من الفصل الأول من كتاب : ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ــ دراسة عملية )
خامساً : مقال توضيحي : فلسفة الهجرة في تاريخ الأنبياء من خلال آيات القرآن الكريم

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٢ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

خامساً : مقال توضيحي : فلسفة الهجرة في تاريخ الأنبياء من خلال آيات القرآن الكريم

من الفصل الأول من كتاب : ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ــ دراسة عملية )

مقدمة:-

1 ـ احتلت الهجرة منعطفاً هاماً في السيرة النبوية وحظيت باهتمام الباحثين باعتبارها معبرا هاماً عبر به المسلمون فترة الاضطهاد في مكة للاستقرار والانتشار في المدينة.

2 ـ على أن هناك جانباً هاماً لم يحظ بعدُ بالاهتمام ، إلا وهو فلسفة الهجرة في تاريخ الأنبياء السابقين ، وما جدّ عليها من تغييرات في عهد الرسول (ص) ومنبع هذه التغيرات . وهذا ما سنوضحه بعون الله وتوفيقه

أولاً- بين تاريخ الأنبياء والتاريخ الإسلامي :-

1 ـمن الخطأ أن يقتصر مدلول ( التاريخ الإسلامي ) على سيرة محمد عليه السلام وأتباعه ، فالتاريخ الإسلامي في حقيقته يشمل تاريخ الأنبياء منذ أن بدأت الرسالات . ذلك أن الإسلام هو الدين الذي نادت به كل الرسالات الالهية ، فالإسلام هو دين الله (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ.. آل عمران 19) وكل الرسل دعوا الى لا إله إلا الله : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ..الأنبياء25) ، غير أن كل رسول عبر عن الإسلام بلسان قومه ليبيّن لهم ( مَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ  ..إبراهيم4) ، والقرآن الكريم نزل بلسان العربية الفصيحة لعلهم يتذكرون ( إِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ..الدخان58) .

2 ـ  وقد قرر ربنا جل شأنه حقيقة هامه تكررت في مسيرة التاريخ الإسلامي أو تاريخ الأنبياء هي أن كل الرسل تلقوا نفس الوحي وواجهوا من أعدائهم نفس المواقف والأقوال، يقول تعالى (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ..فصلت43) أي كل ما يقال لك يا محمد  من وحى إلهي أو من إنكار من مشركي العرب إنما هو تكرار لما قيل للرسل من قبلك . وهذا يعنى أن الإيذاء والهجرة الذي واكب السيرة النبوية إنما هو تكرار لما حدث في تاريخ الأنبياء السابقين . وهذا ما فصّله القصص القرآني في مواضع مختلفة .

ثانياً- الهجرة في تاريخ الأنبياء السابقين :_

1 ـ كان التهديد  بالطرد والنفي أحد صنوف الإيذاء التي واجهها الأنبياء السابقون وأتباعهم . فقد أورد القرآن الكريم حواراً موحداً جاء على لسان كل الأنبياء في كل عصر ، جرى بينهم وبين خصومهم المشركين : إذ  كان المشركون في كل عصر يهددون الرسل فيه بالطرد والإخراج والنفي إن لم يعودوا إلى ملة الكفر ، يقول تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ..إبراهيم13) ، وهذا بالنص ما جاء على لسان مشركي مدين إلى نبيهم شعيب عليه السلام (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا..الأعراف88) .فكل الأنبياء في كل عصر هددوا بالنفي والطرد أو بالهجرة .

2 ـ وجاء في القرآن الكريم أن بعض الرسل أضطر فعلاً للهجرة ، فإبراهيم عليه السلام هدده أبوه بالرجم وآذنه بالطرد :(  قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ..مريم46) وأذعن إبراهيم عليه السلام وهاجر (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ..مريم47 ) ، وهاجر مع إبراهيم ابن أخيه لوط (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ..العنكبوت26) .  ثم أستقر لوط عليه السلام في سدوم وعمورة ودعاهم للتوحيد والكف عن المحرمات فهددوه بالطرد إن لم ينته عن دعوته (قَالُوا: لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ..الشعراء167 ) ولم ينته لوط بل أعلن (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ ..الشعراء168) أي المبغضين ، ولأنه إستمر على دعوته ولم يأبه بهم فقد تأمروا على إخراجه وتنفيذ تهديدهم (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ..النمل56) وجاء الوحي للوط عليه السلام يأمره بالهجرة وترك هذه القرية العاصية (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ..هود81) .

