على أرض إتسعت رقعتها، وذاع صيتها بالقوة والنفوذ، كان لشعبها موعد مع حكم رجل ديكتاتور، ليقبع في حكم البلاد عقود من سنوات عجاف، ظلت القوة والنفوذ باقيين، ورحلت السعادة، والرخاء من أرجاء المعمورة في البلاد.
لم تكن البلاد فقيرة، إلا أن ناسها قد أصبحوا فقراء إلا قلة قليلة، ولم يكن الشعب مستبد أو متكبر، بل كان مسكيناً يرضى بما قسم له، إنها متناقضات لا توجد إلا في الدول الديكتاتورية أو الشمولية ..
هكذا كانت رؤية "قوتا"، فتاة صحافية شابة، ولدت خارج بلدها الأصلي، في مجتمع حر ديمقراطي، وعندما عادت لبلادها، إصطدمت بالواقع الديكتاتوري المر، لكن .. بما أنها فتاة تلقت التعليم خارج أرض وطنها الفاشل تعليمياً، فقد وضعت أجهزة البلاد المعنية أعينها عليها، ولما لا، فالديكتاتور يريد أن يصدر أشخاصاً تعلموا تعليم جيد للعالم الخارجي، ولا يأبه لأبناء شعبه المساكين والفقراء في كل شيء.
فأرسل المعني بالإعلام سيارة فارهة، لتصطحب "قوتا" إليه عنوة !، فإستاءت الفتاة من الأسلوب العنيف في الإستدعاء، وذهبت مرغمة على مضض، تستنكر إستخدام القوة، عليها وعلى أبناء جلدتها، حتى إلتقت بالمسئول الكبير، فرحب بها ترحيباً شديدا، فأخرجت ما أسرته في نفسها تجاهه، فأخبرها أن تلك طريقتهم، ولن تتغير إلا بعد أن يعي الشعب ويفهم، تماماً مثل باقي الشعوب المتحضرة، ودخلت الفتاة مع المسئول في جدل عقيم، حتى أخبرها المسئول بسبب إستدعائها، فقال لها :
المسئول : هل تحبين بلادك، ومستعدة لخدمته.
قوتا : بلى.
المسئول : إذاً نحن نطلب منك أن تتولي رئاسة تحرير جريدة "المدينة"، فهي أكبر الصحف إنتشاراً، وتوزيعاً.
قوتا : وهل سأعمل بحرية، أم ستفرض القيود على عملي.
المسئول : ستكون لكِ مطلق الحرية
قبلت قوتا العرض، وتولت رئاسة تحرير جريدة المدينة، وسنحت لها الفرصة كرئيسة تحرير، في تكوين علاقات بمختلف الطوائف من الشعب الفقير بعضه، والمسكين أغلبه، وبات الشعب يحب "قوتا"، ويثني عليها في السر والعلن، حتى علم الحاكم الديكتاتور بأمرها، فأرسل إليها يطلبها للزواج، حتى كان اللقاء، فإزداد إعجاباً بها، بينما إزدادت هي إمتعاضاً منه :
الديكتاتور : جمالك مثل شهرتك، وعقلك كما طيبتك، أي نوع من النساء أنت.
قوتا : أنا إمرأة تبحث عن الحق، ومثلك ديكتاور لا يستطيع أن يراني، فكيف رأيتني.
الديكتاتور : ومن قال لكِ أني ديكتاتور، إنه لقب أطلقه على الفاشلون، والحقدة، ما أنا إلا رجل صالح يحب الناس ويحب بلاده لذلك رأيتك.
قوتا : كيف تسمي نفسك بالصالح، وأنت الطالح، أما ترى السجون الممتلئة في عهدك، أما ترى الشعب ذو الفقر المدقع، ألم ترى الظلم الذي حل بـديلاً عن العدالة.
