بعض المنشور فى جريدةالخليج ( 6) موقع التفاسير من الإجتهادات المذهبية
بتاريخ 22/ 3 / 1993
مقدمة : رغم كراهيتنا لكلمة ( تفسير ) ورفضنا لها قرآنيا إلّا أننا مضطرون لاستعمالها لأنها ــ مع الأسف ــ هى الشائعة. ونعطى هنا لمحة سريعة عن انواع التفاسير وتأثرها بعصرها :
أولا : هناك فرق بين الدين والتدين .
1 ـ الدين هو ما أنزله الله تعالى من الكتب السماوية ، أما التدين فهو موقف البشر من الكتاب السماوي ومدى تمسكهم به ومدى تطبيقهم له . الدين السماوي أو الكتاب السماوي لا يتأثر بظروف البشر وإنما ينزل من السماء لإصلاح أهل الأرض والسمو بهم والرقي بسلوكهم وحياتهم . أما التدين فهو انعكاس لظروف الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية بل والظروف الشخصية لكل إنسان .
2 ـ القرآن هو دين الله بالنسبة لنا نحن المسلمين . والتفسير هو مظهر من مظاهر التدين ، ومظهر من مظاهر علاقة المسلمين بالقرآن وفهمهم له ونظرتهم إليه .ولذلك فالتفسير في كل عصر يحمل بصمات ذلك العصر ودرجة ثقافته ونوعية ومدى تدينه ولذلك عرفت حضارة المسلمين أنواعا شتى من التفسير ، ونتعرف على بعضها .
ثانيا : التفسير بالمأثور
1 ـ في ظروف معينة استعظم بعضهم أن يقول في الدين برأيه أو أن يجتهد في معنى آية .. وعدوا ذلك عظيما ، وذلك الاتجاه التقليدي برز في المدينة في العصر الأموي وتزعمه في الكوفة عامر بن شراحيل المعروف بالشعبي ، وكان ينقم على أهل العراق جرأتهم على الفتوى وكلامهم في شرح بعض كلمات القرآن . إلا أن مجالس العلم احتاجت إلى الاجتهاد ، وكانت الأسئلة تتوالى ، ولم يعد محمودا لأحدهم أن يرد بالكلمة التي يؤثرها الشعبي وهي " لا ادري " وكان أحدهم يدري ، وكان له رأي إلا أنه كان يتحرج من أن يقول رأيه ، وكان المخرج هو إسناد ذلك القول للنبي ، أو للصحابة ، وبذلك تولد ما يعرف في التفسير بالمأثور أو بالمنقول .
2 ـ والعباسيون اهتموا كثيرا برعاية العلم خصوصا ما دار منه حول الدين من فقه وحديث وتفسير ، وكانت لهم أغراضهم السياسية والدعائية . وقد تقرب إليهم الكثير من العلماء بإسناد اجتهادهم إلى عبد الله بن عباس جد الخلفاء العباسيين ، وبذلك تضخم باب التفسير بالمأثور أو بالمنقول في العصر العباسي ، إلى درجة دعت ابن حنبل إلى إنكار ذلك الباب بأكمله ، ولابن حنبل مقالة مشهورة هي " ثلاثة لا أصل لها : التفسير والملاحم والمغازي " ومن الواضح أن ابن حنبل ينكر نسبة هذه العلوم إلى النبي وأصحابه ، أي ينكرها من حيث الإسناد والرواية ، أما المتن نفسه والنص في حد ذاته فهو كلام يحمل وجهة نظر ولكن تحرّج أصحابها من الجهر بها فأثروا أن يجعلوا لها إسناد لتكون أكثر احتراما وأكثر مصداقية .