3 ـ ويبدو أن الكثير من الأنبياء قد أضطر للهجرة ، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى لرسوله محمد عليه السلام أثناء هجرته من مكة (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ..محمد13) .

4 ـ  إذن فقد عرفت الهجرة في تاريخ الأنبياء السابقين قبل الهجرة التي قام بها محمد عليه السلام وأتباعه . وهنا نتوقف لعقد بعض المقارنات بينهما .

ثالثاً- فلسفة الهجرة في الأمم السابقة :-

1 ـ يلاحظ ارتباط الهجرة بالتعذيب والفتنة . فقوم شعيب خيروه بين الطرد والرجوع للكفر ( لنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ..الأعراف88) وآزر يهدد إبنه ابراهيم بالرجم ويقرن تهديده بالطرد (لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ..مريم46)  . وفى الحديث الذي تكرر في سورة إبراهيم بين كل رسول وقومه , قالت الرسل (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ..إبراهيم12 ) ورد عليهم الكفار (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ..إبراهيم13 ) فالرسل توكلوا على الله تعالى وصبروا على الأذى ورد الكفار على صبر الرسل بتهديدهم بالإخراج من بلادهم وبالفتنة عن دينهم.

2 ـ وبسبب هذا الارتباط بين الهجرة وعنت المشركين نجد نبيا مثل موسى عليه السلام يرجو النجاة من العنت والأذى ويفضل الاعتزال والهجرة خوفا من جبروت فرعون وطغيانه, بالإضافة إلى أن من أهداف رسالته أن يهاجر ببني إسرائيل من مصر. يقول تعالى على لسان موسى لفرعون وملئه (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ، وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ، .. الدخان 20 :21) أي أن موسى عليه السلام يستعيذ بالله من أن يُرجم ، ويدعو فرعون إن لم يؤمن به أن يتركه يعتزل بقومه .

وفى قصة الفتية المؤمنين من أهل الكهف يصمم الفتية على الهجرة واعتزال قومهم خوفا من الرجم أو الفتنة عن الدين (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ...الكهف16) . وبعد أن آووا إلى الكهف ورقدوا فيه ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ثم استيقظوا لم ينسوا ما ينتظرهم من عذاب قومهم إذا عثروا عليهم .. (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ..الكهف20..   )

3ـ وبسبب طغيان المشركين وإيذائهم للأنبياء إلى درجة التهديد بالرجم والطرد والقتل فإن العقاب الإلهي كان يحل سريعا بالمشركين فيهلكهم بالصاعقة أو الصيحة أو الغرق كما تردد في قصص المشركين من قوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وفرعون .

4ـ ولم يرد في القصص القرآني حديث مفصّل عن قتال قام به الأنبياء السابقون وأتباعهم إلا ما ورد في قصة بني إسرائيل بعد موسى مع ملكهم طالوت حين طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً يجتمعون عليه ليقاتلوا العمالقة الذين أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم :(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ..البقرة246). ويلاحظ أن الجهاد هنا لم يكن مفروضا وإنما طلبه بنو إسرائيل بأنفسهم , وخشي النبي  - وهو يوشع بن نون في بعض الروايات – من نكوصهم عن الجهاد بعد أن يفرض عليهم , فأكدوا تصميمهم على الجهاد فقد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم . ومع ذلك التصميم فعندما فرض عليهم القتال فعلا ولى معظمهم الأدبار .

5 ـ  وهنا يبدو الفارق بين فلسفة الهجرة في عهد الأنبياء السابقين وهجرة محمد عليه السلام , إذ أن هجرته عليه السلام مرتبطة بالجهاد الدفاعى .

رابعاً – فلسفة الهجرة في الرسالة الخاتمة :

1 ـ لم يتغير موقف المشركين من محمد عليه السلام وأصحابه , فكرروا ما قاله أسلافهم المشركون الأوائل , من الأذى والتآمر والتهديد بالقتل والطرد , يقول تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... الأنفال30..). وتخفيفا عن الرسول عليه السلام وهو يرغم على ترك موطنه مهاجرا إلى المدينة نزل عليه في الطريق قوله تعالى (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ...محمد13)أي أن ما تعانيه من كفار قومك قاسى مثله إخوانك الأنبياء قبلك .