الديكتاتور : عزيزتي قوتا .. لماذا تتسرعين، كما يتسرع الأغبياء من هذا الشعب، أنت إمرأة مختلفة، فلستِ مثلهم، أعيدي النظر، وستكتشفين أن كل ما قلتيه عني خطأ، حتى وإن صدقتِ في كل ما قلتي، فإن ثبت لكِ العكس، تعالي وأخبريني بقبولك للزواج، وإن لم يثبت فأنت في حل من طلبي يا عزيزتي.
خرجت قوتا من قصر الزعيم الديكتاتور، بعد أن طلبت منه أن يعطيها من الصلاحيات ما يكفي، لتستكشف ما إذا كان الديكتاتور ظالماً أو مظلوما !، وفكرت قوتا ملياً بكلام الديكتاتور، ووجدت أنها امام لغز محير وهو :
كيف يكون الديكتاتور صالحاً، وهو من يقف وراء الظلم الذي تعيشه البلاد ؟.
نزلت قوتا بحي شعبي، بعد أن إفتتحت مقراُ لجريدة المدينة، وأعلنت أن المكتب يتلقى شكاوى الناس، فانهالت عليها الشكاوى، فكان منها :
- شكوى من رجال ونساء، إستعبدت الشرطة أبنائهم، فلفقوا لهم القضايا، وعذبوهم، ونالوا منهم بكل ما تحمله النفس من شرور.
تأكدت قوتا من صدق الشكوى، وقررت أن تعدل الموازين المنقلبة، فإستخدمت صلاحيتها التي منحها إياها الزعيم الديكتاتور، فأطاحت بقيادات الشرطة، وقامت بتعيين نفس الشباب الذي لاقى الظلم على أيديهم في نفس مواقعهم.
- وجاءتها شكوى أخرى من فقراء لا يجدون قوتهم، يستجدون الخبز من الأغنياء كل يوم، إلا انهم يمنعوه عنهم !، وهنا إستخدمت قوتا الصلاحيات الممنوحة لها أيضاً، فصادرت أموال الأغنياء، وقامت بتعيين أصحاب الحاجة حراساً على أموالهم ليديروها هم بمعرفتهم.
- وجائتها شكوى ثالثة من أشخاص يعيشون وسط القمامة، في ظل تجاهل متعمد من المسئوليين المعنيين، فقررت قوتا، ترحيل المسئوليين من منازلهم ليقيموا وسط القمامة، في نفس مكان أصحاب الشكوى، وأمرت بأن ينتقل أصحاب الشكوى لسيكنوا في الأماكن الراقية نفس أماكن سكن المسئوليين.
وبعد مرور ستة اشهر، طلب الديكتاتور من قوتا اللقاء، فذهبت إليه ودار بينهما الحوار التالي :
الديكتاتور : طال غيابك، وأرجو ان تكوني قد نظرتي إلى نصف الكوب الممتلئ.
قوتا : نعم قد نظرت إلى الكوب مرات ومرات، فوجدته كله فارغاً، لذا أرفض الزواج منك، فأنت رجل ظالم.
الديكتاتور : هل لي أن أطلب منكِ طلب اخير، وبعدها لكِ أن تؤكدي رفضك أو قبولك للزواج ؟.
قوتا : بلى.
الديكتاتور : عليكِ بالتخفي، ومراجعة ما قمتِ به من إصلاحات، فإن وجدتِ نفسك حقاً قد حققتي إصلاحاً، فلا تعودي إلي، وإن وجدتي نفسك قد أسأتي سأنتظرك كزوجة لي.
قبلت كوتا عرض الديكتاتور، وبالفعل غيرت من ملابسها، وشكلها، ولكنتها، حتى تستكشف ما آل إليه حال المجتمع الذي قامت بإصلاحه.
- فذهبت أول ما ذهبت إلى مكتب الشرطة الذي قامت بتغيير قياداته، وسألت الناس : هل وجدتم العدالة في ظل قيادات الشرطة الجديدة.
