القصص القرآني يخبر عن بعض المستقبل ( فى حياة النبى محمد عليه السلام )
من الفصل التمهيدى : لمحة عامة : ( بين أحسن القصص والروايات التاريخية )
من ب 1 القصص القرآنى :
من ج 2 : ( الجزء المضاف لكتاب : البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )
القصص القرآني يخبر عن بعض المستقبل ( فى حياة النبى محمد عليه السلام )
مقدمة :
1 ـ المؤرخ ينقل أحداث الماضي ويسجل أحداث الحاضر الذي يعيشه ، ولكن لا يمكن أن يقتحم غيب المستقبل، ولذلك فإن من ابرز نواحي الإعجاز في القصص القرآني أنه أخبر مسبقا عن أشياء ستحدث وحدث بعضها فعلا، وما زلنا في انتظار حدوث البعض الأخر.
2 ـ ونتعرض هنا لأخبار وأقوال أنبأ بها رب العزة جل وعلا قبل حدوثها ، ثم حدثت فى حياة النبى محمد عليه السلام .
أولا :
فى الحوار مع المشركين :
أقوال أنبأ بها رب العزة جل وعلا مقدما وردّ عليها :
لقد أحدث القرآن حركة عقلية جدلية بين سكان الجزيرة العربية، وجاء القرآن بحوار كان ينبىء أحيانا بما سيقوله الكافرون مقدما، ويحدث فعلا أن يقول الكافرون ما نبأ به القرآن سلفا. ونعطى أمثلة :
فى إثبات أنه لا إله إلا الله : قال جل وعلا :
1 ـ ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّـهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿يونس: ٣١﴾. قال جل وعلا :( فَسَيَقُولُونَ اللَّـهُ ) وأمره جل وعلا أن يرد على اقوالهم : ( فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ )
2 ـ ( قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٨٤﴾ سَيَقُولُونَ لِلَّـهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿٨٥﴾ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴿٨٦﴾ سَيَقُولُونَ لِلَّـهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴿٨٧﴾ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٨٨﴾ سَيَقُولُونَ لِلَّـهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ﴿٨٩﴾ المؤمنون ) . هنا تكرر( سَيَقُولُونَ لِلَّـهِ ) وتكرر الأمر له عليه السلام بالرد : ( ۚ قُلْ ).
في موضوع البعث نقرأ قوله تعالى :
( قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ﴿٥٠﴾ أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ۚ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِالَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا ﴿٥١﴾ الاسراء ) . الله جلوعلا أخبر مسبقا بأقوالهم : ( فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ) وأمر رسوله بالرد :( قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) . بل أخبر جل وعلا بالحركة الجسدية التي ستصاحب أقوالهم : ( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ) وجاء الأمر الالهى بالرد على ما سيقولون : ۖ( قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا ) .
فى التحويل المؤقت للقبلة
قال جل وعلا : ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿البقرة: ١٤٢﴾ . الله جل وعلا يخبر مقدما بردّ الفعل عند المنكرين ويتهمهم بالسفاهة. ومع أن ذلك الوصف بالسفاهة قمين بأن يجعل المنكرين يحذرون من إعلان الرأي حتى لا تلحق بهم صفة السفاهة إلا أن حقدهم دفع بهم إلى ذلك دفعا فاستحقوا أن يكونوا سفهاء. ويأتى الأمر للرسول بالرد على ما سيقوله أولئك السفهاء : ( قُل لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
فى نسبة وقوعهم فى الكفر الى الإرادة الالهية
أنبأ رب العزة مقدما قولهم ورد عليهم : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴿الأنعام: ١٤٨﴾ . أخبر جل وعلا بمقالتهم مسبقا : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) ، وأمر رسوله بالرد عليهم ( قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا )
فى قصة أهل الكهف
ذكر جل وعلا مقدما تساؤلهم عن عددهم ، وردّ على ذلك مقدما : ( سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا ﴿الكهف: ٢٢﴾ . قال جل وعلا :( سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ )، وكان الرد مقدما ( قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم )
وذكر جل وعلا أقوالا أخرى للمشركين وردّ عليها : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴿الأحقاف: ١١﴾. قال جل وعلا : ( فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ )
ونفس الحال مع الأعراب ، ذكر جل وعلا مقدما ما سيقولونه ورد عليهم ، وتحقق فيهم هذا :
قال جل وعلا :
1 ـ ( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّـهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿الفتح: ١١﴾ . ذكر جل وعلا مقدما ما سيقولون : ( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا )، وأمر رسوله بالرد عليهم ( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّـهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا )
2 ـ ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ۖ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّـهِ ۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّـهُ مِن قَبْلُ ۖ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿١٥﴾ الفتح ) . ذكر جل وعلا مقدما أقوالهم ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ) ، وأمر رسوله بالرد عليهم : ( اللَّـهِ ۚ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللَّـهُ مِن قَبْلُ ) ، ثم ذكر مقدما إجابتهم :( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ).
