نصوص من ( لطائف المنن الكبرى) للشعراني وتعليقات عليها: (1 ، 2 )
من ف2 : كتب المناقب الصوفية ، من ج1 من كتاب ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )
مقدمة :
وهى مقالات من سلسلة بعنوان ( منسوجات صوفية ) كانت تنشر تباعاً في ( مجلة الهدي النبوي ) بتوقيع المؤلف من عام 1982، تتناول بالتعليق نصوصاً مختارة من كتاب ( لطائف المنن الكبرى) للإمام عبد الوهاب الشعراني أشهر صوفى وأشهر فقيه فى القرن العاشر الهجرى ، والمؤثر الأكبر فى ثقافة العصر العثمانى الدينية ، ومؤلفاته كثيرة،منها ( لطائف المنن الكبرى). ومع انه يتحدث فيه عن نفسه وما منّ الله عليه بزعمه من كرامات وتأليه إلا إن هذا الكتاب يعبّر بصدق عن عقائد الناس وثقافتهم وبعض عاداتهم الاجتماعية .وقد عاش الشعرانى فى العصرين المملوكى والعثمانى ، وإمتد تأثيره الصوفى حتى عصرنا .
النّص :(1 )
عن نفسه يقول الشعراني في كتابه ( لطائف المنن والأخلاق ص 173 ط عالم الفكر ) يعدد مناقبه وكراماته : ( ومما أنعم الله تبارك وتعالى به على : مساعدتي لأصحاب النوبة في سائر أقطار الأرض في حفظ إدراكهم من براري وقفار ومدائن وبحار وقرى وجبال ، فأطوف بقلبي على جميع أقطار الأرض في نحو ثلاثة درج .. وصورة طوافي كل ليلة على مصر وجميع أقاليم الأرض : إنني أشير بأصبعي إلى أزقه جميع المدائن والقرى والبراري والبحار وأنا أقول الله الله الله ، فأبدأ بمصر العتيقة ، ثم بالقاهرة ، ثم بقراها حتى أصل إلى مدينة غزة ، ثُم إلى القدس ، ثم إلى الشام ، ثم إلى حلب ، ثم إلى بلاد العجم ، ثم إلى بلاد التركية ، ثم إلى بلاد الروم ، ثم أعدى من البحر المحيط إلى بلاد المغرب ، فأطوف عليها بلداً بلداً حتى أجيء إلى إسكندرية ، ثم أعطف منها إلى دمياط ، ثم منها إلى أقصى الصعيد ، ثم إلى أقصى بلاد العبيد ، ثم إلى بلاد الرجر ، وهى أقطاع جدي الخامس ، ثم أعطف إلى بلاد التكرور وبلاد السكوت، ومنها إلى بلاد النجاشي ، ثم إلى أقصى بلاد الحبشة ، وهو سفر عشر سنين ، ثم منها إلى بلاد الهند ، ثم إلى بلاد السند ، ثم إلى بلاد الصين ، ثم أرجع إلى بلاد اليمن ، ثم إلى مكة ، ثم أخرج من باب المعلة ، إلى الدرب الحجازي إلى بدر ، ثم إلى الصفراء ، ثم إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فأستأذنه عن باب السور ، ثم أدخل حتى أقف بين يديه صلى الله عليه وسلم ، فأصلى وأسلم عليه وعلى صاحبيه ، وأزور من في البقيع ثم أقول ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ). وما أرجع إلى دارى بمصر إلا أنا ألهث من شدة التعب كأني كنت حاملاً جبلاً عظيماً . ولا أعلم أحداً سبقني إلى مثل هذا الطواف. وكان ابتداء حصول هذا المقام لي في سنة ثلاثة وثلاثين وتسعمائة ، فرأيت نفسي في محفّة طائرة ، فطافت بي سائر أقطار الأرض في لحظة ، وكانت تطوف بي على قبور المشايخ من فوق أضرحتهم ، إلا ضريح سيدي أحمد البدوي وضريح سيدي إبراهيم الدسوقي .. فإن المحفة نزلت بي من تحت عتبة كل من أحدهما ومرت من تحت قبره ، ولم أعرف إلى الآن الحكمة في تخصيص هذين الشيخين بذلك .!!) .
