من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )
النص : من مخطوطة ( تاريخ البقاعي ) مع تعليق

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٥ - نوفمبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

                     النص : من مخطوطة ( تاريخ البقاعي ) مع تعليق

                      ورقات 8 , 9, 54 , 56 من المخطوطة

من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )

يقول البقاعى فى تاريخه :

( ....... وفى يوم الاثنين رابع عشر الشهر( سنة 874) ألبس السلطان القاضي كاتب السر خلعة ، بسبب أنه بني له صهريجاً وسبيلاً وكُتّابا تحت الربع ، وجاء في غاية الحسن ، فهنأته بذلك وقلت : " نحن باقون على طلب الخلوة للتعريف لما استند إليه " فقال :  " نعم " . ففارقته ، وبدأ مولانا جمال في الطلب فإن أراد به سبحانه النفع فعل وإلا فلا أسف عليه ، ومراد الله أغلب ، والله على كل شيء قدير وعلى الله فليتوكل المؤمنون . )

( ورتبت سؤالا لأقول لكاتب السر عند الاجتماع به : ( إن كنت تريد الحق فأرسل بهذا إلى علماء البلد وأولهم الذين كتبوا على سؤال عبد الرحيم [1] فإن كتبوا عليه علمت أنهم على هدى من ربهم ، وإلا علمت يقينا أنهم على ضلال.  وهو في قول من قال [2]