2 ـ ويبدو أنها غريزة عند كبار المشركين في كل عصر أن يستخدموا نفوذهم في طرد الرسل , من ذلك أن الرسول عليه السلام حين استقر له الأمر في المدينة لم يعجب ذلك كبير المنافقين عبد الله بن أبى بن أبي سلول , وكان على وشك أن يتوج ملكا قبل هجرة الرسول , فلما هاجر الرسول وأسلم أهل المدينة وانفض عنه الناس حقد على الرسول والمسلمين ونافق . وقد نسى عبد الله بن أبي نفسه وهدد بأنّه إذا رجع المدينة سيُخرجنّ منها الرسول والمهاجرين ( يقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ..المنافقون 8 ) أي أن ابن أبى عبّر في لحظة انفعال عما يجيش في خاطر كل مشرك متكبر مسيطر إزاء كل داعية للحق . ولم يختلف في ذلك عن الذين استكبروا من قوم شعيب أو قوم لوط . والمهم أن منطق المشركين في عهد الرسول لم يختلف عن موقف أسلافهم في عصر الأنبياء السابقين.

2 ـ ولكن الذي اختلف هو موقف الدعوة الخاتمة وطبيعتها. فالدعوة الخاتمة التي جاء بها محمد عليه السلام لم تكن كالرسالات السابقة، فالرسل السابقون كان كل منهم يرسل إلى قوم بعينهم في مكان بعينه في زمن معين .. فيؤمن به الأقلون ويكفر به الأكثرون , ويضطهد المشركون الرسول وأتباعه القليلين ويكون الحل النهائي في تدمير القوم المشركين وقطع دابرهم ويرث الأرض الصالحون .. إلى أن تتغير الأحوال وتتحول العقيدة إلى الشرك ويستلزم الأمر مبعث رسول آخر يجدد المسيرة ويقاسى ما قاساه الأنبياء السابقون, وتنتهي نهاية القوم كما انتهى أمر السابقين.. وهكذا. وجاء محمد عليه السلام رسولاً عالمياً للبشر جميعا منذ عهده وإلى أن تقوم الساعة , فليس رسولا فقط لقريش أو العرب أو القرن الذي بعث فيه , وإنما هو الرسول العالمي الذي اختتمت به الرسالات السماوية . ومن هذا المنطلق لم يعد هناك مجال لإهلاك القوم المعاندين وتدميرهم عن آخرهم كما حدث في الرسالات المحلية السابقة . فكفار قريش ليسوا هم كل البشر  وإنما هم جزء يسير منهم.

وقد كان الكفار في الرسالات السابقة يتحدون الأنبياء ويسخرون من عذاب الله قائلين ( فأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ..الأعراف70 ) وعلى هذا المنوال كان مشركو مكة يستعجلون العذاب , وقد بيّن ربنا في كتابه أن الأمر مع مشركي هذا العهد اختلف عن أسلافهم السابقين , فالسابقون كان إهلاكهم وعذابهم في الدنيا أما المشركون في عهد الرسول الخاتم ( ص) فعذابهم الأكبر في الآخرة . يقول تعالى (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ، بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ..الكهف58), (وَتِلْكَ الْقُرَى) – أي القرى المشركة فيما مضى – (..أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً.. الكهف59). ويقول تعالى (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ، يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.. العنكبوت 53 :55 )  فالله تعالى قرن لهم العذاب بيوم القيامة , لذا كثر سؤالهم عن الساعة باعتبارها ميعاد العذاب الذي يستعجلونه فينزل الوحي يرد عليهم (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ..النحل1 ) ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ؟، قُل : لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ، قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ ؟ آلآنَ  ! وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ،  يونس48: 51 ) .

وألح المشركون في استعجال العذاب فأمر الله رسوله أن يخبرهم أن ذلك من شأن الله وحده , وأنه لو كان من سلطة الرسول إيقاع العذاب بهم لقضى عليهم وأراح نفسه منهم (..َما عِندِي تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ... الأنعام57، 58).

3ـ وهكذا لم يعد إهلاك القرشيين المعاندين واردا , إذ طويت صفحة التدمير العام التي كانت تصيب المعاندين في الرسالات المحلية السابقة . وتعين على أتباع الرسالة الخاتمة أن يواجهوا المشركين بأنفسهم , فالصراع بينهما مستمر وقائم إلى أن تقوم الساعة , وعليهم أن يتخذوا لهذا الصراع عدته وأدواته . أو بمعنى آخر لابد أن تتسم العلاقة بين المسلمين وأعدائهم بطابع الجهاد بمراحله المختلفة التي تناسب ظروف المسلمين , كالجهاد بالقول والدعوة السلمية ثم الجهاد دفاعيا بالدم إذا كانت لديهم القوة الكافية , في هذا العصر تتحول الهجرة من مجرد هروب إلى عملية جهاد تنتقل بها الدعوة من الجهاد بالقول إلى الجهاد الدفاعى بالدم والحرب والقتال . هذا هو الطابع الأساسي للهجرة في الرسالة الخاتمة.

