من ف3 : الكتابة عن المزارات:من ج 1 :( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )
تعليق على النّص السابق عن المزارات من كتاب ( تحفة الأحباب ) للسخاوي

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٢٢ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

تعليق على النّص السابق عن المزارات من كتاب ( تحفة الأحباب ) للسخاوي

من ف3 : الكتابة عن المزارات:من ج 1 :( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )

                              التعليق:

1- تعرض بعض المؤرخين للمزارات المشهورة خصوصاً في كتب الخطط ، مثلما فعل ابن دقماق في (الانتصار لواسطة عقد الأمصار) والمقريزي في الخطط المقريزية، وأفردها ابن الزيات ( شمس الدين محمد ت 814 ) بكتاب حافل هو ( الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة في القرافتين الكبرى والصغرى) وقد فرغ من تأليفه سنة 804 وقد طبعته المطبعة الأميرية سنة 1907 .

ثم كتب على منواله أبو الحسن نور الدين السخاوي – متوفى في أواخر القرن التاسع – كتابه ( تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والتراجم والبقاع المباركات ) وقد طبع أولاً على هامش الجزء الرابع من نفح الطيب للمقري في المطبعة الأزهرية سنة 1302 , ثم أعيد طبعه مستقلاً سنة 1356هجرية سنة 1937 ميلادية .

2 ـ وذكر السخاوي في مقدمة كتابه( تحفة الأحباب ) أنه وضع كتابه على نسق ( الكواكب السيارة ) لابن الزيات , بل وأخذ عنه الكثير وكان يصفه ( بشيخنا ) واعترف له بفضل السبق , إلا أن السخاوي زاد في التراجم لأصحاب القبور وسرد الكثير من المناقب التي من طابعها الانتشار والتزايد باضطراد ، يتفق مع ازدهار التصوف المستمر، وهو الأصل الذي صدرت عنه كتابات المناقب والمزارات .

3 ـ ويتفق ابن الزيات والسخاوي في الهيكل العام الذي سارا عليه ، فبعد التنويه بمشروعية الزيارة والتوسل ، يبدآن بتحسّس طريقهما بين طرق القرافة – وفق ترتيب الزيارة – وكلما مرا على قبر مشهور ترجما لصاحبه، إما من واقع الكتب السابقة إن كان ممن أفردت له تراجم في الكتب وإما ترجما له من أفواه الناس وأساطيرهم . ثم يوردان الكثير من معالم القرافة وأساطير الكرامات التي تتناثر حول القبور الهامة ،وينبهان على كثير من الأضرحة المزورة التي ينسبها الناس لأعلام الصحابة وآل البيت , ومع تقريرهما بأن ذلك ( ليس بصحيح ) إلا أنهما في نفس الوقت يؤكدان على جدوى زيارة تلك الأضرحة المزورة وأنها ( تُزار بحسن النية ) أى ( حُسن الاعتقاد والايمان بكرامات صاحب القبر ).

4 ـ ومن الطريف أن (الكواكب السيارة ) و( تحفة الأحباب ) ما تركا ضريحاً مشهوراً أو مغمورا إلا ذكراه ، وترجما لصاحبه أو صاحبته ، خصوصاً إذا كان من الأشراف أو آل البيت. ومع ذلك فإننا لا نجد أثراً في الكتابين لما يعرف الآن بضريح ( السيدة زينب) كما لم تذكره كتب الخطط السابقة مثل (الانتصار) لابن دقماق و ( خطط المقريزي) التي وصفت معالم القاهرة ومصر فى حياة المقريزى.

