في مذهب السلفية والأزهرية طاعة أولي الأمر فريضة قرآنية لقوله تعالى.." يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم "..[النساء : 59] فذكر الطاعة جاء بنظم واحد.."الله – الرسول – أولي الأمر" فإذا كان كلام الله والرسول معصوما فولي الأمر معصوم كذلك ضرورة..
قلت: طاعة الله والرسول واجبة لضمان الوحدة فيها، أما طاعة ولي الأمر فيها نزاع بنص الآية " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" أي أن التنازع في طاعة ولي الأمر واردة وعالجها القرآن بالعودة إلى الله والرسول في حياته، ثم حدث نزاع في عصمة ولي الأمر هل للفرد أم للمجموع، وقالوا لو زنا ولي الأمر أو سرق أو قتل أو شرب الخمر..فهل طاعته واجبة؟..وهل هنا يصبح معصوما؟
لاحظ أنهم انشغلوا بكبائر ولي الأمر واعتبارها مناط الخروج عند الجهاديين والنصح عند الجاميين والمداخلة، لكن لم ينشغلوا بأحوال الرعية مع الحاكم الظالم أو الفاشل..وهذا كان سبب لتدهور حال المسلمين منذ تمكن هؤلاء في العصر العباسي، فالحكام إما ظالمين أو فشلة، في حين يبرر لهم الفقهاء مقعدهم ويدافعون عنه كفريضة دينية، حتى اشتهر أن الخروج عن الحاكم بدعة كبيرة قد تصل لحد الكفر عند البعض منهم، ولما ظهرت الوهابية وصفوها بالخوارج ليس لتطرفها وقتلها..ولكن لأنها خرجت على الخلافة العثمانية..
هذا المذهب – طاعة ولي الأمر- لم ينتبه للخلاف الحاد حول طبيعة السلطة وطريقة تعيينها وإدارتها، فالخليفة إما بالتعيين أو بالوراثة أو بإجماع أهل الحل والعقد، حتى طريقة اختيار أهل الحل والعقد اختلفوا فيها ما بين الإجماع والجمهور/ الأغلبية، وماذا لو تمرد قطر من الأقطار على الخلافة وشجع آخرين على ذلك هل تسقط بيعة الخليفة أم يوصف المتمردين بالخروج وكفى، ثم وضعوا حدا أدنى لجماعة أهل الحل والعقد بخمسة أشخاص كالذين بايعوا أبي بكر الصديق في الصحيحين..في حين لم يضعوا قاعدة لحل إشكال صراع المتشاورين أو اختلافهم.
إهمال الفقهاء كل نتائج صراع مجلس الشورى – أو جماعة أهل الحل والعقد – هو الذي أنتج بعد ذلك مذهب "طاعة الحاكم المتغلب" لأن العجز عن تعيين الخليفة يلزمه حسما يوافق مقتضى الطاعة وهو (الأمن) وبعد ذلك تشددوا أكثر في الأمر بوجوب طاعة ذلك المتغلب لهواجس نفسية عند الفقهاء من الفوضى أو مجئ سلطة كافرة أو مبتدعة برغم أن ديار المسلمين حكمها كفار ومبتدعة – حسب تصنيفهم –إما بعد سقوط الدولة الأموية بتنصيب الثوار الشيعة أو في العصر العباسي الثاني بنشوء دول شيعية أو حتى بعد مجئ التتار، فلم يعالجوا رأيهم حسب المستجدات..لذا عُدّت مذاهب طاعة ولي الأمر عموما مرتبطة بحقب زمنية خاصة..وهذا ما خدم الجهاديين أكثر باعتبار أن طاعة حكام هذا الزمان ليست فقط غير واجبة..بل بدعة منكرة تؤدي لضياع الدين.
سبب اضطراب الفقهاء في طاعة ولي الأمر وانقسامهم هو غياب أي رؤية سياسية في التراث الإسلامي، يمكن اعتبار كتابيّ "الأحكام السلطانية" للمواردي وأبي يعلي الفراء هما الوحيدين اللذان تضمنا فكرا سياسيا على شكل مرويات تنظم عملية اختيار الإمام وطبيعة الشورى وأهل الحل والعقد..وطالما هي مرويات إذن فلن تناقش مستجدات السياسة أو ما يطرأ على العالم من متغيرات بعد السقيفة، لأن مضمون كتابيّ "الأحكام السلطانية" يعالج فقط طُرق اختيار الإمام في السبعين سنة الأولى بعد وفاة الرسول، وظهر منها عدة مذاهب منها طاعة الحاكم المتغلب عند ابن حنبل وابن عمر، واستدلوا بموقف الأخير من معركة الحرّة وقوله "نحن مع من غلب"
في الحقيقة أن مذهب طاعة الحاكم لا يخدم السنة إطلاقا بل يخدم الشيعة، باعتبار أن النص على طاعته مرفقا بالله والرسول وما يتضمنه هذا الدمج من قدسية للإمام المعصوم، وهذا يقوّي فلسفيا مبدأ عصمة الإمام الذي يميز الاعتقاد الإثنى عشري بالمجمل، فالرسول كما روي عنه التوصية لأبي بكر رويت عنه أيضا توصيات كثيرة لعليّ بن أبي طالب، بل توصيته لعليّ أقوى من نواحي السند في الحديث المشهور "بغدير خمّ" والذي أوصل طرقه الإمام الطبري ليصبح متواترا لفظيا حتى كلفه ذلك حياته..
