من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )
البقاعي ( ت885) وتكفير ابن عربي وابن الفارض

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٤ - نوفمبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

                   البقاعي ( ت885) وتكفير ابن عربي وابن الفارض

من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )

 

البقاعي إبراهيم بن عمر ت 885.  تلميذ متأخر لابن تيمية , إذ ظهر في أواخر القرن التاسع , وجهده ضد الصوفية ينحصر في ميدانين :

الأول : الكتابة :

1 ـ وقد هاجم أعلام الصوفية الذين أعلنوا عقيدة الاتحاد ووحدة الوجود ، وأبرزهم ابن عربي ت 638 هجرية , وابن الفارض المتوفى 632 .

وقد عبر ابن عربي عن وحدة الوجود في كتابه ( فصوص الحكم ) وهى تعنى أن الوجود جزء لا يتجزأ من الله وأنه لا فارق بين الله والمخلوقات , يقول ابن عربى عن الله تعالى ( إن شئت قلت هو الحق ، وإن شئت قلت هو الخلق ،وإن شئت قلت لا حق ولا خلق ، وإن شئت بالتخيير في ذلك ) ويقول ( فهو الشاهد من الشاهد وهو المشهود من المشهود فالعالم صورته وهو روح العالم المدبر له)[1]وبذلك يهدم الأديان والشرائع وينكر الألوهية .

2 ـ أما عمر بن الفارض فقد عبر عن هذه العقيدة شعرا خصوصا في تائيته المشهورة المسماة ب ( نظم السلوك).  

يقول فيها معتبراً ذاته  وقد حل فيه الله – تعالى عن ذلك – فأصبح بوحدة الوجود مركزاً لله والعالم :
وكل الجهات الست نحوى توجهت       بما تم من نسك وحج وعمرة

 لها صلواتي بالمـقام أقيمـها             وأشـهد فيها أنهـا لي حـلت

كلانا مصل واحـد سـاجد إلى         حقيقة بالجمع في كـل سجـدة

وما كان لـي صلى سواي ولم         تكن صلاتي لغيري في أدى كل ركعة

ويرى أن الذات الإلهية تحل في النساء العاشقات المشهورات مثل ليلى صاحبة قيس ولبنى وعزة , وحواء لآدم.  يقول :

بها قيس لبنى هام بل كـل عاشق       كمجنون ليلى أو كثير عزة

فكل صبا منهم إلى وصف لبسها        بصورة حسن لاح في حسن صورة

ومـا ذاك إلا أن بـدت بمظاهر        فظنوا سواها وهى فيها تجلت

ففي النشأة الأولى تـراءت لآدم         بمظهر حوا قبل حكم الأمومة

وتظهر للعشاق في كل مظهر          من اللبس في أشكال حسن بديعة

ففي مـرة لبنى وأخرى بثينة               وآونة تـدعى بـعزة عـزت

ويقول عن نفسه :

ولا فـلك إلا ومـن نـور  باطني به        ملك يهدى الهدى بمشيئتي

ولا قطر إلا حل فيه من فيض ظاهري  به قطرة عنها السحائب سحت

ومـن مطلعي النور البسيط كلمعة      ومن مشرعي البحر المحيط كقطرة

ومن كان فوق التحت والفوق تحته     إلى وجهي الهادي عنت كل وجهة  [2]

وقد تأثر به الدسوقي في تائيته التي أوردها في الجوهرة , وقد عرضنا له في فصل المناقب .

3 ـ وبعد قرنين ونصف قرن هب البقاعي يندد بابن عربي وابن الفارض وأتباعهما في العصر المملوكي ، فكتب في الرد عليهما كتابين هما ( تنبيه الغبي في تكفير ابن عربي ) و ( تحذير العباد من أهل العناد) وقد نشرها الشيخ عبد الرحمن الوكيل في كتاب واحد بعنوان ( مصرع التصوف ) .

4 ـ وقد نهج البقاعي في كتابيه منهجاً حسناً إذ اكتفى بإيراد نصوص كاملة من أقاويل ابن عربي وأشعار ابن الفارض – وهى نصوص واضحة الكفر، ثم يأتي بأقوال من كفّرهم من معتدلي الصوفية والفقهاء . ولم يحاول الاستشهاد بابن تيمية لأن خصومته للصوفية معروفة , وهو بذلك يضمن أن يقتنع القارئ بكلامه ؛ فالنصوص مسندة مثبتة مأخوذة من كتاب ( فصوص الحكم ) لابن عربي وهو موجود في العصر المملوكي ومتداول بل وهناك شروح له شهيرة , والأشعار مشهور نسبتها لابن الفارض وديوانه محفوظ ، وقد علق عليه الكثيرون ، ثم أن الشهادة بتكفيرهما جاءت من أعلام صوفية وفقهاء عرفوا بالتسليم للتصوف والدفاع عنه .