5 ـ وذلك لأن ضريح ( السيدة زينب ) أخترع في العصر العثماني على أساس رؤيا منامية رآها صوفي معتقد وذلك سنة 955 هجرية سنة 1548 ميلادية ، ثم جدد الضريح سنة 1173 هجرية سنة 1759 ميلادية وأقامت وزارة الأوقاف المسجد الحالي سنة 1940 ميلادية على أنقاض المبنى القديم. وأشاعوا أن (زينب بنت على ) قدمت لمصر في أواخر حياتها، مع أن كتب التاريخ المؤلفة حتى نهاية العصر المملوكي لم يرد فيها ذكر مطلقاً لتوافد السيدة ( زينب بنت على ) لمصر ، وما كان لأحد أن يتجاهل قدومها من المؤرخين، خصوصاً وأن المقريزي المتوفى عام 845 هجرية في كتابه( المقفى ) ( وهو مخطوط ) ذكر جميع من وفد لمصر من الصحابة والتابعين، وفى كتابه المشهور ( الخطط ) لم يذكر السيدة زينب ، وتابعه السيوطي المتوفى عام 911 في ( حسن المحاضرة ) وقد كتبه على منوال خطط المقريزى، فذكر جميع من ورد من الصحابة والتابعين لمصر بالترتيب الأبجدي . كما لم يرد ذكر مطلقاً لقدوم السيدة زينب في جميع مصادر التاريخ على تنوعها وكثرتها واهتمامها بآل البيت .

6- وفى النص الذي اقتطفناه من ( تحفة الأحباب ) ما يوضح منهج كتب المزارات واعتقاد الناس في المزارات،  فالسخاوي يتتبع الأضرحة مترجماً لأصحابها ، وقد تخيل نفسه في موقف الزائر السائر في القرافة ، فهو يصف القبور عن يمين وشمال ، ويذكر ما يشاع عن أصحابها من ألقاب وكرامات وجدوى التوسل بها، وينبه على فساد المزاعم الخاصة ببعض القبور .

6 / 1 : فمن الألقاب التي أطلقت على بعض المقبورين ( بنو المصلى ) وسمى جدهم بالمصلى لكثرة صلاته ، وبعضهم سمى بالمرتعش ( لأنه كان يرد عليه حالة ينزعج منها قلبه حتى يكشف له منها فيرى ما في اللوح منتقشاً ) أي أنه يرى المكتوب في اللوح المحفوظ أي يعلم ما في الغيب إذا انزعج قلبه وارتعشت يداه , أي أنها كرامة مرتبطة بلقب , و ( بنو المصلى ) أرتبط لقبهم بكرامة أخرى تحكيها أسطورة يرويها السخاوي ( وسمى جدهم بالمصلى لكثرة صلاته أو سمى بالمصلى لأن بعض الزنادقة رمى النار في منزله وهو يصلى فاحترق المنزل كله وهو لا يلتفت في صلاته ) .

6 / 2 :وفى بعض الألقاب والكرامات المتعلقة بها ما يؤكد أهمية القبر وقدسيته ، ويحذر السخاوى من التعرض له بسوء مثل قبر أبى جعفر الناطق ، ولقب بالناطق لأنه نطق في قبره ، وتحكى الأسطورة أن قراقوش أراد أن يحفر في مكان القبر فسمع قائلا من جوف القبر يقول ( أمسك يدك ) ويبست يد الأمير قراقوش عقاباً له على أنه هدم في المكان بدون استئذان من الشيخ الناطق في قبره. وواضح أن الأسطورة استغلت ما ترسب في الإعتقاد الشعبي عن قسوة ( بهاء الدين قراقوش ) وحمقه ، فجعلته في الأسطورة يعاقب وتُشلّ يده . والمعنى المراد أن الشيخ الناطق في قبره لا يزال حياً ناطقاً حتى عصر السخاوي وأنه يتصنت لكلام الزائرين ويتسمع لهم .

6 / 3 : وبعض الكرامات تؤكد جدوى التوسل بصاحب القبر عند الأزمات والملمات، مثل تلك الأسطورة التي جاء بها الراوي وكان مفلساً مديناً فبكى عند القبر متوسلاً قضاء الدين فإذا بإمرة تعطيه قلادتها ، ثم إذا بصاحب الدين يبتسم للراوي في وجهه ويخبره بأنه عفا عنه ولا حاجة به للقلادة لأن صاحب القبر أعطاه قصراً في الجنة في نظير أن يتنازل عن الدين، ثم أعطى المدين دراهم أخرى. ومن المنتظر أن يصدق الناس تلك الأسطورة ففي اعتقادهم أن الأولياء لهم تصريف في ملك الله يهبون الجنة لمن يشاءون ويضعون في النار من يشاءون – راجع ادعاءات الدسوقي في النص الأول من المناقب.

