قبل فوات الأوان
يكتبها: مصطفي بكري
انفلت عيار الأسعار، كل راح يسابق حديد عز، الحديد يرتفع، ومن خلفه يلهث الأسمنت والطوب والأرز والعدس والزيت والمكرونة وهلمٌ جرا، يبدو أنها عدوي أصابت التجار وأصحاب القرار، أو بالأحري يبدو أنها 'عين' وأصابت الفقراء الذين ما أن اطلقوا حناجرهم مطالبين بزيادة المرتبات حتي استبق التجار الأمر ورفعوا الأسعار. والأسعار هي مثل الطماطم 'مجنونة' ، فقط تختلف عنها في شيء واحد وهي أنها ترتفع ولا تعرف الانخفاض، لا تسألني كيف، ولماذا؟ فلا أحد يحاسب أحدا في هذا البلد، إذا أردت أن ترفع فلترفع، وإذا اخذتك العزة بالنفس وقررت أن تصمت فلتصمت، ألسنا في بلد حر، قانونه العرض والطلب، من شاء منكم أن يشتري فليشتر ومن
فضل الجوع وعدم الشراء فهو لها؟!.. منذ زمن طويل تقزمت آمالنا، وتراجعت طموحاتنا، كنا نطلب التعيين والوظيفة فتراجع الأمل إلي الحصول علي لقمة العيش بأي ثمن، كان الأمل يحدو بشبابنا أن يجد شقة تستره ويكمل بها نصف دينه، غير أن حديد عز جعل الأمر من سابع المستحيلات، فلا التمليك واردا ولا الإيجار ممكن!.
أصوات الناس تئن من الشكوي والإحساس بالقهر، وعندما تسألهم: لماذا أزمة رغيف العيش رغم أن كمية الدقيق زادت في المخابز، وليس العكس؟ اختصروا الأمر بايجاز وقالوا لنا: أصحاب الأفران يهربون الدقيق ويكسبون من خلفه عشرات الآلاف، وغلاء الأرز والمكرونة وارتفاع سعر الكيلو إلي 4.5 جنيه زاد من استهلاك رغيف العيش، إذن الأزمة متشابكة: غلاء الأسعار، وغياب الضمير، وانتشار الفساد، وتراجع الرقابة، كل ذلك دفع إلي الأزمة التي نعيشها والتي هدت كيان المجتمع، ودفعت رئيس الجمهورية إلي عقد أكثر من اجتماع، وتكليفه للقوات المسلحة بالمساعدة في حل الأزمة.
إذن أصبح مشروعنا القومي اليوم بقدرة قادر هو توفير رغيف الخبز للمواطنين، نعم رغيف الخبز، ليس مهما أن يكون هناك طعام إلي جواره، فقط الناس تحتاج إلي شيء يسد الجوع، ويستر الأسرة والأبناء.
إنه صراع عنيف في كل مكان، طوابير تمتد طويلا، صغارا وكبارا، نساء ورجالا الكل ينتظرون ساعات طوالا من أجل الفوز فقط بجنيه عيش.. ماذا حدث لنا؟ كيف نصدق الحديث عن معدلات النمو المرتفعة، وتحقيق معدلات متقدمة في الإصلاح الاقتصادي وجذب الاستثمار بينما الناس تكاد تصاب بمجاعة كبري تشبه مجاعات الفاطميين؟
صحيح الكلام ببلاش، ولا أحد يحاسب أحدا علي الأرقام والوعود، غير أن الواقع هو الأصدق، وهو الأكثر قدرة علي ترجمة أحوال الناس التي تحولت حياتها إلي جحيم، وحاصرتها الديون والمشاكل من كل اتجاه، ولكن يبدو أن أهل الحكم لهم وجهة نظر أخري، إنهم يتعاملون معنا علي طريقة 'ماري انطوانيت' إذا لم يجدوا العيش فليأكلوا جاتوه!!