3 ـ ولأن التفسير بالمأثور اجتهاد أشخاص في حقيقة الأمر وليس له علاقة بالنبي عليه السلام فإنه قد لحقه من الاختلاف في الرأي ما يلحق بقية العلوم التي يجتهد فيها العلماء ويختلفون فيها ، ولذلك تجد تفسيرين مختلفين لآية واحدة ، فعن (القناطير المقنطرة ) فى قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ) ﴿١٤﴾ آل عمران ) نجد تفسيرين مختلفين لكلمة القنطار ، وكلاهما ينسبونه للنبي عليه السلام : ففي رواية أنس : القنطار ألف أوقية ، وفي رواية أبي هريرة : القنطار اثنا عشر ألف أوقية .. ولو كان ذلك مرويا في الحقيقة عن النبي ما كان هناك اختلاف .فالذي حدث هو أن التابعين والعلماء اجتهدوا في التفسير كل على حسب ما يؤديه إليه اجتهاده وعلى حسب اتجاهه العلمي ، وذلك في حد ذاته أكبر دليل على أنهم لم يثقوا بصحة الإسناد في التفسير بالمنقول أو المأثور .
4 ـ بمرور الزمن فإن نزعة التحرّج من أبداء الرأي قد خفّت حدتها ، وتشجع الكثيرون على الإفتاء وإعلان الرأي ونسبة الرأي لأنفسهم . وفي النهاية أضيف الى التفسير بالمأثور تفسيرات أخرى في كتب التفسير .على أن التفسير بالمأثور إزدادت أهميته فى عصور التقليد ، فإحتفى به المفسرون فى العصر المملوكى وأبرزه الى جانب التفسيرات الأخرى . ومن يراجع تفسير القرطبى وتفسير ابن كثير يجد هذا الاحتفاء بالتفسير بالمأثور فى الآية الواحدة مع تفسيرات أخرى مختلفة.
ثالثا : التفسير المذهبى
1 ـ السمة الواضحة في العصر العباسي هي الاختلافات المذهبية ؛ مذهبية في العقائد من تشيع وخوارج وسنة وفرق كلامية من أشاعرة ومعتزلة وسنية وجهمية وقدرية وجبرية وكرامية ، ومذهبية في علوم اللغة ما بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة ، ومذهبية في علوم الشرع ما بين مالكية وأحناف وشافعية وحنابلية وظاهرية .. ثم يضاف إلى ذلك المتأثرون بالقصص والتاريخ وإلى جانبهم الصوفية والفلاسفة .
2 ـ وأولئك المختلفون إستنجدوا بالقرآن الكريم لتعزيز وجهات نظرهم ، ونظروا للقرآن من خلال مذهبهم واتجاههم العلمي والفكري . فبعض التفاسير يغلب عليه الجانب النحوي وإعراب الآية وموقع الجملة والخلاف بين العلماء في هذا وذاك ، وأبرز التفاسير النحوية ما كتبه النسفي ( ت 701 ) في تفسيره " مدارك التنزيل " ، وتفسير الزجاج ، وتفسير البسيط للواحدي ، وتفسير أبي حيان ( ت 606 ) في " البحر المحيط " . وبعض الفقهاء كتبوا في التفسير يرددون مقالاتهم المذهبية ، مثلما فعل الجصاص الحنفي ( ت 370 هـ ) ، والفقيه ابن العربي المالكي ( ت 543 ) ، وأبرز التفاسير في ميدان الفقه تفسير القرطبي ( ت 671 ) ، وهو الجامع لأحكام القرآن ، والقرطبي مالكي المذهب .
3 ـ وللشيعة كتبهم في التفسير التي تعبر عن عقائدهم ومذاهبهم المختلفة . فالشيعة الإثنا عشرية برز منهم ( ملا محسن الكاشي ) وكتابه " الصافي في تفسير القرآن " في أواخر القرن الحادي عشر ، والشيعة الزيدية في اليمن ظهر فيهم الشوكاني ( ت 1250) وله تفسيره المشهور " فتح القدير" . وقبله كان تفسير النجراني ( ت 665) . وبعض الفرق من الخوارج صاغت اسمها من آية قرآنية مثل الشراة وشعارهم ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) ( البقرة 207). وقد انتهي الشراة الخوارج .