فى كل ما سبق تتضح لنا حقيقة أساس ، هى أن الرسول لم يكن له أن يرد على الكافرين من عنده ، مع إنه كان يستطيع ذلك . كان عليه السلام مُلزما بردود معينة تتنزل وحيا فيقولها ، وعليه أن يلتزم بهذا النّص . ولنا كتاب منشور عن ( كلمة قل ) فى القرآن الكريم يؤكد أن كل أقوال النبى فى القرآن ، وليس له أقوال أو أحاديث فى الاسلام من عنده ، أو من خارج القرآن الكريم . فى حياته العادية كان يتكلم ويتصرف ، وهذا ليس داخلا فى دين الاسلام . قد يكون تاريخا رواه الناس أو صنعه الناس ، والتاريخ صناعة بشرية وليس دين الرحمن جل وعلا .
ثانيا :
فى الإخبار مقدما بحدث عالمى : ( إنتصار الروم على الفرس ) والذى حدث فى حياة النبى عليه السلام
وقتها ، كانت هناك إمبراطوريتان متصارعتان ، الفرس والروم . إنتصر الفرس ، وأخبر رب العزة جل وعلا بأن الروم سينتصرون بعد هزيمتهم ببضع سنين ، وعندها سيفرح المؤمنون بنصر الله جل وعلا ، وجعل رب العزة جل وعلا هذا وعدا لا بد من أن يتحقق.
قال جل وعلا : ( الم ﴿١﴾ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴿٢﴾ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿٣﴾ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّـهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴿٤﴾ بِنَصْرِ اللَّـهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿٥﴾ وَعْدَ اللَّـهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٦﴾ الروم ) .
الوعد الذى سيتحقق يخص أمرين : إنتصار الروم بعد هزيمتهم خلال بضع سنين ، وفرح المؤمنين وقتها . ومفهوم أن فرح المؤمنين وهم بعيدون عن الصراع ولا شأن لهم به سيكون مرتبطا بشىء خاص بهم ، أو بمعنى آخر هو وعد بنصر لهم يتواكب مع نصر الروم على الفرس .
المؤمنون ــ وقت هزيمة الروم المُزرية ــ كانوا فى حالى مُزرية أيضا وهم فى مكة تحت نير الإضطهاد من قريش ، بالتالى يشمل وعد الله جل وعلا بالنصر للروم وللمؤمنين أيضا .
تحقيق الوعد بإنتصار الروم على الفرس :
1 ـ كان محمد بن عبد الله قد تجاوز الثلاثين من عمره حين نشبت حرب كسرى برويز مع الروم ( من سنة 603). وقد انتهت تلك الحرب ( سنة 627 ) أي قبل وفاة النبي عليه السلام ببضع سنوات ، بعد أن شهد النبي تحقق ما نبأ به رب العزة جل وعلا : ( غُلِبَتِ الرُّومُ ﴿٢﴾ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿٣﴾ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ ) .
2 ـ في سنة 603 قتل الإمبراطور البيزنطي ( الرومي) موريس، وكانت العلاقات ودية بين الروم والفرس، لذا جاء ابن موريس إلى كسرى برويز الفارسى يحتمي به ضد فوكاس مغتصب الحكم وقاتل أبيه، وأتخذها كسرى برويز فرصة فزحف بجيش اكتسح به حاميات الروم فيما بين النهرين وأستولي على أمد وديار بكر والرها وحران وعبر نهر الفرات وتقدم جنوبا إلى لبنان ، وفي نفس الوقت تقدم جيش فارسي آخر من ناحية أرمينية وزحف نحو آسيا الصغرى متقدما نحو العاصمة الرومية القسطنطينية. وأصاب الروم الفزع والاضطراب ولم يتمكن فوكاس الرومي من عمل شيء ، فعزله الروم وتولى مكانه هرقل ( هراكليوس) الذي زحف من شمال أفريقيا إلى القسطنطينية بالسفن وحاول إنقاذها، ولكن أستمر كسرى برويز في فتوحاته سنة 611 إذ أكمل احتلال الشام ودخل دمشق وبيت المقدس وأستولي على صليب عيسى وأرسله إلى إيران، وأرسل قائده شهربزار فاحتل دلتا مصر والإسكندرية سنة 616 أي بعد البعثة المحمدية ببضع سنوات. وفي سنة 617 استولي الفرس على ولايات آسيا الصغرى واحتلوا خلقدونية قرب القسطنطينية. وأصبح الروم في مأزق حرج وتوقع الجميع سقوطها والقضاء النهائي على الروم البيزنطيين.
