( ثقافة الفقر ) : دولة مصر العميقة فى الماضى
أولا : الدولة الحديثة لا يمكن أن تكون دولة عميقة تتدخل فى كل شىء
1 ـ فى الدولة الحديثة لا توجد الدولة العميقة بالمفهوم المصرى. فى أمريكا أذهلتنى بساطة الإجراءات . فى شراء المنزل ( عقد البيع يحضره مختص من جهة الادارة مع البائع والمشترى وسمسار عن البائع وآخر عن المشترى ) ، ثم دفع الضرائب والتأمين. وهو بيع مضمون موثق حكوميا . فى تكوين المركز العالمى للقرآن الكريم ( جمعية أهلية تقبل التبرعات ) مجرد طلب ويتم التسجيل ، وتقرير سنوى ببيانات المركز ، ودفع ضرائب إذا وصلت التبرعات الى 25 ألف دولار سنويا ( ولم نصل لهذا الحد ) لذا ليس علينا سوى إقرار ضريبى بسيط دون تعيين محاسب. فى تكوين شركة تجارية للإنتاج الدرامى ( إبن رشد ) مجرد التسجيل وحساب بنكى ودفع 50 دولار سنويا رسوم التسجيل. وطالما لا تعمل الشركة فليس علينا إقرار ضريبى. كل شىء فى أمريكا تحت السيطرة وتحت الرقابة ، ولكن وفق قواعد بسيطة وقليلة ومعروفة وتعطى مساحة هائلة للفرد فى أن يحقق حلمه وفقا للدستور الأمريكى الذى ينص على حق الفرد فى السعى لتحقيق سعادته.
2 ـ زرت نابلس الفلسطينية وزرت القدس الشرقية ورأيت الرخاء والرواج والمستوى المعيشى المرتفع . قالت سيدة نابلسية أنه تقريبا لا يوجد فقير فى نابلس ، فالمطاعم مفتوحة وتسهر ليلا طويلا وكاملة العدد غالبا ، والأوكرانيات يهاجرن الى نابلس للعمل . وحتى فى غزة التى تعانى من حماس والحصار نتذكر أنه بعد سماح لأهل غزة بالتسوق من مصر جاءوا بدولاراتهم فأذهلوا المصريين ورفعوا أسعار السلع . لماذا يعيش الفلسطينى فى أعلى مستوى معيشى من أخيه المصرى ؟ لأنه لا توجد دولة عميقة هناك . الفلسطينى داخل اسرائيل يعيش فى دولة حديثة بلا تعقيدات بيروقراطية . حين إحتلت إسرائيل سيناء أعطت كل فرد سيناوى بطاقته الشخصية فى يوم واحد ، وتركتهم يعملون . فى الحكم الذاتى للفسلطينيين لا تتدخل السلطة سوى فى الأمن ، وتترك الأفراد يسعون الى الرزق ويدفعون الضرائب، ولهذا فلو كان هناك فقر فهو فقر محتمل عكس الفقر المصرى البشع .
3 ـ الدولة الحديثة تتقدم بالفرد وتتيح له أن يطلق كل إبداعاته وكل إمكاناته . تتيح للفرد أن يسعى للرزق وأن يعمل فى منظومة قانونية بسيطة وواضحة ثم يدفع الضرائب . ليس هذا فى مصر الآن .
ثانيا : الدولة المصرية العريقة
1 ـ فرعون موسى أعلن ملكيته لأرض مصر وأنهارها التى تجرى من تحته ( الزخرف 51 ) وحين غرق فرعون هذا بدولته العميقة ترك جنات وعيونا ومقاما كريما ، أى إن مصر الزراعية بخيراتها ورثها بنوإسرائيل بعد فرعون ودلته ( الشعراء 57 : 59 ) ( الدخان 25 : 27 ).
2 ـ إنتمى فرعون الى دولة الرعامسة العسكرية التى توزعت فيها ملكية الأرض إقطاعات على العسكر ، وهم يوكلون عنهم من ينوب عنهم فى تسخير الفلاحين فى الزراعة .
3 ـ بعد إنقراض حكم الفراعنة حكم مصر أجانب إستقروا فى العواصم ولم تكن لهم معرفة بالنظم المصرية وبالقرى المصرية والفلاحين المصريين فأوكلوا الزراعة الى كبراء الريف ، يدفعون الضرائب مقدما ثم يقومون بالإشراف على الزراعة وتحصيل أضعاف ما دفعوه . وحين جاء العرب إتبعوا نفس الطريقة ، وأسموها ( قبالات ) .