4 ـ وكان المعتزلة من انشط الفرق الكلامية في الدفاع عن آرائهم ، وقد استخدموا التفسير في ذلك ، وأبرزهم القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه " تنزيه القرآن عن المطاعن " واشهرهم الزمخشري عالم اللغة والنحو والكلام في تفسيره المشهور " الكشاف " ، وقد توفي الزمخشري 538 هـ . ومن الفلاسفة من صبغ تفسيره برؤيته الخاصة كما فعل الفخر الرازي ( ت 606 ) في تفسيره " مفاتيح الغيب " .. أما التفسير الصوفي الفلسفي والطرقي ( نسبة إلى الطرق الصوفية ) فله وقفة فيما بعد .
5 ـ هناك من العلماء من اجتذبه موضوع معين في القرآن فكتب فيه موضحا وجهه نظره .. مثلما كتب ابن القيم في " البيان في أقسام القرآن " ، وابن المفتي في " مجاز القرآن " والراغب الاصفهاني في " مفردات القرآن " وأبو جعفر النحاس في " الناسخ والمنسوخ في القرآن " والواحدي في " أسباب النزول " والجصاص في " أحكام القرآن ".
رابعا : الخرافة فى تفسيرهم القصص القرآنى
1 ـ احتوي القرآن على جانب هام هو القصص الذي دار حول الأمم السابقة والأنبياء ، ومن القصص القرآني ما جاء متفقا في موضوعه مع القصص الذي ذكرته التوراة ، هذا مع اختلاف المنهج القصصي بين القرآن والتوراة ، فالقرآن يركز على العبرة ولا يهتم بالتفصيلات بينما تزخر التوراة بالتفصيلات .
2 ـ وهناك من التفاسير ما اهتم بجانب القصص وحاول أن يملأ الفراغات التي تركها القرآن بالرجوع إلى خرافات العهد القديم أو ما يعرف اليوم بالتوراة ، ونقل الثعالبى الأساطير التوراتية فى كتابه عن قصص الأنبياء ، واضاف اليها ما إنتشر فى عهده من خرافات كان يذيعها القصّاصون فى مجالسهم . وعلى أثره سار ابن كثير فى كتابه عن قصص الأنبياء ، وقبله نقل أبو حامد الغزالى أساطير الثعالبى وغيره فى مواضع مختلفة من كتابه الأشهر ( إحياء علوم الدين ) وفى غيره من الرسائل .وكلها أضفت على الخرافات والأساطير تقديسا ، خصوصا مع التقديس للأنبياء والأئمة والذى نشأ بدءا من العصر العباسى الثانى ، وسيطر على أفئدة الناس فى العصر المملوكى والعصر العباسى .
3 ـ وهناك جانب نشأ وتأسّس فى تفسيرهم للقصص القرآنى ، وهو ( الاستقصاء ) ، فإذا تكلم القرآن عن أهل الكهف اجتهدوا في تحديد عددهم مع أن القرآن يدعو إلى عدم الالتفات إلى هذه القضية . قال تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا ﴿٢٢﴾ الكهف ) بل وانشغلوا بكلب أهل الكهف ولونه وعمره . وذلك مدخل آخر إلى الخرافة والأكاذيب والأساطير لأنهم إقتحموا الغيب وقالوا فيه بأهوائهم خرافات .
4 ـ والذي يضع أسطورة يحاول أن يؤكد صدقها باصطناع أسانيد لها . ومن هنا عاد التفسير المأثور بدافع جديد هو خلق مصداقية لأصحاب الحكايات والمذاهب ، ولذلك تضخم التفسير بالمأثور والمنقول في العصور اللاحقة تبعا للابتعاد عن النبع الصافي وتبعا لاتساع الفجوة بين المسلمين وأصولهم العقيدية الأولى .
