المصريون..عمال تراحيل في طوابير بيع الدم

في الإثنين ٣١ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

رشا عزب



كان الاكتشاف صادما وجارحا، يتعدي كونه تحقيقا صحفيا مهماً، انه حالة مخيفة من الفقر ولحظة حرجة من اليأس، وصلنا اليها في ازهي عصور الحزب الوطني ، فلا يهم ان يصاب الشخص بفقر في الدم او يصاب بعدد هائل من الامراض المترتبة علي نقص الكرات الحمراء والبيضاء في الجسم، المهم ان يخفي فقره بفقر آخر لايراه الآخرون.. فعندما يبيع المصريون دماءهم بجنيهات قليلة يوميا لعدد كبير من مصاصي الدماء بالمستشفيات والمعامل كي ينفقوا علي بيوتهم المفتوحة محاولين انقاذ ابنائهم من شبح الجوع، و مع مرور الايام ومع عدم ايجاد فرصة عمل يصبح بيع الدم مهنة ولها سماسرة كبار في السوق يوردون يوميا الآف البشر لبيع دمائهم.

كنت اعرف ان هناك بعض الناس يبيعون الفصائل النادرة من دمائهم للمرضي، وان المكان المعروف الذي يجتمع فيه هؤلاء هو مقهي متواضع بسوق باب اللوق القديم، وعندما ذهبت الي هناك وسألت اصحاب المقاهي عن هؤلاء الناس رد علي احدهم وقال في سخرية : عندما كانت باب اللوق مكاناً يجلس فيه الافندية وموظفو المصالح الحكومية كنا نعرف ان مقهي بعينه يجلس عليه من يبيعون دماءهم وكان معظمهم من اصحاب الكيف وعددهم محدود لا يتجاوز الـ20 شخصاً، وكانوا يبيعون الفصائل النادرة التي يصعب ايجادها في المستشفيات، اما الآن فانحسرت هذه الظاهرة في مقاهي باب اللوق وانتقلت الي مناطق شعبية وعشوائية.

انتهي حديث صاحب المقهي، ولكن لم تنته الحقائق، لأن الحالة التي حكي عنها صاحب المقهي والتي لم تتجاوز 20 شخصاً تضخمت وصارت سرطاناً كبيراً يسكن في الاحياء الشعبية وليس مجرد مقهي وحيد في باب اللوق، فالاماكن التي يعيش فيها هؤلاء الناس تعددت وكثرت ففي القاهرة توجد عدة اماكن مثل منطقة الناصرية بالسيدة زينب وحواري الحسين ومنطقة الست فاطمة النبوية بباب الخلق والامام الشافعي والسيدة نفيسة وعزبة خيرالله، اما في الجيزة فتوجد منطقة كوبري نصر الدين التي يجلس فيها عمال التراحيل الصعايدة وكذلك منطقة الطوابق وفي قليوب توجد منطقة ابوالغيط، سكان هذه المناطق هم المصادر الاساسية لبنوك الدم المنتشرة في كل المستشفيات.

الذين يمتهنون مهنة بيع دمائهم يتعاملون مع العالم الخارجي باحراج وخوف مثل الذين يعانون من مرض معد مما يجعلهم اكثر ميلا للانعزالية، يبدأ اليوم عندهم منذ الخامسة صباحا والذهاب الي المستشفيات المعروفة لهم لبيع الدم ثم يعودون في السابعة للنوم في منازلهم ومن لا منزل له يذهب للنوم في حديقة الحيوان او في جامع عمرو بن العاص او السيدة زينب او الحسين ثم يتوجهون بعد ذلك الي المقاهي الخاصة بهم ويظلون بها حتي صباح اليوم التالي والذهاب الي المستشفيات لعمل نفس الشيء.