3 ـ في ذلك الوقت نزل القرآن يبشر المؤمنين في مكة بأن الروم المهزومين سينتصرون بعد بضع سنين، ولم يكن لدى هرقل علم بهذه البشرى ، إذ كان وقتها يفكر في الهرب إلى قرطاجنة ، حتى لقد جمع خزائن القسطنطينية وذخائرها في سفن كثيرة وبعث بها إلى قرطاجنة، وقد غرقت تلك السفن . واضطر هرقل تحت ضغط رجال الدين والشعب إلى الصمود ومنحته الكنيسة كنوزها ليدعم مجهوده الحربي.
4 ـ وبذلك بدأ هرقل حرب الاسترداد ، فعبر الدردنيل بجيوشه سنة 622 ، وزحف نحو أرمينيا ، وهزم الفرس فيها ، ثم عاد إلى القسطنطينية ، وفي العام التالي تعاون مع الشعوب الشمالية كالخزر وهاجم إيران من الشمال ، فأسرع كسرى برويز بجيش قدره 40 ألف جندي لملاقاة هرقل ، ولكن انتصر عليه هرقل في ازربيجان ، ثم واصل هرقل عملياته الحربية السريعة على المدن الإيرانية الهامة والمقدسة سنة 623 .وفي العام التالي استعد كسرى لحرب فاصلة ولكن أسرع هرقل ودخل أرمينيا وهزم جيوش الفرس منفصلة قبل أن تتجمع . وكان لابد لهرقل أن يستريح ليلتقط أنفاسه ويعد جيوشه للمعركة الفاصلة.
5 ـ لهذه الحرب الفاصلة أعدّ كسرى جيشا بريا وأسطولا بحريا هائلا لتدمير القسطنطينية يقوده شاهين . ترك هرقل قوة للدفاع عن القسطنطينية واتجه شرقا بجيش برى إلى شمال إيران وهاجم تفليس ، بينما دخلت حامية القسطنطينية في معركة مع شاهين وأسطوله البحري . وكانت هزيمة الفرس مفاجأة ، وبعوامل مناخية لا قبل لهم بها ، إذ هبت رياح عاتية أعمت الجنود الفرس في البر ، وأغرقت الأسطول في البحر ومات شاهين كمدا وهو يرى تحطم اسطوله ، أو بتعبيرنا أن الله تعالى هو الذي هزم الفرس لأنه أخبر مسبقا بهزيمتهم حين قال : ( غُلِبَتِ الرُّومُ ﴿٢﴾ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿٣﴾ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ ) .
6 ـ وكانت هزيمة الفرس البرية والبحرية أمام القسطنطينية بداية النهاية، إذ تلاها فرار كسرى برويز في معركة دستكرد البرية، وقد عزله الفرس ثم قتلوه، وتولى ابنه قباذ الذي عقد الصلح مع هرقل.
7 ـ ونعود إلى بشرى القرآن بانتصار الروم بعد هزيمتهم.
في سنة 617 بلغ كسرى برويز أقصى انتصاراته حتى أن هرقل سأله في الصلح فاستكبر كسرى وسجن الرسول الذي بعثه هرقل وأرسل لهرقل بأمره بالحضور أمامه مقيدا بالأغلال، وفكر هرقل في الهرب إلى قرطاجنة. في ذلك الوقت الذي فقد فيه الروم الأمل نزلت البشرى بانتصارهم، وأن ذلك النصر سيكون بعد بضع سنوات. وبعدها ببضع سنوات أي سنة 622 بدأ الروم مسيرة النصر إلى أن تحقق نهائيا بهزيمة الفرس غير المتوقعة سنة 626. كما أخبر رب العزة جل وعلا سلفا . هذا عن الوعد الأول : إنتصار الروم .
تحقيق الوعد بإنتصار المؤمنين
1 ـ عام 617 وقت هزيمة الروم كان المؤمنون مضطهدين فى مكة . ونزلت لهم البشرى بإنتصار الروم مقرونة بوعد بأن يفرح المؤمنون بهذا النصر . قال جل وعلا : ( الم ﴿١﴾ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴿٢﴾ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿٣﴾ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّـهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴿٤﴾ بِنَصْرِ اللَّـهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿٥﴾ وَعْدَ اللَّـهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٦﴾ الروم )، أي حين ينتصر الروم على الفرس بعد بضع سنين سيفرح المؤمنون لأن وعد الله تحقق ولأن وعد الله بالنصرة لمن يشاء لا يتخلف أبدا..
