بعض المنشور فى جريدة الخليج ( 3 ) القرآن سبق أوربا في الدعوة للمنهج التجريبي

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠٧ - مارس - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

بعض المنشور فى جريدةالخليج ( 3 ) القرآن سبق أوربا في الدعوة للمنهج التجريبي

قراءة في تراثنا الفكري فى 3 / 3 / 1993

أولا : المسلمون والتأثر بالغرب فى العصور الوسطى

1 ـ نزل القرآن الكريم في القرن السابع الميلادي حيث سيطرت الحضارة الإغريقية الهلينية ، وحيث تأثرت بها المسيحية ، وأثمر الامتزاج بينهما فلسفة دينية تتحدث في الميتافيزيقيا وذات الله تعالى وصفاته والقضاء والقدر ، ومن خلال الفكر العقلي المجرد تنظر إلى العلوم الطبيعية وتعطي فيها أحكاما شفهية لا تعتمد على التجربة ، وإن مارست التجربة فلكي تؤكد الحكم العقلي الصادر سلفا . ومن الطبيعي أن ينتهي ذلك المنهج إلى لا شيء ، فقد اقتحم بالعقل إلى مجال يعجز العقل البشري عن الخوض فيه، وهو ذات الله وصفاته، ثم أهمل التجربة في معرفة الطبيعة المحيطة به . وبدلا من تعديل المنهج فقد ظهرت الأفلاطونية الحديثة بنظرية جديدة تقول بالعلم اللدني ، أي يستغرق الإنسان في الرياضيات الروحية حتى ينكشف عنه الحجاب ويتحد بالخالق جل وعلا وتشرق في نفسه المعارف الإلهية ،وتلك ردة عقلية تفوق الانتكاسة العقلية الأولى لدى أصحاب المذهب العقلي المجرد .

2 ـ ونزل القرآن وتلك الفلسفات العقلية والدينية منتشرة في حران والرها وجندياسبور وإنطاكية والإسكندرية ، فيما بين الشام والعراق وآسيا الصغرى ومصر . وقد انتظم في تلك المدارس الفلسفية مجموعات من الدارسين ، منهم من يحاول التوفيق بين المسيحية والأناجيل وبين الفلسفات الإغريقية ، ومنهم من يحاول التوفيق بين أرسطو و أفلاطون ، ولكنهم جميعا على اختلاف مذاهبهم لم يحاولوا التعرف على المنهج العلمي التجريبي الذي جاء به القرآن الكريم.

وحتى من أسلم منهم فقد وقع أغلبهم في هوى الفلسفة وحاول التوفيق بينها وبين الإسلام ، وترتب على ذلك أن سارت الفلسفة (الإسلامية)  و (علم الكلام ) على نفس المنهج السابق في بحث ذات الله تعالى وصفاته والقضاء والقدر والوقوع في نفس الاختلافات والتفريعات والافتراضات ، مع إغفال معظم العلماء للعنصر التجريبي في بحث العلوم الطبيعية . وكان من الطبيعي أن يمر المسلمون بنفس النتيجة التي مر بها تاريخ الفلسفة قبل الإسلام ، وهى ظهور المذهب الصوفي الإشراقي والدعوة للعلم اللدني ، بمثل ما حدث في الأفلاطونية الحديثة ، وبنفس تعبيراتها ، وحدثت النكسة العقلية بالدعوة إلى إهمال العلم الظاهر والاكتفاء بعلم الباطن وتقديس الخرافات ، ودخل المسلمون في طور التجمد ثم التأخر ، إلى أن جاءت الصحوة الحديثة، حين استيقظ المسلمون فوجدوا الأوربيون يقتحمون ديارهم ، وقد تقدموا بعد أن وضعوا أقدامهم على المنهج العلمي الصحيح ، ولم يعرفوا أن القرآن الكريم قد سبق الجميع بالدعوة إلى هذا المنهج ، وأنه لو سار المسلمون على ذلك المنهج القرآني منذ القرن السابع الميلادي لكانت تلك الحضارة المعاصرة من نصيبهم دون الغرب ، ولو حدث هذا لاختصرت البشرية عصورا من التأخر والجمود عاشتها أوربا والعرب وغيرهم في ظلمات القرون الوسطى .