لقد جفت الضروع، وتشققت الأراضي، وندرت الثروة والسلطة في البلاد، وأصبح الكل يعاني.. لا تحدثني عن مرتبات الموظفين، ولا الأطباء، ولا أساتذة الجامعات والمهندسين، هؤلاء جميعا أصبحوا الآن في ذيل القائمة التي اعتلاها النصابون والسماسرة الذين تحولوا بين يوم وليلة إلي أثرياء، يمتلكون المليارات والملايين، ويعيشون عيشة الملوك، ليس من حر مالهم واجتهادهم بل من مال الشعب الذي نهبوه، ومن ثروة البلد التي سيطروا عليها.
لا أعرف أي ضمير هذا الذي يرضي لرجل أعمال أيا كانت صفته أن يكسب أكثر من 3 مليارات جنيه سنويا، ولا أعرف أي منطق هذا الذي يجعل 90٪ من ثروة البلاد في يد حفنة قليلة ومحدودة لا تزيد نسبتها علي 10٪. لقد كنا نقول إن من أسباب ثورة 23 يوليو 1952 أنها قامت للقضاء علي الاقطاع والرأسمالية، غير أن الأحوال الراهنة تثبت أن واقعنا اليوم أخطر بكثير من ذي قبل.. في فترات سابقة كان من الصعب علينا أن نسمع عن مواطن ينتحر لأنه فقير.
أما اليوم فتعال لتر وتسمع وتقرأ عن عشرات الشباب الذين ينتحرون بعد أن ضاق بهم الحال، وها هي أم تبيع أبناءها الأربعة مضطرة وتوصي المشتري بأن يعاملهم بالحسني، وأن يطعمهم بعد طول حرمان.
الأمثلة كثيرة ومتعددة، هناك خلل أصاب المجتمع، لا يمكن أن يكون هذا إصلاحا، ولا يمكن أن تكون تلك هي الرأسمالية التي يبشروننا بها، إنها الفساد بعينه.
لقد أصبح المصريون يشعرون بأنهم غرباء في بلادهم، بعد أن حوصروا وأصبحوا يعيشون في أزمات مستمرة، فقدوا القدرة علي الحلم، وتراجعت الآمال والطموحات، وأصبح شعور المهانة يسيطر علي كل منهم، والكل يحدثك عن الرحيل من هذا البلد قبل أن يصاب بالجنون.
والغريب في كل ذلك، أنه برغم الأزمة الاقتصادية التي تحاصر الجميع، غير أن أهل الحكم يصرون علي قتل كل أمل في العيش والحياة لدي المصريين، انظر إلي ما جري في الترشيح للانتخابات، تأمل معي مشهد المصريين الذين قرروا أن يدخلوا مجال الخدمة العامة، فإذا بهم يفاجئون بأنهم مرفوضون ومحاصرون ومهانون.
إنه سيناريو أصبح هو العنوان، كأنهم يخرجون لنا ألسنتهم ويقولون ، البلد بلدنا والفلوس فلوسنا، وليس أمامكم سوي طريق واحد، انسوا الديمقراطية ولا تفكروا في الإصلاح.. فمصر هبة من يحكمونها، والآخرون مجرد عبيد يخدمون.
في كل جلسة وفي كل بيت، علي المقاهي والنواصي، الكل يحدثك عن الحالة الخانقة التي يعيشها الوطن، الكل يشكو، والكل يسأل نفسه. ما هو العمل؟!
وإذا كان صناع القرار يعلمون أو لا يعلمون، فالبلد يغلي، والكيل طفح، ولم يعد بوسع أحد الانتظار.
إن أكثر ما يخيفني هو أن تنفجر الأوضاع وينطلق الناس نحو المجهول، ساعتها لن يستطيع أحد أن يهدئ المشاعر ولا أن يوقف زحف الجماهير، ستشتعل الحرائق في كل مكان، سيدمرون البلد بكل ما فيه بعد أن يتعرض كل شيء للسلب والنهب.