الثاني :

1 ـ ولم يكتف البقاعي بالكتابة وإنما قام بالدعوة الايجابية بنفسه في عصر تحكم فيه التصوف وتسيد أصحابه وكان لابن الفارض طريقة صوفية باسم ( الفارضية ) تُرتّل تائيته في أورادها ، ودار صراع بين البقاعي والصوفية خصوصاً الفارضية، وأحدثت حركة ابن البقاعي ما عرف في المصادر التاريخية المعاصرة له باسم ( كائنة البقاعي وابن الفارض ).

2 ـ وقد روت المصادر[3]التاريخية هذا الحادث بطريقة يظهر فيها التحامل على البقاعي لأنه جرؤ على تكفير ابن الفارض وهو صوفي مقدس له أتباع وعدة أضرحة ،  وتناثرت رواياتهم عن الموضوع بصورة يعوزها التناسق والمنطقية ومبتورة النهاية . إلا أن البقاعي في تاريخه ( تاريخ البقاعي ) عرض للحادثة بكيفية أقرب للصدق والترتيب المنطقي للأحداث ، واتفق في بعضها مع ما أورده المؤرخون أعداؤه .

3 ـ ونرتب الأحداث على النحو التالي :

أ- بعث البقاعي بخطاب مطول يثبت فيه كفر ابن الفارض بالأدلة والحجج ، وأرسله لابن الديري يطلب رأيه حتى يلزمه بالوقوف معه إلى جانب الحق .

ب – لجأ الصوفية إلى المكر ؛ حاولوا الحصول على كتاب البقاعي من إبن الديري – بحجة أن كاتب السر يطلبه وفشلوا . ولكن البقاعي من ناحيته طلب منهم – وقد اطلعوا على ما في كتابه – أن يردوا عليه .

ج – عجزوا عن الرد بالحجة فلجأوا إلى أساليبهم التي تفوقوا فيها – والتي يتحرج منها البقاعي وأصحابه من الفقهاء – فنشروا الإشاعات وأثاروا الجماهير وأصحاب الجاه حتى صاروا يؤذون البقاعي وأتباعه في الطرقات .

د – أقترح زعيم الصوفية الفارضية عبد الرحيم أن يُعقد مجلس ذكر، تسبقه مظاهرة صوفية لإثارة الجماهير ،ويمرون على بيت البقاعي لتنهبه الغوغاء. وسقط الاقتراح خشية أن تتطور الأمور لغير صالحهم . ولجأوا إلى طريقة أخرى ؛ استكتبوا أعوانهم، وأذاعوا أن البقاعي قد كفّر المساعد لهم والساكت عنهم ، ليثيروا المحايدين عليه . ونجحوا في إثارة زين الدين الإقصرائي على البقاعي وحدثت بينهما مشادة كلامية .

هـ – ضاقت الحال بالبقاعي فحاول الاتصال بالدويدار الكبير ليشرح له حقيقة الحال ، إلا أن بعض أهل الخير اجتمع بالدويدار وأفهمه حقيقة الاتحادية ، فخفف ذلك عن البقاعي بعض الشيء، إلا أن نفوذهم مع ذلك كان غالباً ، وتزايد الموقف لصالحهم وكاتب السر ( سكرتير السلطان قايتباى ) يخيفه، إلا أنه ظل على مسلكه ، فأرسل ابن مزهر الأنصارى كاتب السّر للبقاعي بعض أصدقائه يشير عليه بالرجوع عن رأيه لأن السلطان فمن دونه كلهم ضده ، ورفض البقاعي التراجع ، وعرض من جانبه أن يقبلوا منه أحد حلول ثلاثة : المجادلة أو المباهلة أو المقاتلة بالسيف في حضرة السلطان والعلماء . وقرأ على الرسولين بعض كتابات ابن عربي فاستمالهما إلى جانبه .

و – سأل الصوفية كاتب السر أن يكتب لهم ضد البقاعي فرفض إلا بعد أن يسمع أدلة البقاعي ، فاشترط البقاعي أن يكون ذلك بخلوة ، فسعوا في عدم اجتماعهما خوفاً من أن يستميله البقاعي للحق .

