د. محمد رؤوف حامد : الثورة بحاجة الى إعادة توليد للمرحلة الإنتقالية

في الثلاثاء ١٨ - أكتوبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

د. محمد رؤوف حامد : الثورة بحاجة الى إعادة توليد للمرحلة الإنتقالية

ما صدر عن القوى السياسية وعن الحكومة تجاه أحداث الفتنة الأخيرة (الأحد 9 أكتوبر), هو شىء جميل (شكلا) , لكنه عادى جدا جدا, بل وقد يعود بالبلاد الى الوراء.

الجميل (شكلا) أن هناك وقفة تجاه ماحدث, لكن الإشكالية أن هذه الوقفة لاتختلف كثيرا أو قليلا عن ردود الأفعال فى زمن نظام مبارك, وكأن ليس هناك ثورة (!؟!), وكأن مصر لم تتغير (!؟!).

وأما من الناحية الموضوعية, فالغريب أن مايحدث الآن (ومنذ فترة) فى المشهد السياسى المصرى هو –  فى أغلبه – مجرد “صراخ”.

رد الفعل على أحداث الفتنة الأخيرة يُعدُ صراخا, حيث يلملم الجرح بشكل مؤقت ويُترك الفيروس الشرس داخل جسم الوطن, مؤهلا للإنقضاض على التجانس الوطنى (وعلى الحس الثورى), مرة ومرات أخرى.

والممارسات السياسية الإجتماعية بعمومها إبتعدت عن الثورة وتحولت  الى صراخات.

 إستفتاء يأتى مهرولا, دون ترتيبا منظوميا مع قوى الثورة, يتحول الشارع السياسيى بعده الى صراخات وحركيات متضادة.  فهذه تيارات سياسية  تتحول عن الثورة (وبإسمها) الى “صراخات” و “تهديدات”  بشأن الإنتخابات, وأخرى  – فى المقابل -   تتوائم حول مائدة حكومية (غير ثورية), تحت مظلة المبادىء الدستورية.

والإتجاهين معا يتناسيا تراخيهما عن صنع توافقا وطنيا فاعلا حول مسار الثورة, وحول تحديد السقف المأمول لهذا المسار, والذى تعود بعده البلاد الى حالة التقدم القومى التلقائى,  دون حاجة الى إحداث ثورة أخرى.

وعليه,  صارت النتيجة أن الشارع السياسى يشهد تحالفات جزئية, وتفتيتات وتشويهات للمليونيات, وأن الثورة تتوقف عن التقدم الرأسى.

 بالتوازى مع ذلك, تقوم قوى الثورة على مستوى وحدات العمل (من جامعات ومصانع … الخ) بالتصعيد فى مطالباتها الفئوية المالية, بصرف النظر عن معقوليتها الزمنية. إنها إذن صراخات أخرى, حيث يُطالب برفع الإجور, بينما الحكومة تائهة عن المتطلبات الثورية لإحداث تقدم مالى, بل – ومن ضعفها – تتجه الى المعونات المالية من جهات أجنبية (آخرها السعودية).

وهكذا, نتيجة الخلل الإستراتيجى الخاص بحرمان الشعب (صاحب الثورة) من أن يرى (ويشارك فى إحداث) تقدما ثوريا رأسيا (من أجل مصر والمصريين ككل على المدى الطويل), كان البديل الموازى – والتلقائى – هو التمدد الأفقى لحالة الثورة, لتكون على مستوى وحدات العمل ( وفى الأغلب من أجل مطالب فئوية مالية).

إنها إذن إشكالية منهجية كبيرة.  فى ظل غياب التقدم الثورى الرأسى على مستوى البلاد, تتكاثر الطلبات التغييرية (المالية) على مستوى وحدات العمل, وذلك كنوع من التفريغ للعزم الثورى على مستوى أفقى, الأمر الذى لابد وأن يصاحبه “تفسخ” لحالة الثورة.

نعم, نحن نعيش الآن تفسخ لحالة الثورة. وضعية التفسخ هذه تمثل التربة (أو الفرصة) الخصبة للقوى المضادة للثورة, تماما كما حدث أمام ماسبيرو مؤخرا, وما قد حدث على نفس الغرار قبلها, وما يمكن أن يحدث بعدها.

المشكلة إذن ليست بالذات الفتنة الطائفية, أو الأيادى الأجنبية, أو فلول الوطنى. المشكلة هى الحالة المتفسخة للثورة, ومسؤلية قوى الثورة عن بزوغ ونمو هذه الحالة.