ومن الخطأ أن يقتصر معنى الجهاد على غزوات الرسول (ص) في المدينة, وإنما الجهاد بدأ بمواجهة المشركين بكلمة الحق والصمود بها أمام طغيانهم وعتوهم .وبهذا نصت الآيات الكريمة من سورة الفرقان المكية , يقول تعالى عن الذكر الحكيم (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً{50}.. فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً{52} الفرقان ). فالرسول عليه السلام وهو أعزل في مكة كان يجاهد المشركين بلسانه الناطق بآيات الله , وكانت أشق عليهم من وقع السيوف والحراب .

ومن الخطأ أيضاً أن ينصرف معنى الهجرة للرحلة التي انتقل بها المسلمون من مكة للحبشة أو للمدينة فقط . إن الهجرة من الهجر والإعراض وقد بدأ هجر الرسول (ص) للمشركين وإعراضه عنهم وعن تحرشهم به منذ أن أعلن دعوته في مكة . وبذالك جاء الوحي للرسول (ص) يعلمه (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ..الأعراف199 ) بل ويربط هجره للمشركين بالأمر بإعلان الدعوة والاستمرار فيها (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ..الحجر94 ) بل ويعرض أيضا عن أقوالهم (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ..المزمل10)  حتى لو بلغ الأمر تعرضهم بالاستهزاء لآيات الله فأعرض عنهم أيضاً (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ..الأنعام68 )

وهكذا ارتبطت الهجرة بمرحلة الصبر على الأذى التي عاشها النبي والمسلمون السابقون في مكة , بمثل ما ارتبط الجهاد بالصبر على الأذى أيضا , إذ ثابر المسلمون على الدعوة جهاداً منهم بالكلمة وتمسكاً منهم بالحق .. ثم تطورت  الهجرة من الإعراض إلى الهجرة العملية بمثل ما تطور به الجهاد القولي في مكة إلى جهاد دموي في الفترة المدنية .

بهذا تصبح الهجرة وثيقة الصلة بالجهاد أو بمعنى آخر تكون الهجرة في مفهوم الرسالة الالهية الخاتمة مرحلة من مراحل الجهاد تعنى الانتقال من مرحلة المقاومة الوقائية التي تقوم على الهجران والإعراض والصبر مع التمسك بالحق وإعلانه إلى مرحلة الجهاد الدفاعى الدموي .. فبالهجرة من مكة إلى المدينة عبر الرسول ومعه المسلمون عصر الجهاد القولي فقط  إلى إضافة  الجهاد الدفاعى بالسيف .

4ـ واعتبار الهجرة جهاداً عملياً ينبع من الربط القرآني بين الهجرة ومراحل الجهاد التي قام بها النبي (ص) والمسلمون معه. فقد شرع الله الجهاد بالسيف في صورة تدريجية تتناسب مع نمو القوة الإسلامية في المدينة . فجاء أولا الإذن بالقتال – قتال مشركي قريش المعتدين فقط – ثم تطور ليصل في نهاية الأمر إلى الأمر بقتال المشركين المعتدين كافة كما يقاتلون المؤمنين كافة بعد أن تعاظمت قوة المسلمين , وبعد أن ساد الإسلام الجزيرة العربية جاء الأمر الأخير بقتال العصاة المعتدين من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

والمهم أن الهجرة كانت من حيثيات الإذن بقتال مشركي قريش . فالآية التي أذنت بالقتال جاء فيها (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ..الحج39 ) أي أذن لهم في القتال لرد العدوان , ثم بين تعالى أهم المبررات في الإذن بالقتال فيقول (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ...الحج40) أي فالهجرة التي اضطر إليها المسلمون كانت سبباً أساسياً في تشريع القتال . ثم كانت الهجرة مسوغاً برر قتال المشركين في الشهر الحرام لأن إخراج المسلمين من ديارهم وهم أهل المسجد الحرام والأحق به – لهو جرم أكبر من القتال في الشهر الحرام  , يقول تعالى . (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ، وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ .. البقرة217 )

 5ـ واعتبار الهجرة جهاداً عمليٍاًٍ يظهر في نظرة القرآن الكريم لمن تكاسل عن الهجرة من المؤمنين , وهى نظرة لا تختلف عن رأى القرآن الكريم فيمن تثاقل عن الجهاد .

