ثقافة الفقر : تهريب أموال الشعب الى الخارج
مقدمة :
1 ـ صناعة الفقر يختص بها الحكام المستبدون خصوصا العسكر منهم ـ ليس فقط عبادة منهم للمال ولكن لهدف سياسى أكبر ، هو أن إفقار الشعب يجعله لا يجد وقتا للمطالبة بحقوقه السياسية ، وهى نصيحة مسمومة قيلت فى العصر العباسى : ( أجع كلبك يتبعك ). فإذا جعلت شعبك فقيرا فلا بد أن يتبعك منشغلا بقوته اليومى.
2 ـ أدرك الغرب مدى الحمق الذى وقع فيه حين كان بقوة السلاح ( يستعمر ) أقطارا ، ويتكلف الدماء والأموال ، ويظل فى مواجهة مقاومة مسلحة ومتاعب لا تنتهى. كل ذلك من أجل المال . إنتهى الغرب الى حل أمثل . تلك الأقطار لا تزال تعيش فى درجة حضارة أدنى ، مرحلة عبادة الأبطال . وبالتالى يمكن أن يصنع الغرب لهم أبطالا يعتبرونهم آلهة أو أنصاف آلهة ( الزعيم المُلهم ) ، وهذا الزعيم لا بد أن يكون مستبدا ، وبالتالى يخاف شعبه فيستعين بالغرب على شعبه . وحين يصل الى كرسى الحكم يرتعب من مغادرته ، ولا بد أن يؤمن مستقبله بتهريب أموال شعبه الى مصارف الغرب ، فتكون تلك الأموال تحت سيطرة الغرب ، فإذا سقط المستبد أصبح إسترجاع ما هربه مستحيلا أو مستبعدا . بالتالى يجنى الغرب ثروات ( الشرق الأوسط ) مستريحا .
3 ـ ونعطى بعض أمثلة :
أولا : مصر :
1 ـ فى عهد الملك فاروق كان هناك إستعمار بريطانى وفساد فى النخبة السياسية بما فيها الملك وحاشيته وإنعدام العدالة الاجتماعية . ولكن كانت هناك ليبرالية سياسية ودستور حقيقى ومجلس نواب ومعارضة وحياة حزبية وصحافة حرة وسلطة محددة للملك ،وكانت الأحوال الإقتصادية أروع . نسبة البطالة 2% ، والجنيه الذهبى يساوى 98 قرشا ، ولمصر رصيد ذهبى يغطى العُملة المصرية ، وكان الدولار يعادل ربع جنيه مصرى ، وكانت القاهرة تتصدر مدن العالم جمالا ، وكان الإيطاليون واليونانيون يعملون فى مصر حلاقين وجرسونات ، وكانت الموضة تظهر فى القاهرة قبل باريس ، وكانت القاهرة عاصمة للسينما تنافس أوربا ، وتاكسى القاهرة وقتها كان موديل كاديلاك أمريكى ، وأقرضت مصر بريطانيا ما يعادل الآن 29 مليار دولار . ولم تكن مصر مدينة ، وكانت تنتظر رجوع قناة السويس الى ملكيتها الكاملة عام 1968 . إشتدت حركة المقاومة المصرية ضد معسكرات الانجليز فى منطقة القناة فعاقبت إنجلترة المصريين بأن سمحت بنجاح إنقلاب الجيش ، وجعلت فاروق يتنازل عن الحكم بسهولة منقطعة النظير، لم يكن لفاروق وأسرته أموال مهربة فى الخارج ، وإحتاجوا الى من ينفق عليهم فى بداية المحنة ، وتكفل بهذا الملك السعودى عبد العزيز ، ثم ما لبث أن عمل أبن الملك وبناته لينفقوا على أنفسهم .
2 ـ كانت الانجليز يعرفون أن الضباط الثوريين شباب متخلف ثقافيا. كان جمال عبد الناصر فى الرابعة والثلاثين من عمره ، شابا طموحا للسلطة والشهرة ، فحكم مستبدا متهورا . قام ببعض إصلاحات داخلية اضاعها بهزائمه فى عام 1956 ، وفى اليمن وفى عام 1867 حيث أضاع سيناء . وسيئاته تطول ، ولكن نتوقف على موضوع تهريب الأموال للخارج .
