فقه تكسير الأصنام : من الإصلاح العلني الى الهاجس الأمني

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٥ - يونيو - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

فقه تكسير الأصنام :  من الإصلاح العلني الى الهاجس الأمني

أولا :

1 ـ في منتصف السبعينيات وفد الى قريتنا ( أبو حريز ) شاب فلسطيني ينتمى الى حركة ( فتح ) تزوج فتاة من القرية وعاش فيها وقتا، لم يعجبه تقديس الناس للولىّ الصوفى ، وبدأ يهاجمه . سمع بموقفى من التصوف ، وكنت وقتها في صراع مع الأزهر في موضوع الدكتوراة عن التصوف . زارنى في القاهرة ، واصبحنا أصدقاء . قبل مغادرته مصر صارحنى برغبته في تفجير الأضرحة المقدسة في بلدنا . قلت له : هذا ضد الإسلام . وشرحت له فاقتنع .

2 ـ التعامل مع القبور المقدسة والأوثان والأصنام ليس بتكسير حجارتها ولكن بتكسير الإعتقاد فيها . ليست المشكلة في مواد البناء للأصنام والأنصاب والأوثان ، فهي نفس المواد المستخدمة في البيوت والمراحيض والمصانع وحظائر المواشى . المشكلة في العقول التي تقدّس هذه الأصنام والأوثان والأنصاب . لو تم تدميرها مع بقاء الإيمان بها فسيقيم من يعبدها آلافا غيرها .

2 / 1 : دمّرت طالبان جزءا من تمثال بوذا في واد "سوات" شمال باكستان . تدميره لم يترتب عليه إنصراف البوذيين عن عبادة بوذا .

2 / 2 : منع السلطان المملوكى جُقمق مولد السيد البدوى في طنطا عام 801 هجرية ، فأقام الصوفية موالد أخرى ، ولم يتأثر الإيمان بقبر البدوى المقدس .

3 ـ العلاج القرآنى هو الأروع :

3 / 1 : لم يقل جل وعلا : دمروها ، ولكن قال إجتنبوها . والاجتناب يعنى بقاءها ولكن دون تقديس لها .

3 / 2 : هناك أصنام مادية يجب إجتنابها . قال جل وعلا  : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)  المائدة )

3 / 3 : وهناك أصنام معنوية يجب إجتنابها ، هي خرافات الأحاديث الشيطانية ، وبالتعبير القرآنى هي ( الطاغوت ) . قال جل وعلا في إجتناب الطاغوت :

3 / 3 / 1 : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )(36) النحل )

3 / 3 / 2 : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي (17) الزمر )

3 / 4 : عن إجتنابهما معا : ( الرجس المادى والرجس المعنوى أو الزور ) قال جل وعلا (  فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) الحج ).

4 ـ الفتى إبراهيم عليه السلام لجأ الى التكسير المادى للأصنام واستبقى كبيرها ليقيم الحّجة العملية لقومه أنها مجرد أحجار صمّاء , وفاز عليهم بحجته .

5 ـ ولكن القصص القرآنى ليس للتشريع . التشريع يأتي بالأمر والنهى ، مثل ( إجتنبوا ) و ( لا تقربوا )

6 ـ من روعة التشريع القرآنى في تكسير الأصنام معنويا كلمة:( أرونى).

6 / 1 : هناك رؤية عينية مادية . التحدى هنا :

6 / 1 / 1 : أرونى هذه الآلهة المقبورة . أخرجوها لنا لنراها ونتحدث معها ونلمسها بأيدينا . قال جل وعلا : ( قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ ) (27) سبأ ). هناك ما يسمى بالروضة الشريفة والتي يزعمون أن الاله الذى سمُّوه محمدا يعيش تحتها حيث تُعرض عليه أعمال جميع ( أُمّة محمد ) ليراجعها ويشفع فيها مقدما . قف أمام هذا الوثن الرجسى وقل لهم ( أرونى ) . إذا كان فعلا حيّا تحت الأرض في هذا المكان فأرونيه .

