يا أهل العراق . كونوا عراقيين لا شيعة ولا سنيين .!
حتى لا يتحول العراق الى حدائق من المقابر الجماعية

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٥ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

حتى لا يتحول العراق الى حدائق من المقابر الجماعية

يا أهل العراق . كونوا عراقيين لا شيعة ولا سنيين .!

مقدمة:

 تترى الأنباء بمظاهرات ساخطة ضد الفساد والسرقة والنهب وارتفاع أعداد القتلى والجرحى . نتعرض للموضوع فى رؤية سياسية وأخرى أصولية تاريخية.

أولا : الرؤية السياسية

1 ـ التنوع العرقى والدينى أثره خطير . يستغله المستبد فى تقوية إستبداده ونشر الخراب وسفك الدماء وتكوين نخبة مترفة تتحكم فى السلطة والثروة . أما فى الدولة الديمقراطية فيكون التنوع عامل تقدم وإزدهار ، لأن جميع الطوائف والعرقيات تتمتع بالمساوة المطلقة فى الحقوق والواجبات ، وتتنافس فى ظل تكافؤ للفرص .

تتكاثر العرقيات والطوائف الدينية والمذهبية فى العراق والشام ، لذا تعيش المنطقة فى حقل ألغام إنفجرت وتنفجر وستنفجر ، هنا وهناك لأن المترفين يتبعون ( ما وجدنا عليه آباءنا ) لإستمرار نفوذهم ورفض الإصلاح ، وقد جعلها رب الغزة جل وعلا قاعدة سارية ، قال جل وعلا : ( وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴿٢٣﴾ الزخرف ) . وطالما يعيش المحمديون أسرى للماضى فهم يجترّون هذا الماضى بكل ما فيه من فتن وحروب أهلية ، خصوصا فى بيئة العراق والصراع المستمر بين الشيعة والسنة . ولهذا نقول :  يا أهل العراق . كونوا عراقيين لا شيعة ولا سنيين .!

2 ـ فى مقال سابق  بعنوان ( هل ممكن أن يتقدم المحمديون ليكونوا فى مستوى الغرب ؟ ) قلنا  ( مستحيل أن يتقدم المحمديون طالما هم محمديون . ممكن أن يتقدموا إذا تخلصوا من الكهنوت الدينى والكهنوت السياسى . عندها لن يكونوا محمديين ينتمون لأديانهم الأرضية من سُنّة وتشيع وتصوف ولكن سينتمون لأنفسهم كبشر لهم حقوق .) تطبيقا على الحالة العراقية نقول ( . ممكن أن يتقدم العراقيون ويتخلصوا من ثقافة الاستبداد والفساد  إذا تخلصوا من الكهنوت الدينى والكهنوت السياسى . عندها لن يكونوا محمديين ينتمون لأديانهم الأرضية من سُنّة وتشيع ولكن سينتمون لوطنهم العراق ، وتتكون فيهم ثقافة المواطنة التى تجعل الجميع متساوين فى الحقوق والواجبات .).!

3 ـ من العار أن يظل أهل العراق أسرى للكهنوت الدينى الأرضى من تشيع ومن وهابية سنية . الكهنوت الدينى يكون فى خدمة الاستبداد ، ويتحدان معا ضد حقوق المواطن وكرامته . إن الشيوعية كان عندها حق عندما نادت بشنق آخر ديكتاتور بأمعاء آخر قسيس ، وحين أعلنت أن الدين ( الأرضى ) أفيون الشعوب . وما نراه من شعائر الأديان الأرضية وعباداتها فضائح تثير السخرية والإمتعاض بدءا من تقديس القبور المُقامة على جثث وجيف ( جمع جيفة ) الى التحارب والتقاتل بسبب ( على ومعاوية والحسين ويزيد ) ثم هذه الكوميديا السوداء فى مناحات ( الحسينيات ) وفى التطبير .!

4 ـ الحل هو فى تحييد الكهنوت الشيعى والسنى ، فلم تتقدم أوربا إلا بعد أن تحررت من سُلطة الكنيسة وفرضت عليها حظر التجول فى ميادين العلم والسياسة، وحصرت كهنوتها بين جدران كنائسها ، وسلطت على الكهنوت المسيحى كافة أنواع النقد والاستهزاء ، فأضاعت قدسيته الزائفة وفضحت إنحلالهم وسرقاتهم ، ولا تزال فضائح الفاتيكان والكنيسة الكاثولوكية ( مثلا ) تزكم الأنوف . ماذا لو نهض الأحرار العراقيون لانتقاد الكهنوت السنى والشيعى والمسيحى فى بلادهم ، بكشف المستور من الحقائق ، ماذا عن حساباتهم المالية فى الداخل وفى الخارج ؟ماذا عن إنحلالهم خلف الجدران ؟ ماذا عن عملهم بالدعارة وإستغلال الأطفال فيما يُعرف بزواج المتعة ؟ هناك الكثير مما يُقال ومما يجب أن يُقال .

