رابعاً : فقهاء التصوف : إبن الحاج العبدرى مثالا :
من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )
مقدمة
1 ـ ظهر هذا النوع في عصر ما بعد الغزالي حيث سيطر التصوف على العقيدة الدينية واضطهد من يعترض على تقديس الأولياء وقبورهم , وأتيح لكثير من متطرفي الصوفية أن يعلنوا عقائدهم بحرية ويتمتعوا مع هذا بتقديس الناس , وقد شهدنا طرفاً من ذلك في فصل المناقب .
2 ـ وإذ تقررت عقيدة التصوف في العصر المملوكي وأصبح الدين الفعلي للناس فقد جدت الحاجة لفقهاء من نوع خاص يؤمنون بالتصوف عقيدة ويطالبون عصرهم وكله صوفية بنوع من الانضباط والسلوك الحسن بدعوى أن ذلك ما ينبغي أن يكون عليه الصوفي . ومن الطبيعي أن يقع أولئك في تناقضات مع أنفسهم , إذ أنهم يطالبون عصرهم بسلوك حسن أي بالتقوى الإسلامية والإسلام لا يلتقي مع التصوف , ثم إن الأساس التشريعي الذي يقوم عليه التصوف هو الذوق أو الخواطر أو حديث النفس , وكلها مدلولات لشيء واحد هو الهوى , وقد وصم القرآن المشركين بأنهم يتبعون أهواءهم , وإذ تحكم في الإنسان هواه وعاطفته فهو في تناقض مستمر بين القول والفعل في كل وقت , من هنا اشتهر الصوفي بأنه في كل وقت في حال ويتكلم بما يرد على قلبه من أحوال , وإذا كان هذا حاله فلا يمكن أن يصدر عنه منهج أخلاقي متزن أو أن يكون منبعاً لتشريع , هذا إذا سلمنا بأن البشر هم مصدر التشريع الأخلاقي أو الديني , فالإنسان إذا جعل عقله مصدراً للتشريع وقع في الخطأ , وإذا جعل هواه وعاطفته المصدر التشريعي فقد وقع في الخلط والاضطراب والتردد , وذلك ما حدث من فقهاء التصوف حين اضطربوا في أحكامهم بين إسلام معلن مجرد لافتة وتصوف عملي مطبق , وجموح هنا وهناك من أشياخ ومريدين صوفية ثم فقهاء منكرون على الصوفية وقد يتطرقون في الإنكار إلى الهجوم على مبدأ التصوف نفسه , ومحاولة للإبقاء على عقائد التصوف الأساسية من شيخ وضريح وتوسل ومدد مع تجميل السلوك بقدر الإمكان .
3 ـ وكتاب ( المدخل ) لإبن الحاج العبدرى الفقيه الصوفى أبرز ما يمثل الكتابة الفقهية الوعظية التى يتناثر بين سطورها حقائق تاريخية عن العصر المملوكى .
ابن الحاج في كتابه ( المدخل ):
1 ـ هو الفقيه المغربي الأصل محمد العبدري المتوفي سنة 737 قدم مصر من فاس وألف كتابه ( المدخل في الحوادث والبدع ) في أحوال المجتمع المصري في القرن الثامن الهجري وفيه ينتقد الكثير من عادات الناس وأشياخهم الصوفية , هذا مع كونه صوفياً تتلمذ للشيخ عبد الله بن أبى جمرة المرسى ت 675 , وكان ابن أبي جمرة شيخ ابن الحاج صوفياً متهماً في عقيدته إذ أعلن أنه يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة ويكلمه مشافهة ، فكان أن أنكر الناس عليه ادعاءه واضطروه للانقطاع في بيته[1].
