النداهة رؤية طبية تاريخية
بقلم الدكتور رضا عامر 7 ابريل 2019
النداهة اسطورة ريفيه مصرية موغلة في القدم لابد ان لها مثيلات فى الثقافات الاخرى لا نعرفها. وملخص الاسطورة انها تتحدث عن جنية.. وهى مؤنث جني.. تتجسد في شكل امرأة بارعة الجمال تعيش تحت الماء وفي جوف الليل تخرج من الماء ناثرة شعرها الطويل شديد السواد علي كتفيها ولهذا السبب أطلقوا عليها اسم (أم الشعور) وتتوجه الي القرية القريبة فتغوي بجمالها أحد الرجال والجدير بالذكر أن ضحاياها دائما من الرجال فتشد انتباهه بجمالها الصارخ وتسلبه لبه وهي تنادى عليه باسمه يا فلان يا فلان وهذا هو سبب تسميتها بالنداهة فيتبعها مسلوب الارادة حتي تنزل الي الماء فينزل وراها ليلقي حتفه ويموت غريقا..
أما ما حدث في قريتنا في الزمن القديم فيحكى جدى موجها حديثه الي ابى ما رواه له ابوه عن الشيخ عبد العزيز وهو أحد فلاحي القرية الذين لا يملكون حيازات زراعية ولكنه يقوم بزراعة أراضى بعض الأفندية بطريقة المشاركة.. كان عبد العزيز فلاحا عاديا ولكنه تميز بأنه حفظ بعض أجزاء من القرآن الكريم مما أهله ان يؤم الناس في صلاة الجماعة في زاوية القرية فأطلق عليه الفلاحون لقب الشيخ وصار الشيخ عبد العزيز...
استيقظ أهالي القرية في صباح ذلك اليوم الباكر علي صراخ احدى الفلاحات وهي تقف علي جانب الترعة الكبيرة بالقرب من الهويس وهي اكثر بقاع الترعة عمقا وهي تولول بأعلي صوت غريق غريق الحقونا يا ناس وماهي الا دقائق الا وقد انتشل الشباب جثة الغريق فاذا هو الشيخ عبد العزيز مرتديا جلبابه الازرق القصير عارى الرأس وشعر ذقنه الطويل يقطر منه الماء.. تري ماذا دفع الشيخ عبد العزيز الى النزول في الترعة الكبيرة وفي هذه البقعة العميقة وحيدا في منتصف الليل والناس نيام. لم يستغرق الامر وقتا طويلا حتي تحدث أهل القرية عن وفاة الشيخ عبد العزيز غرقا بعد أن ندهت عليه النداهة أم الشعور فسار وراءها حتي غاصت في الماء فنزل وراءها ولقي حتفه غرقا.
أما التفسير الذي قفز الي ذهني عندما استمعت الي القصة من أبي أن الشيخ عبد العزيز انتحر .. نعم انتحر .. قد تكون هذهِ الفكرة راودت بعض أهل القرية ولكن حسن ظنه جعله لا يقبل هذه الحقيقة اذ كيف بالشيخ الذي يؤم الناس في الصلاة أن يقدم علي الانتحار وهو يعلم تمام العلم أن المنتحر يموت كافرا ومصيره الخلود في النار فكان من الحصافة ان تتحمل النداهة المسئولية ويتمكن أهل القرية من الصلاة علي الميت ودفنه في مقابر القرية كمسلم صالح .. وأنا هنا لا أناقش قضية كيف سيحاسب الله الناس يوم القيامة القضية التي طالما شغلت كثيرا من رجال الدين لأن اعتقادى أن هذا هو علم الله جل وعلا ..
