السلطان المملوكى برسباى وابن حجر العسقلانى أكابر المجرمين في طاعون عام 841
المقريزى يؤرخ للعام الأخير من حكم برسباى (5 )
موت السلطان برسباى وتولى ابنه يوسف
تكملة حادى عشر : شهر ذى الحجة 841
3 ـ ( وصِار العسكر في الجملة قسمين: قسم يقال عنهم أنهم قرانصة، وهم الظاهرية والناصرية والمؤيدية، وكلمتهم متفقة على طاعة الملك العزيز، وأن يكون الأمير الكبير جقمق العلاى نظام الملك، كما قرره السلطان، وأنهم لا يصعدون إلى القلعة خوفًا على أنفسهم من المماليك الأشرفية. والقسم الآخر المماليك الأشرفية سكان الطباق بالقلعة ، ورأيهم أن يكون الملك العزيز مستبدًا بالأمر وحده، وأعيانهم الأمير أينال شاد الشرابخاناه، والأمير يخضى باى أمير أخور ثاني، والأمير على بيه الخازندار، والأمير مغلباى الجقمقى أستادار الصحبة، والأمير قرقماس قريب السلطان. وهذه الطائفة الأشرفية مختلفة بعضها على بعض.) أصبح موت برسباى مؤكدا ومسألة وقت ، وصار لا يشعر بما حوله ، فبدأ تكوين مراكز القوى إستعدادا للصراع الوشيك . المماليك ( وجميعهم جلبان ) في هذا الوقت كانوا قسمين : مماليك قدماء إشتراهم السلاطين القدماء لقبهم ( القرانصة ) يتكون منهم الجيش ويتزعمهم الأتابك جقمق قائد الجيش ، ثم المماليك السلطانية ( حرس السلطان ) الذين إشتراهم برسباى ويسكنون في القلعة وكانوا المتحكمين فيها بحيث يخشاهم قواد الجيش المملوكى ، ، ولقبهم ( الأشرفية ) نسبة للاشرف برسباى . بدأ الصراع التقليدي بين نوعى المماليك السلطانية في القصور والمماليك في الجيش بنفس ما كان في بداية الدولة المملوكية بين ( أيبك ) قائد المماليك السلطانية و( أقطاى) قائد الجيش ( المماليك البحرية ) .
في مرض برسباى رأى مماليكه الأشرفية أن يكون الصبى يوسف بن برسباى هو السلطان المستبد بالأمر وحده دون تدخل من الأتابك جقمق الذى عينه برسباى قائما بأمر إبنه . موقفهم هذا ليس حبا في برسباى أو إبنه ، ولكن حفاظا على سلطتهم وهم الذين يعيشون في القلعة مع ابن برسباى ، ويريدون منع جقمق من السيطرة على السلطان الصبى، وهذا توطئة لخلعه وأن يتسلطن واحد منهم كالعادة . أي صراع قادم تبدو دخانه تحت الرماد . الذى يخشى من مغبة هذا الصراع هو زعيم الجناح المدنى من أكابر المجرمين وقتئذ ، وهو القاضي عبد الباسط ، فتدخل بفرقته من القضاة الأربعة ــ ومنهم ابن حجر العسقلانى الشافعى ـ لإحلال السلام . يقول المقريزى :
4 ـ ( فلما إشتهر أمر هذين الطائفتين وشنعت القالة عنهما، قام عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط في لمّ هذا الشعث، وإخماد نار الفتنة ليصلح بين الفريقين. ووافقه على ذلك الأمير أينال الشاد، فإستدعى سكان الطباق من المماليك إلى جامع القلعة، وأرسل إلى القضاة.) جمع القاضي عبد الباسط المماليك السلطانية الأشرفية في مسجد القلعة ومعهم القضاة الأربعة ليحلفوا على وأد الفتنة .
