تشريع العقوبات
تشريع العقوبات

أسامة قفيشة في الإثنين ١٨ - مارس - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

تشريع العقوبات

لقد وضع الإسلام أسس العقوبات الجزائية للجرائم العظمى , و اقتصرت تلك العقوبات على الجرائم التي تلم بالعِرض و المال و النفس , و ترك القرآن الكريم الكثير من الجرائم و التعديات الأخرى للتشريعات البشرية لتبت في أمرها و تضع لها العقوبات الأمثل لكل مجتمع بما يراه أهل الاختصاص فيه .

سميت تلك الجرائم و تلك الاعتداءات بالفساد بنواحيها الثلاث ( العِرض و المال و النفس ) .

و تلك هي الحرمات التي حرم الله جل وعلا على البشر إتيانها , بأن جعل لها عقوبة دنيوية تنفذها الدولة نظراً لخطورتها على أمن و سلامة المجتمع البشري , فهي اعتداءٌ سافر و انتهاكٌ خطير يهدد تماسك المجتمع و يدفع به نحو الانهيار , فأساس الدين هو التماسك و الانضباط بين البشر بالأمن و السلام .   

يقول جل و علا جامعاً لأوجه الفساد بكل نواحيه ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) , فهذا جزاء المفسدين في المجتمع كما بينه الله جل وعلا لنا بالعموم , ثم بينه لنا بشكلٍ مفصّل و مستقل في أمثلةٍ ثلاث , ببيان كل جرمٍ بعقوبته و جزاءه بشكلٍ منفرد كي لا يحدث أي التباس , و هنا نلاحظ بوجوب شرط التنفيذ لأحكام الجزاء بشكلٍ واضح و صريح بقوله جل وعلا ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) , و هذا الشرط ساري المفعول على الجرائم كافه التي فيها فساد على الصعيد الاجتماعي ,

و هذا الشرط يفيد برفع العقاب و الجزاء عن مرتكب الجرم في حال توبته قبل أن ينكشف أمره , و توبته تلك تعني اعترافه الداخلي بجرمه و إصلاحه قدر المستطاع للضرر الذي اقترفه , و اعترافه و إصلاحه هذا يضمن له أيضاً مغفرة الله جل وعلا له يوم الحساب بندمه و استغفاره و عدم عودته مجددا لفعل هذا الجرم , و هنا نضرب بعض الأمثلة :

في جرائم القتل :

ففي حالة الاعتداء بالقتال الجماعي الهجومي وجب الدفاع بقتال المعتدين المقاتلين إلى أن يتوقف عدوانهم بأن يكفوا أيديهم عن القتال . 

أما في حالة القتل الفردي المتعمد , فإن تم القبض على الفاعل تقوم الدولة بإنزال عقوبة القتل في حق هذا المعتدي إن لم يصفح و يعفو أهل القتيل عنه , و لكن إن لم يتم القبض عليه أو اكتشاف أمره , و قام هو بتسليم نفسه للدولة و أعترف بذنبه فهذا يكون دلاله على ندمه , و هنا تقوم الدولة باستبدال حكم القتل بعقوبة أخرى تضعها عقاباً و جزاءاً لهذا المعتدي النادم التائب و المعترف بجرمه , فقد أوجد الله جل وعلا الصفح عن القاتل المعترف و النادم سبيلاً لنجاح توبته , فترك الباب مفتوحاً أمامه حتى يصلح ما أفسد بتعويض أهل الفقيد و الإحسان إليهم , تعويضاً مادياً و معنوياً عن فقيدهم ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) , فقد قال جل وعلا داعياً و حاثاً على هذا ( وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ) , فعدم الصفح عن التائب النادم يعتبر إسرافاً في القتل , و الله جل وعلا لا يحب المسرفين ,

إن أخطر و أعظم تشريع هو تشريع القتل في العقوبات لمنتهكي الحرمات الثلاث , فالقاتل المتعمد يقتص منه بالقتل إن لم يطلب العفو و الصفح و رفض التعويض المادي و المعنوي - أي إن رفض دفع الديّة المتعارف على قدرها ( فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) و رفض كذلك التعويض المعنوي ( وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) -, و هنا يستثنى من القتل إن كان القتل دون قصد أي بدون عمد ,

فعقوبة القتل في التشريع الإسلامي للعقوبات تقتصر على القاتل المتعمد , و على المقاتل المعتدي اعتداءاً غايته القتل .

في جرائم العِرض :

لا يوجد عقاب جزائي مُنهي للحياة في جرائم الاغتصاب أو لجرائم الزنا أو لجرائم الشذوذ الجنسي بالقتل أو بالرجم كما يدعي أهل الإسراف ,

لماذا هم أهل الإسراف !