2 ـ يقول إبن الحاج في كتابه المدخل عن شيخه ابن أبي جمرة الأندلسي( كان سيدي أبو محمد متسبباً – أي يعمل بيده – بصناعة الفلاحة في بلاده ، فلما أن ورد إلى الديار المصرية أراد أن يتسبب بذلك لأجل العائلة، فلما أن رأى أكثر حال المزارعين في هذه البلاد وما هم فيه من الشظف قال : لا يحل لي أن أتسبب في ذلك هنا . ثم وقع له أن التسبب في حقه متأكد لأجل العائلة فأراد أن يتسبب بغير الفلاحة ثم قال : إذا اضطررت إلى التسبب تسببت لهم في غيرها فانقطع إلى الله وترك الأسباب واشتغل بالعبادة وإلقاء العلم ، ففعل الله به ما هو أهله، فأغناه الغنى الكلى عن الناس ، وعن الأسباب بسبب عز الطاعة والنية الصالحة )[2].
ويظهر من كلام إبن الحاج سوء حالة الفلاحين المصريين بالمقارنة بغيرهم من الفلاحين في المغرب ، وأن من عادة المتصوفة خارج مصر العمل وليس التواكل ، وذلك ما تعوده شيخ إبن الحاج ، فلما قدم مصر وجد صوفيتها يعيشون عالة على المجتمع متمتعين بتقديسه بدعوى التجرد والتزهد ، فاختار لنفسه الراحة وجاراهم في الانقطاع عن الناس أو بتعبير إبن الحاج ( فانقطع إلى الله وترك الأسباب واشتغل بالعبادة ) ومن الطبيعي حينئذ أن يشتهر في عصر التصوف الذي يحتفل بالأشياخ ، خصوصاً إذا كانوا قادمين من المشرق أو المغرب على وجه التجريد ، وذلك ما كان سائداً في العصر المملوكي .
3 ـ وإبن الحاج انتقد المصريين وشيوخ التصوف في عصره في سطور كتابه المدخل ، ومع ذلك فإنه لا يجرؤ على انتقاد شيخه الذي أعلن بجرأة أنه يقابل النبي عليه السلام ويكلمه في اليقظة وليس في المنام، كما كان يكتفي الصوفية في عهده في أكاذيب المنامات , وبينما كوفئ شيخ إبن الحاج على افتراءاته عن النبي بإنكار الناس عليه فإن إبن الحاج يسكت تماماً عن هذه القضية ، بينما سلط لسانه الحاد على الصوفية الآخرين . وتلك سمة أساسية من سمات الفقهاء الصوفية ؛ أنهم ينتقدون معاصريهم ويقدسون في نفس الوقت أشياخهم ، مع أنه لا فارق حقيقيا بين السابقين واللاحقين ، فكلهم سواء في العقائد والسلوك . وقد سبق أن قلنا أن القشيري في الرسالة القشيرية أنتقد الصوفية المعاصرين له في القرن الخامس الهجري بينما امتدح أشياخه في القرن الرابع , وعلى نفس النهج سار الغزالي في الإحياء؛ إنتقد الصوفية المعاصرين له وامتدح الصوفية السابقين ، واحتذى إبن الحاج والشعراني طريق القشيري والغزالي في الإنكار على معاصريهم الصوفية والإشادة بأشياخهم السابقين .
4 ـ لقد سجل إبن الحاج في ثنايا كتابه ( المدخل ) دقائق الحياة الاجتماعية الدينية في مصر المملوكية في انتقاداته لسلوك الناس داعياً إياهم للتخلص من المساوئ الخلقية التي نشرها التصوف وجعلها أساس التدين. وكان إبن الحاج حريصاً على تقرير عقيدة التصوف ورموزه الأساسية من تبرك بالأشياخ وتقديس لهم ، إلا أنه طالب عصره بحسن الخلق وسمو التصرف , أي طالب بإصلاح بعض المظاهر الصارخة ، وقد تعود المجتمع المصري عليها وحسبها ديناً ، بينما لم يستطع إبن الحاج المغربي الأصل والنشأة إلا أن ينكرها ويحتج عليها ويدعو للتخلص منها .