5 ـ ( فلما تكامل الجمع مازال بهم حتى أذعنوا إلى الحلف، فتولى تحليفهم القاضي شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر، على الإقامة على طاعة الملك العزيز، والإتفاق مع الأمير الكبير جقمق، وألا يتعرض أحد منهم لشر ولا فتنة، ولا يتعرضوا لأحد من الأمراء المقيمين بديار مصر، ولا إلى الأمراء المجردين ولا إلى كفلاء ممالك الشام في نفس ولا مال ولا رزق. فلما حلف الأمير أينال والأمير على بيه، والأمير تمرباى الدوادار، وعامة المماليك، حلف القاضي زين الدين عبد الباسط أن يكون مع الفريقين، ولا يباطن طائفة على الأخرى، ثم قام الجميع، وقصد القاضي زين الدين دار الأمير الكبير جقمق، ومعه عدة من أعيان الأشرفية، حتى حلفه، وحلف بعده من بقى بديار مصر من الأمراء. ثم نزل بعد ذلك الأمير أينال ثم الأمير على بيه إلى الأمير الكبير جقمق، وقبل كل منهما يده، فابتهج بهما، وبالغ في إكرامهما. وسكنت تلك الثائرة. وللّه الحمد.) جعلهم يحلفون على طاعة السلطان الصغير ابن برسباى والاتفاق مع القائم على السلطنة الأتابك جقمق ، وعلى أن لا يتعرضوا لأحد من الأمراء، وحلف لهم عبد الباسط نفسه أن يكون مع الفريقين . لم يحضر هذا الاجتماع الأتابك جقمق خوفا من المماليك الأشرفية ، لذا تم تحليفه في بيته ، وسار عبد الباسط اليه في بيته بالقاهرة ومعه قادة المماليك السلطانية ، وقام بعقد الصلح بينهم ، وخمدت بوادر الفتنة مؤقتا .
6 ـ ( وفي يوم الأربعاء عاشره: وهو يوم عيد النحر خرج الملك العزيز، فصلى صلاة العيد بجامع القلعة، وقد صعد إلى خدمته بالجامع الأمير الكبير جقمق، ومن عداه من الأمراء. ثم مشوا في الخدمة بعد الصلاة، حتى جلس على باب الستارة. وخلع على الأمير الكبير، وعلى من جرت عادته بالخلع في يوم عيد النحر. ونزلوا إلى دورهم. فقام الملك العزيز، ودخل، وذبح، ونحر الضحايا بالحوش هذا، وقد توالت على السلطان نوب الصرع مرارًا، وتخلت قواه، حتى صار كما قيل.ولم يبق إلا نفس خافت ومقلة إنسانها باهت يرثى له الشامت مما به ، يا ويح من يرثى له الشامت.حتى مات عصر يوم السبت ثالث عشره. تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته.) .
6 / 1 : حين دخل برسباى في الاحتضار تولى إبنه يوسف مراسم السلطنة وفعل ما كان يفعله أبوه يوم عيد الأضحى ( النحر ) .
6 / 2 : ومات برسباى في 13 ذي الحجة . ويصف المقريزى حالته في قبيل الاحتضار فيقول ( وقد توالت على السلطان نوب الصرع مرارًا، وتخلت قواه، حتى صار كما قيل : "ولم يبق إلا نفس خافت ومقلة إنسانها باهت ، يرثى له الشامت مما به يا ويح من يرثى له الشامت.! )
7 ـ بموت برسباى جرت مراسم تولية إبنه السلطنة ، وذكرها المقريزى تحت عنوان ( السلطان الملك العزيز جمال الدين:أبو المحاسن يوسف ابن الأشرف برسباى.) وقال عنه : ( أقيم في المُلك بعد أبيه، وذلك أن السلطان برسباى لما مات ، بادر القاضي زين الدين عبد الباسط، والأمير أينال الشاد، والأمير على بيه، والأمير تمرباى الدوادار، وقد اجتمعوا بالقلعة، وبعثوا في الحال القاضي شرف الدين الأشقر في إستدعاء الخليفة، وبعث القاضي زين الدين بعض غلمانه في طلب القضاة، فأتوا جميعًا. ودخل الأمير جوهر الزمام، فأخرج بالملك العزيز إلى باب الستارة، وأجلس هناك، وطُلب الأمير الكبير جقمق وبقية الأمراء، ونزل الممالك من الطباق. فلما تكامل جمعهم، وحضر الوزير وكاتب السر، وناظر الخاص، فوّض الخليفة السلطنة للملك العزيز، وأفاض عليه التشريف الخليفتى، وقلده السيف وقد بقي لغروب الشمس نحو ساعة. وعُمر السلطان يومئذ أربع عشرة سنة وسبعة أشهر، فقام من باب الستارة، وركب فرسه، ورفعت القبة والطير على رأسه، وقد حملها الأمير الكبير وسار، والكل مشاة في ركابه، حتى عبر إلى القصر، فجلس على تخت الملك وسرير السلطنة، وقبّل الأمراء وغيرهم الأرض له. وقرأ العهد بالسلطنة الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه كاتب السر، فخلع على الخليفة، وعلى الأمير الكبير، وعلى كاتب السر. وخرجوا من القصر. ).
