معنى الإلحاد في القرآن

سامح عسكر في الأحد ٣١ - مارس - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

يخطئ الفقهاء المسلمون بإسقاط معاني الإلحاد في القرآن على الإلحاد الحديث، والكلمة ليس معناها إنكار وجود الله بل لها معانٍ أخرى قال بها الفقهاء الأوائل ومعنى ثابت سنشرحه في هذا المقال، والقصة تبدأ من قوله تعالى " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا"..[فصلت : 40] فلو كان معناها إنكار وجود الله لسَكَت عن قوله "في آياتنا" وأصبحت "إن الذين يلحدون" فقط ، وكذلك فإنكار وجود الله قد يحدث بدليل عقلي كما حدث لبعض منكري الآلهة في اليونان فكيف سيحاسبهم الله ويتوعدهم لمجرد قناعاتهم الخاصة؟

الكلمة كما قال مجاهد تعني "الطمس – التغطية – التشويش" بقوله أن المشركين كانوا يكفرون بالمكاء والتصدية أي بالصفير والتصفيق، ومن هنا حرّم الفقهاء القُدامى كلا الفعلين لارتباطه بخصال الجاهلية، وحديثا أفتى الحنابلة والسلفيين بحُرمة التصفيق والصفير لنفس السبب، وبالتالي أصبح كلمة يلحدون معناها "يطمسون – يُغطّون – يُشوّشون" وجميعها سلوكيات تعني الكفر، أي أن الإلحاد والكفر هنا بمعنى واحد.

ويؤكد ذلك قوله تعالى " وذروا الذين يلحدون في أسمائه"..[الأعراف : 180] فلو كان معناها إنكار وجود الله لأصبح "وذروا الذين يلحدون" إنما إضافة أسماء الله كإضافة آيات الله في سورة فصلت، ويؤكد أن الملحدين في القرآن كانوا يؤمنون بآيات الله وأسمائه قناعة في أنفسهم إنما لطغيانهم وكفرهم كانوا يستهزءون ويسخرون، وفي السريانية معنىً قريب من هذا حيث يُقال أن كلمة يلحدون تعني"يلغزون" ومعناها السخرية والاستهزاء في الآرامية، وهذا – إن صدق - يرجح أن مصدر الكلمة آرامي نبطي قديم كُتِبَ في القرآن بنفس الحرف الآرامي لكن بعد التنقيط وتطوير اللغة العربية اختفى معناها الأول وبدأ الفقهاء في اكتشاف معنىً جديد.

كذلك لو كان معناها إنكار وجود الله فلماذا قال تعالى " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" [النحل : 103] ما دلالة الإلحاد هنا في سياق الحديث عن اللغة؟..ففي التراث قالوا أن قريشا اتهمت النبي أن أعجميا يُدعى "أبي فكيهة" هو الذي يُعلم محمداً القرآن وآخرون يقولون اسمه جبر النصراني، وكان أبو فكيهة مولى لعامر بن الحضرمي من أهل الكتاب، وبالتالي أصبح معنى كلمة يلحدون في سورة النحل "يميلون" أي أن الذي تميلون إليه وتسموه أعجميا بينما هذا لسان عربي تفهموه فلماذا تدعون أن هذا يُعلّم ذاك ؟ يفترض أن النبي كان أعجميا إذا تعلم شيئا من أبي فكيهة..!

والمعنى الضامر لكلمة "يلحدون إليه" أي بغُلوّكم وكِبرِكم واستهزاءكم أصبحتم تميلون عن الحق بادعاء أن النبي يقتبس ويسرق من كلام الأعاجم، وفي اتهامهم دلالة أن المجتمع القرشي كان يسمع ويصدق الحملات الإعلامية الكاذبة التي أطلقها صناديد قريش، هنا عامل القوميات والأعراق يتدخل كما لو كنت تتهم معارضا بالخيانة فتجيش مشاعر العامة وتحشد الدهماء عليه، بينما النبي كان يؤكد لهم أنا منكم وأتحدث بلغتكم فلماذا تتهموني بالخيانة والاغتراب؟