3 ـ قام عبد الناصر بالتأميم وبالتمصير وأدخل تلك المؤسسات قطاعا عاما مملوكا للدولة تحت سيطرته ، وأستهلك رصيد مصر الذهبى فى حرب اليمن الفاشلة . فشل القطاع العام وبقية المنشئات الإقتصادية التى أدارها موظفون من أهل الثقة ، وتم بيع القطاع فى عهد السادات بفساد هائل ، ضاعت مليارات البيع ، هذا مع إرتفاع الديون المصرية الى مليارات أخرى .
4 ـ ويتحدثون عن زهد عبد الناصر وأنه ليست له أموال مهربة للخارج . وهذا إفك عظيم ، ونكتفى بدليلين فقط :
4 / 1 : قانون العمولات من شراء السلاح . سرى فى عهد عبد الناصر ، ولم يكن يجرؤ أحد على السؤال لأن ميزانية الجيش ومشترياته من الأسلحة تعرفها إسرائيل ، ولكنها من الأسرار الممنوع على الشعب المصرى معرفتها. ولا يزال هذا سائرا من عهد عد الناصر وحتى عهدنا السعيد. . فأين ذهبت أموال عبد الناصر من تلك العمولات، ونحن نتحدث عن عشرات الملايين .
4 / 2 : (على شفيق ) زوج المطربة مها صبرى ومدير مكتب المشير عامر ، وكان ضالعا فى شراء السلاح ، ثم هرب الى لندن بعد ما يسمى بثورة التصحيح التى تخلص بها السادات من حاشية عبد الناصر . وعندما قُتل علي شفيقفى منتصف السبعينيات فى لندن عثر البوليس البريطانى فى شقته على مليون جنيه إسترليني نقداً ، فماذا عن أرصدته فى البنوك ؟ .
ليس هناك تفسير لإغتيال على شفيق سوى الاختلاف على الأموال ، قام الليثى ناصف قائد الحرس الجمهورى للسادات بإعتقال وسجن حاشية عبد الناصر وفى السجن كانت المساومات وإستخلص منهم السادات الجزء الأكبر مما سرقوه ، وبعد مقتل على شفيق ظل شمس بدران يتلفت حوله وهو فى لندن خوفا من القتل . وشهدت لندن إغتيال الليثى ناصف عام 1973 ، وأشرف مروان عام 2007 . ومع هذا يظل عبد الناصر أقل فسادا من السادات ، ويظل السادات أقل فسادا من حسنى مبارك .
5 ـ عن ثروة حسنى مبارك وعائلته قالت جريدة الجارديان البريطانية إنها تبلغ بحوالى 70 مليار دولار، طبقا لتقارير هيئات النزاهة والشفافية الدولية ، وهى موزعة بين عدد من البنوك السويسرية، والبريطانية، والأمريكية، والآخرى فى ملكية عقارات فى لندن، ونيويورك، ولوس أنجلوس، ومنتجعات فى شرم الشيخ، والغردقة، وأسهم فى بورصات لندن وأمريكا والخليج وبعض بورصات آسيا.. ويبدو حصرها صعبا فى ظل توزعها بين أموال سائلة وإيداعات وسبائك ومشروعات عقارية وقصور وعمارات فى مدن أمريكا وبريطانيا.ويظل مبارك أقل فسادا من السيسى .
ثانيا : تونس وزين العابدين بن على :
1 ـ بلغت ثروته واسرته فى سويسرا فقط 56 مليون فرنك سويسرى . وهذا ما صرحت به الخارجية السويسرية . ولم تتمكّن الدولة التونسية على مدى 7 سنوات من حصر الأموال المهرَّبة إلى الخارج التي يمتلكها الرئيس الأسبق وعائلته، لكنّ تقريراً لمنظمة النزاهة المالية العالميةGlobal Financial Integrity صدر في ديسمبر 2015 أكّد أن قيمة الأموال المهرَّبة من تونس بين سنتني 1987 و2011 تقدَّر بـ33.9 مليار دولار وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف الميزانية التونسية. ."وهناك تقرير يشير إلى أن تونس تحتل المرتبة 57 عالمياً في قيمة الأموال المهرّبة، حيث كان يتم تهريب 1600 مليون دولار سنوياً. وقدرت منظمة الشفافية الدولية قدرت عام 2014 ثروة أسرة زين العابدين بن على فى الخارج ب 13 مليار ، يملك هو منها خمس مليارات . ولم تفلح تونس فى إستردادها .