5 ـ ونبدأ بالتعرف على عقيدة إبن الحاج في الأولياء الصوفية , يقول : ( إن زيارة قبور الصالحين محبوبة لأجل التبرك مع الاعتبار , فإن بركة الصالحين بعد مماتهم كما كانت في حياتهم , والدعاء عند قبور الصالحين والتشفع بهم معمول عند علمائنا المحققين )[3]
وبعد تقرير العقيدة الصوفية في التوسل والتبرك بقبور الأولياء الصوفية يلتفت إبن الحاج لتشريع كيفية التوسل والصلاة للولي المقبور , :) يتعين على الزائر قصدهم من الأماكن البعيدة ) أي يحج إليهم الناس من كل فج عميق ( فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والفقر والحاجة والاضطرار والخضوع ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون .... ثم يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه )[4] أي أن إبن الحاج ـ فقيه التصوف ــ يطالب الزائر للضريح بمنتهى الخشوع والخضوع والإخبات والإطراق وهو منكمش أمام الوثن المعبود , وما رأيناه في كتابه يطالب المصلى لله بنفس الخشوع والذل والخضوع .
6 ـ وبعد تقريره لعبادة الأضرحة يقوم إبن الحاج بعملية تجميل يحاول بها بقدر الإمكان أن تسمو عبادة الأضرحة عن الانحراف الخلقي , مع أن القاعدة أن الانحراف العقيدي هو الأصل في الانحراف الخلقي , يقول عن زيارة الأضرحة في ليلة النصف من شعبان : ( في ليلة النصف من شعبان تخرج النساء ، ومع بعضهن الدف يضربن به، وبعضهن يغنين بحضرة الرجال ، متجاهرات بذلك لقلّة حيائهن ، وقلّة من ينكر عليهن ، ويزعمن أنهن خرجن للعبادة، وهى زيارة قبور الأولياء والعلماء والصلحاء , وكذلك يفعل من قلّ حياؤه من الشبان والرجال ، فيجتمعون على ما لا ينبغي , وأكثرهم مختلطون بعضهم مع بعض نساءا وشبانا ورجالا ، قد رفعوا جلباب الحياء والوقار عنهم ، كأنهم في بيوتهم ومع أزواجهم ، إذ لا فرق عندهم في القبور بين النساء والرجال في كشف الوجوه والأطراف. فإذا وصلن إلى البلد تنقبن واستترن. ثم صارت هذه العادة بين النساء شعيرة يتدين بها , أي أن المرأة تستتر في البلد ولا تستتر في القبور وفى الطريق إليها )[5] .
7 ـ لقد كان الاختلاط قاعدة معمولاً بها في مصر المملوكية في الموالد وعند المزارات وفى كل المناسبات بحيث تحولت إلى مناسبات للانحلال الخلقي , يقول إبن الحاج يصف موقفاً من مواقف الوعظ في المقابر والمزارات :( فيه اجتماع الرجال والنساء مختلطين على الواعظ أو الواعظة ، وتُنصب لهم المنابر، ويصعدون عليها يعظون ويزيدون وينقصون ويتمايلون ، كما قد علم من أفعال الوعاظ وزعقاتهم ، مع الضرب بأيديهم وأرجلهم على المنبر والكرسي وإظهار التحزن والبكاء )[6].