وعند مقاتل بن سليمان نفس هذا المعنى الضامر حين فسر قوله تعالى "إن الذين يلحدون في آياتنا" قال : " يعني أبا جهل يميل عن الإيمان بالقرآن- بالأشعار والباطل" (تفسير مقاتل 3/ 744) وهو نفس المعنى الظاهر لقول مجاهد أن المشركين مالوا عن القرآن بالمكاء والتصدية، وبالتالي أصبح كلمة يلحدون تعني التغطية في محل العلم، أي الإنكار المتغطرس الكاذب كما لو كنت تعلم أن عدوّك على حق لكن تحاربه لأطماع شخصية وهواجس نفسية ، فالله لن يُحاسب صادقا في إيمانه أو إنكاره بالمطلق إنما حرّم الله الكذب لدوره العظيم في الكفر والشرور التي تحدث في الكون، ودائما ربط الجنة ومنازلها للصادقين المؤمنين مما يعني أن الإيمان والعمل هما من خصال الصادقين..لكن ليس كل صادق مؤمن ضرورة والعكس غير صحيح.

لكن السؤال هنا ماذا لو كان النبي يعلم لغة الأعاجم ثم ترجم القرآن بلغة العرب؟..والجواب يتطلب ثبوتا لعلم النبي بلغات القوم وهذا لم يأتِ لنا خبره من التاريخ، حتى مصادر غير العرب التي نقلت علمها بالنبي لم تُشِر إلى حديثه بلغاتهم، مما يعني أن اتهام قريشا للرسول أنه كان يأخذ علومه من الأعاجم هو توسل بالمجهول ولا يعدو كونه مجرد اتهام لا دليل عليه، فحتى التشابه بين بعض تفاصيل القرآن والكتاب المقدس – بعهديه الجديد والقديم – يؤكد أن الدين في أصله واحد ولم يُنكر ذلك بقوله تعالى " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل" [آل عمران : 3] " وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم" [البقرة : 41] " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم" [النساء : 47]

وحقيقة أن اتهام قريش هذا غبي جدا..فليس حجة منطقية لدحض الشبهة، حيث أن الرد قوي وسهل " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته" [فصلت : 44] أي لو جاءكم بلغة أبي فكيهة الأعجمية لقلتم لا نفهمه وبحاجة إلى شروح وتفصيل، وهنا تركيز من القرآن على أن الهدف من الدعوة ليس إعلاء اللغة أو القوم أو العرق أو القبيلة بل إرشادهم للعمل الصالح بلغة المحل، فالتوراه أنزلت بالعبرية والإنجيل بالسريانية ثم تُرجموا بعد ذلك للغات اليونان والعرب والمصريين، مما يعني أن اتهام قريش الغبي هذا هو معنى الإلحاد المقصود..أنتم تتوسلون بالقومية والقبيلة للرد على الشبهات..بينما الرد العلمي كان يتطلب منكم مناقشة تفصيلية وموسعة لكل مواد وأساسيات وثوابت الإسلام.

مع العلم أن التاريخ لم ينقل لنا مصنفات عربية معارضة للرسول في زمنه، وهذه قد تكون حجة لهم أن المصنفات كتبت لكنها فقدت أو أحرقت، والجواب أن العرب لم يعرفوا الكتابة والتصنيف في هذا الزمن، بل القرآن تاريخيا هو أول كتاب عربي خُطّ بالقلم الحجازي النبطي، طُوّر بعد ذلك عن طريق الفقهاء لنشر الإسلام، أي أن الكتابة العربية تطورت لأغراض نشر الدين والتواصل مع العالم والقبائل ليس إلا، وفي فقه اللغة يؤكد ذلك أن الخطوط دائما تتطور بدوافع دينية كالخط الحبشي مثلا ዕዝዕዝəəə والذي ظهر في القرن الرابع بقصد التبشير المسيحي في الهضبة الأثيوبية، وأصله مزيج بين الهيروغليفية والسبئية القديمة، كذلك الخط السيريلي Кириллица المستخدم في روسيا ودول البلقان الآن ظهر في القرن التاسع بغرض التبشير المسيحي بين شعوب السلاف، وأصله من اليونانية والفينيقية.