يقول تعالى فيمن تكاسل عن الهجرة (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ: فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ : كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا. فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً .. إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ .. النساء 97: 98 ).

ويقول تعالى عمّن تثاقل عن الجهاد  الدفاعى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ،أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ،فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ، إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ..التوبة 38: 39) . ثم تتحدث الآية التالية عن هجرة الرسول وأنهم إن لم ينصروه بالجهاد معه فإن الله تعالى نصره وهو وحيد مع صاحبه في الغار حين الهجرة .. (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...{40} التوبة )

والمهم أن القرآن حكم بالنار على من تكاسل عن الهجرة أو القتال إلا الضعفاء, يقول عنهم في معرض الجهاد الدفاعى :(لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ.. التوبة91).

6ـ واعتبار الهجرة جهاداً عملياً يتجلى في التعامل مع المشركين ومن لم يهاجر من المسلمين . فلا موالاة بين المسلمين والمشركين المعتدين ، كما أنه لا موالاة بين المسلمين ومن تكاسل عن الهجرة من مسلمي مكة . أي أن من تكاسل عن الهجرة وُضع في خندق واحد مع المشركين وصار خارجاً عن دائرة المسلمين ليست بينهم وبينه موالاة أو مودة . يقول تعالى في النهى عن مودة المشركين وموالاتهم (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ..الممتحنة9 ) ومن حيثيات النهى عن موالاتهم أنهم أخرجوا المسلمين من ديارهم وظاهروا على إخراجهم أي أعانوا عليه وقاتلوهم بسبب الدين . ويقول تعالى في النهى عن موالاة المسلمين الذين لم يهاجروا إلى المدينة ( والذين َالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ ..الأنفال72) أي فالهجرة هي الحد الفاصل بين مجتمع المسلمين ومجتمع المشركين.. ومن تكاسل عن الوصول لمجتمع المسلمين فليس منهم .

بل إن الهجرة دليل على الإسلام الظاهرى للأعراب المنافقين الذين كانوا يأتون المدينة على أنهم مسلمون ثم يغيرون عليها ، فإذ هاجروا الى المدينة أصبحوا من أهلها ، وإن لم يهاجروا وظلوا على خداعهم وجب قتالهم إن إعتدوا  ، يقول تعالى عنهم (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ..النساء89).

7ـ واعتبار الهجرة جهاداً يتجلى في ذلك الاقتران الدائم بين الهجرة والجهاد وتفضيل من جمع بينهما على من عداه. يقول تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ .. التوبة20) ويقول تعالى مبشراً لمن هاجر وجاهد وقتل ( فالذين فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ .آل عمران195) ونحو ذلك آيات كثيرة (البقرة 218 ،النحل 110،الحج 58) ربطت بين المهاجرين والمجاهدين وتحدثت عن آجرهم عند الله تعالى.

أخيرا :

وهكذا يتضح لنا من تتبع الهجرة في تاريخ الأنبياء من خلال آيات القرآن الكريم. الحقائق القرآنية الآتية:

1 ـ إن كل الأنبياء هددوا بالطرد والنفي وبعضهم هاجر فعلاً.

2 ـ إن هجرة الأنبياء ارتبطت باضطهاد المشركين لهم ومحاولة فتنتهم عن الدين .

3 ـ إن الهجرة في تاريخ الأنبياء السابقين ارتبطت مع الاضطهاد بفناء الأمم المشركة وإبادتها عن آخرها . أما الهجرة في الرسالة الخاتمة فقد ارتبطت بالجهاد الدفاعى قتالا، لأن الرسالة الخاتمة عالمية ودائمة إلى قيام الساعة ، وبهذا أمتنع نزول العذاب على المعاندين في الدنيا ،وتحتم على النبي وأتباعه أن يواجهوهم بالصبر ثم الجهاد قتالا دفاعيا ، وكانت الهجرة معبراً عبر عليه النبي وأتباعه مرحلة الصمود والصبر إلى مرحلة القتال . وكان ارتباط الهجرة بالجهاد في آيات القرآن الكريم أوضح دليل على فلسفة الهجرة في الرسالة الخاتمة على صاحبها – والأنبياء كلهم – السلام .

اجمالي القراءات 4317