ز – عمل البقاعي ميعاده في الجامع الظاهري واستمال الحاضرين فضجوا بالدعاء على أعدائه ، وابتدأ الميزان يتحول لصالحه ، فقد حاول الصوفية استكتاب قاضى الحنابلة معهم ، ولكنه أفتى بتكفير ابن الفارض وتابعه في ذلك آخرون . ولما رأت الجماهير أن أمر الصوفية ابتدأ في التراجع وأن البقاعي لا يزال يقرر رأيه، وأنهم عجزوا عن مقابلة حجته خف الهرج.  وقد اعترف ابن الصيرفي أن جماعة من الفارضيين حضروا ميعاد البقاعي وأساءوا إليه فشكاهم للحاجب فطلبهم / وجنّد البقاعي من أتباعه فرقة[4] للدفاع .

ح – واستهلت سنة 875 وحاول السلطان قايتباى عقد مجلس بسبب ابن الفارض ، وسأله كاتب السر في ترك ذلك، وبذل همته لدى العلماء ، وسعى لتأخير عقد المجلس ، مع أن السلطان صمم على عقده وانتهى المجلس على لا شيء. واقتنع البعض بأن البقاعي على حق .

ويقول ابن الصيرفي عن ذلك المجلس أن الخصوم منعوا البقاعي من حضور المجلس وأنه ادعى على بعضهم أنه حاول قتله . قال ابن الصيرفى فى تاريخه ( إنباء الهصر ) عن البقاعى  : ( .. وحصل له بهدلة ما توصف ، وانفصلوا على غير طائل ، ولم يحصل للبقاعي مقصوده ، فإنه مخذول ، سيما أنه يتعرض لجناب سيدي العارف بالله[5] عمر بن الفارض .!) .

ويقول ابن إياس فى تاريخه ( بدائع الزهور ) عن ( كائنة البقاعى وإبن الفارض ): ( كثر القيل والقال بين العلماء بالقاهرة في أمر عمر بن الفارض ، وقد تعصب عليه جماعة من العلماء بسبب أبيات قالها في قصيدته التائية .. وصرحوا بفسقه بل وتكفيره ونسبوه إلى من يقول بالحلول والاتحاد. وكان رأس  المتعصبين عليه  برهان الدين البقاعي ،وقاضي القضاة ابن الشحنة وولده عبد البر ،ونور الدين المحلى ،وقاضي القضاة عز الدين المحلي ، وتبعهم جماعة كثيرة من العلماء يقولون بفسقه ) أي أن البقاعي إستطاع أن يضم له هذا الرعيل من الفقهاء .

خ – موقف شيخ الاسلام وقتها ( زكريا الأنصارى )

إلا إن البقاعى أخفق في أن يضم له شيخ الإسلام – في عهده – زكريا الأنصاري الذي مثل ذروة النفوذ الصوفي على عقلية الفقهاء في أواخر القرن التاسع الهجري . وقد قام زكريا الأنصاري بدور هام في وأد حركة البقاعي وتفريق من اتبعه . يقول ابن إياس : ( ثم أن بعض الأمراء تعصب لابن الفارض .. فكتب سؤالا وجهه للشيخ زكريا الأنصاري في من زعم فساد عقيدة ابن الفارض ، فامتنع الشيخ زكريا عن الكتابة غاية الامتناع ، فألحّ عليه أياما ، حتى كتب بأنه : " يُحمل كلام هذا العارف على اصطلاح أهل طريقته ، وأن ما قاله صدر عنه حين استغراقه وغيبته." فسكن الاضطراب الذي كان بين الناس بسبب ابن الفارض، وعُزل ابن الشحنة عن قضاء الحنفية ، وتعرض البقاعي لمحاولة[6] قتل أخرى .

 ثم لجأ زكريا الأنصارى ( شيخ الاسلام ) للمنامات الصوفية ليحسن صورة ابن الفارض بعد الذي أثاره البقاعي عنه . يقول ابن الصيرفي المؤرخ المعبّر عن خصوم البقاعي : ( وقع لي من وجه صحيح أخبرني به الشيخ العلامة الرباني شيخ الإسلام زكريا الشافعي أبقاه الله تعالى ، أن الجناب العلائي على بن خاص بك ، أنه ركب إلى جهة القرافة، ورأى أمامه شخصاً عليه سمة وهيئة جميلة فصار يحبس لجام الفرس .. إذ وافى الرجل رجل عظيم الهيئة جداً ، فتحادثا وانصرف الرجل المذكور..فسأله سيدي على من هو هذا الرجل ؟ فقال له : " أنت ما تعرفه ؟ ثلاث مرات وهو يقول لا . فقال : " هذا عمر بن الفارض في كل يوم يصعد من هذا المكان وهو يسعى في أن الله يكفيه فيمن تكلم[7] فيه )..