5 ـ فى مقالات كتابنا المنشور هنا :( الحنبلية ــ أم الوهابية ــ وتدمير العراق فى العصر العباسى الثانى ) عرضنا لواحد من أسوأ الخلفاء العباسيين وهو ( المتوكل العباسى ) والذى فرض دين السُّنة الحنبلية عام   234 وهدم قبر الحسين فى كربلاء ومنع زيارته واضطهد الشيعة والمعتزلة والصوفية وأهل الكتاب . وصار بعده من العادات السيئة إضطهاد الشيعة على أيدى الحنابلة . وحين سيطر البويهيون على الخلافة العباسية وكانوا شيعة تمتع الشيعة ببعض النفوذ فجرءوا على إظهار معالم دينهم خصوصا فى عاشوراء ، وكانت تحدث سنويا معارك وفتن بين الشيعة فى حى ( الكرخ ) والسُّنة . ثم سيطر الأتراك السلاجقة السنيون على الخلافة العباسية فعاد الإضطهاد السنى كما كان . هذا الصراع بين العراقيين السنة والشيعة لم يستفد منه سوى الكهنوت الشيعى والكهنوت السنى ، والخاسر هو شعب العراق الذى إستهلكه الاستبداد والفساد والجهاد فى سبيل (على والحسين ) ضد معاوية ويزيد ، أى كان ولا يزال العراقيون أسرى لماض أسود يفرض نفسه عليهم فى حياتهم الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية ، لا فارق بين ندوة فى قناة فضائية أو فى جامعة أو فى مسجد أو على قارعة الطريق . القادم من الغرب حين يسمع هذا يعتقد أن (على بن أبى طالب ) ينافس ( معاوية ) فى الانتخابات الحالية ، وأن الحسين لا يزال يحارب يزيد بن معاوية . المؤسف أن إعتقاده صحيح ، فكوابيس هذا الماضى اللعين لا تزال حاكمة متحكمة ترسل أهل العراق فى منفى إختيارى الى القرن الأول الهجرى ، وتتركهم هناك بينما يتقدم العالم الى الأمام فى كل دقيقة . الكهنوت سعيد بهذا ، فطالما ظل العراقيون فى هذا المنفى وأسرى لهذا المخدر فالكهنوت يتلاعب بهم وبثرواتهم وحيواتهم .. أما لهذا البؤس من نهاية ؟ أفيقوا ايها العراقيون !.

6 ـ كان سهلا على صدام حسين أن يتحكم فى العراق الذى يتنازع سكانه الى طوائف . وإضطهد الشيعة فى العراق أسوة بالطغاة من قبله . وسقط صدام ، وجاء الاحتلال الأمريكى فقام بتعميق الطائفية وجعلها أساس ديمقراطية شكلية تحكم فيها الشيعة ، وظهرت داعش السنية الوهابية مستفيدة من الطائفية وسيطرة الفساد على السلطة والثروة. وإنهزمت داعش ـ الى حين ـ  بعد مجازر . ويمكن أن تعود أكبر قوة وتحت إسم مختلف لأن الظروف الى خلقتها لا تزال قائمة . وسيكون جنودها أولئك الذين ضاعت آمالهم وأحلامهم .  

7 ـ خلال تحكم كبار الشيعة فى العراق أفلحوا فى شيئين : نهب العراق وجعله  مستعمرة إيرانية . إستبدلوا الاحتلال الأمريكى بإحتلال أيرانى أسوأ وأضل سبيلا لأنه يعتمد على الطائفة الشيعية العراقية ويحكم ويتحكم من خلالها . ثم هو يجعل الولاء ليس للوطن العراقى بل للدين الشيعى الذى يسيطر عليه نظام الحكم الايرانى الذى يحمل حقدا على العرب عمره 14 قرنا من الزمان ،منذ فتوحات الخلفاء الفاسقين ، ومن مصلحته الاستراتيجية أن يكون العراق تابعا له خاضعا لسطوته بنفس خضوع الشيعة العراقيين لمراجعهم الدينية الفارسية ، فهذا هو ــ أيضا ــ أحد الإنتقام بأثر رجعى لما فعله بهم صدام حسين . بإختصار موجع .. تخلص العراق من صدام ( سُنّى ) واحد ليتحكم فيه ( صدامون  شيعة) كثيرون ..

