مصر المملوكية فى رحلة ابن بطوطة : ( النّص الثانى )
من ف3 : الكتابة عن المزارات:من ج 1 :( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )
وصوله إلى مدينة فوة
( ثم رحلنا إلى مدينة فوا[1] , وهذه المدينة عجيبة المنظر , حسنة المخبر , بها البساتين الكثيرة , والفوائد الخطيرة الأسيرة , وبها قبر الشيخ الولي أبى النجاة الشهير الاسم , خفير تلك البلاد . وزاوية الشيخ أبي عبد الله المرشدي , الذي قصدته بمقربة من المدينة , يفصل بينهما خليج هنالك , فلما وصلت المدينة تعديتها ووصلت إلى زاوية الشيخ المذكور قبل صلاة العصر , وسلمت عليه , ووجدت عنه الأمير سيف الدين يلملك وهو من الخاصكية , ونزل هذا الأمير بعسكره خارج الزاوية . ولما دخلت على الشيخ ( رحمه الله ) قام إلىّ وعانقني , وأحضر طعاماً فواكلني , وكانت عليه جبة صوف سوداء , فلما حضرت صلاة العصر قدمني للصلاة إماماً , وكذلك لكل من حضرني عنده ـ حين إقامتي معه ـ من الصلاة . ولما أردت النوم قال لي : أصعد إلى سطح الزاوية فنم هنالك ( وذلك أوان القيظ ) فقلت للأمير : باسم الله . فقال لي : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) . فصعدت السطح فوجدت به حصيراً ونطعاً وآنية للوضوء وجرة ماء وقدحاً للشرب , فنمت هنالك .
كرامة لهذا الشيخ
رأيت ليلتي تلك, وأنا نائم بسطح الزاوية، كأني على جناح طائر عظيم يطير بي في سمت القبلة ، يتيامن, ثم يشرق, ثم يذهب في ناحية الجنوب, ثم يبعد الطيران في ناحية الشرق, وينزل في أرض مظلمة خضراء ويتركني بها. فعجبت من هذه الرؤية, وقلت في نفسي : أن كاشفني الشيخ برؤياي , فهو كما يحكى عنه . فلما غدوت لصلاة الصبح قدمني إماماً لها , ثم أتاه الأمير يلملك فودعه وانصرف , وودعه من كان هناك من الزوار , وانصرفوا أجمعين بعد أن زودهم كعيكات صغار . ثم سبحت سبحة الضحى , ودعاني وكاشفني برؤياي , فقصصتها عليه , فقال : سوف تحج وتزور النبي صلى الله عليه وسلم , وتجول في بلاد اليمن والعراق وبلاد الترك وبلاد الهند , وتبقى بها مدة طويلة , وستلقى بها أخي دلشاد الهندي , ويخلصك من شدة تقع فيها . ثم زودني كعيكات ودراهم , وودعته وانصرفت . ومنذ فارقته لم ألق في أسفاري إلا خيراً , وظهرت على بركاته , ثم لم الق فيمن لقيته مثله إلا الولي سيدي محمدا الموله , بأرض الهند .
وصوله إلى مدينة النحراوية
ثم رحلنا إلى مدينة النحراوية , وهى رحبة الفناء حديثة البناء , أسواقها حسنة الرواء . وأميرها كبير القدر يعرف بالسعدي , وولده في خدمة ملك الهند ( وسنذكره ) . وقاضيها صدر الدين سليمان المالكي من كبار المالكية, سفر عن الملك الناصر إلى العراق وولى قضاء البلاد الغربية ، وله هيئة جميلة وصورة حسنة. وخطيبها شرف الدين السخاوي من الصالحين .
وصوله على مدينة أبيار
ورحلت منها إلى مدينة أبيار ، وهى قديمة البناء أرجة الأرجاء , كثيرة المساجد , ذات حسن زائد . وهى بمقربة من النحراوية , ويفصل بينهما النيل . وتصنع بأبيار ثياب حسان , تعلو قيمتها بالشام والعراق ومصر وغيرها . ومن الغريب قرب النحراوية منها , والثياب التي تصنع بها غير معتبرة ولا مستحسنة عند أهلها . ولقيت بأبيار قاضيها عز الدين المليجي الشافعي , وهو كريم الشمائل كبير القدر حضرت عنده مرة يوم الركبة ، وهم يسمون ذلك اليوم ارتقاب هلال رمضان . وعادتهم فيه : أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي , ويقف على الباب نقيب المتعممين , وهو ذو شارة وهيئة حسنة , فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه تلقاه ذلك النقيب , ومشى بين يديه قائلاً : باسم الله سيدنا فلان الدين ! فيسمع القاضي ومن معه فيقومون له , ويجلسه النقيب في موضع يليق به . فإذا تكاملوا هنالك ركب القاضي وركب من معه أجمعون , وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان , وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة ، وهو مرتقب الهلال عندهم ، وقد فرش ذلك الموضع للبسط والفرش ، فينزل فيه القاضي ومن معه ، فيرتقبون الهلال ، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب ، وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس. ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع ، ويصل الناس مع القاضي إلى داره ، ثم ينصرفون ، هكذا فعلهم في كل سنة .