8 ـ ويمكن أن نبلور انتقادات إبن الحاج لعصره في ناحيتين : السماع والانحلال الخلقي وهما مرتبطان ببعضهما . والسماع هو التعبير الصوفي عن حفلات الذكر التي كان يرقص فيها الصوفية ويغنون، ويجتمع فيها الرجال والنساء .وقد وقف إبن الحاج من قضية السماع موقفاً محدداً تمسك به هو الرفض التام للغناء والرقص[7] الذي ابتدعه الصوفية وجعلوه أساساً من أسس التدين عندهم . ويذكر أن الغزالي في الإحياء دافع عن السماع وجعل الرقص من شيمة الصالحين , يقول الغزالي في تشريعاته عن رقص الصوفية ( ومن الأدب ألا يقوم للرقص مع القوم إن كان يستثقل رقصه ولا يشوش عليهم أحوالهم، إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح , والمتواجد هو الذي يلوح للجميع منه أثر التكلف )[8]. وجعل الغزالي من الرقص لازمة من لوازم التصوف الحقيقي ، يقول عن بعض من أنكر عليهم من صوفية عصرهم أنهم أشبهوا الصالحين ( في زيهم وهيئتهم وفى ألفاظهم وآدابهم ومراسمهم واصطلاحاتهم ، وفى أحوالهم الظاهرة في السماع والرقص ) [9]. وبسبب الإنكار على السماعات الصوفية حتى من بعض الصوفية الذين لا يحبون هذا اللون فقد تحيّر الغزالي بين تحليل السماع ونقده ، وعلى أثره سار الشعراني في القرن العاشر الهجري ، إذ تردد بين إنكار السماع وتقريره . أما إبن الحاج فيذكر له أنه وقف موقفاً محدداً في إنكار السماع من حيث المبدأ والتطبيق ، وارتدى في ذلك لباس الفقهاء السنيين واحتج بأقوال الأئمة الأربعة .
9 ـ وقد رصد إبن الحاج في كتابه ( المدخل ) مظاهر كثيرة لحفلات السماع في مصر المملوكية في شتى المناسبات ، يقول مثلاً عن السماعات التي كانت تقام في مناسبة ختم القرآن في رمضان : ( وبعد الختم ، منهم من يقرأ القرآن بين يديه كما يفعلونه أمام الجنائز مع تكبير المؤذنين بين يديه , ومنهم من يعوض ذلك بالفقراء – أي الصوفية – الذاكرين بين يديه , ومنهم من يعوض ذلك بالأغاني , وبعضهم يضيف إلى ذلك ضرب الطبل والأبواق والدف والطار والشبابة , وبعضهم يجمع ذلك كله أو أكثره , ويحضر إذ ذاك من اللهو والعبث تلك الليلة ما هو ضد المطلوب فيها من الاعتكاف على الخير وترك الشر )[10].
10 ـ وامتدت السماعات الصوفية إلى المناسبات الاجتماعية النسائية ، كالنفاس وقدوم الحجاج من الحجاز , يقول إبن الحاج : ( تُقبل النساء على الزغردة مع الرقص واللهو واللعب والاستهتار والأطعمة الكثيرة ، وأكثرهن يقمن على هذا الحال مدة السبعة أيام ليلاً ونهاراً ، فكل من جاءت تهنئ جددن لها اللهو واللعب والرقص والاستهتار ، حتى صار الأمر بينهم كأنه شعيرة من شعائر الدين ، فمن لا يفعل مثل فعلهم فكأنه ابتدع بدعة في الدين , وبعض من ينتسب للخرقة – أي التصوف – أو إلى المشيخة، يفعلون ذلك في بيوتهم ويستحسنونه ممن يفعله ، بل يجمعون الناس عليه ويدعونهم إليه ، ويذمُّون من يفعل ذلك ولا يدعوهم إليه. فإنا لله وإنا إليه راجعون )[11] وواضح أثر التصوف وأربابه في جعل الاحتفال بالنفاس عيداً دينياً .
