محمد الباز
قبل عام تقريبا كنت قد فتحت ملف الأحاديث الضعيفة والكاذبة المنسوبة زورا وبهتانا إلي الرسول صلي الله عليه وسلم، وقتها حاول الجميع ان يشعل النار في ثوبي وتطايرت من حولي اتهامات ساذجة رددها أصحابها دون وعي عن محاولات هدم السنة النبوية، ولانني كنت أعمل من اجل تنقية الثوب النبوي الطاهر من الأمراض السرطانية التي لحقت به بإبعاد الخرافات والأكاذيب والأوهام التي دخلت عنوة علي كتاب الرسول الكبير، فلم أهتم كثيرا بما قيل وقتها وتردد واضعا أمام ناظري الآية الكريمة التي تقول: « فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».
وعلي هامش ما طرحته كان محمود رياض مفتاح المحامي السكندري قد قام برفع دعوي قضائية ضد شيخ الأزهر بصفته رئيس مجمع البحوث الإسلامية، بعد أن وجه له إنذارا ليصدر قرارا بتنقية كتب الأحاديث المعروفة باسم الصحاح الستة وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم والنسائي وسنن أبو داود وابن ماجه والترمذي بالإضافة إلي مسند الإمام أحمد، لكن الأزهر وشيخه لم يلتفتا لهذا الانذار وردا عليه بكلام إنشائي عن دور الأزهر في حماية السنة النبوية، تم تداول القضية في الدائرة الأولي أفراد بمجلس الدولة، كان محمود مفتاح يتوقع أن يحيل القاضي القضية إلي هيئة مفوضي الدولة لتعد تقريرا ويريح رأسه لكنه تعامل معها بجدية وعندما أرسل مجمع البحوث رفضا للإنذار بشكل إنشائي طلب القاضي ردا علميا، تأجل النظر في القضية أكثر من مرة حتي كانت جلسة 18 مارس الحالي، في هذه الجلسة أرسل مجمع البحوث حافظة مستندات، من بين ما جاء فيها محضر اجتماع للجنة بحوث السنة والسيرة، رأسه شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي شخصيا.
في هذا الاجتماع تبدو حالة الاستخفاف الشديدة من علماء الأزهر بالسنة النبوية وما جاء فيها من أحاديث، قضينا فترة طويلة نتحدث عن صحيحي البخاري ومسلم ونطالب بتنقيتهما من الأحاديث الضعيفة والمكذوبة وتحري الدقة والبحث لروايات أبي هريرة، لكن علماء الأزهر أضافوا لنا كتابا جديدا هو «جمع الجوامع» للإمام جلال الدين السيوطي، وهو كتاب يتم طبعه وتوزيعه منذ سنوات، ويشتريه المسلمون ويطالعونه لأنه رخيص الثمن..... ما جاء عن هذا الكتاب في اجتماع اللجنة كان مفزعا وسأحاول أن أنقله لكم هنا بالنص.
قال فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر: كان من المقرر أن تعرض علينا مذكرة فضيلة الأستاذ الدكتور محمد الأحمدي أبو النور بشأن ملحوظاته الموضوعية والفهرسة الخاصة بالكتاب، فأين المذكرة؟ بدأ الدكتور الأحمدي في عرض تقريره وخلص إلي أن قال: ما أقصده أن الكتاب يحتاج إلي جهد كبير ويحتاج إلي مكتبة حافلة حيث إن مكتبتنا فيها بعض القصور، وعلي كل حال سأقدم لكم قائمة بالكتب التي ليست تحت أيدينا أو الكتب التي حققت بعدما لم تكن محققة كجامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر أو كمكارم الأخلاق ولا مانع من المقارنة بين تحقيقين فهذه الكتب تعتبر مدرسة للدراسة النقدية والنقلية ولخدمة السنة، وقد نصحح شيئاً لم ينتبه إلي تصحيحه أحد من السابقين وقد ينبهنا السابقون إلي شيء لم ننتبه إليه من ذي قبل، فأرجو أن تشكل لجنة للقيام بهذا العمل، فقد كتبت مائة وعشرين صفحة في تعليقي علي ستين حديثا والجزء الأول يضم أكثر من أربعة آلاف حديث ولا أستطيع أن أخاطب أو أكلف أحدا إلا إذا كان هناك اعتماد سابق أما أنا فمستعد أن أعمل ما وسعني العمل ولكن لا تستعجلوني.