6 / 1 / 2 : الله جل وعلا هو وحده خالق وفاطر السماوات والأرض وخالق وفاطر ما فيهما ومن فيهما . إذا كان ( محمد ) و ( الحسين ) و ( على بن أبى طالب ) و ( زينب بنته ) آلهة ف : أرونى ماذا خلقوا ، قال جل وعلا : (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) (11) لقمان  ).

6 / 2 : وهناك رؤية عقلية فكرية بنقاش عقلى وطلب للبرهان ، ليس شرطا أن يؤتى فيه بكلمة ( أرونى ) فهى مفهومة في السياق . قال جل وعلا :

6 / 2 / 1 :( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ( 22) النحل )

6 / 2 / 2 :( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) الرعد)

6 / 2 / 2 : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ (195) الأعراف )

6 / 3 : وهناك جمع بين الرؤية العينية المادية والرؤية العقلية. قال جل وعلا :

6 / 3 / 1 : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِأَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) فاطر)

6 / 3 / 2 :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِاِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) الاحقاف ).

7 : في جهادنا السلمى نلتزم العلنية ، فالإصلاح لا يكون إلّا بالعلن .

7 / 1 : وقد تطرفنا في العلنية الى درجة أنّنا أعلنّا مقدما عن خطتنا في النشر في مقال ( رحيق العمر مجّانا ). ودفعنا ثمن صراحتنا وشفافيتنا .

7 / 1 : ليس لدينا ما نخفيه . وحتى ما نقع فيه من أخطاء في التدبر القرآنى والبحث التاريخى أعلنّاه وصحّحناه .

ثانيا   

 1 ـ أثناء أزمة مركز ابن خلدون مع حسنى مبارك إتّصل بى صحفى بدرجة ( مخبر في أمن الدولة ) وأجرى حوارا معى كان واضحا أن هناك من ينصت ، بل كنت أسمع همساتهم .

2 ـ سألنى عن الأبحاث الميدانية المُموّلة من الخارج والتي يقوم بها مركز ابن خلدون لصالح جهات خارجية ، والتي تهدّد الأمن القومى . قلت :

2 / 1 : التمويل للمركز خاضع لأجهزة الرقابة المصرية ، ولا بد من موافقة رسمية عليه من قبل .

2 / 2 : هناك مراكز حكومية تتلقى تمويلا مقابل أبحاث ميدانية ، ولا يسمع عنها أو عنهم أحد . ولا أحد يقرأ بحوثهم الميدانية .

2 / 3 : هناك مراكز بحوث اجتماعية حكومية منها ما يتبع مجلس الوزراء ومنها ما يتبع الجامعات ، والدولة تحتاج الى هذه البحوث في إقامة مشروعاتها .

2 / 4 : البحوث الميدانية الاجتماعية ينشرها المركز علنا باللغة العربية لتكون مُتاحة للدولة المصرية .

2 / 5 : في وجود العلنية والشفافية فلا خطر من أي نوع .

3 ـ سألنى عن البحوث التي أقوم بها ، فقلت :

3 / 1 : لا مجال لى في البحوث الميدانية فليست تخصّصى .

3 / 2 : تخصّصى في البحث التراثى . أعتمد على القرآن الكريم والمصادر الأصلية للتراث في التاريخ والتشريع والمذاهب .

3 / 3 : هي مصادر موجودة قبل مولدى بقرون ، واعتمد عليها عشرات الألوف قبلى ، وهى متاحة للجميع .

3 / 4 : الكتابات البحثية في هذه المصادر تختلف تبعا لدرجة الاجتهاد ، وهناك عموما  في التاريخ الفكرى للمسلمين جدل بين المجددين والمحافظين . أنا أنتمى الى تيار التجديد أبنى على ما قاله الإمام محمد عبده ، وغيرى مؤمن بالتقليد متبع للشيخ عليش العدو الأكبر للإمام محمد عبده . الامام محمد عبده لا يزال حيا بفكره ، أما الشيخ عليش الذى كان صاحب نفوذ فلم يعد يسمع به أحد .