2 ـ حالة المسلمين النفسية في ذلك الوقت كانت تستلزم نوعا من التشجيع، فالله تعالى يعد الروم بالنصر وهم في درك الهزيمة الطاحنة، وليس الروم أقرب إلى الله من المسلمين الذين تتنزل عليهم رحمة الله وفيهم النبي الذي يوحى إليه، ثم أن الروم لا يعلمون شيئا عن القرآن وقتها ولم يعلموا بنبأ النبي العربي وحتى لو علموا بوجوده فأن المحنة التي تدق عليهم أبوابهم كفيلة بأن تشغلهم عن كل شيء عاداها. أى أن القرآن وإن تحدث عن بشرى بنصرة الروم بعد هزيمتهم إلا أن حديثه لم يكن موجها للروم وإنما كان متوجها للمسلمين في مكة، وكان يريدهم أن يترقبوا تحقق البشرى وحينئذ سيفرحون ليس لانتصار الروم بعد هزيمة ولكن لأن وعد الله قد تحقق، وإذا كان قد تحقق بالنسبة للروم فهو ادعى لأن يتحقق بالنسبة للمسلمين أنفسهم فيما بعد، خصوصا وأن هناك توافقا زمنيا بين ظروف الروم وظروف المسلمين وقتها.
3 ـ يتضح ذلك التوافق الزمني بين محنة الروم أمام الفرس ومحنة المسلمين أمام مشركي مكة، ففي سنة 610 وما بعدها كان توغل كسرى في الشام وآسيا الصغرى، وكان في نفس الوقت ظهور الدعوة الإسلامية وإيذاء قريش لها. أقصى سنوات المحنة للروم كانت سنة 617 وهي قريبة من عام الحزن الذي أشتد فيه وطأة المشركين على النبي والمسلمين في مكة. وحين بدأ هرقل انتصاراته سنة 622 كانت هجرة المسلمين إلى المدينة، وفى نفس العام 622 بدأ هرقل انتصاراته وحركة الاسترداد.
4 ـ وكما دخل هرقل والروم في مرحلة انتصارات، دخل المسلمون مرحلة الدولة الوطيدة، وكما فرح المؤمنون بتحقيق الوعد الإلهي للروم نزل عليهم الوحي بوعد جديد خاص بهم وهم يعيشون أولى سنواتهم في دولتهم الوليدة التي يتهددها الخطر من المشركين المحدقين بها من كل جانب.
5 ـ ولنا أن نتخيل المسلمين في أولى سنوات الهجرة وقد جاءتهم أنباء الانتصارات الرومية وأيقنوا بتحقق الوعد الإلهي ، ولنا أن نتخيلهم يتشوقون إلى وعد إلهي لهم بالانتصار يتحقق هو الأخر خصوصا وهم يتهددهم الخطر من كل جانب، وفي تلك الظروف نزل الوعد في قول الله جل وعلا : ( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿٥٥﴾ النور ) . جاء الوعد لهم مشروطا بالإيمان وعمل الصالحات بأن يستخلفهم الله في الأرض، وأن يُمكّن لهم الدين الذى إرتضى لهم ( وهو الاسلام السلوكى بمعنى السلام ) وحيث لا حروب ، وأن يتحول خوفهم إلى أمن، وتحقق الوعد شيئا فشيئا.
6 ـ بدأ بالإنتصار فى ( بدر ) ، وبه انتهى الخوف وحلت محله الثقة بالنفس ، وقال تعالى للمؤمنين يمُنُّ عليهم : ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿٢٦﴾ الأنفال ).
7 ـ في سنة 627 كان الانتصار النهائي لهرقل وبلغ فيه ذروة المجد ، وفي نفس العام عقد النبي عليه السلام صلح الحديبية الذي اعتبره رب العزة جل وعلا فتحا مبينا ، وتكرر هذا فى سورة الفتح ، قال جل وعلا : ( بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ﴿ 1 ) ، ( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿ ١٨﴾ ( لَّقَدْ صَدَقَ اللَّـهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّـهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ﴿ ٢٧﴾.
8 ـ ثم كان الانتصار النهائى حين دخل العرب المتقاتلون أفواجا فى التعايش السلمى أو السلام (الاسلام السلوكى ) . قال جل وعلا ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ ﴿١﴾ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّـهِ أَفْوَاجًا ﴿٢﴾ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴿٣﴾ النصر ) .