4 ـ وذكر المقريزى فى الخطط أن متولى الخراج كان يجلس في جامع عمرو بن العاص في الفسطاط وقد اجتمع عليه الناس من القري والمدن وبين يديه كاتب ورجل ينادي علي البلاد المصرية صفقات صفقات ، ويباع الإشراف علي خراجها في مزاد علني علي الحاضرين ، ومن يشتري خراج القرية يقال له " تقبل " خراجها ويقال للمنطقة التي أخذها " إنه تقبلها متقبلها " ومدة " القبالة " في العادة أربع سنين.وبعد بيع "القبالات" لكل النواحي الزراعية المصرية يقوم من اشتري " القبالة " بالإشراف علي " القبالة " من حيث الزراعة وإصلاح الجسور والترع والمصارف ثم يؤدي الخراج بالتقسيط بعد خصم ما دفعه في المزاد العلني والإصلاحات يخصم من الإيراد ، ويحصل على الربح .
5 ـ ونستشهد بقصة واقعية ذكرها المقريزى فى الخطط عن الخليفة المأمون العباسى حين جاء لمصر ليخمد ثورات فيها قام بها الأقباط عام 217 هجرية ، ثم تجول فى قرى الريف فى المصرى ليكشف الأحوال بنفسه ( وهذا ما لم يفعله رئيس مصرى بعد 1952 ) . يروى المقريزى (إن المأمون لما سار في قرى مصر، كان يبني له بكل قرية دكة يضرب عليها سرادقة والعساكر من حوله ، وكان يقيم في القرية يومًا وليلة، فمرّ بقرية يقال لها: طاء النمل فلم يدخلها لحقارتها ، فلما تجاوزها خرجت إليه عجوز تعرف بمارية القبطية صاحبة القرية ، وهي تصيح ، فظنها المأمون مستغيثة متظلمة فوقف لها ، وكان لا يمشي أبدًا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس ، فذكروا له إن القبطية قالت: " يا أمير المؤمنين نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي ، والقبط تعيرني بذلك ! وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفني بحلوله في ضيعتي ليكون لي الشرف ولعقبي ، ولا تشمت الأعداء بي. " وبكت بكاءً كثيرًا. فرقّ لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ، ونزل. فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ وسأله : كم تحتاج من الغنم والدجاج والفراخ والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع والفاكهة والعلوفة وغير ذلك مما جرت به عادته ، فأحضر جميع ذلك إليه بزيادة. وكان مع المأمون أخوه المعتصم وابنه العباس وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن داود ، فأحضرت لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده ، ولم تكل أحدًا منهم ولا من القوّاد إلى غيره ، ثم أحضرت للمأمون من فاخر الطعام ولذيذه شيئًا كثيرًا حتى أنه استعظم ذلك. فلما أصبح وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ومعها عشر وصائف مع كل وصيفة طبق. فلما عاينها المأمون من بعد ، قال لمن حضر: " قد جاءتكم القبطية بهدية الريف الكامخ والصحناه والصبر " فلما وضعت ذلك بين يديه إذا في كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته. فقالت: لا واللّه لا أفعل . فتأمّل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله فقال: هذا والله أعجب ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك. فقالت: يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا .! فقال:" إن في بعض ما صنعت لكفاية ولا نحب التثقيل عليك فردي مالك بارك الله فيك" ، فأخذت قطعة من الأرض وقالت: " يا أمير المؤمنين هذا وأشارت إلى الذهب من هذا وأشارت إلى الطينة التي تناولتها من الأرض ثم من عدلك يا أمير المؤمنين وعندي من هذا شيء كثير" فأمر به فأخذ منها ، وأقطعها عدة ضياع وأعطاها من قريتها طاء النمل مائتي فدّان بغير خراج، وانصرف متعجبًا من كبر مروءتها وسعة حالها. )( الخطط المقريزية 146 : 150).
6 ـ هنا قرية صغيرة ( حقيرة ) هى ( طاء النمل ) تشرف عليها إمرأة وفق نظام القبالات ، تعطى الضرائب ويبقى لها الكثير . هى تعرف فلاحى قريتها ، وهى تستثمر بهم ومعهم الأرض أفضل إستثمار ، ولا شأن للحاكم بما تزرع ، لا يهتم إلا بما تدفعه من ضرائب . ومن الطبيعى أن هناك من أصحاب القبالات من كان يعسف بالفلاحين ، ولكن الفلاح لم يكن فقيرا ، كان فى بيته المواشى من بقر وجاموس وغنم وماعز والطيور ، ويحصل منها على اللبن واللحم والبيض ، علاوة على ما يزرعه على هوامش المحاصيل الأساسية من خضروات وفواكه ، وسبق وصفها فى القرآن الكريم بالجنات والزروع والمقام الكريم .
7 ـ ظهرالإقطاع فى العصر المملوكى ، حيث تم توزيع القرى المصرية على أمراء المماليك ، وكانوا يتوارثونها ، وكان ابناء المماليك لقبهم ( أبناء الناس ) هم مُلاك هذه القرية ، ويوكلون عنهم من يقوم بزراعتها ، ويدفع ضرائبها . وكان عسف ( الكاشف ) أو (المحافظ فى عصرنا) بالفلاحين شديدا.وظيفته هى ( كشف الأرض ) أى تحديد الأراضى الزراعية فى منطقته أو (المحافظة التى يشرف عليها ).