3 / 5  ـ إنتهى الحوار بقولهم إن ما أنشره يصدم الناس ويشككهم في الثوابت.

4 ـ هنا الأصل . المستبد يكره ان يفكّر الناس ، يريد أن يظل الناس في عدم الوعى ، يقدسون البشر والحجر يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم . وهو في عدائه لحرية الرأي والفكر يجعل قوانين العقوبات مطّاطة تُتيح له تجريم أي شخص ، وبدون الحاجة الى تلفيق فإنّ جهاز أمنه يعتقل من يشاء ، وبتهم شكلية مطّاطة يوضع المظلوم في الحبس الاحتياطي سنوات . وقد جرّبنا الحبس الاحتياطي مرتين .!

أخيرا

1 ـ الإصلاح سهل إذا وجد رغبة سياسية من الحاكم العاقل . التحوّل الديمقراطى بنشر الوعى وثقافة الديمقراطية يحتاج سنوات طويلة ليتعلم الشعب ، أي يستطيع المستبد العاقل أن يستمر في الحكم بلا إزعاج إذا سمح بحرية الرأي والفكر والإبداع وحرية الدين ، سيثور صخب وجدل وكلام ، وفى النهاية لا يفوز الا صاحب الحُجّة ، وفى خضم هذا الصراع الفكرى لن يجد خصوم المستبد أصحاب الفكر المتطرف وقتا للتآمر ، سينشغلون بالدفاع عن أصنامهم التي تتساقط تحت حُجج المستنيرين . وبنمو الوعى الى درجة تهديد عرش المستبد سيكون هذا المستبد قد مات وأصبح وذريته ترابا .

2 ـ الدراما هي أسهل أنواع الإصلاح . الكتابة تخاطب المثقفين وهم أقلية في عصرنا ، بل تضاءل الفارق بين مثقفى عصرنا ــ الذين يكتبون أكثر مما يقرأون ـ وبين العوام الذين لا يكتبون ولا يقرأون . الدراما تتوجّه رأسا الى الجميع ، يجلس العامّى والمثقف يشاهدها ، وقد أعطاها عقله ، ثم تكون هذه الدراما الهادفة مجالا للنقاش في وسائل الاعلام بمختلف أنواعها ، وفى وسائل التواصل الاجتماعى .

3 ـ تخيل دراما مؤسسّة على كلمة ( أرونى ) القرآنية ، بشخص يأتي أمام ضريح أو قبر مقدس يطلب من الناس أن يستخرجوا له الإله المدفون ، ويناقشهم ، ويستشهد بقوله جل وعلا :(  وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23) الجن  )

4 ـ ولكن المستبد يسيطر على الدراما ، ويحصرها فيما يخدم سلطته ، و يتصدى خدمه للتأليف الدرامى في مجال التراث بلا علم . هناك مسلسل عن إبن تيمية ، ليس لمؤلفه علم بحياة ابن تيمية ومؤلفاته . بالمناسبة ، كان ابن تيمية جزءا من رسالتى للدكتوراة ، ونشرت عنه هنا  في كتاب  : ( أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية ، الفصل الثاني : استفادة الصوفية سياسياً ، استغلال الصوفية نفوذهم السياسي في إضطهاد الفقهاء السنيين،  صراع ابن تيمية مع الصوفية  ) وفى كتاب (  التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية) (  ج1 ب1 ف 3 (وحدة الوجود وصراع الفقهاء مع الصوفية من أتباع ابن عربي في القرنين السابع والثامن الهجريين : حركة ابن تيمية الحنبلى ضد أتباع ابن عربى فى القرن الثامن ) . كما تعرضت لفتاوى ابن تيمية الدموية في  الفصل السادس من كتاب ( دستور مرسى الاخوانى في دراسة تحليلية أصولية تاريخية ) تحت عنوان ( دستور مرسى : وتطبيق حد الردة على صالحى المسلمين)..

4 ـ في تسريع وتيرة الإصلاح السلمى : متى نجد من يتعاون معنا في مشروعنا ( تحويل التراث الى دراما ) ؟

اجمالي القراءات 3666