11 ـ على أن أسوأ ما في السماع الصوفي أنه امتد للعبث بقراءة القرآن الكريم , ولا زلنا حتى اليوم نتغنى بالقرآن الكريم بأصوات مغنين نسميهم مقرئين، يتقصعون في القراءة وتعلو حولهم الصرخات بالاستحسان والوجد بمثل ما يحدث في حفلات المغنيات والقيان . وقد كان الغناء بالقرآن الكريم عادة سيئة في العصر المملوكي نشرها الصوفية ومارسوها ،و إحتج عليها إبن الحاج . يقول عن الموالد : ( وبعضهم يزعم أنه يتأدب – أي لا يستعمل اللهو بالغناء – فيبدأ المولد بقراءة الكتاب العزيز , وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالهنوك – أي الترجيع في الغناء – والطرق المهيجة لطرب النفوس فيقرأ عشراً بما في قراءته من ترجيع كترجيع الغناء[12] )
وعدّ من البدع المخالفة للشرع في الجنازات: ( ما يفعله القُرّاء للقرآن في قراءاتهم من شبه الهنوك والترجيعات كترجيع الغناء ، حتى أنك إذا لم تكن حاضراً معهم في موضع وتسمعهم لا تفرق بينهم وبين الأغاني غالباً . وهذا مشاهد منهم ، مرئي من فعلهم ) . ويقول ( وهو من أكبر القبائح لو سلم من المحرم المجمع عليه وهو الزيادة في كتاب الله تعالى والنقصان منه عمداً . وهذه القراءة للقرآن لا تكون بحضرة الميت، ولكن في الطريق . وهذا قبيح علاوة على مخالفته للشرع )[13] .
12 ـ ثم امتدت خلاعة السماع الصوفي للآذان في الصلاة، فأصبح النداء الإسلامي(الله أكبر) غناءاً . يقول إبن الحاج ( ما أحدثوه من صعود الشبان على المنابر للآذان ، ولهم أصوات حسنة ونغمات تشبه الغناء ، فيرفعون عقيرتهم بذلك . فكل من له غرض خسيس يصدر منه في وقت سماعه ما لا ينبغي . وقد يكون ذلك سبباً إلى تعلق قلب من لا خير فيه بالشاب الذي يسمعونه ، ويترتب على ذلك من الفتن أشياء لا تنحصر )[14] لقد كان الشذوذ الجنسي منتشراً في العصر المملوكي برعاية التصوف ، وحرص الصوفية على أن يصلوا بالسماع الصوفي والانحلال الخلقي إلى المئذنة الإسلامية والأذان الإسلامي على نحو ما ألمح إليه إبن الحاج .
13 ـ وفى لوحة تاريخية يصف إبن الحاج حفلة من حفلات السماع الصوفي يقول (.... والمغنى إذا غنى تجد له من الهيبة والوقار وحسن الهيئة والسمت، ويقتدي به أهل الإشارات والعبارات والعلوم والخيرات – يقصد الصوفية – تسكت له وتنصت . فإذا دبّ معه الطرب قليلاً حرّك رأسه، كما يفعل أهل الخمرة سواء بسواء .. ثم إذا تمكن منه الطرب ذهب حياؤه ووقاره كما سبق في الخمرة ، فيقوم ، ويرقص، ويعيّط ،وينادى ، ويبكى ، ويتباكى ، ويتخشع ، ويدخل ، ويخرج ، ويبسط يديه ، ويرفع رأسه نحو السماء كأنه جاء المدد منها ، ويخرج الرغوة أي الزبد من فيه ( فمه ) ، وربما مزق بعض ثيابه ، وعبث بلحيته ، فخرج بذلك عن حد العقلاء , ويزعم أنه سُلب عقله . ولو صدق في دعواه لبقى على ذلك الحال مدة ، ولكنه يسكت عند سكوت المغنى، ويرجع إلى هيئته ، ويلبس ثيابه ، ويلوم المغنى على سكوته. وبعضهم يزعم أنه خوطب بأشياء في سره )[15] يعنى جاءه العلم اللدني في حالة انجذابه وهلوسته .