بدأت جولتي في السابعة صباحا من منطقة الدقي التي تضم عدداً كبيراً من المستشفيات المعروف عنها التخصص في شراء اكياس الدم، وبدأت بالتحديد من مستشفي الدكتور الشبراويشي المعروفة بأنها من اهم المستشفيات التي تمتلك بنك دم دائماً وتنصح جميع المستشفيات المرضي باللجوء اليها في حالة نقص اكياس الدم في بنوكها، وكنت اعرف ان في المستشفي بوابتين لبنوك الدم، الاولي البوابة التي يشتري منها الدم والثانية للتبرع او في الحقيقة للشراء، فحاولت الدخول من هذه البوابة التي عرفت انها المكان الرئيسي الذي يتجمع فيه كل الذين يبيعون دماءهم، لكن رجال الامن منعوني من الدخول وقالوا غير مصرح بدخول المستشفي من هنا، لكني لمحت عدداً كبيراً من الاشخاص كانوا يجلسون علي السلالم المؤدية الي بنك الدم وعندما سألت عنهم قال رجال الامن انهم المتبرعون، واضطررت للوقوف علي باب المستشفي علي اعتبار اني ابحث عن متبرع لفصيلة موجب وسألت احد الخارجين من البوابة عن متبرعين فاشار الي مجموعة كبيرة من الشباب يقفون علي باب المستشفي فذهبت اليهم وكانوا جميعا لا يتجاوزون العشرين من عمرهم لكن وجوههم تدل علي الخمسين، فسألت احدهم عن الفصيلة التي احتاجها فاستدعي باقي زملائه فرد واحد منهم : «كلنا اشتغلنا النهاردة كنتي جيتي الصبح قبل ماندخل المستشفي، بس في مجموعة مخدوش منها دم النهاردة اسأليهم ولو ملقتيش روحي الناصرية " ثم حضر اليّ شاب و قال انه مستعد لانه لم يعمل وقالوا له في بنك الدم " مينفعش النهاردة وتعال بكرة " سألته عن فصيلته فقال فقلت انا احتاج الي موجب فنصحني بالذهاب الي مستشفي مجدي او الي قهاوي الناصرية فورا.

ذهبت الي مستشفي مجدي التي تقع خلف الشبراويشي ودخلت من باب بنك الدم ، وعندما دخلت وجدت مجموعة من الاشخاص يبدو علي ملامحهم الاعياء والبعض الآخر غارق في النوم علي دكة خشب، وكان من المدهش ان اري عدداً كبيراً من الشباب بين العشرين والثلاثين بين الجالسين، واثناء ذلك كان يقف شخص علي باب احدي الغرف ويقوم بقراءة الاسماء الموجودة وفصائل دمها للتأكد من وجودهم، وكل خمس دقائق يدخل واحد من الجالسين ويخرج وهو يضع يده علي ذراعه، وخلال الفترة القليلة التي قضيتها وسط هذه المجموعة تبين ان كلهم يعرفون بعضهم البعض ويتحدثون عن سهراتهم في المقاهي وعن زملائهم الذين لم يحضروا صباح هذا اليوم في المستشفي، ولما التفت لوجودي احد المشرفين علي بنك الدم طلب مني الانصراف فخرجت.

وزيارتي للمستشفي لم تكشف لي عن عمليات شراء الدم فقط بل كشفت ايضا عن مافيا جديدة داخل المستشفيات تتاجر في دماء المصريين، وهذه الشبكة تبدأ من السماسرة الذين يجلبون الاشخاص من الاسواق والحواري الي المستشفي، ولكل مستشفي سمسار معروف بالاسم في اوساط بائعي الدم، ويحصل السمسار علي نسبة من النقود التي يحصل عليها بائعو الدم وكذلك نسبة من المستشفي، فمن اشهر السماسرة فتحي وسيد واحمد خلف الذين يعملون في مستشفي الشبراويشي وحمدي قرافة وسيد الصاوي ومحسن من مستشفي الدكتور مجدي اما سماسرة المستشفي الدولي فهم محمود زكريا عبد الملاك وأخوه سيد ومحمد العسكري !

سوق الدم له اعرافه وقوانينه فلكل سمسار مجموعة من الاشخاص ولا يمكن ان يذهبوا الي سمسار غيره، وتسعيرة شراء اكياس الدم تختلف اختلافا بسيطا من مستشفي لآخر، فمستشفي الشبراويشي تشتري كيس الدم غير المعروف الحجم بـ30 جنيهاً وتبيعه 230 جنيهاً ومستشفي الدكتور مجدي تشتري بـ36 جنيهاً وتبيعه بـ300 جنيه ومصر الدولي تشتري كيساً كبيراً بـ 70 جنيهاً وتبيعه بـ600 جنيه، وتعامل هذه المستشفيات الشخص الجديد في هذه المهنة معاملة خاصة حيث تشتري منه كيس الدم بـ50 جنيهاً نظرا لاحتواء دمه علي نسبة كبيرة من الهيموجلوبين. وهذه التسعيرة تنطبق ايضا علي المعامل ومراكز الكلي المشهورة.

اجمالي القراءات 9852