كذلك الخط العربي الحالي وأبجديته أصله من الآرامية النبطية..نفس الشئ الخط العبري الحالي אָלֶףבֵּית ظهر مع الأسر البابلي لليهود في القرن السادس ق.م ، وتم تطويره ليناسب ثقافة ولغة أهل العراق وشمال الحجار وقتها المتحدثين بالسريانية، واستعمله اليهود لإقناع أهل الرافدين بدينهم، أي أن أصل الخط العبري هو الأبجدية الآرامية وخليط من الآشورية والفينيقية الأقدم مع العلم أن الخط العبري القديم הכתב העברי הקדום كان يُستخدم في مملكة يهوذا في القرون من العاشر إلى السادس ق.م وأصله من الفينيقية والهيروغليفية.. لكن توقف اليهود عنه بعد الأسر البابلي واضطروا لمخاطبة شعوب الشرق الأوسط بلغة جديدة وهي الخط العبري الحالي، مما يعني أن اليهود قبل الأسر كانوا منغلقين للحد الذي لم تتطور فيه كتابتهم أو كانوا مُبشّرين حتى وقفوا على خطهم العبري القديم ثم توقفوا.

ما لم يدركه القرشيون ومن أجله اتهموا النبي أن اللغة بنت زمانها تخضع لعوامل دينية في الغالب، والزعم بأن هناك لغة مقدسة هو كلام يردده الكهنة على مر العصور، ويبدو أن مصدر هذا الاتهام هم كهنة قريش في معابد اللات والعزى ، فاليهود اعتقدوا أن العبرية ما دامت هي لغة الكتاب المقدس فهي لغة مقدسة، نفس الشئ قاله بعض المسيحيين عن القبطية واليونانية والآرامية، ووقع العرب في نفس الخطأ بالقول أن اللغة العربية هي الأقدم والأٌقدس، بل زاد بعضهم بأنها لغة أهل الجنة..والسؤال الحاسم: لو نزل الكتاب المقدس أو القرآن باللغة الصينية ألا يحق وقتها للصينيين بأن يفتخروا بلغتهم والزعم بأنها لغة أهل الجنة؟..وما ذنب العربي إن لم يفهمها؟..هذا هو معنى الرد القرآني " أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر"..[فصلت : 44]

لكن هذا لا يعني اتفاق المفسرين الأوائل على معنى واحد، فكما قلنا أن الإلحاد الأول كان مفهوما لمجتمع النزول، لكن بتطور اللغة وصياغة خط جديد في العصر الأموي تخيلها الفقهاء بمعانٍ أخرى كالإشراك والتكذيب، وهو قول قتادة الذي قال أن معنى يلحدون يشركون وهذا يشير أن قصة إنكار وجود الله لم يعرفها المسلمون الأوائل بيد أن من نعرفهم ملحدي تلك الأزمنة كانوا ربوبيون في الحقيقة أي يؤمنون بالله لكن لا يعتقدون في الأديان، وهي ثقافة امتدت طوال القرون الوسطى حتى انتهت مع بدايات القرن 19 بظهور الإلحاد المعاصر بمعنى إنكار وجود الله مع فيورباخ في كتابه "أصل الدين" ونظريتي "موت الإله" لنيتشه و "الطوطم " ليسجموند فرويد، وتعززت بالاكتشافات الحديثة لداروين في البيولوجيا وإينشتاين في النسبية.

لكن الخلط بين الإشراك والتكذيب في معنى يلحدون عند قتادة يشي بأن معنى الإشراك نفسه وقر في قلب الفقهاء الأوائل بمعنى مختلف عن معناه في القرآن، فالإشراك في القرآن يتضمن معاني الكفر والشر، وقد جاء في غالب أحواله مناقضا لمعاني التوحيد والحنفية الإبراهيمية " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين" [آل عمران : 67] فالإشراك إذن لا يعني الكذب لأن هناك من يُشرك عن قناعة ذاتية صادقة، إنما خُصّ مجتمع الإشراك بتلك الأوصاف لفعله الشر وهو خطاب مقيد بجنس الفعل والسلوك، كما في قوله تعالى " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم "..[الأنعام : 137] فمشركي الهند مثلا لا يقتلون أولادهم وهذا ينفي العموم..حتى أن لفظ" كثير" نافيا للعموم مما يعني أن مشركي مكة والعرب لم يكونوا أشرارا بالمجمل بدليل إسلام بعضهم ثم أغلبيتهم بعد حين، كذلك نفي صفة الكذب عن المشركين بثبوت جهلهم كما في قوله تعالى " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون" [التوبة : 6]