14 ـ أما عن الانحلال الخلقي في العصر المملوكي فقد تعرض له إبن الحاج في سياق تفصيلاته عن المناسبات الدينية الصوفية التي كان يحدث فيها الاختلاط بين الجنسين. وأحياناً كان يشير إليه من طرف خفي ، كأن يقول عن الشيخات الصوفية أو النساء اللائي كن يصطنعن المشيخة الصوفية ويقمن بحفلات الأذكار والسماع : ( أن من العجب أنهن لا يمضين إلى موضع لعمل الذكر فيه إلا بعد دفع الرسم المقرر لضامنة المغاني شأنهن في ذلك شأن المغاني ) [16]. وفى العصر المملوكي كانت الدولة تعترف رسمياً بالبغاء وتجبى عليه الضرائب ، وتتولى جمع الضرائب من المومسات إحدى الكبيرات منهن ، ويطلق عليهن في المصادر التاريخية ( ضامنة المغاني ) أي التي تأخذ حق الدولة من أتباعها في كل منطقة . ويذكر إبن الحاج أن الشيخات كن يدفعن لضامنة المغاني الرسم المقرر التي تدفعه كل المومسات، ومعناه أن ضامنة المغاني تعلم تماماً بما يجرى في حفلات الذكر المزعومة ، وأن الشيخة تعترف بأن ما تفعله يستحق أن تدفع له مقابلاً لضامنة المغاني .
15 ـ ويبدو أن إبن الحاج كان متحفظاً في التعرض المباشر لأمور الانحلال الخلقي ، وإن اضطر لذلك فبترفّق وبصيغة عامة، كأن يقول ( آخى بعضهم بين الرجال والنساء من غير نكير ولا استخفاء ، ثم لم يقتصروا على ذلك ، بل كانت بعض النساء يعشن مع بعض الرجال ، ويزعمون أنها أخته من الشيخ ، وقد آخته فلا تتحجب عنه )[17].
16 ـ والمؤاخاة بين الرجال والنساء مصطلح صوفي ، بدأ مع بداية التصوف، وإستخدموه شعاراً لانحلال الصوفية الخلقي , حيث يؤاخي الشيخ بين المريدين والمريدات ويحلل لهم ما حرم الله . وقد اضطر القشيري في القرن الخامس للإنكار على هذا اللون من الانحلال الذي فشا في صوفية عصره واستوجب الإنكار عليهم . فالقشيري في مقدمة رسالته يتهم معاصريه الصوفية بأنهم ( ركضوا في ميدان الغفلات ، وركنوا إلى إتباع الشهوات ، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان ) ، ويأتي بتأويلاتهم في انحلالهم الخلقي من أنهم اتحدت أرواحهم بالله ففقدت السيطرة على أجسامهم فليسوا مسئولين عما يفعلون , يقول ( وادعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال ، وتحققوا بحقائق الوصال ، وأنهم قائمون بالحق تجرى عليهم أحكامه وهم محو ، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا لوم ...)[18].
17 ـ وفى القرن السادس فصل ابن الجوزي في ( تلبيس إبليس ) في انحلال الصوفية مع الصبيان والنساء ، وحكي الكثير من وقائعهم، وكيف فلسفوا الانحلال : (فإن قبّل الشيخ أمردا قيل : "رحمة" ، وإن خلا بأجنبية قيل : " بنته وقد لبثت الخرقة" ) وأنهم ( استمالوا النسوة والمردان بتصنع الصور واللباس ، فما دخلوا بيتاً فيه نسوة فخرجوا إلا عن فساد قلوب النسوة على أزواجهن. ثم يقبلون الطعام والنفقات من الظلمة والفجار وغاصبي الأموال... ويستصحبون المردان في السماعات ، يجملونهم في الجموع مع ضوء الشموع ، ويخالطون النسوة الأجانب ينصبون لذلك حُجّة إلباسهن الخرقة )[19]ولباس الخرقة يعنى الانخراط في سلك التصوف وارتداء الزى الصوفي .
18 ــ وفى عصر ابن الحاج قال ابن القيم في إغاثة اللهفان عن بدعة المؤاخاة : ( ومن أبلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور أنه يُمنّي أحدهم أنه : إنما يحب ذلك الأمرد أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى لا للفاحشة ، ويأمره بمؤاخاته ) [20] .