ثانيا : المنهج الفكرى فى القرآن الكريم

1 ـ المنهج الفكري في القرآن الكريم ينبثق من عقيدة " لا إله إلا الله " التي تقصر الألوهية على الله تعالى ، فالله وحده هو القيوم على كل شيء وما من شيء إلا هو آخذ بناصيته ومسيطر عليه ، ثم هو لا يشبهه أحد من خلقه ، ولا يشبه أحدا من خلقه ، وصفات الخالق تعالى تباين وتناقض صفات المخلوقات ، ولا يمكن لمخلوق أن يسمو إلى درجة الخالق بل يظل عبدا له خاضعا لمشيئته . وليست هناك واسطة بين الخالق وعباده ، فالله تعالى أقرب لهم من حبل الوريد ، وهو أعلم بهم من أنفسهم ، وأعلم بهم منذ كانوا أجنة في بطون أمهاتهم . هذا بالنسبة لله تعالى .

2 ـ أما بالنسبة لأبناء آدم فقد جعلهم خلفاء في الأرض ، وأمرهم بعبادته تعالى وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ) ( الجاثية: 13 ) . وسخر بمعنى ذلل وأخضع ، أي أن كل ما في الأرض والسماء من جماد وحيوان وطاقة وأشعة قد سخره الله تعالى لخدمة البشر ، ومن هنا فإن البحث في الأشياء المادية وغير المادية من عناصر الطبيعة من أسس الإيمان ، وهذا البحث رهين بسعي الإنسان وكفاحه كي يتمكن من الاستفادة مما سخره الله له على هذا الكوكب ، والله تعالى يقول (  هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) ( الملك : 15 ) .

3 ـ القرآن الكريم يجعل من البحث التجريبي في الطبيعة فريضة دينية لها وسيلة ولها هدف:

3 / 1 : فالوسيلة هي السير في الأرض والنظر العقلي التجريبى ، أي تجمع الوسيلة بين الجانبين معا، التجربة العلمية ثم التفكر العقلي في الاستنتاج والاكتشاف والاختراع .

3 / 2 : وبعد هذه الوسائل يكون الهدف وهو الإيمان بقدرة الخالق جل وعلا وعظيم ما أبدعه في الكون ، بداية من مملكة الذرة ومملكة الخلية إلى الكواكب والنجوم والمجرات ، والله تعالى يقول (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( العنكبوت : 19 – 20 ) والتدبر في الآيتين الكريمتين يؤكد لنا فريضة المنهج العلمي التجريبي وعناصره من الرؤية والسير والنظر بالعقل والعين و اللمس والتحقق والتفكر واستخدام كل الحواس والوسائل ، ليتعرف الإنسان من عناصر الطبيعة تطور علم الجيولوجيا وبدايات الحياة وتطورها وتعاقبها من الحفريات القديمة إلى الأحياء المنقرضة ثم ما يزال منها ما يعيش حتى الآن ، والهدف واضح وهو هدف إيماني ، يأتي بعد ذلك البحث ويكون بالإيمان بالله تعالى وقدرته على الخلق والإبداع والبعث بعد الموت .

4 ـ والقرآن الكريم يجعل من الإعراض عن البحث التجريبي العلمي سمة من سمات عدم الإيمان ، يقول : (  قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ  ) ( يونس : 101 ) ويقول يحث على النظر العلمي (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ   ) ( الذاريات : 20- 21 ) . ويقول تعالى يؤنب المشركين ويدعوهم للنظر العلمي (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ   ) ( ق : 6- 8 ) . والعبد المنيب إذا تبصر وإذا تذكر في خلق السماوات والأرض والجبال والنبات أدرك أن الآيات القرآنية السابقة قد ذكرت إعجازات علمية عن طبقات الجو العليا وكروية الأرض وتكوين الجبال ووظائفها وتصنيف النبات !! . والقرآن يجعل من سمات الشرك والإعراض عن النظر العلمي في السماوات والأرض (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) ( يوسف : 105 ) .

5 ـ بينما يجعل القرآن من صفات المؤمن التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) ( آل عمران : 190 ) ويذكر القرآن بعض إبداعات الله تعالى في الأرض التي ينبغي البحث فيها بحثا علميا ، ويجعل العلماء المتدبرين أكثر الناس خشية لله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) ( فاطر : 27 – 28 ) .

ثالثا : بين المنهج القرآنى والمنهج الغربى

1 ـ ويلاحظ أن الحضارة الغربية الحديثة اتفقت مع القرآن في وسائل البحث التجريبي ، فهي تسعى في الكون وتسير في الأرض فتمكنت من اكتشاف ألاء الله ، وكل ما اكتشفته جاء متفقا مع ما ذكره القرآن في بعض الآيات العلمية التي نزلت على النبي الأمي منذ ألف وأربعمائة عام !!.