التعليق :
1 ـ في عصر الشعراني كان الاعتقاد في تصريف الأولياء الصوفية شديداً ، وكان مسموحاً للصوفي أن يقول عن نفسه وأشياخه ما يشاء من ادعاءات التصرف في ملك الله بحيث لم يتركوا لله شيئاً يتصرف فيه في الكون . ولا أدل على ذلك مما ورد في النص السابق عن ( أصحاب النوبة ) أي الأولياء الذين يتناوبون على حفظ أقطار الأرض وحكمها . والشعراني يعلن أن الله أنعم عليه إذ جعله ممن يساعدون أصحاب النوبة أو ( النوبتجية) الذين يحفظ كل منهم ( دركه ) أو منطقته في الأرض سهلاً كانت أو جبلاً مدينة أو قرية براً أو بحراً , ويعلن الشعراني أنه يطوف بقلبه على سائر أقطار الأرض في نحو ثلاث ساعات . ويتم هذا الطواف القلبي والشعراني ساكن بجسده في بيته لم يبرحه ، ولكنه يكتفي بالإشارة بإصبعه إلى أماكن الأرض فيطوف قلبه بها. ويبدأ طوافه بمصر والقاهرة والوجه البحري فغزة , ثم يصعد شمالاً إلى القدس فحلب , ثم إيران ويتجه غرباً إلى تركيا فأوروبا , ثم يعبر ( البحر المحيط ) أو البحر المتوسط إلى المغرب فيتجه شرقاً حتى يصل الإسكندرية ثم دمياط ثم يطير جنوباً إلى الصعيد ثم إلى إفريقيا ( بلاد العبيد) , ثم يذكر بلاد وهمية جعلها ضمن بلاد العبيد ( إفريقيا ) كالروجر وهى إقطاع جده الخامس والتكرور والسكوت .. ثم بعدها ينتقل فجأة إلى الهند ثم السند ثم الصين ثم بنفس المفاجأة إلى اليمن ثم مكة ثم المدينة ويرجع داره في مصر وهو في شدة التعب ( يا ولداه ) .
2 ـ ويذكر الشعراني أن هذه المنزلة قد حصلها سنة 933 بالتحديد ، حين حملته محفة طائرة ( بساط الريح ) طافت به أقطار الأرض في لحظة ، ولم تنس أن تمر به فوق أضرحة المشايخ إلا ضريح البدوي والدسوقي فاحتراماً لهما كانت المحفة تتحول من طائرة إلى غواصة برية ، فتمر من تحت عتبة البدوي والدسوقي إجلالاً لهما . ويتساءل الشعراني في بلاهة :( ولم أعرف إلى الآن الحكمة في تخصيص هذين الشيخين بذلك ؟؟ ) .ومطلوب منا طبعاً أن نصدق تلك الأساطير كلها بدون تفكير إلى أن نأتي للقضية الخطيرة فنفكر ونتدبر لماذا تصر المحفة الطائرة على تخصيص مقامي البدوي والدسوقي بهذا الاحترام ؟!!.
3 ـ والقارئ العاقل لهذه الأساطير لن يملك نفسه من الضحك على ذلك الشعراني الذي يطوف بأقطار الأرض بأسرع من الطائرة الكونكورد أو بساط الريح فيطوف به الأرض في لحظة ولا تعنيه من الأرض إلا القباب والأضرحة فيزورها ويمر فوقها ، إلا بالنسبة للبدوي والدسوقي فالمحفة تمر من تحت العتبة .. ويتم ذلك كله في لحظة من الزمن .