7 / 1 هنا يظهر دور الجناح المدنى من أكابر المجرمين ليس فقط في حضور القضاة الأربعة ورئيسهم القاضي الشافعى إبن حجر العسقلانى ـ ولكن في أن الخليفة العباسى هو مصدر السُّلطة ، يقول المقريزى ( بادر القاضي زين الدين عبد الباسط، والأمير أينال الشاد، والأمير على بيه، والأمير تمرباى الدوادار، وقد اجتمعوا بالقلعة، وبعثوا في الحال القاضي شرف الدين الأشقر في إستدعاء الخليفة، وبعث القاضي زين الدين بعض غلمانه في طلب القضاة، فأتوا جميعًا. )( فلما تكامل جمعهم، وحضر الوزير وكاتب السر، وناظر الخاص، فوض الخليفة السلطة للملك العزيز، وأفاض عليه التشريف الخليفتى، وقلده السيف. )
7 / 2 : كان عمر السلطان 14 سنة و 7 أشهر . ولكنه أصبح سلطانا رسميا بتقليد الخليفة له سلطانا ، لذا سار في ركابه الأتابك جقمق الأمير الكبير . وجلس على تخت الملك ، وقبّل الجميع الأرض سجودا تحت قدميه ، حسب العادة . سجد للسلطان الصغير أكابر المجرمين من العسكر والقضاة ، ومنهم إبن حجر العسقلانى بالطبع .
8 ـ ( وقد غُسل السلطان الملك الأشرف برسباى وكُفّن، وأُخرج بالجنازة من الدور إلى باب القلعة فوضعت هنالك. وتقدم قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن حجر الشافعى فصلى بالناس عليها قبيل الغروب، وشيع الأمراء والمماليك وغيرهم الجنازة حتى دفنت بالتربة التى أنشأها رحمه اللّه خارج باب المحروق بالصحراء، تحت القبة. وقد إجتمع من الناس ما لا يحصيهم إلا خالقهم، سبحانه. والناس بالقاهرة في بيعهم وشرائهم بالأسواق في أمن ودعة وسكون. ونودى في القاهرة بالأمان والإطمئنان والبيع والشراء، وأن يترحموا على الملك الأشرف، والدعاء للسلطان الملك العزيز جمال الدين، أبى المحاسن. وأن النفقة في يوم الإثنين مائة دينار، لكل واحد من المماليك، فإزداد الناس طمأنينة. ولم يكن شىء مما كان يتوقع من الشر، والحمد لله.). هذا عن جنازة برسباى . وقد صلى عليه إبن حجر العسقلانى ، يقول المقريزى : ( وتقدم قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن حجر الشافعى فصلى بالناس عليها قبيل الغروب، ) .
9 ـ ( وفي يوم الأحد رابع عشره: إجتمع أهل الدولة للصبحة عند قبر السلطان. وقد بات القراء يتناوبون القراءة، عند قبره ليلتهم، فختموا القرآن الكريم، ودعوا، ثم إنفض الجمع. وأقام القراء للقراءة عند القبر سبعة أيام. وفيه عملت الخدمة السلطانية بالقصر، وحضر الأمير الكبير وسائر أهل الدولة على العادة، فزاد السلطان الخليفة جزيرة الصابونى زيادة على ما بيده.). قراءة القرآن على قبر برسباى ، والسلطان الصغير يهب الخليفة جزيرة علاوة على ما يملكه الخليفة .!