6 / 4 : وبعض الأساطير كانت تشيع الإعتقاد في التداوي بالقبور فعند مشهد ( زيد بن على زين العابدين ) عمود رخام على يمين الداخل بين الأبواب به أسطر تكتب في ورقة وتوضع على عرق النسا ( يزول بإذن الله تعالى وهى مجربة وهذه الأسطر ( أ ح ه ت أ ه ع ه ه أ ه ه مرابية ) وعتبة الباب من قعد عليها ثلاث أربعاءات باكر النهار وبه بواسير أنقطع بإذن الله تعالى ) ولأن العصر كان يصدق تلك الخرافات فلابد أن عتبة الباب كان يتزاحم على الجلوس عليها كثير من المرضى , كما أن الكثيرين كانوا ينسخون المكتوب على العمود الرخام لتوضع على عرق النسا .

7 ـ والواقع أن الناس فى العصر المملوكي كانوا يزورون الأولياء باعتبارهم أطباء ، ويترددون على المزارات باعتبارها مستشفيات.

7 / 1 : فكلما اشتهر شخص بالولاية قصده الناس آملين الشفاء على يديه،  وقد ( ظهر عبد أسود قيل أنه ولي فهرع إليه الخلق وفيهم الكثير من الزمني وذوى العاهات والأمراض ) [1] والاعتقاد في مقدرة الأولياء على الشفاء لا يؤثر فيه كون الولي الصوفي عبداً أو حتى طفلة صغيرة , فقد اشتهرت طفلة صغيرة في قليوب بأنها من الأولياء وحيكت حولها الأساطير بأنها ( تقيم المقعد وترد بصر الأعمى ) [2] .

7 / 2 : أما في القرافة وعند الأولياء الموتى فقد كان هناك تخصص طبي شهدنا بعضاً منه في النص المأخوذ من تحفة الأحباب ، حيث هناك عمود عليه كتابات لعرق النسا وعتبة القبر لمن يعانى من البواسير. وإلى جانب قبر على بن زين العابدين المتخصص في عرق النسا والبواسير هناك قبور في القرافة تخصصت في طب الأسنان عرف أصحابها بلقب ( رقائين الضروس ) ، ( لأن الإنسان إذا وجعه ضرسه يرقونه فيسكن الوجع ) [3] . وبعض القبور تخصص في طب العيون مثل قبر الشيخ ( الكحال ) [4] أي ارتبط لقبه بتخصصه الطبي . وأشيع في القاهرة سنة 796 أن امرأة رمدت ويئس منها الأطباء فأمرها هاتف في المنام بأن تكتحل من سفح جبل المقطم حيث مقابر الأولياء وأنها فعلت وشفيت، ويقول المقريزي ( فلم يبق من الناس إلا من أخذ من الحصى الذي بالجبل واكتحل به وعملوا منه في الأثمد وغيره ، حتى أفنوا من ذلك ما لا يقدر ) [5] . وبعض القبور كان جامعة في الطب والشفاء بلا تخصص مثل ذي النون المصري [6] وقبر المنوفي [7] وقبر العقيلي [8] .

8- نعود لتحفة الأحباب لنجد السخاوي في النص الذي نعرض له قد نبه على كثير من المزاعم والأضرحة المزورة ، فيقول : ( وكثير من الناس يزعم أن موسى النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام صلى بهذا المسجد وليس بصحيح ) ، ويقول عن مشهد زين العابدين ( تسمية العامة زين العابدين وإنما هو مشهد زيد ) ، ولا يزال معروفاً حتى الآن بمشهد على زين العابدين . ويقول هناك مشهد كتبت عليه العامة أبو ذر الغفاري ( وهذا ليس بصحيح والصحيح أنه بالربذة ) ( وقد ادعى أن السيد الشريف زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب قبره في طريق مصر وهذا قول لا أصل له ) أي أنهم جعلوا قبرين لزيد بن على زين العابدين , ويقول ( وقيل أن أبا بصرة الغفاري مدفون بالمشهد الذي يقال أن فيه أبا ذر الغفاري وهذا غير صحيح ) ( وهناك قبور كثيرة مجهولة الأسماء لا صحة لها ) .