ومجمل هذا الانتفاع الشيعي من مذهب طاعة الحاكم هو أنهم يقولون بالعصمة الفردية للإمام، وهو تأويل للآية غير وارد عند السنة لمقتضاه الذي يصل بعصمة الإمام ليوافق الإثنى عشرية، ولكي يهربوا من تبعات هذا التأويل قالوا أن العصمة للمجموع ومنهم من قال أن العصمة تتحقق فقط في الإمام إذا كان صالحا وفقا لمبدأ السنة المشهور "الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية" وهو ما خدم الجهاديين في الأخير بعد أن وصلوا لحُكم ردة السلطان في حال معصيته، لأن نقص الإيمان الفردي يضر الفرد نفسه أو من يتعامل معه، أما الحاكم فإيمانه ضروري يؤدي لإيمان الأمة بأكملها، فإذا كان هذا الحاكم عاصيا فقد يهدم أديان العامة بضياع إسلامة..وهذا كان مضمون فقه الحاكمية عند الإخوان وسيد قطب..ثم انتقل بعد ذلك للجهاديين في السبعينات.
إن ما حدث في السقيفة وما بعدها هو القاعدة التي يحتكم إليها السلفيون والأزاهرة في القول بطاعة الحاكم، ثم التطور اللاحق له بطاعة الحاكم المتغلب، فحسب التراث الإسلامي حدث نزاع بين الهاشميين وبعض الصحابة على الحكم بعد موت الرسول، رأى عليّ بن أبي طالب أن الكف عن هذا النزاع يمثل مصلحة عليا، لذا فلم يقم ليفتي صراحة باغتصاب أبي بكر للخلافة، بل أطاع أبي بكر بصفته حاكما متغلبا ليتوقف معها الفقه السياسي الإسلامي عند هذه المرحلة الشائكة ويبنوا عليها كل تصوراتهم السياسية لا فرق بين سني وشيعي.
بل وصل الأمر لقولهم بأن الصلاه خلف الإمام هي رضا بولايته ، وعمل في مضمونه يعني طاعة اختيارية، بالتالي لو اغتصب أحدهم الخلافة ثم صلى بالناس فكل من يصلي خلفه يطيعه ضرورة..رغم أن هذا شئ مختلف، فالصلاه تعبدية بينما السلطة دنيوية، وحسب هذا القول فيعني أن كل معارضي الخليفة لا يحق لهم الصلاه خلفه، بالتالي لن يذهب أحد منهم إلى المسجد..!.. ثم كيف يكون الإمام في الصلاه هو إمام الدولة وقد صلى النبي خلف "عبدالرحمن بن عوف" مع حفظ الفارق إمامة المسجد وإمامة الدولة..وهذا شق كبير إضافي اختلفوا فيه..ولكن لأنهم مشبعين بما حدث في السقيفة لم يجمعوا على شئ ففتحوا الباب للانشقاق أكثر وتكوين جماعات مختلفة ومتصارعة كل منها له إمام خاص..
ثم وصل بهم الأمر للدعوة إلى قتل الخليفة إذا بويع مع آخر متقدم عنه، وهو ما أشاع بعد ذلك فقه الاغتيالات السياسية الذي انتشر في العصر العباسي وورثه المماليك ثم تفشى في العهد العثماني وإلى اليوم، حتى إذا جاء هذا الخليفة المقتول بالشورى وبجماعة أهل الحل والعقد..فمبايعته بعد خليفة آخر تعني قتله أمرا واحدا ، إذن فلا اعتبار للشورى هنا ونعود مرة أخرى لفقه الحاكم المتغلب الذي أزعم أنه يسيطر على أذهان الفقهاء بشدة، ويرون طاعته ليست أمرا دنيويا بل أخرويا، وهذه إحدى نتائج تبرير ما حدث في السقيفة، فالصحابي أبو بكر الصديق لم يحصل على الخلافة بالشورى والإجماع، بل بغلبة المهاجرين والقرشيين من غير الأنصار والفرع الهاشمي..كما نص على ذلك صحيح البخاري.
وهو ما جاء بعد ذلك باشتراط النسب القرشي في الخليفة نزولا لقول أبي بكر "إن هذا الأمر في هذا الحي من قريش" فكما أن قريشا حكمت في العصرين الأموي والعباسي فواجب أنها تحكم للأبد لفضيلة عليا باختيارها مركزا للرسالة وتشريفها بالإسلام، رغم أن العقل فورا يصرح بأن رسالة النبي لقريش تعني فسادهم وليس صلاحهم كما يُتوهم بادعاء الفضل والشرف للقبيلة، ولشدة شيوع هذا المبدأ لديهم رووا أحاديث الأئمة الإثنى عشر من قريش..وهو ما صنع أزمة بعد ذلك حيث اعتبر البعض حديث الأئمة القرشيين يخدم مذهب الشيعة وليس السنة، فلجأوا لتأويل الحديث باعتبار أن فترة ولاية هؤلاء الأئمة قد انقضت في العصر الأموي..
أخيرا: مذهب طاعة ولي الأمر هو انعكاس لأزمة سياسية حدثت في صدر الإسلام، ولشدة تقليد الفقهاء قالوا به ، إضافة لحضور عامل المنفعة الذي قد يؤدي بالفقيه أن يفتي بكلاما لا يؤمن به كما حدث للحسن البصري الذي روي عنه اعترافا بالإفتاء على غير رغبة منه مخافة سلطان الأمويين الجائر، أو حتى إيمانا لمصالح خاصة بين الفقيه والسلطان أزعم أنها صيغت بعد اضطهاد المتوكل العباسي لأهل الرأي..ثم اضطهاد القادر بالله للجميع عدا الأشاعرة والماتوريدية، فالقمع السياسي للفقهاء يعني حضور مصلحة بعضهم وانتفاء البعض الآخر، وهو ما يعني أن أي فتوى أو حُكم ديني يصدر من الفقيه وقتها لن يمثل الدين..بل يمثل الفقيه نفسه باعتباره أداه سلطانية وليس ضميرا للعامة..