ولم يكن زكريا رأساً للصوفية في تلك الكائنة ، وإنما كان لهم تابعاً . وقد سبق رفضه في الكتابة في القضية رغم إلحاح الأمير . يقول الشعراني في ذلك :( وامتنع الشيخ زكريا ، ثم اجتمع بالشيخ محمد الاسطنبولي ، فقال : " أكتب وأنصر القوم – أي الصوفية – وبين في الجواب أنه لا يجوز لمن لا يعرف مصطلح القوم أن يتكلم في حقهم بشرّ ، لأن دائرة الولاية تبتدئ من وراء طور العقل ، لبنائها على الكشف )( يعنى علم الغيب ).

 وعموماً فهذا الموقف من زكريا الأنصاري ينسجم مع تصوفه وموقفه من الفقه والفقهاء رغم كونه شيخاً لهم ، فهو القائل ( أن الفقيه إذا لم يكن له معرفة بمصطلح القوم فهو كالخبز الجاف من غير أدام ) ومذ كان شاباً استهوته مجالس الصوفية ( حتى كان أقرانه يقولون زكريا لا يجيء منه شيء في طريق الفقهاء[8]) .

ط – وقد أحدثت حركة البقاعي في هذه الحقبة الراكدة هزة ظهر أثرها بين القضاة ، فرجع بعضهم إلى الحق وأيّد البقاعي ، فكوّن منهم البقاعى ( جماعة من أهل السنة ) على حد تعبيره . يقول في تاريخه: ( تخاصم شخص من جماعة أهل السنة يقال له محمد الشغري مع جماعة من الفارضيين من سويقة صفية، فرفعوه إلى قاضى المالكية البرهان اللقان ، وادعوا عليه أنه كفّر ابن الفارض ، فأجاب بأنه قال بأن العلماء قالوا بكفره ، فضربه القاضي بالسياط ، وأمر بتجريسه بالمناداة عليه في البلد : " هذا جزاء من يقع في الأولياء " . ثم توسط القاضي الشافعي لدى المالكي حتى أطلقه من الحبس. وقال ( القاضى ) الشافعي : : أيفعل مع هذا هكذا ولم يقل إلا ما قال العلماء ؟ ويُرفع إليهم حربي ( أى شخص مسيحى أوربى ) إستهزأ بدين الإسلام في جامع من جوامع المسلمين ولا يفعلون به مثلما فعلوا بهذا ؟ مع أنه حصل اللوم في أمره من السلطان ومن دونه ولم يؤثر شيء من ذلك .. هذا كله والحال أن البرهان المذكور قال لغير واحد أن له أكثر من ثلاثين سنة يعتقد كفر ابن الفارض[9].).

ك – وعدا تكفير ابن الفارض كانت للبقاعي وقائع أخرى مع الصوفية ، فكان له دور في إبطال المولد الأحمدي بطنطا ، إعترف به السخاوي وعبد الصمد الأحمدي  [10] . ولمّح البقاعي بالحط على الغزالي في أن قوله ليس في الإمكان أبدع مما كان كلام أهل الوحدة من الفلاسفة والصوفية ، وكذلك حطّ على ابن عطاء السكندري[11]. وأنكر على زيادة الصوفية في الآذان وأبطله , في كل مئذنة له سيطرة على مؤذنها ، وحاربه الصوفية ونازعوه في حوادث كثيرة ذكرها في تاريخه[12] .

ي :  ونقتطف من تاريخ البقاعى ( المخطوط ) ما قاله بنفسه عن هذه الحادثة .



[1]
الفصوص 132, 133 , 134

 

[2] ديوان عمر بن الفارض 42 , 50 : 51 , 69 نشر مكتبة القاهرة ط 1979

[3] راجع : الضوء اللامع للسخاوي : في ترجمته للبقاعي 1ر 101 : 111, أبناء الهصر لابن الصيرفي ط 1970 ص 186 , 256: 257 , 190 ابن العماد الحنبلي شذرات الذهب 7ر 339 , 340 , السيوطي . نظم العقبان 24 , تاريخ ابن إياس 2 ر 121 ط بولاق .

 

[4] أبناء الهصر 256 :257 .

 

 

[5] أبناء الهصر 256 :257 .

 

 

[6] تاريخ ابن إياس 2 ر 119 , 120 ,121

[7] أبناء الهصر 190

[8]  الشعراني ،الطبقات الصغرى 37 , 38 ، 39 تحقيق عبد القادر عطا نشر مكتبة القاهرة

 

 

[9] تاريخ البقاعي . مخطوط . ورقة 134 ب , 135 أ.

[10] التبر المسبوك للسخاوي 177 , والضوء اللامع 1 ر 108 , الجواهر السنية لعبد الصمد الأحمدي 65.

[11] الضوء اللامع 1 ر 107.

[12]  تاريخ البقاعي 149 ، 150 ، 151 .

اجمالي القراءات 6225