9 ـ والبحث في كتب المزارات يظهر الكثير من الأضرحة المزورة وقد بنهوا على زيفها مع تأكيدهم بجدوى التوسل بها بحسن النية ، وترتب على ذلك أن الناس صدقوا زيفهم ، وأيقنوا بأنها أضرحة فعليه تحوى شيئاً. وحتى لو كان الرسول نفسه عليه السلام مدفوناً بيننا فلن يغنى عنا شيئاً وقد قال له الله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ..آل عمران128) فالأمر كله لله (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ..الانفطار19) .

10 ـ ويقول السخاوي أن عبداً أسود احترف تزييف الأضرحة في القرافة ، فكان يجمع ألواح الرخام من القرافة ويضعها على القبور التي أقامها ،وينقش أسماء اخترعها ( وكان أول اسم اخترعه شكر ، وعمل عليه ستراً ولما علموا الستر حملوه من باب البيمارستان المنصوري بالقاهرة إلى القرافة الكبرى،  وكان يوماً مشهوداً في دولة الأشرف برسباي . ثم انتدب إلى عمارة هذا المكان والبناء عليه وفعل الخبرات به الحاج عيسى سلاخوري ) [9].

وإذا كان الزيف وصل إلى الاحتفال بتدشين قبر لولى مزور سموه شكراً فإن كبار الصحابة الذين لم يصلوا مصر قد أقيمت لهم أضرحة في القرافة ، مع أن المصادر التاريخية ذكرت أماكن دفنهم في العراق والحجاز، مثل فاطمة الزهراء ومحمد بن الحنفية والسيدة عائشة أم المؤمنين، و حتى الجمل الذي ركبته في موقعة الجمل لم يحرموه من قبر في القرافة.!. وهناك شخصيات وهمية مثل سارية الجبل وزرع النوى ومسحر النبي وساعي البحر, وقد اعتنوا بها لصلتها بالأساطير الصوفية فأقاموا لها أضرحة أسطورية[10] .

11 ـ مع الأسف فإن العصر العثماني لم يشهد صوفياً محققاً مثل السخاوي وابن الزيات ينبه على تزوير ضريح للسيدة زينب التي لم تأت مصر مطلقاً ولم يقيموا لها ضريحاً فيها قبل العصر العثماني .

12 ــ وتبقى المزارات واقعاً تاريخياً في الحياة المملوكية ، دارت حوله توسلاً وتداوياً وتنزهاً في الموالد والمواسم وفى غير المواسم كما أسلفنا عن زيارة النساء للقرافة أغلب أيام الأسبوع منها زيارة الأولياء الأحياء والموتى. وربما كان ابن بطوطة أشهر الرحالة في تاريخ المسلمين وسنتعرف على مصر في رحلة ابن بطوطة .

13 ـ إن المزارات لم تستحوذ على اهتمام المصريين فقط بل جذبت لها السياح من الرحالة المسلمين الذين حرصوا في مرورهم على مصر على الأولياء الأحياء والموتى . وربما كان ابن بطوطة أشهر الرحالة في تاريخ المسلمين .

 فلنتعرف على مصر في رحلة ابن بطوطة .

 



[1]
السخاوي : التبر المسبوك في الذيل على السلوك 302 , المنهل الصافي لأبى المحاسن مخطوط 2/ 405

[2] تاريخ أبن إياس 4/ 165 تحقيق محمد مصطفى.

[3] الكواكب السيارة 144 , تحفة الأحباب 280 على هامش الجزء الرابع من نفح الطب.

[4] الكواكب السيارة 119

[5] السلوك 3/2/ 817

[6] الكواكب السيارة 233

[7] مناقب المنوفي مخطوط ورقة 52

[8] الكواكب السيارة 197

[9] تحفة الأحباب على هامش نفح الطب : 172 , 173 , 174

[10] المرجع السابق 366 , 319 , 246 , 53 , 94 , 99 , 113 و 247 , 42 , 76 , 101 , 102 ,  130 , 145 , 151 , 224 , 277 , 281 , 282 , 367 , 442 ,.والكواكب السيارة 75 ، 93 ، 96 ، 115 ، 117 ، 118 ، 185 ، 188 ، 193 ، 277 ، 203 ، 141 .

اجمالي القراءات 3630