و جُل في فنون الاتحاد ولا تحد         إلى فئة في غيره العمر أفنت

فواحده  الجم الغفير ومن عدى         بشرذمة في غيره العمر أفنت

فمت بمعناه وعش فيه أو فمت         معناه واتبع أمة فيه أمست

وفارق ضلال الفرق فالجمع           منتج هدى فرق بالاتحاد تحدت

وليس معي في الكون شيء سواي     والمعية لم تختر على المعيتي

وأن عبد النار المجوس وما أنطقت    كما جاء في الأخبار من ألف حجتي

فما عبدوا غيري وما كان قصدهم     سوايا ولم يعقدوا عقد أنيتي

وإن خرّ للأحجار في البيد عاكف      فلا تعد الإنكار بالعصبية

فما زاغت الأبصار في كل ملة       وما زاغت الأفكار في كل نحلة

ولا تحسبن الأمر عنى خارجا فما     شاد إلا داخل في عبوديتي

ولولاي لم يوجد وجود ولم يكن       شهود ولم تعهد عهود بذمة

ومن عالم التركيب في كل صورة     ظهرت بمعنى عنه بالحسن زينتي

ولا تكن ممن طيشته دروسه          بحيث استقلت عقله واستقرت

فثم وراء النقل علم يدق عن          مدارك غايات العلوم السليمة

تلقيته منى وعنى أخذته              ونفسي كانت من عطائي ممدتي

هذا القول يكفر قائله لكون ألفاظه ظاهرة الدلالة فيما يراد بها عند أهل الشريعة المطهرة شهير بينهم في ذلك، مع أن ظاهرها مصادم لظواهر الشريعة. وقد قال أهل الله  [3]كالجنيد وسرى السقطى وأبى سعيد الخراز وغيرهم ممن هو على طريقتهم نفعنا الله بهم : " كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل ،وكل حقيقة لا توافقها الشريعة فهي زندقة . " وقد صرح بكفر قائل هذا القول جماعة من الأئمة ، منهم حافظ عصره قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن على بن حجر ، ومحقق زمانه قاضي القضاة شمس الدين محمد بن على القاياتي، وشيخ أهل المحبة بدر الدين حسين بن عبد الرحمن بن الأهدل الشريف الصوفي الفقيه ، وشيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني ، والبرهان إبراهيم بن محمد السفقصي ،وشيخهما العلامة أبو حيان ، وأبو إمامة ابن النقاش ، والحافظ شمس الدين الموصلي . أو يقال أنه يؤول وإن خالف ذلك قول حجة الإسلام الغزالي : " إن ما كان من الكلام في مثل هذا ظاهرا في الكفر فقتل صاحبه به أفضل عند الله من إحياء عشرة . وما كان منه مشكلاً لم يفهم معناه لم يحل ذكره فضلاً عن تأويله " ، وكذا قول حافظ عصره الشيخ زين الدين العراقي وعلاء الدين القونوي ونور الدين البكري وشمس الدين الجزري : " إنه لا يؤول إلا كلام المعصوم لأنه لا يجوز عليه الخطأ وأما غيره فتجوز عليه المعصية خطأ وعمدا والكفر فلا يؤول من كلامه ما يخالف الشرع ولا كرامة"  . وهل يكون التأويل أن قلتم به جائزاًٍ أو واجباً ؟ فإن قلتم جائز فهل يلزم عنه أن يكون لنا قتل مباح أي مستوى الطرفين ؟ وإن قلتم أنه واجب فهل يلزم من إيجابه تضليل من حكم بإراقة دم الحلاج .. والباجريقي [4] وغيرهم من أهل الاتحاد، لأن ما وقعوا فيه لا يضيق عن تأويل ما   وإن قلتم أنه لا يقبل كل تأويله ، فاضبطوا ما يقبل منه وما لا يقبل بضابط منقول عن أهل النهى ، واذكروا سلفكم فيه ، فإنا مقلدون ، والاجتهاد قد انقطع ، فليس لنا أن نقول ما لا نسبق إليه عينه أو إلى مثله. وهل هذا الكلام ينطبق عليه قول العلماء : أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية ، كفر ظاهراً وباطناً،  فلم يدبروا الأمر في مسألة الكفر على غير اللغة التي تكلم بها القائل ولم يسألوا هل له اصطلاح أم لا . فتكون هذه المسألة غير ما نحن فيه من هذا الكلام الذي طال الخبط فيه على وضوحه . وهل قال أحد من أتباع الأئمة الأربعة الذين هم حملة الشريعة وعليهم مدار الدين أن من نطق بكلمة الردة لا نحكم بكفره حتى نسأل هل له اصطلاح في ذلك زايد على لغته أم لا ؟ وهل يحل لأحد أن يصطلح على كلمات الدين التي لا أشرف منها كالتوحيد فيضعها بإزاء معان أخرى غيرها أو على الكلمات التي معناها الكفر الذي هو أقبح الأشياء فيضعها لمعان غيره ثم يصير ينطق بتلك الألفاظ على ذلك الاصطلاح ؟ وإن ظهر لأهل الشرع أنها كفر بحسب لغتهم التي يتكلمون بها ويتعارفونها أو يقصد كلمات فيها كالإنسان والعالم بالفتح فيضعه لله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً حتى يصير يقول أنه سبحانه الإنسان الكبير وإنه العالم ؟ . وهل يحل لأحد أن يقول أن أكابر العلماء الماضين يحكمون على أحد بالكفر وهم يجدون له مخلصاً فيكونوا قد جازفوا في الدماء على ما هو معلوم من عظيم حقها ؟ أو تقول أنهم لا يعرفون اصطلاح المتخاطبين وفيهم أكابر الصوفية والأولياء كابن عبد السلام وابن دقيق العيد [5] والجعبري وغيرهم كالشيخ مدين الذي كان عين صوفية زماننا ، وقد صح فيه أنه قال : التائية هي الفصوص[6] فهل يكون كلامه هذا مقبولاً فيأتي فيها حينئذ كل ما قيل فيه ويذكر كل ما قال فيه وهم الجم الغفير الذي يتعذر حصرهم ؟ ، وفيهم أعيان كل عصر كان بعده ، ويأتي حينئذ قول العلامة شرف الدين إسماعيل بن المقري في مختصره للروضة : " إن من شك في كفر طايفة ابن عربي كفر"  . وهل يكون قول من يقول من هذه الطايفة المارقة: " التسليم أسلم "، ليلجئ المنكر للكفر على أن يسكت، فيكون ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس في قلبه من الإيمان مثقال حبة من خردل لازماً له حتى يلزمه السكوت عن هؤلاء العلماء الذين صرحوا بكفر هذا القايل الذي يتعصب له إن كان مسلماً ؟. وهل إذا نازع في قول له ولم يسلم له يكون صاحب هوى وحظ نفسي لكونه لم يأتمر بقوله فيعلم أنه ليس مراده إلا التسليم إن صرح العلماء بتكفيره ليسكت عنه فيظهر كفره ويتمكن في قلوب الضعفاء وهم الدهماء والجم الغفير فيعظم الخطب ويخرج الأمر عن الطوق فيعلم بهذا فساد طوية  هذا الأمر بالتسليم المخيل له ووجوب تطهير الأرض منه أم لا . على أن اصطلاح هذه الطايفة : (.....) [7]لمشكلة حتى يدعى فيه  ما يدعى أتباعهم الذين يتعصبون على دين الله ، الذي ضمن أن يظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ، لمن صرح العلماء بكفره ، وصح عنه النقل بضلاله لم يدعى أتباع هذا القايل ما لا يليق بعاقل أن يتفوه به ؟.  فإن تفوه به وقاحة واجترأ على أهل الدين لم يحل لأحد منهم أن يسمع له ولا أن يصغ لقوله أي إصغاء . وليس مع عدم أشكاله غريباً إلا من حيث اجتماعه , فإنه ملفق من قول النصارى وكفار الشيعة وأهل الإلحاد وعباد الأوثان والنار وغيرهم من الكفرة كفرعون وهو إمامهم الأعظم كما هو ظاهر من كلام الفصوص جدا لإخفاء به أصلاً فصار كفراً مجمعاً من كل كفر وقع في الأرض وزاد عليه ما شاء الله أن يزيد . كما قال قطب وقته الشيخ على بن أيوب رحمه الله وهو الأولى بالورع والأقرب إلى رضا الله ورسوله : المنع من النظر في التائية وكل ما نحا نحوها في ما يوهم اتحاداً أو حلولاً أو ترخيصاً في التمذهب ببعض أنواع الكفر والكلام فيمن قالها. وإن كان التصريح بكفره لأجل التنفير عنها والتخويف لمن قد أشرب قلبه حبها وحب قايلها ، لأنه إنما قال ما قال ومنع مما منع منه خوفاً من جعل  ذلك تطريقاً إلى الضلال ، كما قال بعض أكابر المحدثين ، وقد ليم في جرح من الظاهر فيهم الصلاح : لأن يكونا أخصامي أحب إلىّ من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أنه لا ينقض بالإعراض عن التائية وما شاكلها شيء من الدين ولا يترتب عليه شيء من المفاسد فقد كان الدين غنياً عنها قبل أن توجد ويوجد صاحبها ومن قال بقوله . أو يكون الأقرب إلى رضا الله ورسوله الذود عن هذا الكلام من التماسه وغيرها من يقل ما ( ...؟) [8] والانتصار لمن قال مع قول من قال أن العلما أنه كفر وضلال ، ويكون قوله لاغياً لا عبرة به ، ولا فائدة له أصلاً، ولا يورث شكّا في هذا الكلام إن لم يكن أورث اعتقاداً جازماً وحكماً ماضياً . وهل وجد قول كهذي لائمة معروفين في منصف معروف يخالف قول من تقدم الطعن عنه فيهم على تقدير وجوده ماذا يقدم الجرح أم التعديل ؟. وإن قلتم :" مخالفين لهؤلاء الأئمة ، الذين هم القدوة إلى الله تعالى ، ومع ما تقدم من تلك الاحتمالات، أنه ي وفرقتم بين هذا الكلام الذي اشتملت عليه هذه الأبيات وبين المسألة المذكورة التي جزموا فيها بالكفر ظاهرا وباطناً،  فأنكروا تأويله بأمر يتمشى على قواعد العربية ويطابق السنة النبوية، أجيبوا عن كل سؤال ذكر في هذا الاستفتاء ،لا تسقطوا منه شيئاً وصرحوا بالأمور وبينوها بياناً شافياً . من كان عنده علم فليقل به ولا يمجمج فيحيد يميناً وشمالاً , ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم) –