4 ـ والقارئ العاقل لهذه الأساطير ستتملكه الدهشة من جهل الشعراني بالأرض التي يدعى أنه يمر على أقطارها ويشارك في حفظها وحكمها ويعلم كل موقع فيها ، مع أن معلوماته الجغرافية تنبئ عن جهل مطبق ، فالأرض لديه بقاراتها وبحارها ومحيطاتها ليست إلا مجموعة من الألفاظ التراثية التي توارث العامة في المجتمع إطلاقها على بلاد معينة دون تمييز أو تحديد دقيق .. فإيران وما يليها شرقاً وشمالاً عنده اسمها بلاد العجم ، وقارة أوروبا هي بلاد الروم والبحر المتوسط هو البحر المحيط ، وإفريقيا هي بلاد العبيد وهى مجهولة له فيطلق على بعض بلادها أسماء وهمية كالروجر والسكوت أو أسماء قبلية كالتكرور أو تراثية كالنجاشي والحبشة .. ويظن أن إفريقيا لا يفصلها عن الهند فاصل فيقول يمر من الحبشة إلى بلاد الهند وكما يدور على ألسنة العوام ( بلاد الهند والسند )، ويعتقد الشعراني ( صاحب العلم اللدني ) بأن الهند بلاد والسند بلاد أخرى مع أن الطالب الابتدائي يعرف أن السند ما هو إلا نهر شهير يمر بالهند ولا ينفصل عنها بأي حال .
5 ـ والقارئ العاقل يشعر بمزيد من الحسرة والأسف. ففي الوقت الذي أشغل فيه الصوفية المجتمع بخرافاتهم المزعومة وبطولاتهم الوهمية وأسفارهم الخيالية ( في بلاد الهند والسند والعجم والصين ) كانت أوروبا في القرن العاشر الهجري – عصر الشعراني – تكتشف طريق رأس الرجاء الصالح لتصل إلى الهند بسفنها لتقيم مستعمراتها التي تطوق بها بلاد المسلمين , وتفتح عصراً جديداً هو عصر الاكتشافات الجغرافية الذي تمت به السيطرة على سواحل الهند وجزر آسيا الجنوبية الشرقية واكتشفت أمريكا الشمالية والجنوبية،حتى إذا سيطرت أوروبا على العالم الجديد في أقصى الشرق وأقصى الغرب وبدأت عصر الاستعمار اتجهت إلى عدوها التقليدي في العالم القديم وهم المسلمون ، فوجدتهم لا يزالون مخدرين بكرامات الصوفية مخدوعين بأساطيرهم المفتراة من أهل الخطوة وأصحاب النوبة والأولياء الطيارين والسر الباتع والمدد الذي لن يأتي من الشيخ (مهروش ).!.
6 ـ والقارئ العاقل أخيراً لن يستطيع أن يكتم غيظه.. إذ لا تزال للشعراني قدسيته وضريحه وأتباعه ولا تزال للصوفية مكانتهم.. فهل يمكن أن نتقدم في هذا العصر وبيننا من لا يزال يعتقد في الخرافات..؟ لا أظن ..