لأن قتل النفس كما تبين لنا سابقاً بأنها إسراف , لأنه لا يوجد قتلٌ للنفس إلا بالحق , و الحق يكمن في أن يكون القاتل معتدياً اعتداءاً صريحاً مستهدفاً للقتل , أو مصراً على جرمه غير نادمٍ عليه , لا يريد طلب العفو من أهل القتيل و لا يريد الإصلاح بدفع الجزية و الإحسان لأهل الفقيد .

لو كان هناك تشريعاً بقتل مرتكب تلك الجرائم , لورد هذا التشريع مقترناً بالصفح و العفو كما في جريمة القتل العمد , فهل جريمة الزنا أو الشذوذ الجنسي ترقى لجريمة القتل العمد !

فبما أن العقاب التشريعي لجرائم العِرض لا قتل فيها , و إنما كان الجزاء مائة جلدة للزناة , و الحبس و الإيذاء للشذوذ الجنسي و ثمانون جلدة لمن يطعن في أعراض الناس , فهنا لا صفح و لا عفو في تطبيق تلك العقوبات , بل هي عقوبات نافذة بحق من ارتكبها في حال الاعتراف أو الثبوت البيّن بياناً قاطعاً , كما نلاحظ بان تلك العقوبات لا يوجد فيها الأثر البالغ أو المبالغة فيها , فهي عقوبات على تلك الجرائم في حدها الأدنى , أي لا يوجد أخف من هذا الجزاء بحق الجاني , فهي عقوبات منطقيه , بل في غاية المنطق و العدل ,

و بما أن تلك الجرائم هي جرائم خفيّه , فاعتراف الجاني هو سيد الموقف , و اعترافه هذا يدلل على توبته الصادقة و ندمه الشديد , و هذا الاعتراف و الندم لا يلغي عقوبة الجلد للمعترف ( وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ) , بل يمكن للجاني بأن يكتم جريمته تلك إن لم تكن جريمته بيّنة , و أن يستشعر بعِظم تلك الجريمة و يستغفر ربه جل وعلا و يندم على فعله بأن لا يعود لمثله ,

فنحن لا نجد رفع العقوبة عن هؤلاء بمجرد توبتهم باعترافهم , كما لا نجد طلب العفو و الصفح عن الجاني من المجني عليه كي يكفل رفع نفاذ تلك العقوبة كما في حالة القتل العمد , لذا لا قتل و لا رجم في تلك الجرائم بل يأتي العقاب كما أسلفنا بحده المعقول و المقبول , و دون زيادة أو نقصان مبنيٌ على الهوى ,

و من هنا نلاحظ بان مرتكب تلك الجرائم الخفيّة في غياب البيّنة و في عدم الاعتراف , و توبته الخفيّة و إقلاعه عن تلك الفواحش يأتي تحت إطار ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) .  

في جرائم المال :

أي جرائم السرقات , و لها أفرع كثيرة , و لكن بمجملها فهي كل اغتصاب أو اعتداء على الممتلكات المادية الخاصة أو العامة .

عقوبة الجاني كانت بقطع يده , فقال جل وعلا ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ,

هنا نستنتج بان نصاب السرقة الذي يستوجب قطع اليد لم يحدده الله جل وعلا , و تحديد هذا النصاب متروكٌ للبشر في كل زمان , و السارق إما أن يقبض عليه متلبساً أو يتم العثور بحوزته على المسروقات ,

أما في حالة اعترافه بجرمه قبل القبض عليه , فهذا يفيد بندمه و توبته , فتسقط العقوبة بهذا الندم و تلك التوبة , على أن يصلح ما أفسد , أي يعيد تلك المسروقات لأصحابها , أما إن تم القبض عليه فحينها لابد من تنفيذ العقوبة بقطع يده , إن كانت سرقته قد بلغت النصاب الذي يحدده القانون البشري في ذاك المجتمع .

التوبة الظاهرية هي ما يهم البشر , فتوبة المقاتلين المعتدين تعني كف أيديهم عن القتال و توقفهم عنه , و توبة القاتل العمد تعني دفع الديّة لأهل الفقيد و طلب العفو و الصفح منهم و بالإحسان لهم قدر المستطاع ,

و توبة مرتكبي الفواحش و هتك الأعراض و استباحتها هو إقلاعهم عن إتيانها , فسميت بالأعراض لوجوب الإعراض عنها و عدم الوقوع فيها و الحذر من شِراكها و حبالها ,

و توبة اللصوص و السارقين هو إرجاع الحق لأهله و تعويضهم عن أي ضرر قد ألم بهم .

أما التوبة الباطنية فهي توبة خاصة بين العبد و ربه , لا يعلمها إلا هو سبحانه و تعالى , و لكي تتحقق تلك التوبة الباطنية لابد أولاً من تحقق التوبة الظاهرية , ثم الندم الصادق و من ثم الاستغفار من أجل طلب الرحمة و المغفرة و العمل الصالح بسُبلهِ المتنوعة ,

حيث يقول جل وعلا في تقبله لتلك التوبة ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) . 

اجمالي القراءات 4475