وهنا يفجر الدكتور طنطاوي المفأجاة قال: نشكر الدكتور الأحمدي من صميم قلوبنا فقد بين لنا ما يتعلق بجمع الجوامع ونحن قد وصلنا إلي نهاية الكتاب تقريبا وباقٍ جزء منه، وقد ذكرنا بأن هذا الكتاب له قصة طويلة منذ أربعين سنة وأنه كان هناك اتجاهان في طبعه، الاتجاه الأول تزعمه الشيخ عبدالجليل عيسي الذي وقف كالطود وعارض طبعه وقال إن هذا الكتاب مليء بالأحاديث الموضوعة ولا يجوز ان يلتفت إليه إطلاقا، وقد قابله من جانب آخر فضيلة الدكتور عبدالحليم محمود وقال: هذا كتاب تراث ويجب طبعه، وأخيرا لأن الدكتور عبدالحليم محمود كان مؤيدوه أكثر وتولي مناصب أكبر، انتصر رأيه وأمر بإعادة طبع الكتاب وتشكيل لجنة للتحقيق، وتم ذلك وبدأ طبعه في أجزاء صغيرة وقد عاصر ذلك فضيلة الشيخ فوزي الزفزاف، وكان يباع بثمن زهيد وطبعت أجزاء عديدة منه وسار الأمر علي هذا وعندما تولينا المسئولية وجدنا ان الأجزاء الأولي قد نفدت وأجزاء كثيرة وبكميات راكدة في المخازن والطبع مستمر.
بعد ذلك طلب شيخ الأزهر من الأمين العام للمجمع تقديم الحصر الخاص بأعداد الكتاب الموجودة في المخازن، وقام الأمين العام بذلك بالفعل، وبعدها التقط شيخ الأزهر خيط الحديث وقال: كما ترون وصلنا إلي جزء معين لم نبع منه نسخة واحدة بداية من الجزء السادس والسابع والثامن، وحفاظا علي المال العام رأينا طباعة الكتاب من جديد، ووصلنا إلي ثلاثة وعشرين مجلدا وطبعنا من كل مجلد ألفي نسخة فكيف نصل إلي هذا الرقم ونتوقف، فنحن نفكر في تسويقه فقد تكلفت الطبعة قرابة المليون جنيه، ونحن متفقون بداية علي أن أحاديث جمع الجوامع نصفها علي الأقل أحاديث ضعيفة بل هي موضوعة، وكانت هذه حجة سيدنا الشيخ عبد الجليل عيسي، ولكن كانت حجة من وافق علي طباعته باعتباره تراثا ويجب طباعته أقوي وهذا محل اعتراف الجميع بأن كتاب جمع الجوامع ما هو إلا لون من ألوان التراث، فإذا اهدرنا هذه الطبعة التي قاربت تكاليفها علي المليون جنيه فسوف نسأل أمام القانون، وإن لم نسأل فكيف الأمر بيننا وبين الله تعالي؟
هذه الحالة التي وصل إليها شيخ الأزهر تجعلني أشفق عليه بشدة فهو بالفعل في موقف حرج للغاية، فقد اعترف الدكتور طنطاوي بأن الكتاب نصف أحاديثه ضعيفة بل موضوعة وعلي ذلك يجب أن يحرق الكتاب فهو يمثل قمة الإساءة للرسول صلي الله عليه وسلم خاصة أن صاحبه لا يطمئن له كثير من العلماء ويوصف السيوطي عند البعض بأنه «جامع حطب بليل» فهو لم يكن يميز الخبيث من الطيب أثناء جمعه للأحاديث، لكن شيخ الأزهر في حقيقة الأمر وقع في ورطة كبيرة فهو إذا وزع مجلدات الكتاب في الأسواق فإنه بذلك يغضب الله ورسوله، وإذا حجب الكتاب ومنع توزيعه حتي لا تنتشر الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس فإنه يخالف بذلك القانون ويخضع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي لن يتردد في أن يوجه لمجمع البحوث الإسلامية تهمة إهدار المال العام الذي يصل إلي مليون جنيه، ولأن شيخ الأزهر يدرك أن الله غفور رحيم وأن الجهاز المركزي ليس كذلك فقد آثر السلامة ولذلك قال مكملا كلامه: فيجب أن نكمل طبع المجلد الباقي وبعد انتهاء الطبع نفكر في كيفية التصرف في توزيع وتسويق الكتاب وهل سنوزعه مجانا أم لا، فإذا أباح لنا القانون توزيعه مجانا فسنبدأ في توزيعه.