فى هذا الخصوص, الحاجة قصوى لإدراك مايلى:

-        أن حالة الثورة لم ترتقى منظوميا منذ خلع مبارك.

-        أن الثورة قد شهدت (ولازالت تشهد) تخلفا فى جماعية النخبة عن جماعية الشعب.

-        أن الثورة لم تحدد بعد أهدافها الإستراتيجية, و بالتالى هى حتى الآن لم تبدأ رسم المسار, ولا ممارسة السير, صوب هذه الأهداف.

-        أن الشأن الخاص بأحد الأهداف الكبرى للثورة, والمفترض أنه تفريغ البلاد من الفساد, إنما يشهد تصاعدا عكسيا. ذلك بمعنى أن دعائم وأركان الفساد تزداد قوة فى مؤسسات الدولة, الأمر الذى يقود الى تسريع تقويض الثورة.

-        أن مهمة المجلس الأعلى للقوات المسلحة تتمثل فى تسيير شؤن البلاد من منظور الثورة, الأمر الذى لايمكن تحققه إلا فى وجود مجلس قيادى جماعى توافقى للثورة. وفى المقابل فإن المجلس الأعلى يمارس مهامه – عادة –  بعيدا عن العون والإستشارة من المؤسسات (الثورية الممكنة), أو من جماعات فكرية منظومية ذات صله, أى   Think Tanks , مما يجعله يُحمل نفسه ويُحمل البلاد مالايمكن تحمله.

-        أن تواصل غياب مجلس قيادى جماعى للثورة, والذىيدل على تواصل تأخر جماعية النخبة عن جماعية الشارع, إنما هو العيب (أو النقص) الرئيسى للثورة المصرية.

-        أن مصر, وهى فى حالة ثورة, ليست بحاجة الى مجلس رئاسى (أيا كان شكله) فى ظل وجود المجلس الأعلى للقوات المسلحة, إنما هى فى حاجة الى مجلس قيادى جماعى للثورة. السبب فى ذلك يكمن فى أمرين. الأمر الأول أن المجلس الرئاسى هو – موضوعيا –  مجلس إدارى (وليس سياسى), طالما نحن فى حالة ثورة, مما يشكل تناقضا منظوميا مع المجلس الأعلى. وأما الأمر الثانى فيتمثل فى أن المجلس القيادى الجماعى للثورة هو مجلس سياسى, يكون مسؤلا أمام المليونيات, ويكون موجها وإستشاريا للمجلس الأعلى, وممثلا للمليونيات, التى تكون بدورها هى الثورة, وهى جمعيتها العمومية, وهى القادرة على توجيه وتغيير مجلس الثورة, متى خرج عن مهامه أو أخفق فيها.

-        أيضا, أن مصر وهى فى حالة ثورة, لايمكن أن تفلح مرحلتها الإنتقالية فى ظل غياب حكومة ثورة. من ناحية أخرى, لايمكن أن ينتظر من أى حكومة أن تكون حكومة ثورة مالم تتشكل من (وبواسطة) أصحاب الرؤية من كبار المقاومين للفساد فى عهد مبارك.

-        أن الحكومة الحقيقية للثورة هى التى تستطيع أن تقود البلاد الى نجاح المرحلة الإنتقالية. إنها تقوم بإنجاز المسار المعلن للثورة, طبقا للتفاهمات والمقاربات التنظيمية مع المجلس الأعلى, وتلك السياسية مع المجلس القيادى الجماعى للثورة, وتحت مظلة الشعب, صاحب المصلحة فى الثورة, وممَثلا على وجه الخصوص فى مليونياته.

-        أن الإنتخابات البرلمانية والرئاسية هى العلامة على إستكمال تحقق لزوميات الثورة وإنجاز سقفها, وبالتالى ليست هناك صحة فى الوصول اليها قبل إتمام المرحلة الإنتقالية.

-        أن تحقق الأمن العام للشارع المصرى ليس أمرا صعبا على الإطلاق, متى قام عليه مسؤلون وخبراء فى الشرطة والقانون والإدارة, خاصة ممن خاضوا وعانوا من المواجهات لفساد الأمن فى المرحلة السابقة. إنه أمر غير قابل للتحقق إلا فى ظل حكومة ثورة, وتحت مظلة توافق بين المجلس الأعلى والثورة, ممثلة بقيادتها الجماعية.