8 ـ تغير النظام فى العصر العثمانى بعودة ( القبالات ) السابق ولكن تحت إسم ( الإلتزام )، وقد تولى الالتزام طبقة من الاثرياء يشترى أحدهم فى مزاد علنى قرية ما ويدفع مبلغا مقدما ، ثم يأخذ أضعافة بتسخير الفلاحين . وبسبب عسفهم بالفلاح المصرى فقد ألغى السلطان عبد المجيد الأول نظام الإلتزام عام 1839 م ، ووضع بدله نظاما ثابتا للضرائب . وفى مصر كان أغلبية الملتزمين من المماليك الذين صاروا الحكام فى الداخل المصرى تحت التبعية العثمانية ومعهم بعض الشيوخ أصحاب النفوذ ، وكان ينوب عنهم تابعون لهم من الخدم ومن كان قاطع طريق ، وجعلوهم متحكمين فى الفلاحين يمتصون عرقهم . وذكر الجبرتى أن الشيخ ( السادات ) كان أعوانه يضربون الفلاحين بالكرابيج . ساموا الفلاحين الخسف والظلم ، ودارت حرب خفية بينهم وبين الفلاح . كان الفلاح يتفنن فى إخفاء بعض المحصول ، ويتعرض للضرب ، فيبوح ببعض ما أخفاه ، ويتفاخر كل منهم بمقدار ضربات العصا التى تحملها .
9 ـ المتفق بين الجميع أن الأرض يملكها الفرعون الحاكم سواء كان الخليفة العربى أو السلطان العثمانى . وهذا ما أخذ به الوالى محمد على باشا فى بداية عهده إذ إعتبر نفسه المالك لكل الأراضى المصرية ، خصوصا بعد ان قضى على المماليك ، وفى عام 1814 ألغى الالتزام وإستبدله بموظفين يجمعون له الضرائب من كل قرية ، واخضعهم للعقاب إذا فرطوا فى مهمتهم. ولكن دخول محمد على فى حروب جعلته يبدأ خطوات ما يمكن تسميته تمليك الأراضى . بدأ بتوزيع حقوق الانتفاع ( عن حيازة الأرض ) وأولئك المنتفعون صاروا نواة لمن أصبحوا إقطاعيين مالكين للارض فيما بعد . وفى يناير 1838 بدأ يعطى ( رزقة ) أى أراضى لمن ينعم عليهم من أتباعه ، مع حق توريثها لأولادهم ، ودفع الضرائب . ثم أباح فى 1842 حق البيع والرهن للأراضى بعد إذن الخديوى . وبعد خمس سنوات عمّم هذا على صغار الفلاحين ليصبحوا مالكين . ثم كان الإقرار النهائى لملكية المصريين الأرضى فى عهد الخديوي توفيق فأصبح من حق مالك الأرضى التصرف فيها بدون إذن الخديوى .
10 ـ بهذا إتسع عدد ملاك الأراضى الزراعية من يملك بضعة أفدنة الى آلاف الأفدنة ، وما على المالك إلا أن يدفع الضريبة ، ثم هو يزرع كما يشاء دون تدخل من الدولة ، ولديه خبرة آلاف السنين فى الزراعة .
أخيرا :
1 ـ هنا دولة عميقة تغلغلت فى العمران المصرى ، وفى القرى المصرية ، ولكن تغلعلها إقتصر على جمع الضرائب ، بوسطاء ، ثم إنتهى الأمر الى تمليك المصريين الأرض ، وحقهم فى بيعها ، فتملك الوجهاء الأرض ثم باعوا الى صغار الفلاحين ، وإمتدت قاعدة الملكية بالبيع وبالميراث . وقبل أن تحل نكبة الانقلاب العسكرى عام 1952 كان الفلاح المصرى يحس بملكيته الأرض .
2 ـ كانت الدولة المصرية عميقة لم تتحول الى دولة شديدة العمق كما هو الآن . بالعسكر المصرى أصبح الفلاح المصرى ( حائزا ) للأرض وليس مالكا لها ، ولم يعد له حق التصرف فى زراعتها كما كان من قبل فى عهد الملكية . بذلك إنتشر الفقر الشديد فى القرى المصرية ، مما أجبر الفلاح المصرى على أن يقوم بأكبر هجرة فى تاريخه الطويل ، هاجر الى بلاد النفط ثم الى الغرب ــ لو إستطاع ــ هربا من الفقر فى بلده .
3 ـ وهذا يحتاج تفصيلا للدولة الأعمق والفقر الأفظع فى ظل العسكر المصرى .