( ثم أرسلتها إلى البرهان ابن الديري لأني كنت خائفاً من أن لا يثبت معي , فرجوت أن يكتب فلا يقدر بعد هذا على الرجوع ، فأخذها بالقبول ، ووعد بالكتابة ، ثم تأملها، فإذا هي تحتاج إلى أمر كبير فطلب الفتوحات لابن عربي وغيره من كتبهم لينظره ، وصار يتطلب مثل ذلك ، ليصير له إلمام بأمرهم فعلم الفارضيون ذلك ، فقصده أحدهم وقال له : " كاتب السر يسلم عليك ويسألك أن ترسل إليه السؤال الذي أرسله إليك البقاعي . " فكاد أن يفعل، فكان عنده الذي أرسلت السؤال معه . فقال له : " هذه الورقة ملكي لا يجوز له أن يدفعها إليك بغير إذني وأنا لا أذن له."  فحينئذ تشدّد ، وامتنع من إعطائه إياها ، بعد أن كاد أن يعطيه ، فاستأذن فأذن . فكتب ، ثم أوقفه عليه ، فأرسلت إليه : " أن الأمر ينفصل بالكتابة على هذا السؤال فاكتبوا عليه وإلا فقد عجزتم عنه . " فلم يكتب أحد منهم عليه ، ولا ادعى أنه يقدر على الكتابة ، فعلم من ترك الكتابة على شدة الخصومة والمشاورة والانتقال إلى الفحش أن يغلبوا بالباطل ، لأنهم يعلمون أن العامة معهم وكثير من الجند ، من يحسن له أتباعه زيارة الأموات ويوقع في قلبه أن بيدهم الإسعاد والأشقاء ، فشرعوا يشنعون علىّ وعلى من أيد مقالتي ، وانبثوا في البلد ، وهم كثير ، ومعهم الجاه، وهم أهل مكر وكذب ، لا يتوقفون في شيء يقولون ما لا يقبله عقله ولا الذي(.....؟)  [9]وأصحابي قليل ولا جاه لهم ، وهم مقيدون بقيد الشرع ، لا يقولون إلا ما له حقيقة سواء كان بعجب المخاطب أو يكره ، فكثر الشغب في ذلك وانتشر القال والقيل ، وعظم الشر . وجاء عبد الرحيم من رزقته التي كان ذهب إلى قسمتها ، فوجد الأمور على أشد ما هي ، والناس قد أطبقوا معهم ، وقد صاروا يؤذون من يعلمونه من أهل الحق أنصار الله ورسوله في الطرقات ، فاتفق من جماعة أنهم يذهبون إلى المؤيدية[10] بمربعات وأعلام يعقدون مجلس ذكر ، ويدعون من يذكر للناس أن هذا غيرة على مقام ابن الفارض ، فإذا اجتمع عليهم الناس أتوا في الشارع الأعظم على حالهم ذلك، ووقفوا عند بيتي ، يذكرون ويستغيثون ليقتلني العوام ، وينهبوا بيتي ، ثم يذهبون إلى بيت ابن الشحنة كذلك لذلك ، ثم تأملوا في عاقبة الأمر فأضعفهم الله وأوهنهم ، فكفوا . ثم رأوا أن يستكتبوا بقية الناس فألح عليهم كاتب السر فكتبوا ، وأشاع أتباعهم أنى ذكرت القضية في معادى ( المعاد أو الميعاد يعنى الندوة )، وكفّرت المساعد لهم والساكت عنهم . وكان الشيخ زين الدين الإقصرائي ،فاستشاط غضباً ،وكتب لهم بما أرادوا . وكتب ابن السراج الهندي من علماء الحنفية عذر ابن أبي حجة لأجل كلامه في ابن الفارض يعديهم بذلك علىّ ،  ثم قدر الله أنى قصدته في ذلك الوقت الذي أثبتوا فيه أنى كفرته ولا أشعر فلما دخلت لاقاني وجه عبوس وشرع يصيح : " أنت تكفر الناس فأظن أنه يعنى ابن ـ الفارض فأقول : "هذه أقوال العلما اريكها بذلك " فيقول : " لا ".  قلت : "هذا أبو حيان " قال : "السراج الهندي أعلم منه ". قلت : " هذا البلقيني وابن حجر" فقال : " حاشا لله ما قال شيئاً اعتماداً على مثل ما تقدم نقله عن البكري " . فلم أجد مستساغاً لكلامه فرجعت ثم سألت بعض أصحابي لتذهب معي إلى الدويدار الكبير لأريه بعض ما أعلمه من كفر تائيتهم الصريحة ( لأن ذلك الصاحب له أن ؟ ) [11]وصله فمنعه أصحابه أن يذهب معي وقالوا إن أهل جامع الأزهر[12]هددونا بأنهم يحرقون بيتنا فقصدته بلا واسطة فلم يقدر الاجتماع به وجدته مغلقاً عليه بابه ، وعنده بعض الأمراء ، وكان قصدي له بعد أن بلغني ، أن بعض من يسّره الله للخير، قد اجتمع به ، وأخبره ما نحن فيه هو الحق وحدثه بأقوال أهل الوحدة فقال له : "لعلهم مثل النسيمية [13] فقال نعم فقال : "إن النسيمية يتكلمون بأشياء صعبة ."وكذا قال ذلك الرجل للسلطان ، فشد بذلك قلوبنا بعض الشد ، وقصدت الدويدار الثانى تنبك قرا فلم يقدر به اجتماع، فرجعت إلى بيتي ، وأنا في غاية الكسر ، وكان ذلك يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة من هذا للعام.  وكان الأمر يتزايد كل يوم ، بل كل لحظة بما يظهره كاتب السر من الفتاوى في القلعة ، ويكرره من الكلام في ذلك ، فصار البلد كله شعلة نار ؛ القلعة وما دونها . وأرسل السلطان إلى قاضي الحنفية ابن الشحنة يعقوب شاه المهمندار وكان مغرضاً معهم فإنه كان صديق الخطيب أبى الفضل النويري خطيب مكة وكان منه أو أنه لإرادته الدنيا ( .....؟) [14]

