتحام المستشفى، وغالباً سيقاتل وحده للحفاظ على أجهزة العناية المركزة والاستقبال... إلخ، وربما سيُخصم ثمنها من مرتبه الهزيل وبدل عدواه الكوميدى، أخبره السابقون فى التخرج بأنه سيصبح «الحيطة المايلة» فى المحافظة، أى محافظ أو نائب يريد استعراض عضلاته وتقديم مسوغات تصعيده، أول شىء يفعله هو الدخول على المستشفى و«تهزيق» الطاقم الطبى وخصم المرتب وتوقيع الجزاءات والتحويل للشئون القانونية، سيصبح لوحة التنشين لكلاكيع وبارانويا البعض لكى يحصل على الماجستير والدكتوراه، رحلة ذل، وتعالى وروح، وعدل واشطب... إلخ، فضلاً عن التكلفة المرعبة، والأخطر أن رسالته تُركن على الرف ولا يتم الاستفادة بها، ولكنها مجرد خطوة فى روتين ترقيه ممل وعبثى، لا بد له من كتيبة محامين لأن الإعلام يفترسه والنقابة لا تسنده والوزارة تبيعه والمرضى يتربصون والمحيطون يحسدون، بلاغات وقضايا وخناقات وطب شرعى... إلخ معظمها نتيجة ميوعة المنظومة الطبية، وفوق كل هذا شعب ثقافته الطبية مشوهة ومشوشة، شعب فيه ١٠٠ مليون طبيب ومفت، سهل الإغواء بالإشاعات، فالطبيب فى مصر يعالج وفوق كتفيه وعلى دماغه الجيران والأصحاب والأقارب وبرامج الأعشاب وقنوات بير السلم... إلخ، فهل هناك من يستطيع إقناع ابنى العزيز بأن مستقبل الطبيب فى مصر وردى وجميل ومبشر، وبأنه من الأفضل أن يظل يمارس الطب انتظاراً لجنة الخمسة عين المنشودة وفردوسها المنتظر.

 

 

 

اجمالي القراءات 3472