نبأ سراقة ( الجزء الثاني)
كيف عرفت عفاف أن السارق هو السياف؟
قال الراوي: باتوا عرسانا شاكرين، وما غرموا غرما وقد غنموا غنما، فلما طلع الصباح خرجوا لأداء عمرة أخرى، فطافوا بحدائق القصر وعيونه، وافتتح القاضي المنسك بطرفة خفيفة، قال: زعموا أن قاضيا من ذوات الجناح أخطأ في حق طائر، فكره الحرفة وعزم على تركها لما يحفها من مخاطر، وبينما هو مضطجع يلاطف زوجه إذ طلع عليه غراب يشق الجيوب ويلطم الخدود ويشتكي من ظلم جاره ونتانة منقاره، قال القاضي: الحق معك، وما إن طار الغراب واختفى حتى ظهر نسر أبيض يبكي ويشتكي من جيرة المشتكي، قال: الحق معك، وما نعيق الغربان إلا كنهيق أولاد الأتان، وسمعته امرأته فحلقت عاليا وهي تقول: كيف يكون كلاهما محق ؟ ما هكذا يكون الفصل في الخصام، يا خير زوج عرفته أمة الحمام. قال: أنت أيضا محقة، فضحكت فاطمة حتى اهتز صدرها مبرزا زينته، فكفرته والتفتت إلى سراقة وقالت: أصغوا إلي أكمل قصة الكيد وكيف حيك الشبك: خرجت بكيس المجوهرات إلى المدينة فطفت بالصاغة والتجار أريهم الذهب مغالية في الثمن لحاجة في نفسي، ثم جئت أعيان المدينة فأغريتهم بقراءة العقد ليشهدوا على صحة ملكيتي للجواهر، وليكونوا شفعائي يوم تبلى السرائر، ثم جئت الدير بصحبة أختي سعاد، وكنتُ ملثمة صائمة، فوجدنا سراقة قائما يصلي، فخبأت الذهب على غفلة منه تحت السرير، فلما ختم الغافل صلاتة، ترك المحراب واقترب مرحبا، فأشرت إليه أني نذرت صوما، ثم سألته عن حكم السارق الأصم، فقال: بتر الأيدي جريمة، وبتر المصاب بالصمم جريمة مضاعفة، لأن الكف ـ بالنسبة للصم ـ بمثابة الحلق والشفتين وما بينهما:(قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)، فشكرته ودعوت له وللمؤمنين، ثم قفلت راجعة إلى القصر. وبالحقيقة كنت فارغة القلب حيرانة خائفة، لكن سرعان ما ذهب عني الروع إذ دخلت على عفاف فألفيتها مؤمنة بمتانة كيدها، راضية عن شبكة صيدها، ولما أخبرتها أن السمكة اسمها سراقة كادت تطير فرحا، قالت: اسم على مقاس الشرطة، ثم كتبت البلاغ الذي قرأه السياف بالمحكمة، وقالت: ليس بعد منسك الطواف إلا السعي، وسعيك يا فاطمة يبدأ بإلقاء هذا الخاتم بين المحكمة ومخفر الشرطة، قالت: ألقه بموضع بارز ثم اختبئي غير بعيد لترصدي من يلتقط اللقطة، ثم عودي إلي بالخبر. وكان ما كان، وجاء كهل إلى عين المكان فالتقط خاتم الفضة ثم ذهب مبتعدا، فرحت أقصه وأرقبه عن جنب، وبدا لي أن الرجل أحس بعين ترقبه فأختبأ وراء صخرة فواق ناقة، ثم قفل راجعا إلى المخفر، وبعد ساعة رأيت الأشراط يسألون عن شخص اسمه سراقة، حينها عرفت أن الملتقط محمدي أمين، قرأ الرسالة وأدى الأمانة. ولما رجعت إلى عفاف وأخبرتها بما جرى، قالت: الأمين لا يقرأ، وحسبنا الله ونعم الوكيل، عودي إلى بيتك راشدة، موعدنا يوم النحر، يوم يؤذن مؤذن القضاء سائلا عن الضحية .
