كان هناك متجر جميل يبيع الخضروات، وعليه أطلق إسم "الخضري" على صاحبه، يقع المتجر بشارع الأثرياء، ذلك الشارع الجميل المكتظ بالأشجار، والأضواء، والصخب الراقي، فالأذن لا تسمع إلا كل ما هو جميل.
وكان "الخضري" يبيع في متجره أجود أنواع الخضروات، ويهتم ببضاعته إهتماماً شديداً، فكانت نظيفة وطازجة دائماً، ومعبأة بشكل صحي، وكيف لا .. والمتجر يقع بشارع الأثرياء.
إن السير في شارع الأثرياء ممتع، فكل شيء فيه جميل، لكن .. كان هناك متسول يجوبه صباح كل يوم، فيمر على كافة المتاجر، واحداً تلو الآخر، يستجدي التجار بعض المال، ونظراً لشدة سوء شكل هذا المتسول، صاحب الرائحة الكريهة، والملابس المتعفنة، فقد كان كل أصحاب المتاجر يطلبون منه الإنتظار خارج متاجرهم، ويخرجون هم له الحسنة اليومية.
إلا الخضري فقط، كان يسمح للمتسول بالجلوس أمام متجره، وكان يغدق عليه المال أضعاف ما يدفعه له الآخرون، بل ويسمح له بأن يأخذ من الخضروات ما يشاء.
إستمرت تجارة الخضري عشرة أعوام يتاجر بشارع الأثرياء، وكذلك إستمرت علاقته بالمتسول المسكين.
وفي مساء يوم كان الخضري ذاهباً لتلبية دعوة على العشاء في منزل أحد أصدقائه من محدودي الدخل، وكان يقطن بالحي الشعبي، والذي سمي بــ هذا الإسم نظراً لـ كثرة الناس وإكتظاظهم به.
وأثناء مرور التاجر الخضري بأحد شوارع الحي الضيقة، إذ به يجد بمنتصف الشارع دلو كبير متسخ ومليئ بمياه قذرة يمنع سيارته من إستكمال سيرها، حتى خرج من سيارته ليزيح الدلو، فإذا بمجموعة من اللصوص ينقضون عليه ويسرقون سيارته، وأمواله، وهاتفه المحمول، حتى الهدية التي كان يحملها لصاحب دعوة العشاء .. وأصبح الخضري في تلك اللحظة لا يملك شيئاً في الحي الشعبي.
ذهب الخضري لسيارة أجرة، يسأله أن يوصله إلى مركز الشرطة بالحي الشعبي، لعمل بلاغ بالسرقة، إلا أن السائق قد إعتذر منه، لأنه لا يملك الأجرة، وتكرر الحال مع ثلاثة سيارات أجرة أخرى.
صمت الخضري قليلاً لا يعلم ماذا يفعل في هذا الموقف المحرج، وإذ به يتذكر المتسول الذي يذهب إليه كل يوم، ويدرك في هذه اللحظة، مدى معاناة المتسول.
وبدأ الخضري يلتفت يميناً وشمالاً، يبحث عن أي شخص قد يعرفه، إلا أنه لم يجد أحداً.
فبات يسير وحيداً ينظر في وجوه الناس، ومن يرى في وجهه الإحسان، كان يستوقفه، ويشرح له ما مر به، إلا أن كل من قابلهم في الحي الشعبي، كان يستخفون به وبروايته، ولم يقدم له أي منهم المساعدة.
وأثناء سير الخضري، إذ به يجد شارع ضيق، يخرج منه صوتاً يشبه صوت الرجل المتسول، ويدخل الخضري ذلك الشارع الضيق، فإذ به يجد الرجل المتسول يجلس على عتبة داره مع زوجته .. وكلاهما يعد حصيلة تسوله.
اقترب الخضري من الرجل وزوجته، وألقى عليهما السلام والتحية، بيد أن المتسول قد رد التحية بجفاء غريب.
قص الخضري على المتسول ما حدث له، ثم قال له :
الخضري : أرجو أن تساعدني، فأنا بحاجة إلى الذهاب لمركز الشرطة، ومن ثمَ أذهب لصديقي في الحي الشعبي، ثم أعود إلى منزلي بشارع الأثرياء.
المتسول : وماذا يمنعك، لفعل ما تريد.
الخضري : أحتاج إلى بعض المال.
المتسول : ليس لدي مال لأقرضك إياه.
الخضري : وماذا عن تلك الأموال التي بيديك أنت وزوجتك.
المتسول : أتنظر إلي وزوجتي فيما وهبتنا السماء إياه، إنها أموالنا نحن فقط.
الخضري : ألا تقرضني منها ما أحتاج اليوم، وفي الغد سأعطيك ضعف ما سآخذه منك الآن.
المتسول : ماذا وإن مت بعد أن تنفق ما سوف أقرضك إياه، ألن تكون نقودي قد ذهبت أدراج الرياح.
الخضري : إنه مبلغ من المال زهيد، لن يضيرك حتى وإن فقدته.
المتسول : حتى وإن كان زهيداً، لا أفرط فيه أبداً.
الخضري : عليك لعنات السماء يا أيها المتسول البخيل، أنت تستحق أقل مما أنت فيه.
ترك الخضري المتسول، غير مصدق ما سمعه منه، من نكران للجميل، وبخل وشح، وأثناء سيره متخبطاً، إذ به يجد شرطياً يستوقفه طالباً منه هويته، وفي تلك اللحظة عادت روح الخضري إليه، إنها لحظة البداية لــ يعود كل شيء إلى أصله.
قامت الشرطة بإلقاء القبض على اللصوص، بمجرد أن علموا بأوصافهم، فـ أعادوا للخضري سيارته وهاتفه، إلا بعضاً من أمواله، التي نهبها اللصوص.
بيد أن الخضري طلب من الشرطة أن تلقي القبض على سارق آخر، كان قد سرق منه بضعة آلاف منذ عدة أشهر، لكنه لم يبلغ عنه لأنه لم يكن يعلم بمكانه، بيد أن الصدفة قد أرشدته إلى المأوى الذي يخزن فيه مسروقاته، وما كان الخضري يقصد أحداً .. إلا الرجل المتسول.
وإذ بالشرطة تذهب للمتسول، فتجد مبالغ ضخمة من المال، أكثر مما ذكره الخضري، فتقبض عليه وتقتص من ماله ما إدعى الخضري أنه له.
ويذهب المتسول للخضري في مركز الشرطة يستعطفه، أن يخبر الشرطة بالحقيقة، بيد أن الخضري لا يلين هذه المرة ويقول له :
الخضري : سبق وقلت لك أنت تستحق أقل مما أنت فيه.
المتسول : لكن أنا لم أسرق منك شيئاً.
الخضري : بل سرقت مني أموالاً طوال عشر سنوات مضت، بالحيلة، والمسكنة، وقد إحتسبت كل ما أخذته مني طوال تلك الفترة، ولم أحصل لنفسي إلا على حقي.
المتسول : وهل ستتركهم يأخذون باقي أموالي.
الخضري : لن أتدخل إلا فيما يخصني، أما فيما يخص حق الناس أو الدولة، فــ لن أتدخل فيه.
المتسول : الرحمة يا سيدي ..
الخضري : مِثلُك لا يستحق الحياة، سأصب عليك اللعنات كلما تذكرت قبحك.
عاد الخضري ليمارس حياته الطبيعية، بيد أنه أصبح يتريث كلما جاءه متسول جديد، ولا يعطي إلا لمن يستحق.
شادي طلعت