19 ــ والجديد أن انتشار التصوف في العصر المملوكي نشر بدعة المؤاخاة وما تعنيه من انحلال خلقي ، وما أسهل أن تنتشر العادات السيئة في المجتمعات ، خصوصاً إذا ارتدت لباس الدين وكان رجال الدين هم الرُّواد في نشرها . ومعلوم أن أشياخ التصوف كانوا الممثلين للدين في العصر المملوكي وحولهم دارت الحياة الدينية والحياة الخلقية وبهم فسد الدين والخلق معاً .
20 ــ وبعد عصر ابن الحاج قال فقيه صوفي آخر في القرن التاسع في بدعة المؤاخاة ( وقد فشا في هذا الزمان مؤاخاة الفقراء – أي الصوفية – للنسوان ، ويدخل إليها ، وتدخل عليه، ويختلي بها ويزني بها . وكثير منهم يزعم أن المرأة تصير أخته يدخل عليها ما تشاء بإذن زوجها وبغير إذنه ، ويختلي بها ويتعانقان بالظهور والصدور ، وما لا ينبغي ذكره. ويقولون : " هذه محبة الفقراء" ، فيزني الرجل بالمرأة وهى أيضاً تزني به )[21].
21 ـ وفى القرن العاشر عصر الشعراني سيطرت بدعة المؤاخاة وهبطت بأخلاق الناس للحضيض ، حتى أن الشعراني أضطر للإنكار على أشهر الطرق الصوفية في عصره فيقول ( أن الفقراء الأحمدية – أتباع البدوي – والبرهمية أتباع الدسوقي – والقادرية – أتباع عبد القادر الجيلاني – يأخذون العهد على المرأة ثم يصيرون يدخلون عليها في غيبة زوجها )[22] أي أنهم اتخذوا من التصوف طريقة لإفساد النساء ، وبهذه الوسيلة أشتد خطرهم على المجتمع المصري إلى درجة أن الشعراني أضطر لأن يقول: ( إياك أن تمكن جاريتك أن يأخذ أحد من فقراء الأحمدية أو البرهامية عليها العهد إلا مع المحافظة على آداب الشريعة ، فإن كثيراً من الفقراء يعتقد أنه صار والدها ، يجوز له النظر إليها، وترى هي كذلك أنها صارت أبنته ، ولها أن تظهر وجهها له ، وكل ذلك خروج عن الشريعة وربما جعل إبليس ذلك مقدمات الزنا .... وقد حدث مثل ذلك لبعض إخواننا ورأى صاحبه يفعل الفاحشة في زوجته ) [23] ومع خطورة الموضوع نرى الشعراني يتلاعب بأسلوبه الفقهي بحيث يظل التصوف ورسومه الأساسية بمنأى عن الإنكار والاحتجاج مع أن التصوف أساس البلاء . فالشعراني لا يمنع إعطاء العهد للمرأة تماماً وإنما يبيحه بشرط المحافظة على آداب الشريعة كما لو كان إعطاء العهد نفسه من رسوم الإسلام. ثم كيف يمكن المحافظة على آداب الشريعة بين امرأة أجنبية وشيخ يدعى الولاية يختلي بها ليفسد عقيدتها وهل بعد إفساد العقيدة الدينية تكون هناك شريعة أو آداب ؟؟ .
22 ـ إهتم إبن الحاج والشعراني وفقهاء التصوف بالقيام بعمليات تجميل فأنكروا على بعض المظاهر المنحلة مع دعوتهم المستمرة لعقيدة التصوف ورسومه وأضرحته ، فكان أن ظل الحال كما هو ، لأن الفساد العقيدي هو الأصل والأساس ، والانحرافات الخلقية إنما كانت تحدث في أماكن صوفية كالأضرحة والترب والخوانق ، أو في مناسبات صوفية كالموالد والسماعات والمواعيد . فاستمر الانحلال الخلقي مع استمرار التصوف .