( صاحوا، وأجلبوا إظهار أنهم قد ظفروا بي ، فيرسل كاتب السر إلىّ من يخيفني ، وأنا في غضون ذلك اسأل الله ينزل علىّ السكينة ويلزمني كلمة التقوى ، فألقى الله سبحانه في قلبي من الثبات ما لا يحصر.  فآخر ذلك أنه أرسل إلى الناصري محمد بن جمال الدين والشهامي أحمد بن السخاوي وأبوه ناظر القدس وهما من أصدقائي ، فقالا كلاماً كثيراً منه : "إنّا رأينا ما لم ترى وسمعنا ما لم تسمع والأمر عظيم، ونحن نشير عليك أن ترجع عما أنت فيه ، وقد فعلت أكثر مما يجب عليك ، والقاضي يريد أن ينصحك ويقول: إن الناس كلهم عليك ، السلطان فمن دونه، وأصحابك كلهم صاروا عليك."  فقلت : " إني والله قد وضعت بين عيني القتل بالسيف والضرب إلى أن أموت منه فرأيته أهون عندي من أن يُجهر بالكفر في بلد أنا فيه ، ويقال أن الصلاة حجاب والصوم حجاب والقرآن باطل أو شرك ، ويُراد خلع الشريعة المحمدية ، ويظهر دين الكفر على دين محمد صلى الله عليه وسلم ، فإما أن يعينني الذين يريدون سكوتي بمال أقدر به على الانتقال من هذا البلد فإنه والله لو كان معي مال ما أتجهز به هاجرت منها ، وإما أن يختاروا منى واحدة من ثلاث بحضرة السلطان والقضاة الأربعة وساير العلماء وهى : المجادلة ثم المباهلة ثم المقاتلة ، فيعطيني السلطان سيفاً وترساً ويعطى أشبّهم سيفاً وترساً ويخلى بيننا قُدّامه  في ميدان القلعة ، وينظر ما يكون منى على شيخوختي ، فإن قُتلتُ كنت شهيداً ، وإن قتلتُ خصمي عجلت من أقتله في النار. والأمر كما قال الله تعالى : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ."  ثم قلت لهم : " إني أطلب منكما أن تسمعا لي من هذا المذهب الخبيث"  فقالا :" إنهم يؤلون ما في التائية ويتناشدونه بحضرة كاتب السر ويطيبون لما ينشدونه منها" . فقلت : " أسمعا " . وقرأت لهما من كلام ابن عربي فصلاً ، فكان ابن جمال الدين يذكر بعض ما سمع من تأويلاتهم فأرخى له ، وأقول له : " إسمع " ، فلما تكرر على سمعه كفره قال بحدة مفرطة : " لعن الله من يقول هذا أو يستجيز سماعه " . وتفرقا وهما يكادان أن يتزايلا غضباً ، فحلفت أنه " لا بد أن يجلس حتى يسمع تطبيق الناس عليه " ، فرجع بعد جهد وأسمعته ذلك ، فعلم أن كلام الناس هو الذي قال ابن عربي. فقال إنهم سألوا كاتب السر أن يكتب لهم من كتب،  فقال : " لا أكتب حتى اسمع مستند البقاعي بما يقول " فقلت: " إن ذلك لا يكون إلا في خلوة كما قرروا له ما عندهم في خلوة، فمتى رأى بنفسه فارغاً فليرسل ويختلي معي لأقرر له ما ينفعه إن شاء الله." فكأنهم سعوا في عدم إرساله إلىّ ، فإنهم يعلمون أن ما أقوله لا يسمعه مسلم إلا نفر منهم أشد النفرة . ولما عملت الميعاد في جامع الظاهري الحسينية يوم الجمعة حادي عشر شوال وكان في قوله تعالى في سورة التغابن : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا إلى قوله تعالى وعلى الله فليتوكل المؤمنون . قررت لهم أمر البعث وأمر التوحيد وقلت : إن فرعون ادعى أنه الرب الأعلى فعليه لعنة الله، وثمّ طائفة تنصر مذهبه ويدعون أنهم يصلون الى الله من طريق غير طريق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كذبوا وكفروا ، وهم أذل وأقل عدداً "، ووصلت هذا بما يلائمه من إحاطة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومن وعد الله له بإظهار دينه على الدين كله ، إلى غير ذلك من المرققات ، إلى أن ضجّ الحاضرون ، ودعوا على من يتمذهب بذلك المذهب الأخبث ، ودعوا لي بالنصرة ونحو هذا. وكان مجلساً حسناً . ثم اطلعت على أن الله تعالى أيدني عليهم حال استفتائهم بأمور ، منها أنهم استفتوا قاضي الحنابلة العز بن نصر الله  الكناني فكتب لهم بتكفير ابن الفارض وكل من تمذهب بمذهبه، واحتج بذلك ، وذكر من قال به من العلماء ، وأطال في ذلك . وأن البرهان ابن العبري قال لعبد الرحيم : " والله إني لأخاف على رقبتك أن تضرب فاستمع منى فإني ناصحك ولا تغتر بمن يغرك" ،  وكذا قال لهم البرهان اللقاني،  ثم عدوا ( ....؟)[15]من معي ستة قاضى الحنفية المحب ابن الشحنة، وولده السري عبد البر ، والكمال ابن إمام الكاملية، وقاضي الحنابلة المشار إليه ، والبرهان الديري والبرهان اللقاني  . ولما رأى الناس تطاول القضية وهم دابرون ولا يظهر لهم أثر ، مع أنى جالس في مسجدي على حال لم أُمانع بأحد ، علموا أنه لا حول في أيديهم ولا قوة لهم، فأطلق الله ألسنتهم بالثناء علىّ وبان الحق ( ......؟)[16]