وصف مدينة المحلة الكبيرة
ثم توجهت إلى مدينة المحلة الكبيرة ، وهى جليلة المقدار ، حسنة الآثار كثير أهلها ، جامع بالمحاسن شملها . ولهذه المدينة قاضى القضاة ووالى الولاة . وكان القاضي قضاتها أيام وصولي إليها في فراش المرض ، ببستان له على مسافة فرسخين من البلد ، وهو عز الدين بن الأشمرين ، فقصدت زيارته صحبة نائبه الفقيه أبى القاسم بن بنون المالكي التونسي ، وشرف الدين الدامري قاضى مجلة منوف .
وأقمنا عنده يوماً , وسمعت منه ـ وقد جرى ذكر الصالحين ـ أن على مسيرة يوم من المحلة الكبيرة بلاد البرلس ونسترو , وهى بلاد الصالحين , وبها قبر الشيخ مرزوق صاحب المكاشفات , فقصدت تلك البلاد , ونزلت بزاوية الشيخ المذكور. وتلك البلاد كثيرة النخل والثمار , والطير البحري، والحوت المعروف بالبوري . ومدينتهم تسمى مطلين , وهى على ساحل البحيرة المجتمع من ماء النيل وماء البحر , المعروفة ببحيرة تنيس , ونسترو بمقربة منها . نزلت هنالك بزاوية الشيخ شمس الدين القلوي من الصالحين . وكانت تنيس بلداً عظيماً شهيراً , وهى الآن خراب . قال ابن جزي : ( تنيس بكسر التاء المثناة والنون المشددة وياء وسهين مهمل), وإليه ينسب الشاعر المجيد أبو الفتوح بن وكيع , وهو القائل في خليجها :
قم فاسقني والخليج مضطرب والريح تثنى ذوائب القصب
والجـو في حـلة ممـسكة قد طرزتها البروق بالذهب
ونسترو بفتح النون وإسكان السين وراء مفتوحة وواو مسكن .
والبرلس بباء موحدة وراء وآخره سين مهملة . وقيده بعضهم بضم حروفه الأول والثلاث وتشديد اللام. وقيده أبو بكر بالنقطة بفتح الأولين . وهو على البحر .
ومن غريب ما اتفق ما حكاه أبو عبد الله الرازي، عن أبيه , أن قاضى البرلس وكان رجلاً صالحاً ـ خرج ليلة إلى النيل , فبينما أسبغ الوضوء وصلى ما شاء أن يصلى إذ سمع قائلاً يقول :
لولا رجـال لـهم سرد يصومونا وآخرون لهم ورد يقومونا
لزلزلت أرضكم من تحتكم سحراً لأنكـم قوم سوء لا تبالونا
قال: فتجوزت في صلاتي وأدرت طرفي فما وجدت أحداً ولا سمعت حساً, فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى .
وصف مدينة دمياط
ثم سافرت في أرض رملة إلى مدينة دمياط , وهى مدينة فسيحة الأقطار , متنوعة الثمار , عجيبة الترتيب , آخذة من كل حسن بنصيب . ومدينة دمياط على شاطئ النيل , وأهل الدور الموالية له يستقون منه الماء بالأدلاء , وكثير من دورها بها دركات ينزل فيها إلى النيل . وشجر الموز بها كثير , يحمل ثمره إلى مصر في المراكب , وغنمها سائمة هملاً بالليل والنهار , ولهذا يقال في دمياط : سورها حلوى وكلابها غنم . وإذا دخلها أحد لم يكن له سبيل إلى الخروج عنها إلا بطابع الوالي : فمن كان من الناس معتبراً طبع له في قطعة كاغد يستظهر به لحراس بابها , وغيرهم يطبع على ذراعه فيستظهر به .والطير البحري بهذه المدينة كثير متناهي السمن . وبها ألبان الجاموسة التي لا مثيل لها في عذوبة الطعم وطيب المذاق. وبها الحوت البوري يحمل منها إلى الشام وبلاد الروم ومصر . وبخارجها جزيرة بين البحرين والنيل تسمى البرزخ , بها مسجد وزاوية , لقيت بها شيخها المعروف بابن قفل , وحضرت عنده ليلة جمعة ومعه جماعة من الفقراء الفضلاء المتبعدين الأخيار قطعوا ليلتهم صلاة وقراءة وذكراً .ودمياط هذه حديثة البناء , والمدينة القديمة هي التي خربها الإفرنج على عهد الملك الصالح , وبها زاوية الشيخ جمال الدين الساوي , قدوة الطائفة المعروفة بالقرندرية , وهم الذين يحلقون لحاهم وحواجبهم . ويسكن الزاوية في هذا العهد الشيخ فتح التكروري.