ثالثا : القذافى
1 ـ كان القذافى يهاجم الرؤساء والملوك العرب بتهريب اموالهم فى الخارج . وبعد مقتله قالت التقارير الصحفية إن القذافى أخفى ما بين مائة مليار دولار الى 400 مليار دولار. وهي حسابات بنكية في الولايات المتحدة وإيطاليا وسويسرا وبريطانيا وفرنسا وجنوب إفريقيا ودول أخرى. كما تتكون من عقارات فندقية ومباني وسط بعض العواصم الكبرى مثل باريس.ويرى المتفائلون أن ليبيا لا يمكنها أن تستعيد إلا جزءا يسيرا من هذه البلايين المهربة خصوصا مع وضعها الراهن .ويعتبر اختلاس أموال ليبيا التي أخفاها القذافي في البنوك الغربية أكبر عمليات اختلاس في التاريخ حتى الآن . جدير بالذكر أنه كان للقذافى فى مصر إستثمارات بليونية يقوم عليها إبن عمه قذاف الدم المقيم دائما فى مصر. وتمت تلفيق تهمة لقذاف الدم ، وإعتقل بحجة مقاومة السلطان . وخرج بعد صفقة أدت الى دخول البلايين الى جيوب العسكر المصرى التى لا قاع لها . وأبناء القذافى الآن مشردون .!
رابعا : بوتفليقه فى الجزائر
1 ـ كان بوتفليقه متهما بالفساد قبل وصوله للرئاسة . وفى رئاسته تكونت حوله عصابة سلبت مقدار الشعب الجزائرى . وبسقوط بوتفليقة بدأ الجزائريونيتساءلون : "أين ذهب مبلغ التريليون دولار؟"، وهو حجم ميزانيات بوتفليقة التي صرفها خلال سنوات حكمه من 1999 حتى 2019. وذكرت قناة سويسرية أن بوتفليقة جمع مدة رئاسته ثروة ضخمة لا يملكها أي قائد أو رئيس دولة في إفريقيا.وأنه جمع ثروته من خيرات الجزائر من البترول والغاز الطبيعي، هذا في الوقت الذي تتخبط فيه الجزائر في أزمة مالية خانقة بسبب تراجع أسعار البترول.
2 ـ وإنتقد موقع "قناة الجزائر" تبذير أموال طائلة في وقت تعاني فيه البلاد من أزمات اقتصادية خانقة بسبب تراجع عائدات النفط وغياب استثمارات أجنبية وجمود القطاع السياحي.وذكر نفس الموقع أن تحقيقات مجلس المحاسبة الجزائري أظهرت أن بوتفليقة متهم باختلاس مبالغ أخرى تقدّر بحوالي 6 مليارات سنتيم وحوّلها إلى حسابه في سويسرا، وترجع قضية تحويلها إلى أمر وزاري أصدره بوتفليقة عندما كان وزيرا للخارجية في 14 فبراير 1966 إلى رؤساء البعثات الديبوماسية والقنصلية الجزائرية في الخارج يأمرهم فيه بالاحتفاظ بالأرصدة إلى حين يصدر في شأنها تعليمات خاصّة.
خامسا : حتى اليمن .!!
1 ـ في فبراير عام 2015 كشفت منظمة الأمم المتحدة عن تقرير يؤكد أن الرئيس اليمني السابق جمع ثروة تقدر بما بين 32 و60 مليار دولار خلال 33 سنة في السلطة عن طريق الفساد.وقال التقرير الأممي إن هذه الأموال التي جمعها صالح كانت تُعادل الناتج المحلي الاجمالي السنوي لليمن أثناء فترة حكمه الطويلة منذ عام 1978، وحتى عام 2012، حيث أبرم "صالح" عقود وصفقات فاسدة بحكم رئاسته لجمهورية اليمن واطلاعه على كل شئ، ما جعله يُبرم عقود غاز ونفط، وطلب أمولاً من شركات بعينها في مقابل منحها حقوق حصرية للتنقيب عن الغاز والنفط.