-        أن العودة الشعبية  للثورة على أسس علمية جماعية وشفافة ومعلنة, هى السبيل الرئيسى لإستكمال إنجاز الثورة للزومياتها, وحمايتها, وبلوغها لسقفها, ومن ثم إستكمال البلاد للمرحلة الإنتقالية. عندها تكون البلاد مؤهلة للإنطلاق الى التقدم الوطنى, من منصة إنطلاق عالية, ولصالح كل المصريين. يحدث ذلك من خلال الدخول الى الإنتخابات البرلمانية والرئاسية, فى مناخ لاتحظى فيه القوى المضادة للثورة بأية مناعة, ولاتتمكن فيه من سؤ الإستغلال للفقر والجهل وقوة المال.

وهكذا, هناك حاجة “ثورية” ماسة الى إجراء تصحيحات جذرية على المرحلة الإنتقالية.  بل هى حاجة الى إعادة توليد للمرحلة الإنتقالية من جديد.

فى هذا الخصوص توجد ضرورة للتركيز على ثلاث نقاط.

أولا- أن المرحلة الإنتقالية ليست مسألة بيروقراطية, بل هى الثورة ذاتها, حيث تتجسم فيها التفصيلات الخاصة بالثورة.

 فى هذا الخصوص يمكن القول بأن “عزم” الجهد التغييرى فى المرحلة الإنتقالية لايقل عن “عزم” مايجرى من مجابهات ثورية حاليا فى ليبيا واليمن وسوريا, غير أن الفارق العملى هو أن العمل الثورى المصرى سيكون على أرض التخطيطات والتغييرات والإبداعات, السياسية والإدارية والإجتماعية والإقتصادية. وإذا نجحت الثورة المصرية فى ذلك, ستمتلك خبرة تكون مفيدة لبقية الثورات العربية, وأما فى حالة فشلها, فستتأخلر عن هذه الثورات.

ثانيا- أن مشكلة الشارع السياسى المصرى, حتى منذ ماقبل الثورة, هى الضحالة فى فاعلية التأمل الإستراتيجى.

المشكلة ربما لاتتمثل فى غياب لهذا النوع من التأمل, بقدر ماتتمثل فى عدم الإعتناء به من ناحية المسؤلين والمهتمين بالشأن العام, سواء  قبل الثورة, أو بعدها.  وإذا كان الفاسدون المستفيدون من نظام مبارك قد إنحرفوا بالبلاد لأسباب يأتى من بينها ضعف التأمل الإستراتيجى, فإنهم الآن, كقوى مضادة للثورة, يمارسون أعلى مايمكنهم  من مستويات فى التأمل الإستراتيجى, ضد الصالح العام.

ثالثا: أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة, وإن كانت الظروف قد أتت به الى مالم يكن فى الحسبان, وهو مسؤلية تسيير شؤن البلاد فى المرحلة الإنتقالية, برغم كونه – من الناحية التاريخية والشكلية –  كان كيانا  قريبا جدا من مبارك, ومن المفترض أن يحسبا على بعضهما بعضا, إلا أن الضرورات الثورية لهذه المرحلة, والتقدير الشعبى للدور الوطنى للقوات المسلحة, قد إقتضيا (ويقتضيا) إعتبار أن هذا المجلس قد وُلد له دورا تاريخيا جديدا  فى ظل الثورة.  إنه دور التسيير الإدارى لشؤن البلاد فى المرحلة الإنتقالية.

تجاه هذا الدور تتولد إعتبارات جديدة تحتاج الى عميق الإدراك والإلتزام, من جانب المجلس الأعلى والشعب (ممثلا فى ثورته).

 الإعتبارات عند المجلس الأعلى تتمثل فى سهره على تحقيق لزوميات الثورة, بالتعاون مع قوى الثورة, ووفقا لتوجهات الثورة, بكل مايمكنه من إمكانيات و منظومية وشفافية.

وأما الإعتبارات عند الشعب (ممثلا فى ثورته), فتتمثل فى العرفان التاريخى لدور هذا المجلس, عند إتمام لزوميات الثورة والتحول الى مابعد المرحلة الإنتقالية. إنه عندئذ, عرفان وطنى ثورى, يعلو فوق أية إعتبارات تتصل بعهد الرئيس المخلوع.

وختاما, يمكن القول أن جهدا كبيرا ينتظر قوى الثورة من أجل العودة الى متطلبات المرحلة الإنتقالية. وحتى لايُشوه هذا الجهد بسلوكيات تشبه الصراخ والتهديد والتفتيت, فالحاجة ماسة الى “الحوار” الحِرَفى, والإلتزام بالتفكبر العلمى, ومصالح جموع المصريين دون أدنى تمييز.  ذلك إضافة الى ماتذخر به الكتابات المصرية, عن ثورة 25 يناير, من تأملات إسترتايجية.

اجمالي القراءات 3386