8 ـ قلنا ونقول : التحول الديمقراطى يحتاج الى تجذير ثقافة الديمقراطية ، وبدون هذا تكون الديمقراطية مسرحية يتحكم فيها الرّعاع أمثال السيسى فى مصر وبشار فى سوريا وأقزام العراق فى العراق . تجذير ثقافة الديمقراطية يبدأ بتقويض سلطة الكهنوت . هذا الكهنوت يتأسّس على تقديس الناس لخرافاته ، ويتقوض ويتهدم بسخرية الناس منه ومن شعائره الدينية . إذا فقد هيبته وقدسيته داسته الأقدام . وإذا تحرر البشر من تقديس رجل الدين الأرضى فيستحيل عليهم تقديس حاكم مستبد يزعم أنه (مُلهم ) لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

9 ـ ليبدأ أحرار العراق من الإنعتاق من الطائفية ومن سلطة وتسلط الكهنوت ، ولبيدأوا حالا فى شنّ حملات على الانترنت تندد بهذا الكهنوت وقدسيته المزعومة وتنشر فضائحه ، وتدعو الى الانتماء القومى ( العراق ) الى الوطن العراقى الذى يسع أهل العراق جميعا وعلى قدم المساواة بغض النظر عن الدين والمذهب والملة والذكورة والأنوثة . المستبد يجعل نفسه (الوطن )، ومن يعارض المستبد يكون خائنا للوطن. الفأر الحاكم فى مصر ( السيسى )يعتبر نفسه ( مصر ) . الوطن فى الثقافة الديمقراطية  ليس مجرد المكان والموقع الجغرافى والحدود ، بل هو قبل ذلك الإنسان . فإذا كان عدد العراقيين 34 مليونا فإن الوطن العراقى يتقسم الى 34 جزءا لكل فرد جزء فى هذا الوطن .

10  ـ بدون الخروج من نفق الفتنة الكبرى ( 35 : 40 هجرية ) سيظل العراق ساحة كبرى للقبور الجماعية . كان هكذا من قبل ، ونريد لهذا أن يتوقف .

ثانيا : الرؤية الأصولية التاريخية

1 ـ جعل رب العزة جل وعلا قواعد للإهلاك وتعذيب الأقوام والشعوب ، كانت تسرى قديما بإهلاك كافة الكافرين ، قال جل وعلا : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴿١٦﴾ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴿١٧﴾ الاسراء ) بعده تحولت الى إهلاك جزئى بالتعذيب مستمر الى قبيل قيام الساعة ، قال جل وعلا : ( وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴿٥٨﴾ الاسراء ) ، وهو تعذيب يتكرر طالما رفض المترفون للإصلاح ، قال جل وعلا:( فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴿١١٦﴾ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴿١١٧﴾ هود ) . إنطبق هذا على العراق فى العصر العباسى حين كان مركز السلطة والثروة ، ولا يستطيع أحد وعظ الخليفة . لذا عرف العراق مذابح ومجاعات وأوبئة ، كان العراق مثالا لما نبّأ به رب العزة جل وعلا من قبل فى الآية 58 من سورة الاسراء . ونعطى بعض أمثلة :

2 ـ فى ظروف بالغة السوء عمل الزنوج فى استصلاح الأراضى فى العراق خدمة لأصحاب الضياع المترفين الذين كانوا يأكلون طبق ( الجام ) وثمنه ألف درهم ، وهو من ألسنة السمك . إستغل معاناة الزنوج شخص طموح فجعلهم وقود ثورته التى إستمرت من 225 ــ 270هـ . ولم تتغلب عليه الدولة العباسية إلا بشق الأنفس ، وقد دخل بأتباعه من الزنج البصرة وأعمالها وخربوها وسبوا النساء وأحرقوا ما وجدوه ، وأعقب ذلك الوباء الذي أفني خلقا لا يحصون ، وذكر الصولي إن صاحب الزنج قتل من المسلمين نحو مليون ونصف المليون ، وأنه قتل في يوم واحد بالبصرة نحو ثلاثمائة ألف وكان له منبر في مدينته يصعد عليه يسب فيه الصحابة ، وقالوا أنه كان ينادي علي المرأة الهاشمية في معسكره بدرهمين وثلاثة دراهم لمن أراد شراءها، وأنه كان عند الواحد من الزنج العشر من السبايا الهاشميات يطؤهن ويستخدمهن. ولم يتعظ العباسيون بالدرس فظهر القرامطة خنجرا فى خاصرة دولتهم ، ولم يتعظوا بدليل ما حدث فى خلافة القائم بأمر الله العباسى .