10 ـ أخبار سعيدة :
10 / 1 :( وفيه كتبت البشائر إلى البلاد الشامية وأعمال مصر، بسلطنة الملك العزيز.)
10 / 2 : ( وفى يوم الإثنين خامس عشره: جلس السلطان بالحوش من القلعة، وعنده الأمراء والمباشرون، وابتدئ في النفقة على المماليك، فأنفق فيهم مائة دينار لكل واحد.)
10 / 3 : (وفيه توجه الأمير أينال الأحمدى المعروف بالفقيه بالبشارة إلى البلاد الشامية، وعلى يده مع الكتب للنواب، الكتب للأمراء المجردين.)
10 / 4 ( وفي سادس عشره: أنفق فيمن بقى من المماليك. )
10 / 5 ـ أهمها دخول بلاد في حكم السلطان الصغير : ( وفيه قدم مراد بك رسول الأمير حمزه بن قرايلك صاحب ماردين وأرزن كان، وصحبته شمس الدين القطماوى، ومعهما هدية، وكتاب يتضمن دخوله في طاعة السلطان، وأنه أقام الخطة وضرب السكة بإسم السلطان الملك الأشرف، وجهز الدنانير والدراهم بالسكة السلطانية. وعلى يد شمس الدين القطماوى كتب الأمراء المجردين. وكان سبب ذلك أن الأمراء لما قدمت حلب، كاتبوا حمزة المذكور يدعوه إلى طاعة السلطان وقدومه إليهم، فأجاب بالسمع والطاعة، وأقام الخطة، وضرب السكة بإسم السلطان، وجهز هديته وما ضربه من المال، فلم يتفق قدوم ذلك إلا بعد موت السلطان، فأكرم الرسولان وأنزلا ثم أعيدا بالجواب، ومعهما هدية وتشريف للأمير حمزة.).
11 ـ ثم أخبار سيئة ومتوقعة :
11 / 1 : عن الخلاف بين أكابر المجرمين من العسكر ، والسلطان الصغير ليس له من الأمر شيء . قال المقريزى : ( وفي يوم السبت عشرينه: وقع بين جكم الخاصكى خال السلطان وبين الأمير أينال مفاوضة، آلت إلى شر. وسبب ذلك أن الكلام والتحدث فى أمور المملكة صار بين ثلاثة: الأمير الكبير نظام الملك جقمق، والقاضي زين الدين عبد الباسط، والأمير أينال. ولزم السلطان السكوت، فلا يتكلم ، فأنكر جكم على أينال أمره ونهيه فيما يتعلق بأمر الدولة، وكونه أقام بالقلعة وصار يبيت بها، فغضب منه أينال، ونزل من القلعة إلى داره، فكان هذا ابتداء وقرع الخلف الذى آل إلى ما سيأتى ذكره، إن شاء اللّه تعالى.)
11 / 2 ـ ( وفيه تجمع كثير من المماليك تحت القلعة، وأرادوا أن يفتكوا بالقاضي زين الدين عبد الباسط فلما نزل من القلعة أحاطوا به، وجرت بينهم وبينه مقاولات، أغلظوا فيها عليه، ولم يقدروا على غير ذلك، وخلص منهم إلى بيته.).
11 / 3 : ( وفيه تجمع كثير من المماليك تحت القلعة، وأحاطوا بالأمير الكبير نظام الملك عند نزوله من الخدمة السلطانية بالقلعة إلى جهة بيته، ليوقعوا به، فتخلص منهم من غير سوء، هذا والقاضى زين الدين عبد الباسط من المماليك في عناء شديد). مسكين هذا القاضي عبد الباسط ، كان هدفا سهلا للمماليك السلطانية بسبب عمله في القلعة ، كادوا يفتكون به مرتين في هذا الشهر .
( وفي هذا الشهر: والذى قبله فشا الموت بالطاعون في الإسكندرية، ودمياط، وفوه، ودمنهور، وما حول تلك الأعمال، فمات بها عالم كبير. وتجاوزت عدة من يموت بالإسكندرية في كل يوم مائة إنسان.)