النّص ( 2 )
عن نفسه يقول الشعراني في لطائف المنن [1] ( ومما منّ الله تبارك وتعالى به علىّ : كشف الحجاب عنى حتى سمعت تسبيح الجمادات والحيوانات من البهائم وغيرها من صلاة المغرب إلى طلوع الفجر , وذلك أنى أحرمت بصلاة المغرب خلف الشيخ الصالح الورع الزاهد سيدي أمين الدين الإمام بجامع الغمري .. فانكشف حجابي فصرت أسمع تسبيح العمد ( جمع عمود) والحيطان والحصر والبلاط حتى دهشت ،وصرت أسمع من يتكلم في أطراف مصر ثم اتسع إلى قراها ثم إلى سائر أقاليم الأرض ثم إلى البحر المحيط فصرت أسمع تسبيح السمك , وكان من جملة ما سمعت من تسبيح سمك البحر المحيط : سبحان الملك الخلاق رب الجماعات والحيوانات والنبات والأرزاق سبحان من لا ينسى قوت أحد من خلقه ولا يقطع بره عمن عصاه . انتهى , وذلك في سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة , ثم إن الله تبارك وتعالى رحمني عند طلوع الفجر وحجبني عن سماع ذلك التسبيح لما حصل عندي من الدهشة وأبقى علىّ العلم بذلك من طريق الكشف). التعليق :
1ـ في عصر الشعراني تسيد التصوف الحياة الدينية والعقلية وكانت للصوفية تمام الحرية في أن يقولوا ما يشاءون ويدعوا لأنفسهم ما يحلمون به من تصريف في ملك الله وتحكم في ملكوته . ولم يتورع الشعراني على أن يدعى لنفسه التصريف في ملك الله والعلم بغيبه الذي لا يطلع عليه أحدا من خلقه . وفى النص السابق ما يشير إلى بعض ذلك ، فالشعراني يعد من المنن الإلهية عليه أن الحجاب انكشف عن قلبه فسمع تسبيح الجماد والحيوان.ومعلوم أن كل الموجودات تسبح بحمد الله ولكن لا يستطيع أحد من البشر أن يفقه تسبيحها , يقول تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..الإسراء44). إلا أن ذلك الشعراني يدعى أنه سمع تسبيح الحيوان والجماد والأسماك وأتى بصيغة التسبيح وأن ذلك حدث له في بداية حياته أي سنة 923 حين كان يصلى مأموماً خلف الشيخ أمين الدين في جامع الغمري . ثم لم يتمكن من احتمال الموقف أكثر من ليلة فرحمه الله عند طلوع الفجر وأراحه من سماع الأصوات الآتية من كل أقطار الأرض وبحارها فحجبه عن السماع وأبقى عليه العلم به عن طريق الكشف أو الغيب .
2ـ ومن براعة الشعراني في نسج هذه الأسطورة عن نفسه أنه يحدد الزمان والمكان والظروف التي حدث أثناءها استماعه لتسبيح الحيوان والجماد ، فالزمان من صلاة المغرب إلى الفجر في ليلة من 923 ، والمكان جامع الغمري حيث كان يصلى المغرب خلف الإمام الشيخ أمين الدين ، ثم يخترع أقوالاً ينسبها للسمك كصيغته للتسبيح. ولا ينسى بعد أن يأخذ الحيطة لنفسه من أن يكتشف كذبه فيدعى أن تلك الخصوصية انتهت بالنسبة إليه لأنه لم يحتملها , وذلك حتى لا يطالب ببرهان على صدق دعواه فيقول أن ذلك حدث له من وقت بعيد وقد حجب عنه بعدها لأنه أصيب بالدهشة فرحمه الله وأزال عنه هذا المقام .
3ـ ولا ريب أن الشعراني بأكاذيبه تلك قد سبق المنجزات العلمية للقرن العشرين, فالشعراني حين كان يسمع كلام الجماد والحيوان في أقاصي الأرض إنما تفوق على أحدث مبتكرات الاستشعار عن البعد الذي تقوم به الأقمار الصناعية والطائرات المجهزة بأعقد الآلات. والشعراني حين كان يفهم كلام السمك والحيوان والجماد إنما يسجل سبقاً لا شك فيه لعصرنا والعصور القادمة في مجال لا زال عصرنا متأخراً فيه ألا وهو فك رموز اللغات التي تتفاهم بها الكائنات.. فللصوفية الحق في الافتخار بشعرانيهم الذي سبق عصره ، وسما بنفسه فوق مستوى البشر الذين حكم عليهم الله ألا يفقهوا تسبيح السماوات والأرض ومن فيهن. وللصوفية الحق في الاستهزاء بالتقدم العلمي الذي أحرزه الغرب وهو يصعد للقمر ويصل للكواكب فشيخهم قد سبق الجميع بأساطيره وبهتانه ، وما عليهم إلا أن يعكفوا على ضريحه متوسلين متبركين طالبين المدد والعون من أكبر كذاب في العصور الوسطى والتاريخ المصري .
[1] لطائف المنن والأخلاق ص 275 ط عالم الفكر .