لا جدال في الحج
الجدال هو النزاع و الاختلاف بين طرفين أو اتجاهين مختلفين و كل طرف يتهم الطرف الآخر بالخطأ و يدافع عن نفسه معتقداً بأنه الطرف الحق أو الأحق , فالجدال هو اختلاف جوهري و ليس مجرد خلاف , محوره المنهاج و ليس النهج .
في كتاب الله جل وعلا يردنا الجدال مقتصراً على الدوام بين الحق المطلق و الباطل المطلق , إما دفاعاً و إما اتهام .
ورد لفظ الجدل بمشتقاته في الذكر الحكيم 27 مره ,
ينقسم الجدال حسب التعريف الشامل إلى قسمين رئيسين ( يجادل عن , و يجادل في ) , إذا فالجدال الشامل قد يحوي الدفاع بتعبير ( يجادل عن ) , و قد يحوي الاتهام بتعبير ( يجادل في أو يجادل ب ِ ) , و قد يحوي و يحتمل المعنيين معاً .
الجدال برمته في كلامه جل وعلا يقع بين الأمر و النهي , و هذا يدل على وجود قوانين و ضوابط تحكمه و تضبطه .
و بناءاً على ما وردنا في الذكر الحكيم نستنتج و نستخلص الدلالات و العبر و المفاهيم التالية :
في قسمه الأول ( يجادل عن ) , أي يحتوي على الدفاع :
يقول سبحانه و تعالى :
( وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ) 107 النساء :
هنا نلاحظ النهي الصريح و الواضح بعدم جواز الدفاع عن الخونة الذين هم في موضع الائتمان و الثقة , أي لا يجوز الدفاع عن أي إنسانٍ مؤتمن قد خان أمانته بشكلٍ من الأشكال ,
و يقول سبحانه و تعالى :
( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) 111 النحل :
و هنا نلاحظ يوم الحساب كيف ستدافع كل نفسٍ عن نفسها أمام الحق جل و علا .
في قسمه الثاني ( يجادل في / يجادل ب ِ ) , أي يحتوي على الاتهام :
يقول سبحانه و تعالى :
( يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ) 6 الأنفال :
هنا نلاحظ حجم الاختلاف الواقع بين الطرفين , و الحق هنا هو كلام الله جل وعلا , فمن الناس من يجادل في هذا الحق المُبين نزولاً عند أهوائهم , و هم يعلمونه و يعلمون حقيقته و لكن لا يخضعون و لا يسلّمون به , فمثلهم كمثل من يساق للموت و لا يبالي , فهؤلاء يتهمون هذا الحق في وضوحه و صراحته يبتغون المعنى المغاير له , و كما نلاحظ هنا بأن الاختلاف محوره المنهاج ( كتاب الله ) و ليس النهج ( الدين ) .
و يقول سبحانه و تعالى :
( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ) 8 الحج :
( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) 4 غافر :
و هنا نلاحظ توجهات و مرجعيات من يجادلون في كلام الله جل وعلا باتهاماتهم و أكاذيبهم الباطلة ,
فهم يجادلون فيها و بها بدون علمٍ و لا هدى و لا حجه لهم , و مرجعيتهم أي منهاجهم يرتكز على كتبٍ أخرى , و لا يتخذون الكتاب المنير ( القرآن ) منهاجاً لهم ,
الإعلان بأن هذا الصنف من الناس هم كافرون بآيات الله جل وعلا و إن كان نهجهم ظاهره التدين - و هنا وجب الحذر بعدم الاغترار بهم - , لأن منهاجهم غير كتاب الله جل وعلا و مخالفاً له .
و يقول أيضاً :
( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) 74-76 هود :
هنا نستخلص بأن لوط عليه السلام في جداله عن قوم لوط قد خرج عن المنهاج الحق و ابتعد عن سننه و قوانينه , هذا الخروج تم التعبير عنه بقوله جل وعلا ( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) لأن الجدال في أمرٍ إلهي قد صدر يعتبر اتهاماً و إعراضاً لمنهاج الله سبحانه و تعالى , لأن الله جل وعلا لا مبدل لأمره و لا راد له , و من هنا جاء التنبيه لإبراهيم بالإعراض فوراً عن هذا الجدال لما فيه من لغط في سنن و قوانين و منهاج رب العزه سبحانه و تعالى .
و يقول أيضاً :
( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) 5 غافر :
هنا نلاحظ بأن جدال الأمم السابقة و اللاحقة هو جدالٌ في وجه الحق ( و الحق المطلق هو كلام المولى جل وعلا ) , و الهدف هو دحض هذا الحق الساطع أي اتهامه بالنقصان أو برفض بعضه أو بالتفريق بين رسله و التشكيك بوحدة رسائله , و هذا يؤكد بأن جميع الرسل و الرسالات ذات منهاجٍ واحد لا خلاف بأصولها , فهؤلاء الناس يستعينون بالباطل و يستندون على الأباطيل التي أوجدوها بغية اتهام الحق و دحضه أي تكذيب بيانه و رفض منهاجه .
القوانين و الضوابط التي تضبط الجدال :
يقول جل وعلا ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) 125 النحل ,
و يقول ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) 46 العنكبوت :
نلاحظ بأن الجدال هو نوعٌ من أنواع الدعوة إلى الله جل وعلا , فهو يتطلب ما تتطلبه الدعوة من حكمةٍ و موعظةٍ حسنة ,
إذا فغاية المسلم من خوض الجدال مع غيره تتمحور في الدعوة إلى منهاج الله جل وعلا , كما نلاحظ بجواز و إباحة خوض الجدال لمن امتلك القدرة و المقومات التي تؤهله بأن يكون داعياً لله و لنهجه جل وعلا , و تلك الإجازة سارية المفعول في كل وقت إلا في موسم الحج حيث يقول جل وعلا ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) 197 البقرة :
و هنا نلاحظ أنه في موسم الحج يجب أن يتوقف هذا الجدال و عليه نستنتج و نستخلص الأمور التالية :
* موسم الحج لا يقتصر على أمه بحد ذاتها , بل هو للناس كافه , لأن الجدال يتمحور حول المنهاج و اختلافه مع غيره .
* كافة الناس لها الحق في الحج لبيت الله الحرام و إن اختلف الحجيج بالنهج و الأسلوب , شرط أن يبتعد الجميع عن الرفث و الفسوق .
* يمنع على جميع الوافدين للحج في موسمه ( الأشهر الحرم ) بما فيهم المسلمين من الجدال , و علية يتوجب الامتناع عن دعوة الوافدين لتغير منهاجهم الذي يعتقدون به .
* الهدف من هذا الجمع هو عمل الخير و التزود به و أن يكون النهج خالصاً لله جل و علا .