وليس خروجا عن السياق هنا أن أقص علي مسامع القارئ العزيز قصة قصيرة حدثت لي وأنا نائب أمراض باطنة بالقصر العيني اذ طلب مني أحد أطباء الامتياز أن اتوجه معه الي منزلهم في ضاحية مصر الجديدة لمناظرة الحالة الصحية للمربية التي أتي بها جده من الصعيد الجواني وهى شابة صغيرة لتعيش في منزل الاسرة حتي صارت جزءا منه وهي اليوم سيدة مسنة مريضة. وحين دلفت الي الغرفة وجدت ان المريضة قد فقدت الكثير من وزنها وهي راقدة في فراش نظيف وعلي ذقنها الوشم الازرق الذي اشتهرت به نساء الصعيد قديما.. كانت ضعيفة ولكنها في حالة وعى كامل في منتهي الانتباه وسألتنى مباشرة .. انت الطبيب فأومأت بهز رأسي فقالت شوف يا طبيب يا تشوف لي دوا للوجع يا تسجيني سم .. وكانت حالتها سرطان متقدم في المعدة منتشر الي الكبد والعظام.. خرجت من الغرفة ونصحت الزميل ان يصحبها في الصباح الى معهد الاورام لمقابلة احد الزملاء هناك ولكنني وجدته مع زملائه في القسم في الصباح فسألته عن المريضة فأجاب.. الست ماتت.. بعد ما حضرتك مشيت ودخلنا ننام هى زحفت الي الشرفة وألقت بنفسها الي الشارع .. شغلتني قضية كيف سيحاسب الله هذه السيدة التي لم تنل أي قسط من التعليم ويعلم الله وحده حجم الالام التي كانت تعانيها .. وعندما عدت إلى منزل العائلة توجهت بسؤالى الي ابي الذي أجابني بكل وضوح وهو متجهم الوجه .. وانت مالك هو ده شغلك.. ثم بلهجة زاجرة.. انت تعمل شغلك بس وانصحك ألا تفكر بهذه الطريقة مطلقا لأنه قد ينتهي بك إلى أن تفقد إيمانك .. انتهت القصة ..
الآن اتفقنا ان الشيخ عبد العزيز انتحر ولكن ماهو السبب الذي دفعه الي الانتحار .. انه الاكتئاب .. ولتبسيط الامور اوضح ان الاكتئاب مرض يصيب النفس.. والنفس في العلم الطبي هى مجموعة من الموصلات الكيميائية في المخ والتوازن بينها هو المسئول عن الحالة المزاجية للانسان او المود.. فعندما يختل التوازن وتقل نسبة الدوبامين والسيروتونين يحدث الاكتئاب .. ومرض الاكتئاب ككل الامراض له مضاعفات وأهم مضاعفاته الانتحار تماما مثل ان الانفلونزا قد تؤدى الى الالتهاب الرئوى وان التهاب الاذن الوسطى قد يسبب خراج المخ والامثلة كثيرة.. اذن فمن الناحية العلمية فان الانسان المكتئب معرض للانتحار وعلي الطبيب مواجهة الموقف بمنتهي الاهتمام باعطاء المريض الادوية وقد يلجأ الي العلاج بصدمات كهربائىة للمخ لحماية المريض من هذا المصير وربما يكون الحل الأخير هو العلاج الأمثل لهذا الموقف..
والآن دعني اذهب بك يا عزيزي القارئ الي وجهة مختلفة. طالما كانت دراسة التاريخ تستهويني وتاريخ الكشوف الجغرافية بالذات من الفترات الغنية في التاريخ تجعل الانسان يعيش في هذا الجو الساحر باستمتاع كبير. وعندما قرأت تاريخ الكابتن جيمس كوك البحار الانجليزى العظيم الذي اكتشف كثيرا من جزر المحيط الهادى والساحل الشرقى لاستراليا ونيوزيلنده. يروي المؤرخ قائلا (وفي هذه الرحلة فقد الكابتن كوك كثيراً من بحارته لأنهم كانوا يلقون بأنفسهم الي عرائس البحر) .. وبقليل من التأمل نجد أن هناك تشابها واضحا بين حكاية هؤلاء البحارة وقصة غرق الشيخ عبد العزيز..
السؤال التالي والمنطقى هو ما هو الرابط المشترك بين الحالتين والذى أدى بالشيخ والبحارة بل ودفعهم دفعا الي ان يلقوا بانفسهم في الماء ليموتوا غرقي ثم يأتي تفسير الذين يحسنون الظن بأن المسئول هي النداهة وعرائس البحر .. انه الاكتئاب..
واخيرا توصلت الي المرض المسئول عن هذه الظاهرة.. انه مرض البلاجرا
والبلاجرا مرض يتسبب عن سوء التغذية ونقص بعض العناصر الغذائية كالبروتينات والفيتامينات.. هذا المرض كان شائعا في الريف المصري وأصبح نادرا في الوقت الحالي بعد تحسن المستوي المعيشى للفلاحين واحلال خبز القمح محل خبز الذرة. وكان مرض البلاجرا والاسقربوط أيضا من الأمراض الشائعة في البحارة.. ويسبب هذا المرض مجموعة من الاعراض ملخصها كما يقول كتاب الطب 3Ds الاولي التهاب الجلد Dermatitis بشكل طفح جلدى له مواصفات معروفة والثانية اسهال مزمن Diarrhea والثالثة Dementia خلل عقلي ذهانى يتميز باكتئاب شديد.. ويقول كتاب الطب بكل وضوح إن الاكتئاب المصاحب لمرض البلاجرا قد يؤدي الى الانتحار وان الانتحار يكون عادة بطريقة الغرق أي تغريق النفس ....