( عقدوا المشورة في أمري عدة مرات، يدبرون الرأى فيمن ينتدب لي في المناظرة ، وقت عقد المجلس ، وكلما أعدوا واحداً قالوا : "هذا فقيه فج يفوقه الفقاعي بالمعقولات " ، وإن ذكروا أحداً جمع النقل والعقل قالوا : " يفوقه بالتبحر في السُّنة"  وإن رأوا آخرظنوه جامعاً لذلك قالوا : " يفوقه بالتفوق وقوة المعارضة والصلابة".  فكان من أعظم المؤيدات ، وازدادت قوتي وضعفت قواتهم ، فسافر عبد الرحيم إلى رزقه له في الريف ، وخف الهرج والمرج في ذلك).

(  ..... واستهل عام خمس وسبعين وثمانمائة بالسبت بالرؤية ، وكان قد بلغنا أن السلطان يعقد المجلس بسبب ابن الفارض في أول الشهر ، وأن كاتب السر سأله في تركه ، اكتفى بما أحضر إليه من الفتاوى ، وأخبره أنه لم يبق من شيوخ البلد أحد إلا كتب بولايته إلا من شذ فلا عبرة بهم ولا يلتفت إلى قولهم . وقال بعض الناس للسلطان : " هؤلاء الذين كتبوا أكثرهم كتب للغرض، فبعضهم يبغض من ضلله، وبعضهم خوفاً ووجلاً في كاتب السر وهيبة له ، فإنه كان إذا امتنع أحد من الكتابة قال له رسوله إن لم تكتب جاء القاضي إليك ولا يفارقك حتى تكتب ، وبعضهم يوهمه أنه يوليه القضاء ، إلى غير ذلك في التعليلات. فحمل ذلك السلطان على التصميم على عقد المجلس ، فلما أيس من تركه سعى في تأخيره إلى بعد العشر. وطلع القضاة بكرة يوم السبت هذا لتهنئة السلطان بالعام ، وحسبت أن لن يقع في المسألة كلام فيحتاج إلى حضوري فطلعت على القلعة وأقمت في الجامع ( هامش: وحملت ) ( .......؟) من جماعتي كتباً تحتاج إلى النقل منها في أشياء من (......؟) لا بد منها وكان كاتب السر قد اجتهد في نصب أسباب الأذى ، فهال ذلك كل من سمعه (...؟) وقالوا كلهم : " لا تطلع ولا تتلقى الركبان واقنع بالعافية فإنما المراد غيرك".  يعنون ابن الشحنة لتصويب كاتب السر إليه سهامه ، فقلت " أخشى أن أتخلف فيؤخذ كل واحد على انفراد ، ونحن أنصار السنة فلا يتوجه علينا لأحد مقال بحق أصلا ولا بشبهة مقبولة، فإنا ما كفرنا ابن الفارض إلا بما أقلُّه أنا متأولون وتابعون لمن سبقنا من سلف الأمة . وإن وقع ظلم صرف فلسنا أول من أوذي في الله . " فكان أول ما سمعنا في الباب الذي نجلس فيه مقدم المماليك وكان من أشد القايمين علينا قراءة قوله تعالى العزيز الحكيم من قرأ يقرأون عند القوم :( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ) إلى آخر السورة، وأعلنت بعض القضاة ، فلم يقع في ذلك كلام جعل الله العاقبة إلى خير، فاستصوب أكثر الناس ذلك منى ، ونطقت ألسنتهم بأني محق وإلا ذلك ما ( ....؟)