23 ـ وفى العصر العثماني – عصر الجبرتي – يقول عن الشيخ عبد الوهاب بن عبد السلام ( توفى في ثاني عشر صفر سنة اثنين وسبعين ومائة وألف ، ودفن بجوار سيدي عبد الله المنوفي ، ونزل سيل عظيم وذلك في سنة ثمان وسبعين ومائة وألف فهدم القبور وعامت الأموات فانهدم قبره وامتلأ بالماء ) ولم يتعظ الناس بما حدث بقبور الأولياء وهى تطفح بالماء وتطفو عظامهم على وجه الأرض ، ولم يسأل أحدهم نفسه أين الكرامات المزعومة التي من أجلها يقدسون تلك القبور ويطلبون منها المدد . يقول الجبرتي ( فانهدم قبره وامتلأ بالماء، فاجتمع أولاده ومريدوه ، وبنوا له قبرا في العلوة على يمين تربة الشيخ المنوفي ونقلوه إليه .. وبنوا على قبره قبة معقودة ، وعملوا مقصورة ومقاماً من داخلها ، وعليه عمامة كبيرة، وصيروه مزاراً عظيماً ، يقصد للزيارة ، ويختلط به الرجال مع النساء , ثم أنشأوا بجانبه قصراً عالياً عمره محمد كتخدا أباظة ، وسوّروا حوله رحبة متسعة مثل الحوش لموقف الدواب .. ثم إنهم ابتدعوا له موسماً وعيداً في كل سنة ، يدعون إليه الناس من البلاد القبلية والبحرية ، فينصبون خياماً كثيرة ، وصواوين ، ومطابخ ، وقهاوي. ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحي الأرياف وأرباب الملاهي والملاعيب والغوازي والبغايا والقرادين والحواة ، فيملأون الصحراء والبستان ، فيطأون القبور ، ويوقدون عليها النيران ، ويصبون عليها القاذورات، ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبل والزمر ليلاً ونهاراً . ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر. ويجتمع لذلك أيضاً الفقهاء والعلماء ، وينصبون لهم خياماً أيضاً، ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة ، من غير إنكار، بل ويعتقدون أن ذلك قربة وعبادة ، ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء فضلاً عن كونهم يفعلوه )[24].
24 ـ وبالتأمل في النص السابق من تاريخ الجبرتي نجد أن الفساد بدأ بالعقيدة ولحقه الفساد الخلقي ، واستمرا معاً برعاية العلماء والفقهاء الصوفية ، حتى اعتقدوا أن ما يفعلونه من فساد خلقي إنما هو قُربة وعبادة . وتلك هي النتيجة الحتمية لجهود فقهاء التصوف في الانحلال الخلقي .
[1] الطبقات الكبرى للشعراني 1/176 , 177
[2] المدخل 1/39
[3] المدخل 1/124 : 125
[4] نفس المرجع 1/125: 126
[5] المرجع السابق 1/151
[6] المرجع السابق 1/160
[7] المرجع السابق 2/155
[8] الإحياء 2/237 , 268
[9] الإحياء 3/344
[10] المدخل 1/91
[11] المرجع السابق 1/32
[12]المرجع السابق 1/154
[13] المرجع السابق 3/13
[14]المرجع السابق 2/67
[15] المرجع السابق 1/155
[16] المرجع السابق 2/12
[17] المرجع السابق 2/204
[18] الرسالة القشيرية 4
[19] تلبيس إبليس 360.
[20] إغاثة اللهفان 2/141.
[21] المقدسي الرجائي . حكم الأمرد . مخطوط ورقة 51
[22] الشعراني : لواقح الأنوار 323 , 180
[23] الشعراني : لواقح الأنوار 323 , 180
[24] عجائب الآثار 2/142 تحقيق السرنجاوي وغيره . الطبعة الأولى 1959.