5 ـ وبسبب غلبة الخرافات وتقديسها فقد ذاعت بين الناس وخصوصا العوام . وهذا منتظر لأن أسلوب القصص من أكثر الأساليب تأثيرا في النفس ، ولذلك حملت أقاصيص التفاسير كثيرا من المؤثرات العقيدية اغترف منها خطباء المنابر ونشروا التأثر بها بين جمهور الناس فاتسع مجال التأثير بها . ولذلك يحتل تفسير الطبري مكانته الهامة بين كتب التفسير تبعا لمنهجه التاريخي ، مع أنه ملىء بالأساطير الخرافية والتوراتية . وقد سار على منواله تفسير ابن كثير ( ت 774 ) ، وقد جمع فيه ابن كثير شتى الآراء مع التركيز على المأثور والمنقول والروايات والأحاديث .
خامسا : التفسير فى عصرنا الحديث
1 ـ وصحا المسلمون على المستعمر يحتل أراضيهم فبدأت نهضة عقلية وفكرية انعكست على علم التفسير ، فتراجعت الأساطير نوعا ما ، وبدأ اتجاه عقلي تحرري وسار في موازاته اتجاه آخر يربط بين القرآن ومنجزات العصر الحديث، ويربط بين القرآن ونوعية المثقف العادي في عصرنا الذي يتمتع بثقافة دينية رشيقة ويريد المعلومة الموجزة على عجل .
2 ـ وفى عصرنا الحديث برزت تفاسير عقلية تخالف التفاسير السلفية . وبعضها كان يوجد فى كتاب واحد . فالشيخ محمد عبده نهج فى ( تفسير المنار ) نهجا عقليا مقتربا من حقائق القرآن ويناوىء فيه التفسيرات السلفية . ووصل الى منتصف سورة النساء تقريبا ، ثم مات ولم يكمله ، فأكمله تلميذه الشيخ رشيد رضا ، فإتجه فى تفسيره منهجا مخالفا لشيخه الامام محمد عبده ، وردد التفسيرات السلفية التى كان ينكرها محمد عبده. وسار على منهج رشيد رضا ( تفسير الشيخ المراغي ) و ( تفسير الشيخ حجازي ) ومؤخرا ( تفسير الشيخ الشعراوي). هذا ، بينما إقترب شيخ الأزهر ( محمود شلتوت ) من منهج الشيخ محمد عبده فى كتاباته وفتاويه وتعرض فيها للآيات القرآنية مبتعدا عن خرافات وأقاويل السلف . ثم تبعه الشيخ عبد الكريم الخطيب فى تفسير القرآن بالقرآن ، وتبعه آخرون .
3 ـ وهناك تفسير موجز مختصر يقدم خدمة سريعة للمثقف العادي يسير على نسق تفسير الجلالين ( الجلال السيوطي ، والجلال المحلي ) مثل تفسير الأستاذ وجدي والتفسير الميسر للشيخ عبد الجليل عيسى ، والتفسير المختصر الذي أصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر .
4 ـ وهناك تفسير يربط المكتشفات العلمية بالآيات القرآنية ليظهر الإعجاز العلمي للقرآن الكريم مثل " الإسلام يتحدى " للأستاذ وحيد الدين خان " و " الإسلام في عصر العلم " للدكتور الغمراوي ، وكتاب " الغذاء والدواء " للدكتور الفندي ، ومقالاته الأخرى عن آيات الإعجاز العلمي في القرآن . وكتابات الدكتور مصطفي محمود والدكتور عبد الرزاق نوفل في " القرآن والعلم الحديث " . وذلك الاتجاه إلى أبراز الإعجاز العلمي في القرآن يقف ضده بعض المتخوفين ، خشية أن تتغير الحقائق العلمية فيؤثر ذلك علي مصداقية الاستشهاد بالقرآن في هذا المجال .
5 ـ وأخيرا ظهر الإعجاز العددى الرقمى فى القرآن الكريم ، وتشعب وبدأ يدخل فى التعليق على بعض الآيات. وذلك موضوع شرحه يطول .
أخيرا : وهكذا تشكل علم التفسير في كل عصر بمعطيات عصره ، كان مذهبيا في عصر المذاهب ، وكان صوفيا في عصر التصوف ، ويبقى ان نتوقف مع ( التفسير الصوفى ) :