3 ـ في يوم الخميس 22 محرم سنة 448هـ تم عقد زواج الخليفة العباسي القائم بأمر الله علي الحسناء خديجة بنت أخي السلطان طغرلبك المتحكم في الخلافة العباسية ، وكان الصداق مائة ألف دينار ، وتم الزفاف  في شهر شعبان ، وقد أهداها الخليفة عباءة منسوجة بالذهب وتاجا مرصعا بالجواهر ، ومائة ثوب حرير مرصعة بالذهب وطاسة كانت تحفة بديعة الصنع ، قد صنعوها من الذهب ورصعوها بالياقوت والفيروز والجواهر ، وبالإضافة إلي تلك الهدايا العينية أعطاها الخليفة ضيعة هائلة علي نهر دجلة يبلغ إيرادها السنوي اثني عشر ألف دينار . وفي نفس الوقت كان الفقراء يموتون من الجوع خارج قصور الخلافة وقد ارتفع ثمن المحاصيل إلي أرقام مفزعة وصل أردب القمح إلي 90 دينارا بعد 20 فقط ، وتحول أغلب الناس لقطع الطريق بسبب الجوع فاضطر الفلاحون لبيع محاصيلهم بأبخس الأسعار لمن يستطيع حمايتها وازداد ارتفاع الأسعار حتى وصل ثمن حفنة الأرز إلي دينار وانتشر الموت بين الفقراء فكان يموت منهم كل يوم ألف إنسان ، ولم يعد أحد قادرا علي دفنهم ، فاضطر الخليفة والسلطان طغرلبك إلي تكفين 18 ألف إنسان خشية أن يفسد الهواء من رائحة الجثث ، فتصل رائحتها للقصور المعطرة الفارهة . ومع كثرة الموتى  من الفقراء وارتفاع ثمن القمح إلي 190 دينارا فإن أمير المؤمنين العباسي لم يهتم بما يحدث خارج أسوار قصوره . وجاءت سنة 449 هـ وقد تفاقم الأمر فافتقر الأغنياء واضطر الأحياء لأكل الكلاب  والموتي ، ثم بدأ الناس يأكلون بعضهم وارتبطت المجاعة بالوباء ، يقول ابن الجوزى في تاريخه " وشوهدت امرأة معها فخذ كلب ميت قد احضروها  وهي تنهشه.. ورؤي رجل قد شوي صبية فأكلها فقتل " وكان الفقراء يشوون الكلاب وينبشون القبور فيشوون الموتى ويأكلونهم . وكان الذي يشغل بال الخليفة القائم هو حملة صديقه السلطان طغرلبك علي الموصل وتكريت وقد نهبها وسبي نساءها ، ثم عاد منتصرا للخليفة فاستقبله الخليفة استقبالا حافلا ومعه الملأ والسادة الكبار ، وقد سجل ابن الجوزى مراسيم ذلك الاستقبال في حوادث سنة 449 هـ التي شهدت أحداثا متناقضة ، مجاعة ووباء وبؤسا بين الفقراء والجماهير ، ثم أفراحا ومآدب واستقبالات في الدوائر السلطانية الحاكمة .  وارتفع الوباء والمجاعة سنة 450 هـ وظلت الدوائر الحاكمة علي جبروتها وغرورها، فأخذ الجنود يعتدون علي الناس في الطرقات والبيوت ، وصاروا يخطفون العمائم من فوق الرءوس وتفرغ الوزراء لاضطهاد خصومهم من الشيعة وأهل الذمة ، وكان الخليفة غارقا في شهر العسل لا يزال ، ولكنه أحس بالقلق حين ارتحل السلطان طغرلبك عن بغداد إلي الشرق ليصلح أموره مع أخيه ، فلما خلت بغداد من العساكر أصبح الخليفة وحيدا في مواجهة الجماهير ، وانتهز الفرصة العدو الأكبر للخليفة وهو البساسيري فدخل بغداد يوم الأحد 8 ذي القعدة سنة 450 هـ وانضم إليه العوام وقطاع الطرق أو العيارون والشيعة ،  وقد أعلن البساسيري انضمامه للفاطميين وخليفتهم المستنصر في القاهرة ، وأعلن الدعوة الفاطمية في بغداد وانهزم الخليفة العباسي ودخل الجوعي قصوره ينهبونها وخرج الخليفة ومعه الملأ وكبار قومه وحوله جواريه حاسرات شعورهن وهو يدفع المصحف يستجير بالقائد الاعرابي قريش الذي تحالف مع البساسيري، وركع الخليفة أمام قريش يرجوه ألا يسلمه إلي البساسيري ويقول له " الله الله في نفسي ، فمتي أسلمتني أهلكتني وضيعتني وما ذلك معروف في العرب " !! وحملوا الخليفة علي جمل إلي الأنبار ثم إلي بلدة اسمها الحديثة ، حيث أقام مسجونا مدة عام وفيها عرف التضرع لله تعالي ، فأرسل استغاثة لله تعالي أوصلها بدوي إلي الكعبة ، يقول فيها : " إلي الله العظيم من عبده المسكين ، اللهم إنك العالم بالسرائر والمحيط بمكنونات السرائر ، اللهم إنك غني بعلمك وإطلاعك علي أمور خلقك عن إعلامي بما أنا فيه ... ". وقبل ذلك ببضعة شهور كان السلطان طغرلبك يدخل علي الخليفة في حفل الاستقبال الرسمي الذي أعده له في عظمة متناهية ، وقد ركع طغرلبك وسجد أمام الخليفة يقبل الأرض دفعات وفقا للبروتوكول العباسي في عبادة الخليفة... وكانت المآدب حافلة بما لذ وطاب من الطعام والشراب بينما يأكل الناس بعضهم بعضا من الجوع  ،  ومن نجا من الموت جوعا لم ينج من الوباء أو من جائع يأكل لحم البشر .ومرت الأيام وعرف الخليفة الذل والجوع ، ورأي العوام ينهبون قصره ويأخذون منه ما يتعذر حصره من الديباج والجواهر واليواقيت ، وكانت أم الخليفة  قد هربت وقاست الجوع والفقر فاضطرها الجوع لأن تكتب للبساسيري رسالة تشرح له فيها ما لحقها من الأذى والفقر، ووصلت الرسالة إلي البساسيري في محر م 451 هـ فاستحضرها وكانت في التسعين من عمرها وأكرمها .. وقد ماتت سنة 452هـ .. 