( وأنا وحدي وهم أهل البلد كلهم وطار في البلد خبر الكتب التي كانت معي، وزدوا في ذلك ونطقت ألسنة الخاص منهم والعام ألا ذووا الأغراض الفاسدة ( هامش : خاصمته ووصلت معه إلى أشد ما يكون فرجع إلى وقال الصواب ما تقول ونحو هذا من الأكاذيب التي لا تروج إلا على أحمق والله الموفق ) أنه لو كان مع أخصامي حق ما ( زوروا ) وانقطع عنا كلام كثير بسبب بعض ذلك.  وقال الأخصام لكاتب السر : " طلعوه على هذا الحال " معناه أنكم ومن يساعدكم عندي أقل القليل. وهذا ازدراء عظيم لا يحتمله . قال : " فما أصنع فيه ؟  أنا لا أقدر أرد أحداً عن اعتقاده " . فعلم الآن لا شيء في يده ....أهـ

                        التعليق

1ـ ذكرنا أن ( كائنة البقاعي وابن الفارض ) حادثة مشهورة أحدثت هزة في الحقبة الراكدة . أواخر العصر المملوكي ، وأنه وقد تعرض المؤرخون المعاصرون لها ، وحملوا جميعاً على البقاعي ، وأنكروا عليه تطاوله على ابن الفارض ، مع أن البقاعي هاجم مع ابن الفارض ابن عربي والاتحاديين جميعاً ويرجع ذلك إلى مصرية ابن الفارض ووجود أتباع له كثيرين في العصر المملوكي .

2ـ ومع هجوم المؤرخين على البقاعي وحركته إلا أنهم أنصفوه في شخصه ولم يعدوا عليه سيئة إلا تكفيره لابن الفارض وحملته عليه .. وفى نفس الوقت الذي أرخوا فيه لحركة البقاعي صورة مضطربة يعوزها التناسق ويظهر فيها تعمد لإخفاء الحقائق لذا كان سماع رأى البقاعي – بطل هذه الموقعة – خير معين على فهم هذه الحادثة , خاصة وأن البقاعي أوردها في تاريخه بصورة واقعية سلسةمنطقية موضوعية .

 3- و (تاريخ البقاعي ) ، مخطوط مجلد رقم 5631 تاريخ  فى دار الكتب المصرية . عثرت عليه عام 1975 حين كنت أقوم بإعداد رسالة التصوف عن ( أثر التصوف فى مصر العصر المملوكى ) . أثناء مراجعة المصادر التاريخية المطبوعة التى تؤرخ للقرن التاسع الهجرى ( تاريخ الهصر لابن الصيرفى ) و ( تاريخ ابن اياس : بدائع الزهور ) وتاريخ أبى المحاسن ( النجوم الزاهرة ) وتاريخ السخاوى ، وجدت ما أسموه ب ( كائنة البقاعى وابن الفارض ) ، ورووها من واقع المعاصرة ولكن مع تحيز واضح ضد البقاعى . بحثت عن هذا البقاعى المجهول فعثرت له على كتاب رائع ( مخطوط ) فى علم التفسير بالمناسبة ، ثم كانت المفاجأة أن عثرت على تاريخ كتبه البقاعى بنفسه وبخطّه ، يؤرخ فيه للواقعة ( كائنة البقاعى وابن الفارض )  . النسخة المخطوطة كانت مسودّة بخط البقاعى ، وهي كثيرة الحواشي والتنقيح والزيادة ، وخطها رديء ، ويبدو أنها كانت تُكتب على فترات ، ويبدو واضحا تعرضها لطمس بعض كلماتها عن عمد ،  وساعد في قراءة الخط فيه  ما ورد من مواضع متشابهه في كتابي البقاعي  : تنبيه الغبي ، تحذير العباد وهما محققان ، هذا بالإضافة إلى عدم ترتيب  سنوات الأحداث فيه. 