ولأن شيخ الأزهر يعرف أن القانون لن يسمح بحكاية التوزيع المجاني هذه فهو يتعامل مع أرقام وحسابات فقد استدرك الشيخ قائلا: ولكن إذا لم يبح لنا القانون ذلك فيمكن أن ننتهز فرصة معرض الكتاب ونعلن في الصحف عن جهد الأزهر في إخراج جمع الجوامع للسيوطي المكون من أربعة وعشرين جزءا وسعره كذا، ولن يستطيع الشراء إلا للمؤسسات الحكومية مثل جامعة القاهرة وجامعة عين شمس، وهنا رد الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان بأن النسخة سيكون ثمنها قرابة الخمسمائة جنيه، وهنا رد شيخ الأزهر : من منا كأفراد يستطيع أن يدفع خمسمائة جنيه في كتاب؟ورأيي أن الكتاب الذي يمكننا ان نطبعه ونستمر في طباعته مستقبلا هو كتاب «التاج الجامع للأصول» فقد قرأته من أوله إلي آخره فلم أعثر علي حديث واحد أشك في أنه حسن علي الأقل وإذا وجدت حديثا فيه خلاف تجد إشارة إلي ذلك.
قلت إن هذه الجلسة فيها استخفاف ضخم بالجميع فالكتاب الذي يتحدث عنه شيخ الأزهر تم الاعتراف بأنه يحتوي علي احاديث ضعيفة وكاذبة، لكن طباعة هذا الكتاب وتوزيعه هي جريمة متكاملة الأركان يمضي فيها شيخ الأزهر دون أن يلتفت أو يشعر بأي تأنيب ضمير، والمهم عنده هو كيف يتخلص من النسخ المكدسة في المخازن لا يريد أن يوزعها علي الناس فيتحمل وزرها أمام الله ولا يريد أن يحتفظ بها في المخازن فيحمل وزرها أمام الحكومة والأجهزة الرقابية، ولذلك تفتق ذهنه عن بيع الأجزاء للمؤسسات الكبري وكأن هذه المؤسسات الكبري حجارة صماء وليس فيها بشر يمكن أن يقرأوا ويطلعوا علي هذه الأجزاء بما فيها من أحاديث ضالة ومضللة.
لقد انتهت جلسة لجنة بحوث السنة والسيرة بتوصيات محددة وهي ان يقوم الدكتور محمد الأحمدي أبو النور بإعداد خاتمة لكتاب جمع الجوامع للإمام السيوطي الطبعة الثانية تضاف للمجلد الرابع والعشرين تتضمن تنويها عن العمل وإشارة إلي إصدار طبعة جديدة محققة تحقيقا علميا، وكذلك أن يدعي المجلس الأعلي للأزهر للانعقاد للنظر في تحقيق كتاب جمع الجوامع للإمام السيوطي تحقيقا علميا وافيا عن أقسام الحديث في كليات جامعة الأزهر وأن يقوم بهذا العمل المعيدون والمدرسون المساعدون علي أن يتم ذلك بالتنسيق مع فضيلة الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، وهو جهد مشكور علي كل حال ويمكن من خلاله تدارك المصائب التي جرت، لكن ماذا سيفعل شيوخ الأزهر فيما أحدثوه بسنة النبي خلال كل هذه السنوات إن الدكتور طنطاوي يعترف بأن جمع الجوامع تمت طباعته بفعل النفوذ السياسي الذي كان يحظي به الإمام الأكبر عبدالحليم محمود فلماذا عندما تولي المسئولية وكان يمكن له أن يتراجع في مثل هذا القرار لم يفعله، كان تراجع شيخ الأزهر أكثر فائدة بدلا من أن يجد نفسه في هذه الحالة التي لا يحسد عليها حقيقة.
إن هناك جهودا عديدة بذلت من أجل إرغام رجال الأزهر للقيام بواجبهم حيال كتب التراث وسنة الرسول صلي الله عليه وسلم، لكن لابد أن ننسب كثيرا من الفضل للمحامي الدؤوب محمود مفتاح فقد أجبر بإصراره عمائم الأزهر علي الاعتراف بالتقصير في حق السنة، لقد حاول رجال مجمع البحوث أن يخلصوا أنفسهم من دعواه فإذا بهم يورطون أنفسهم من حيث لا يدرون، لقد قدم محمود مفتاح حافظة مستندات هو الآخر كان من بينها صفحات من كتاب المسند للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، وفي مسند أبي هريرة جاء هذا الحديث: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن أفضل الصدقة ما ترك غني تقول امرأتك: أطعمني وإلا طلقني. ويقول خادمك: أطعمني وإلا فبعني، ويقول ولدك: إلي من تكلني؟ قالوا: يا أبا هريرة هذا شيء قاله رسول الله أم هذا من كيسك؟قال : بل هذا من كيسي. فهل يمكن أن يعمل مشايخ الأزهر بضمير ويخلصونا من كيس أبي هريرة هذا أم أن المشايخ سيخافون من القانون اكثر من خوفهم من الله ؟ السؤال سيظل معلقاً في رقابهم إلي يوم القيامة.. ولن أزيد!<