إنه جمهور الجوعي والفقراء، لن يبقي ولن يذر، لن يفرق بين هذا أو ذاك، ستجتاح البلاد موجة من الخراب، وسندفع جميعا الثمن.
هذه اللحظة المرعبة لا نريدها .. ولكن النظام يجب أن يفكر، وأن يبعث الأمل وأن يوقف الاستفزاز وعمليات النهب التي يتعرض لها الفقراء.
إنني أسأل نفسي: إذا كانوا يعلمون بكل ذلك فلماذا هم صامتون؟ ألا يشعرون بالناس وبأوجاعهم؟ ألا يدركون أن النار ستطال الجميع، وأنه من الأفضل لهم تهدئة الأحوال والحفاظ علي النظام؟
أعرف أن هناك رجالا في هذا النظام يريدون عاليها واطيها، ولا يبحثون إلا عن مزيد من المكاسب والثروات، وهم يرون أن ذلك لن يتحقق إلا بالقمع وكبت الحريات والاحتكار، لكني أعرف في المقابل أن هناك عقلاء في النظام يعرفون أن نهاية هذا الطريق هي الخراب علي الجميع، فلماذا لا يراجعون المواقف ويتركون كل شيء للحظة الأخيرة؟
قد يقول البعض إن لدينا قوات جاهزة للمواجهة، وهؤلاء عليهم أن يدركوا أن هؤلاء هم أبناء هذا الشعب، يعانون بمثل ما نعاني، ويتألمون من الأوجاع والأمراض التي لحقت بكل شيء.. وأمثال هؤلاء لن يستطيعوا أن يدخلوا في مواجهة مع الناس إلي ما لا نهاية.
لو أراد النظام إنقاذا فوريا فعليه أن يراجع سياساته، وأن يعيد فرز رجالاته، وأن يدرك حجم المعاناة، وأن يسمع الناس بعيدا عن هذه الرموز.
إن كل الحريصين علي الوطن والنظام يجب أن يوجهوا النصيحة بكل جرأة وشجاعة، فالخوف لن يبني أوطانا ولن يحقق أمجادا، وطريق النفاق دأئما ما يؤدي إلي الانهيار والهلاك.
إن من حق الشعب المصري أن يعيش عيشة حرة وكريمة، من حقنا أن ننعم بلقمة العيش والكرامة والحرية، من حقنا أن نتمتع بالعدل الاجتماعي بعد أن امتلكت مصائرنا وثرواتنا قلة من المحتكرين.
قولوا لي بالله عليكم كيف يأمن الناس علي حرياتهم بينما يتحكم في الأجندة السياسية رجل واحد ووحيد يدعي أحمد عز؟
كيف يشعر الناس بالأمان الاقتصادي في ظل أكبر محتكر للحديد ومن خلفه عشرات المحتكرين الذين يدورون في فلكه ويمضون علي نهجه؟
لقد أصبح أحمد عز عنوانا لهذا النظام، يستطيع أن يعصف بأي فرد كائن من كان، ينتظر اللحظة، ثم سرعان ما يعطي أوامره بالتنفيذ.
وأمثال أحمد عز كثيرون، انتشروا في كل مكان حتي أصبحنا في قبضتهم، وكأننا بين فكي رحي، ننتظر لحظة الخلاص.. إنني أعود فأقول إن الانفجار مخيف، لأنه بلا ضوابط أو معايير، ولهذا ليس أمامنا من خيار سوي التغيير السلمي والإصلاح الداخلي.
إننا لا نريد أن يمضي بنا الحال لنصبح عراق آخر أو لبنان آخر، لكننا نريد منكم أن تفتحوا الطريق لعودة الأمل من جديد، وساعتها سيعود الهدوء إلي الشارع، وتتحقق الأحلام التي ضاعت، ويحق للمصري أن يفخر بمصريته في كل مكان.
ساعتها سيختفي أباطرة الفساد والاحتكار، وتسود قيم العدل والأمان ويعود لمصر دورها واحترامها، وينزوي المنافقون، ونبدأ طريق النهوض من جديد.