وقد اعتمد المؤرخ السخاوي في تاريخه الموسوعى ( الضوء اللامع ) على تاريخ البقاعي  في مواضع كثيرة  جداً. ولم ينج ذلك المخطوط من عبث أعداء البقاعي – بعد موته – فامتدت أيديهم إلى هذه المسودة بالمحو والشطب لبعض الأعلام الذين أدانهم البقاعي في كتاباته حتى أنني جهدت حتى أعرف اسم ( عبد الرحيم ) خصم البقاعي نظراً لمحو الاسم مع كثرة تكراره .. ومع ذلك فإن ( تاريخ البقاعي ) جوهرة علمية ثمينة يشرفني أن أكون أول من إكتشفها وإعتمد عليها ونوّه بشأنها , ومدى علمي أن ( تاريخ البقاعي ) لم يرد في أي دراسة عن العصر المملوكي مع كثرة الإشارة إليه في المصادر المملوكية في القرن التاسع ...

4ـ ويبدو الترتيب المنطقي الواقعي في رواية البقاعي لحركته ضد ابن الفارض ( رسالته في تكفير ابن الفارض ، دسائس الصوفية معه في إثارة الفقهاء والمحايدين ..الخ . حتى تم له النصر ) ..

5 ـ وجدير بالذكر أن المراجع الأخرى أغفلت التفصيل المطلوب للنهاية وأعتقد أن تلك النهاية مبتورة من كتاب البقاعي أيضاً ، حتى تشتتت الأحداث في الكتاب وترك النهاية دون تفصيل متوقع من صاحبها في كتابه مما يدل على وجود محاولة لطمس الحقائق , وخاصة وأن من يقرأ حديث البقاعي عن المجلس السلطاني يفاجأ بعد ذلك بتأريخه العادي للسنوات دون صلة أو روابط ...

6ـ ورسالة البقاعي في تكفير ابن الفارض جرت على طريقة الفقهاء في طرح القضايا والرد عليها وتفنيد حجج الخصم . ويلاحظ أنه أورد آراء المكفرين للاتحاديين حتى من معتدلي الصوفية والفقهاء . ورواية البقاعي تمتاز بصدقها الواقعي في تصوير أنماط بشرية من العصر المملوكي نكاد نحسها في حياتنا فهو يرسم – دون قصد وإنما بصدق – طبيعة الصوفية إذا تسيدوا عصراً وكيف يواجهون خصماً منكراً عليهم .. كما صور البقاعي أنماطا مختلفة من فقهاء عصره، كان منهم المؤيد بعد فترة مثل ابن الشحنة والمخدوع مثل الإقصرائي والمتآمر مثل كاتب السر .

وصدق البقاعي مكنه من رسم لوحة رائعة – دون قصد منه – لنفسية العامة في كل عصر . فبدأت العامة حرباً على البقاعي ، ثم بمرور الوقت هدأت وتبينت صحة موقفه فأيدته أخيراً .

في الحالة الأولى نراجع قول البقاعي عن الصوفية ( لأنهم يعلمون أن العامة معهم .. والناس قد طبقوا معهم وقد صاروا يؤذون من يعلمونه من أهل الحق .. في الطرقات ) . ثم يقول عنهم ( إلى أن ضج الحاضرون ودعوا على من يتمذهب بذلك المذهب الأخبث ودعوا لي بالنصرة ) وفى النهاية يقول ( فاستصوب أكثر الناس ذلك منى ونطقت ألسنتهم بأني محق ... ) .

وليس غريباً أن نلمح الترابط بين العامة والصوفية ، ففي الحالة الأولى فكر عبد الرحيم في استخدام مظاهرة من العامة لإحراق بيت البقاعي .. وحين بدأ الانفضاض عنه نصحه البعض بالابتعاد حتى لا تضرب عنقه .. وفى النهاية انسحب كاتب السر ( قال فما أصنع فيه أنا لا أقدر أن أرد أحدا عن اعتقاده ... ) .

 



[1]
زعيم أتباع ابن الفارض في أيام البقاعي

[2]رويت هذه الأخبار بصورة أخرى في تحذير العباد ص 71

[3]أي أنه ينكر على الصوفية لا على التصوف

[4]صوفي متطرف في العصر المملوكي

[5] أعتبرهم صوفية متابعة لعصره مع أنهم فقهاء سلموا بالتصوف

[6]يعنى أن تائية ابن الفارض تقول مقالة ابن العربي في فصوص الحكم

[7] كلام مشطوب في المخطوطة

[8] كلام مشطوب في المخطوطة

[9]مشطوب في المخطوط

[10] الخانقاة المؤيدية

[11] هكذا في الأصل

[12]أي كان الأزهر وقتها تحت تأثير التصوف

[13]فرقة صوفية ملحدة

[14]هكذا في الأصل

[15]مشطوب في الأصل

[16]مشطوب في الأصل

اجمالي القراءات 3888