2 ـ والمهم أن الحضارة الغربية اتبعت المنهج العلمي السليم الذي دعا إليه القرآن من قبل ، ولكنها اختلفت عن القرآن فيما يخص الهدف ، فالهدف من البحث العلمي في الإسلام هو الوصول إلى عظمة الله تعالى وقدرته ليزداد الإنسان إيمانا وخشية لله تعالى ، أما الهدف من البحث التجريبي الغربي فهو استخدام العلم في الأثرة والتسيد على الضعفاء ، والدليل الواضح هو اتجاه منجزات العلم للتدمير والتسليح وإفساد البيئة وإشاعة القلق والخوف والفقر والحروب والسيطرة على موارد الضعفاء لصالح الأقوياء .

3 ـ والحضارة الغربية بذلك تكون حضارة ذكية وليست حضارة عاقلة بأي حال ، وقد يكون المجرم المحتال غاية في الذكاء ولكنه ليس عاقلا بأي حال ، لأنه لو كان عاقلا لأدرك أنه سيدمر نفسه في النهاية ، وما يفعله الغرب بتقدمه العلمي سيرتد في النهاية إلى صدره .. وذلك الصرح الهائل من التقدم سيفني نفسه بنفسه طالما تحكمه غرائز اللصوص .

رابعا : البحث بين عالم الشهادة وعالم الغيب

1 ـ ولقد دعا القرآن للبحث فيما سخره الله تعالى للإنسان ، أي جعل تلك المواد والأشعة خاضعة لحواس الإنسان وعقله وفي أمكان طاقته ، ويستطيع أن يسخرها فيما يريد إن خيرا وإن شرا . والله تعالى خلق الإنسان لعبادته (   وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )( الذاريات: 56 ) . ويستحيل أن يتمكن الإنسان المخلوق لعبادة الله من أن يتخذ الله تعالى مادة لبحثه ، فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان ويستحيل على المخلوق أن يتعرف على كنه الخالق . والله تعالى هو الذي خلق عقل الإنسان وصممه على أساس أن يبحث فقط في الأشياء التي سخرها له وأخضعها له ، وليس بإمكان ذلك العقل الإنساني أن يسمو إلى البحث في ذات الخالق جل وعلا ، ولنضرب مثلا – ولله المثل الأعلى – هل إذا تمكنت من صنع آلة ، هل تستطيع هذه الآلة التي صنعتها أن تبحث فيك أنت وتكون مهيمنة عليك ؟ . والقرآن يصف الله تعالى بأنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ( الشورى : 11 ) . إذن كل شيء يمكن تخيله للعقل البشري لا يشبه الله تعالى الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . والله تعالى حجب عن حواس الإنسان بعض مخلوقاته مثل الجن والشياطين والملائكة ، بل حجب عنه النفس البشرية ذاتها التي تدير حركة الجسد ، والنفس البشرية في داخل كل منا فضاء داخلي لا يزال  الإنسان يدق على جداره ويحاول التعرف على أسراره دون جدوى .. فكيف بالخالق جل وعلا الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .

2 ـ إن العالم بالنسبة للإنسان وقدراته ينقسم إلى قسمين ، علم الشهادة الذي يدركه الإنسان بالحواس وقد عرفنا منهج الإسلام بالنسبة له من حيث الوسائل والهدف ، أما القسم الثاني فهو عالم الغيب أو السمعيات ، وهو خارج نطاق الحواس وابعد من أن يصل إليها البحث التجريبي ، ومطلوب من الإنسان ألا يبحث فيها، ولكن يؤمن بها وفق ما اخبر به رب العزة في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وعلى ذلك فنحن نؤمن بالجن والملائكة، ونؤمن بالله تعالى من خلال آيات القرآن الكريم ، فالله تعالى وحده هو الأصدق حديثا وهو الأصدق قيلا ، ولا يعلم الغيب إلا هو . أما إذا تحدثنا عن عالم الغيب من خلال افتراضات وتخيلات وأوهام ، فإن ذلك الكلام لا يلبث أن يكتسب صبغة دينية ، ثم لا يلبث أن يأخذنا إلى أغوار الخرافة والتأخر والجمود .. بمثل ما حدث في عصور التصوف المملوكي والعثماني .

أخيرا :

1 ـ ذلك هو منهج القرآن .

2 ـ ، وبدلا من أن نعود للقرآن نصحح به المفاهيم والمسيرة ، إذا ببعضهم يطلق شعارا جديدا يتاجر به جهلا بدين الله تعالى هو : " أسلمة العلوم " !!

اجمالي القراءات 4365