أجاب الناس قوتا قائلين : لعنة الله على إمرأة تدعى قوتا، قد أزالت عنا ظلمة، وأتت إلينا بالفجرة !، فقد كانت الشرطة الماضية قاسية على الخارجين عن القانون، أما اليوم فقد تولى الخارجين عن القانون أمورنا، فاستباحوا كل شيء بعد أن آلت إليهم السلطة، ورفعوا من شأن الفاجرين أمثالهم على حساب الشرفاء منا.
- تلقت قوتا الصدمة، بيد أنها تماسكت لتستكشف باقي ما قامت به من إصلاحات، فذهبت إلى من قامت بتعينهم حراساً على أموال الأغنياء، وطلبت منهم خبزاً لشدة فقرها، فإذا بهم يرفضون مقابلتها أو إعطاءها الخبز، وأخبرها وكلاؤهم، أن الخبز لا يوزع إلا مرة كل إسبوعين وليس كل يوم، وعليها أن تأتي في اليوم المحدد !.
ذهب قوتا بعدها إلى الأغنياء الذين سلبت منهم ثروتهم عنوة، لـ تستجدي منهم الخبز، فإذا بهم يقدمون لها طعاماً، تعجبت قوتا من كرمهم، وسألتهم : كيف لكم بالأموال وقد سمعت ان أموالكم قد تمت مصادرتها، وأنا قد إعتقدت أنكم تعيشون الآن على الخبز من الحراس المعينين على أموالكم، فإذا بكم تعيشون في حال ميسور.
أجاب الناس : نعم كنا أغنياء، وقد سُلبت أموالنا من خلال إمرأة ملعونة تدعى قوتا، ظنت أننا سنكون من المتسولين، لكننا نأبى أن نكون هكذا، لقد بحث كل منا عن عمل، وها نحن نعول أنفسنا، ونعول غيرنا.
- خرجت قوتا متعجبة من زيارتها في عملها الإصلاحي الثاني، وذهبت متشوقة لتعرف، ماذا حل بعملها الإصلاحي الثالث، فذهبت للحي الراقي، الذي نقلت إليه سكان القمامة، فإذا بالحي الراقي تحيطه القمامة من كل جانب !، فسألت من اتى بالقمامة ؟، فرد عليها الناس : السكان الجدد هم من يخرجون ويلقون القمامة، غير عابئين بالروائح الكريهة أو العيش وسط العفن.
ثم عاودت إلى حي القمامة، فوجدت أن القمامة قد أُزيلت، فسألت من أزالها، فرد الناس، أن السكان الجدد هم من أزالوا القمامة لأن أنفسهم تأبى العيش بينها.
إنتهت قوتا من رحلتها الإستكشافية، ثم طلبت موعداً مع الديكتاتور، لتفهم منه أسباب ما حدث، وهل له دخل فيه أم لا.
قوتا : كيف علمت بأن خطتي الإصلاحية قد فشلت.
الديكتاتور : لأنني أعلم منكِ، بنفوس أبناء شعبي.
قوتا : الم تتدخل بأي شكل، حتى تفشل ما أصلحت ؟.
الديكتاتور : ولماذا أتدخل !، وما فلح من يزرع في صحراء قاحلة.
قوتا : الا يستحق الناس من هو أفضل منك ؟.
الديكتاتور : لا .. فأنا أفضل من يحكمهم.
قوتا : لكن .. أنت رجل ظالم.
الديكتاتور : لا يقبل بالظلم إلا ظالم.
قوتا : أي نوع من البشر جميعكم.
الديكتاتور : نوع الشعب (ظالم)، أما أنا فرجل فيلسوف.
قوتا : قد غلبتني يا فيلسوف، سأتزوجك لكن بشرط أن تبقى صلاحياتي كما هي، فلا تسلبها مني، فقد أنجح يوماً ما.
الديكتاتور : قد قبلت .. فلماذا أسلبك صلاحياتك، وأنتي إمرأة تريد أن تجرب أكثر من مرة، وهذا أمر لا يجوز في أي بلد آخر إلا عندي فقط.
شادي طلعت