 4 ـ ولم يتعظ العباسيون فكان تدمير بغداد عام 656  على يد هولاكو . وقد عرضنا لمسئولية الخليفة العباسى المستعصم فى مقال منشور هنا بعنوان ( ليس دفاعا عن هولاكو ) . إحتكر هذا الخليفة المال ومعه خدمه بينما عاش العلماء المشاهير فى فقر مدقع . ويطفينا ما قاله الغساني صاحب كتاب "العسجد المسبوك" يصف السلطة العباسية فى أواخر أيامها (واهتموا بالاقطاعات و المكاسب ، وأهملوا النظر فى المصالح الكلية ، واشتغلوا بما لا يجوز من الأمور الدنيوية ، واشتد ظلم العمال – اى الولاة - واشتغلوا بتحصيل الاموال . و الملك قد يدوم مع الكفر ، ولكن لا يدوم مع الظلم .) . وقد رأى الخليفة المستعصم بنفسه طرفا من ذلك قبل ان يقتله المغول رفسا بأقدامهم. يقول الهمذاني فى كتابه : "جامع التواريخ" ان هولاكو بعد ان اقتحم بغداد دخل قصر الخلافة وأشار باحضار الخليفة المستعصم فلما جىء به اليه قال له هولاكو متندرا: "أنت مضيف ونحن الضيوف فهيا احضر ما يليق بنا" فأحضر الخليفة المستعصم بالله وهو يرتعد من الخوف صناديق المجوهرات والنفائس ، فلم يلتفت اليها هولاكو، ومنحها للحاضرين وقال للخليفة: "إن الأموال التى تملكها على وجه الأرض ظاهرة ، وهى ملك لعبيدنا ، لكن اذكر ما تملكة من الدفائن ما هى وأين توجد ؟"فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب فى ساحة القصر، فحفروا الأرض حتى وجدوه ، وكان مليئا بسبائك من الذهب الاحمر تزن الواحدة مائة مثقال" . وقد قتله المغول رفسا بأقدامهم ..وهو يستحق هذا .!

5 ـ ثم كانت مذبحة بغداد . يقول ابن كثير فى تاريخه عن المغول ( ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون‏. وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار‏. ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً، بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم‏.‏ وعادت بغداد ــ بعد ما كانت آنس المدن كلها ــ كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.. وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة‏ ، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس،  وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً ‏...‏ ‏ وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل  ..وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه‏.‏ ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون.. ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى .. وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد، وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو، فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق، وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام فالله أعلم‏.‏).

أخيرا

 المترفون فى العراق شهدوا مذابح صدام وداعش . فهل يريدون تحويل العراق الى حدائق من القبور الجماعية ؟ .

اجمالي القراءات 5360