حكاية
يذكر أن السبب الداعي للشيخ جمال الدين الساوي إلى حلق لحيته وحاجبيه أنه كان جميل الصورة حسن الوجه , فتعلقت به امرأة من أهل ساوة , وكانت تراسله وتعارضه في الطرق , وتدعوه لنفسها وهو يمتنع ويتهاون , فلما أعياها أمره دست له عجوزاً تصدّت له إزاء دار على طريقه إلى المسجد وبيدها كتاب مختوم . فلما مرّ بها قالت له : يا سيدي , أتحسن القراءة ؟ قال : نعم . قالت له : هذا الكتاب وجهه لي والدي وأحب أن تقرأه علىّ فقال لها : نعم . فلما فتح الكتاب قالت له : يا سيدي , إن لولدي زوجة , وهى بأسطوان الدار , فلو تفضلت بقراءته بين بابي الدار بحيث تسمعها فأجابها لذلك . فلما توسط بين البابين أغلقت العجوز الباب وخرجت المرأة وجواريها فتعلقن به وأدخلته إلى داخل الدار , وراودته المرأة عن نفسه . فلما رأى أن لا خلاص له قال لها: إلى حيث تريدين . فأريني بيت الخلاء فأرته إياه فحلق لحيته وحاجبيه , وخرج عليها فاستقبحت هيئته واستنكرت فعله وأمرت بإخراجه وعصمه الله بذلك فبقى على هيئته فيما بعد , وصار كل من يسلك طريقته يحلق رأسه ولحيته وحاجبيه .
كرامة لهذا الشيخ
يذكر أنه لما قصد مدينة دمياط لزم مقبرتها, وكان بها قاض يعرف بابن العميد, فخرج يوماً إلى جنازة بعض الأعيان, فرأى الشيخ جمال الدين بالمقبرة , فقال له أنت الشيخ المبتدع ! فقال له : وأنت القاضي الجاهل ! تمر بدابتك بين القبور, وتعلم أن حرمة الإنسان ميتاً كحرمته حياً فقال له القاضي : وأعظم من ذلك حلقك للحيتك ! فقال له: إياي تعني ؟ وزعق الشيخ ثم رفع رأسه , فإذا هو ذو لحية سوداء عظيمة . فعجب القاضي ومن معه , ونزل إليه عن بغلته . ثم زعق ثانية فإذا هو ذو لحية بيضاء حسنة , ثم زعق ثالثة ورفع رأسه فإذا هو بلا لحية كهيئته الأولى . فقبل القاضي يده, وتتلمذ له, وبني له زاوية حسنة, وصحبه أيام حياته. ثم مات الشيخ فدفن بزاويته . ولما حضرت القاضي وفاته أوصى أن يدفن بباب الزاوية , حتى يكون كل داخل إلى زيارة الشيخ يطأ قبره .
وبخارج دمياط المزار المعروف يشطا , وهو ظاهر البركة , يقصده أهل الديار المصرية , وله أيام في السنة معلومة لذلك . وبخارجها أيضاً بين بساتينها موضع يعرف بالمنية , فيه شيخ من الفضلاء يعرف بابن النعمان , قصدت زاويته وبت عنده . وكان بدمياط , أيام إقامتي بها , وال يعرف بالمحسني , من ذوى الإحسان والفضل , بني مدرسة على شاطئ النيل , بها كان نزولي في تلك الأيام ، وتأكدت بيني وبينه مودة .
فارسكور واشمون وسمنود
ثم سافرت إلى مدينة فارسكور , وهى مدينة على ساحل النيل . ونزلت بخارجها , ولحقني هناك فارس وجهه إلى الأمير المحسني فقال لي : إن الأمير سأل عنك وعرف بسيرتك فبعث إليك بهذه النفقة . ودفع إلى جملة دراهم , جزاه الله خيراً .
ثم سافرت إلى مدينة أشمون الرمان , ونسبت إلى الرمان لكثرته بها , ومنها يحمل إلى مصر . وهى مدينة عتيقة كبيرة , على خليج من خلج النيل , ولها قنطرة خشب ترسو المراكب عندها , فإذا كان العصر رفعت تلك الخشب , وجازت الراكب صاعدة ومنحدرة . وبهذه البلدة قاضى القضاة ووالى الولاة .
ثم سافرت عنها إلى مدينة سمنود , وهى على شاطئ النيل , كثيرة المراكب , حسنة الأسواق , وبينها وبين المحلة الكبيرة ثلاثة فراسخ . ومن هذه المدينة ركبت النيل مصعداً إلى مصر, ما بين مدائن وقرى منتظمة, متصل بعضها ببعض .ولا يفتقر راكب النيل إلى استصحاب الزاد, لأنه مهما أراد النزول للشاطئ نزل للوضوء والصلاة وشراء الزاد وغير ذلك. والأسواق متصلة من مدينة الإسكندرية إلى مصر, ومن مصر إلى مدينة أسوان من الصعيد.)
[1]عقد الجمان مخطوط حوادث سنة 721 , نهاية الأرب مخطوط 31/ 3: 4,8 السلوك للمقريزي 2/ 501 الطالع السعيد للأدفوي 172 : 173 , لطائف المنن للشعراني 459 : 460 ط 1288 .