2 ـ تقرير الأمم المتحدة أوضح أن معظم ثروة صالح تم تحويلها إلى خارج اليمن بأسماء وهمية أو أسماء آخرين لديهم أصول نيابة عنه وكانت تأخذ شكل عقارات أو أموال نقدية أو أسهم أو ذهب أو سلع ثمينة أخرى ويعتقد انها امتدت في 20 دولة على الأقل.
3 ـ لم يكن تقرير الأمم المتحدة هو الأول من نوعه الذي يتحدث عن فساد الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، ففي عام 2013، كشف تقرير آخر بريطاني عن المعهد الملكي للسياسات الدولية أن ثروة علي عبد الله صالح تُقدر بعشرات المليارات من الدولارات، بينها قصور تاريخية في ألمانيا وأموال مهربة في مصارف خليجية وأجنبية، بالإضافة إلى شركات وعقارات وأسهم وشراكات مع رجال أعمال يمنيين وخليجيين.
سادسا : وحتى السودان
1 ـ البشير مطلوب للمحاكمة أمام الجنائية الدولية لأنه مجرم حرب ، وهو الذى كان يريد تطبيق الفتوى السنية القائلة بحق الحاكم بقتل ثلث الشعب فى سبيل إصلاح الثلثين ، وهو الذى اصدر أوامره لجنوده بإغتصاب الحرائر من بنات السودان الثائرات السائرات فى المظاهرت . لا يزال هذا البشير الحقير فى السجن ولا يزالون يحصرون ثروته المخبأة . ولا يوجد ذكر عن أمواله التى هربها للخارج قبل أن يكون مطلوبا للمحاكمة. ولعله فى أواخر زياراته الى بعض دول الشرق الأوسط قام بتهريب أموال خصوصا حين كان كرسى الحكم يهتز تحت مقعدته .
2 ـ قالت وسائل إعلام سودانية إنهم عثروا فى مقر إقامة البشيرعلى كميات كبيرة من النقد الأجنبي والعملة المحلية، بلغت أكثر من 6 ملايين يورو، و351 ألف دولار، و5 مليارات جنيه سوداني . وهناك تقدير آخر بالعثور على مبالغ مهربة تقدر بسبعة ملايين يورو و350 ألف دولار، وأنهم اكتشفوا حسابا باسم رئاسة الجمهورية لم يتم تحريكه منذ أكتوبر 2016 وبه مبلغ "315" مليون دولار و"142" مليون جنيه سوداني. ذكرت تقارير صحفية سودانية أن خزنا سرية ضخمة تخص الرئيس المخلوع عمر البشير وأشقاءه تم ضبطها في أحد مكاتبه.
أخيرا :
1 ـ لو تخيلنا فرنسا تحتل الجزائر حتى الآن هل كانت ستنهب التريليونات التى نهبها حكام الجزائر ( الثوريون )؟! نفس الحال فى تونس . لو ظل الملك السنوسى يحكم ليبيا وذريته هل كان سيحدث ما حدث ويحدث فى ليبيا حتى الآن ؟ لو ظلت انجلترة تحتل مصر ما فقدت مصر سيناء وما أصبحت مدينة بمئات البلايين .. ولو ظل البدر يحكم اليمن لكان اليمن أكثر إستقرارا وغنى عنه اليوم . وماذا عن سوريا .؟ وماذا عن العراق ؟
2 ـ بضعة أشخاص أفقروا وقهروا أكثر من 200 مليون شخص ، وارغموهم على تمنى حُلم الهجرة الى الغرب . الغرب الآن يفرك يديه سرورا ، تأتيه ثروات الشرق الأتعس تسعى .
3 ـ اكثر من هذا يبيع الغرب للمستبدين السلاح ليحصل المستبدون على عمولات بالملايين . السلاح يحتاج الى تجربته عمليا . عندها فالفقراء هم الجنود القتلى وهم الذين يدفعون تكلفة السلاح الذين يقتلهم . ويظل الفقراء يهتفون للمستبد : ( بالروح بالدم نفديك يا فلان )..
4 ـ هل هناك خيبة أكثر من هذه ؟
5 ـ من نلوم ؟ نلوم الظالم أم المظلوم ؟