قال الراوي: هنالك سمعوا صوتا كزعيق الغراب يصعد من مدخل الحديقة: إلي ، إلي، إنه ينزف، مزق يده، إنه ينزف، الغوث، الغوث !!فهبوا جميعا لنجدة الرجل، وكان القاضي اول من وصل، ولما أمسك بالجريح المترنح عرفه، قال : السياف؟ من فعل بك هذا، ونزع عمامته ليضمد الجرح، فخطف سراقة العمامة من يد القاضي وعقد حول ذراع الجريح عقدة، ثم شدها بقوة فأوقف النزيف، ثم أشار إلى القاضي أن احمله إلى القصر واجعله يستلقى ممدا على طاولة الطعام، ولما تفحص سراقة جرح السياف، قال: لا تخف علاجك عندي، ثم أسر إلى عفاف أن الجرح عميق ولن يلتئم إلا يالخياطة، فهرعت المرأة إلى غرفتها فأحضرت مخيطا وسكرا وعسلا، فأمسك سراقة بقارورة السكر وألقمها الجريح وهو يردد ويؤكد: اشرب حتى الثمالة لن تأثم، اشرب ليخف الألم ، ثم سكب بعض المُسكر على الجرح، فلما غاب المريض أخذ ينخز جلده ويخيط الجرح غرزة بعد غرزة فأكمل سبع عقد، ثم فك رباط الساعد، وغمس طرف العمامة في السكر فطهر الموضع مجددا وألبسته عسلا، وكان القاضي واقفا عند رأسه فاغرا فاه، ينظرإلى سراقة متعجبا من هدوئه وخفة يده، إلى أن فاجأه الطبيب بقوله: تحرك يا أبتي، احمل المصاب إلى السرير فإن آخر الدواء النوم والراحة والهدوء، فحمله القاضي إلى غرفة النوم فزمله، ثم خرج فأمطر سراقة بوابل من الأسئلة، كان يريد ان يعرف كل شيء عن الطب والجراحة والتطبيب، وكان جواب سراقة: بعدين، بعدين، قال: وما بعدين !؟ قال: لهجة قبطية،ومنهم أخذت الحرفة الطبية.. وبعد ساعة عادوا إلى السياف الجريح، فألفوه يبكي، فسأله سراقة: أما زلت تألم؟ قال: كلا، ولست أبالي، إنما المؤلم حقا أني ظلمتك يا سراقة، وظلمت فاطمة، بل اعلنتها حربا عليكم جميعأ، ولن أسامح نفسي. فمسح سراقة على رأسه وهو يقول: لا تثريب عليك يا أخي، وأسال الله جل وعلا أن يغفر لنا ولك ولجميع المؤمنين، فكل ابن أدم خطاء، ومن تاب واصلح فإن الله عفور رحيم. وجاءته عفاف فقدمت له كأسا، وقالت: اشرب بالشفاء، اشرب عسلا يمدك بالقوة ويعوض ما نزف من دم. قال: مزقت يدي بسكين من شدة الندم، ولولا حفظ الله لكنت من الخاسرين، شكرا جزيلا لك يا ابنة القاضي، أما أنت أيها الطبيب المداوي، فلن أنسى فضلك ما دمت حيا. وساد المكان صمت رحيم جميل، قطعه السياف بقوله: أين الشاب الذي جاء بي إلى هنا؟ قالت عفاف: ما إن أسلمك لأبي حتى تولى راكضا، فتحسس السايف جيبه وصرخ: ضاع الكنز، الحقوا بالولد !قالت: كيف نلحق به، وقد مضى على قدومك إلى هنا ساعات طوال، وسألته: ألا تعرفه ؟ قال: لا أعرفه،وجدني عند باب حديقتكم أمزق يدي فأمسك بي وزجرني، قالت: لن يفلت مني ولو رقي أسباب السماء، ولكن أخبرني ما الذي جعلك تقطع رسغك، وأين كنت حين أمسك بك السارق المنقذ؟ قال: خرجت من الجامع قاصدا المحكمة فأبصرت خاتم الفضة، فالتقطه وانزوت أقرأ الرسالة فسولت لي نفسى أن استولي على الكنز، فعدت فورا لمخفر الشرطة وسلمت الأمانة لأهلها !!ثم أممت وجهي شطر بيتي والشمس تهوي غاربة، فلبست لبسة شيخ متسول وحملت كانون جمر متقد، ثم جئت الدير وقد خيم الليل، فألفيت سراقة عند باب الدير يقرأ نجوم السماء، فأشرت إليه بعكازتي مستغسيثا: انقذ الطفل تؤجر !قال: طفل من؟ قلـت: خلف الدير طفل تطارده الذئاب!فخطف العصا من يدي وانطلق يريد انقاذ الطفل الكذب، حينها أوقدت نارا أضاءت ما حولي ودخلت المعبد فرأيت سجادا منتفح البطن، فعرفت ـ في الحين ـ أن الكنز هو الجنين، فحملته فانتبذت به مكانا قصيا، وطلع البدر علي فجلست أحصي المجورات فرحا بما اكتسبت، وما اكتسبت إلا إثما وظلما.. قالت: عفاف: غفر الله لنا ولك، أكمل القصة، أريدها مفصلة، قال: خبأت الكنز بحديقة بيتي، ثم كان ما كان، وتمت محاكمة سراقة وكنت أحسب أن أباك سيقطعه، فخيب ظني، فلبثت ليلتي تلك أفكر وأدبر فلما نودي لصلاة الفجر أخذتني سنة من نوم، أفقت منها خائفا مذعورا إذ رأيت في المنام ذئبا يلتهم ذراع ابنتي، فعرفت ان مصيبة ستلحق بي، وذكرت قول ربنا جل وعلا : ((وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ(22))
قال الراوي: قرأ السياف ما قرأ، ثم أغمض عينيه وسكن سكون الموتى، فأسرع إليه سراقة فجس النبض وتحسس نفسه، قال: الرجل متعب، لكنه بخير، صوموا عن الكلام واتركوه يستريح وينام، ولما خرجوا توجهت عفاف إلى مدخل الحديقة، وانحنت تفلي العشب قالت: هذا دم الجريح، وهنا مداس السارق، اريد الشرطة حالا، فخرج أبوها فأحضر شرطيين، فبادرتها عفاف بسؤال غريب، قالت: كم جزارا بالمدينة؟ قالوا: ذزينة أو يزيدون، قالت أريدهم جميعا، قلبي يحدثني أن مجوهرات فاطمة مع أحدهم. ولن يفلت السارق مني مهما كذب وتستر، وسافضحه حتى لو مات وقبر.. قال القاضي: عجبا لك يا ابنتي، كيف عرفت، ولم غفلت عن الاستثناء ؟ قالت: يا أبتي أنت معلمي وأنت مرشدي، لكن الجهر بالاستثناء غير مجدي، ثم قرأت من سورة يوسف أية واحدة كررتها مرتين ورتلها ترتيلا: ( فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96 ))(12).
... يتبع