وقد شاع هذا الخلط عند المفسرين الأوائل حين اعتبروا الإلحاد يعني التكذيب كما عند التستري ت 283هـ، أما وصف الإلحاد بالإشراك فجاء من دافع التدليس كما قال الطبري " وكان إلحادهم في أسماء الله، أنهم عدَلوا بها عمّا هي عليه، فسموا بها آلهتهم وأوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، فسموا بعضها "اللات" اشتقاقًا منهم لها من اسم الله الذي هو "الله"، وسموا بعضها "العُزَّى" اشتقاقًا لها من اسم الله الذي هو "العزيز"..(تفسير الطبري 13/ 282) وبغض النظر عن صحة معلومات الطبري حيث أن مصادر واشتقاقات اللات سريانية لا علاقة لها بالعربية التي يفهمها، لكن تفسيره للإلحاد من هذا الجانب يعني أن بقايا المعنى الأول للإلحاد كانت موجودة في عصر الطبري وهو "الطمس والتغطية والتشويش" فحسب كلامه أن تسمية اللات لله تشويش وتغطية للفظ..مع يقيني أن حجة الطبري هذه كشفت ضعفه العقلي واللغوي حيث أن العقائد لا تتبدل بالتدليس اللغوي بل بالمعاني والدلالات..ماذا يفيد قريش إذا حرّفت كلمة الله إلى اللات؟..المهم معناها موجود وهو الخالق الإله الأوحد.

لكن الغريب أن الطبري نقل عن ابن عباس في تفسير الإلحاد بالمعنى السابق "التدليس" والتكذيب معا، لكن من يعرف الطبري لا يستغرب فالرجل كان يجمع أخبار وروايات عصره كلها صحيحها بسقيمها دون تمحيص.

أخيرا: العرب لم يتصوروا وجود بشر ينكر وجود خالق كسمة عامة لزمان الرسالات، فالصراع الفكري حدث بين معتقدات في الحقيقة وليس بين وجودا ونفيا للخالق أو مناقشات حول معنى الوجود بالأصل، هذه في رأيي ظهرت مع تقدم العلم بدأت على استحياء بشكل فلسفي ثم توسعت بشكل علمي ووصلت لأوجها الآن بأشكال مختلفة من ضمنها الجانب السياسي، ولعل البعض لا يدرك أن هناك إلحادا سياسيا لتصورهم أن الدين يجب أن يحل معضلة الدولة بخلاف ما تصورته الجماعات، وهؤلاء رد فعل على الجماعات في الحقيقة، بيد أنهم غير مهتمين سوى بالرد على نصوص السياسة في القرآن وليس في قدرتهم الخروج من تلك الدائرة الإيمانية..لذا قلت في بحوث سابقة أن الإلحاد الحقيقي فلسفيا وعلميا قليل والذي نراه إما تصورات إيمانية بشكل آخر أو ردود أفعال.

أما صنوف الإلحاد كما ظهرت أخيرا باللاأدرية واللادينية والربوبية واللاإكتراثية وغيرها فهي تعزز ما قلناه بأن العالم القديم لم يعرف قصة إنكار وجود الله أو الخالق أو القوة العليا المهيمنة، بل تصوروا تلك القوى بأشكال مختلفة إما تعددية وإما واحدية بدليل غياب مناقشات الإلحاد بهذه الأشكال الحديثة في مصنفات العالم القديم، وبالتالي خطأ الفقهاء في إسقاط المعنى القرآني على إلحاد العصر ليس مجرد خطأ لأن النتيجة شيطنة ملحدي العصر جميعهم واعتبارهم أعداءً للدين، بينما بعضهم صادقين وباحثين عن الحقيقة..لهم رأيهم الذي قد يتفق أو يختلف معهم لكن الأساس السلوكي ليس محل خلاف، وعلى هذا تم تأسيس نمط الإيمان أنه اعتراف حصري بالعمل الصالح وأما العقائد والطقوس فهي تعزز ذلك العمل الصالح أو تكذبه.

اجمالي القراءات 6404